حمدان عن المشروع التغييري للإمام الصدر: ثنائية متلازمة تتمثل في محاربة العدوان وإزالة الحرمان

calendar icon 24 تشرين الثاني 2011 الكاتب:خليل حمدان

كلمة الدكتور خليل حمدان في الجلسة الثانية من مؤتمر "كلمة سواء" الثاني عشر

التغيير الاجتماعي
المؤسسات الاجتماعية اطار العمل الاجتماعي للتغيير (تجربة الإمام السيد موسى الصدر) 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين إله إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى ومحمد، رب المستضعفين وإله الخلق أجمعين.

من دواعي اعتزازي أن أتحدث في مؤتمر "كلمة سواء" الثاني عشر وبدعوة كريمة من الأخت الفاضلة رئيسة مؤسسات الإمام الصدر السيدة رباب الصدر شرف الدين، وإذ أحيي مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات برئاسة نجل الإمام العزيز السيد الأستاذ صدر الدين الصدر على جهوده الكبيرة والإنجازات التي حققها مما أتاح أمام العديد من المهتمين فرصة التعرف على مخزون الإمام الفكري في رحلة جهاده وبحثه عن المتاعب في سبيل الله بخدمة الإنسان، أما موضوعنا التغيير الاجتماعي وبالخصوص "المؤسسات الاجتماعية إطار العمل الاجتماعي للتغيير"، فإننا أمام مفردات في ترابطها تشكل أسس النهوض العام بما يعني الفرد والمجتمع والوطن بشكل عام، فالتغيير مسار لا يمكن تجاهله فالإنسان كائن حاجات، وحاجاته تتطور وتتكاثر، وتستلزم لإشباعها علاقة جدلية بينه وبين الطبيعة، ولو كانت حاجاته ثابتة، ولا يتطلب تأمينها أكثر لما كان هناك إمكان لنشأة التاريخ الإنساني فلا يمكن أن نتصور مجتمعًا دون تطور حتى نجد ربطًا بين التطور والتقدم (1) حيث يتضمن التقدم عقيدة أو مستوى منتزعًا من القيم السائدة.

إن عملية تحويل التطور الاجتماعي إلى تقدم لا تقوم على عملية تصور لمجتمع فاضل، وإنما تقوم على تحليل ودراسة ظروف المجتمع وعوامل التغيير فيه سواء كانت هذه العوامل روحية أو مادية، فالتقدم لا يعني التطلع إلى مستقبل لا يتصل بواقع الحياة الاجتماعية، فإبن خلدون (2)، الذي يعتبر رائدًا في نظرية التطور الاجتماعي، يخلص إلى دورة البداوة والعصبية والعشائرية ثم دور استبداد الحكام بالملك ثم طوّر الفراغ لتحصيل ثمرات الملك ثم ينتهي إلى طور الإسراف والتبذير إلى حد الاتلاف مما يؤدي إلى ظهور عوامل التفسخ والانحلال والانهيار. واليوم يعيش عالمنا تطورًا علميًا قد لا يتناسب مع التطور الاجتماعي حتى يسميها البعض بالطفولة الاجتماعية وهذا التحدي يفترض تدخلًا مجتمعيًا لردم الهوة أو تجسير الموقف أمام هذا الانكشاف الكبير في عدد المشردين، عدد الجياع في العمل، الجهل المستشري، عدم معالجة آثار الحروب، أيتام فقدوا معيلهم يواجهون مستقبلهم بما تجود عليهم الحياة يتحولون إلى عبء وعرضة لأعداء جدد، المرض والفقر والجهل، وأمام هذا الكم الهائل من المشاكل وانكشافها في إطار القرية الكونية والتوترات الناجمة بين العام والخاص والمحلي والعالمي وتسارع حضور وسائط الإعلام والإعلان فإن التغيير الاجتماعي بات أكثر حضورًا ومتعجلًا فرضته ظروف وحاجات.

• رؤية الإمام السيد موسى الصدر للعمل الاجتماعي ومفهوم الفرد والمجتمع عنده:

أولًا- على المستوى الفطري :
ينطلق الإمام الصدر في حديثه عن المجتمع والفرد على أن الفرد جزء من مجتمعه إذ لا يمكن الاهتمام بالفرد ونهمل المجتمع بما يعني ذلك بأن التخطيط للأفراد لن يؤول إلى نتائج باهرة في ظل الغياب للتخطيط المجتمعي وهذا له مصاديق واقعية في مجتمع فيه أفراد ناجحون ومجتمع لا يتناغم مع هذا النجاح إذ قد لا يوظف النجاح الفردي في تنمية المجتمع إن لم نضعه في السياق السليم ولذلك فإذا كان المجتمع يتكون من أفراد فهذا لا يكفي لتكون المجتمع في غياب التبادل والتفاعل والأخذ والعطاء، هذا التبادل بين أفراد المجتمع يحصل لأسباب ثلاثة حسب رأي الإمام الصدر (3) :
1. التفاوت في الكفاءات والقدرات الجسدية واستعدادهم النفسي لنضرب مثلًا في الماء البارد والحار عندما يلتقيان بأخذ أحدهما من الآخر عن طرق التبادل والتفاعل يحصل بينهما الجريان وهذا يعني الأخذ والعطاء والتبادل طبقًا للمستوى العلمي والفكري والثقافي والمادي والاستعدادات الأخرى.

2. إن التحديات أمام الأفراد كبيرة والبشر أمامهم أهداف وغايات أعظم من الفرد الذي لا يستطيع بمفرده أن يحقق تلك الأهداف لذلك يحتاج إلى التعاون للوصول إلى تلك الأهداف.

3. إن الإنسان أمامه أخطار وأعداء ومضار هي أقوى من طاقاته الفردية فإذا لم يكن متعاونًا مع الآخرين فلا يمكن أن يتغلب على الصعاب.

يخلص الإمام الصدر أن الرغبة والشعور لتكوين المجتمعات والشعور في الأخذ والعطاء والشعور في أداء الواجبات يعني حقوق الآخرين عليك وأخذ الحقوق أي واجبات الآخرين تجاهك، هذا الشعور الذي نسميه الشعور المدني هذا الإحساس أصيل في البشر ولذا المطلوب أن نعمقه حتى إن الدين يقدس هذا الشعور، يعطيه صبغة القداسة، يعطيه جمالًا.

فالعطاء في الإسلام، والكلام للإمام المغيب السيد موسى الصدر، جزء من الواجبات الدينية عندما يصف المتقين في سورة البقره في تفسيره للمتقين ﴿هدى للمتقين﴾ [البقرة، 2] يصفهم وهم يمارسون خمسة مبادىء نذكر مبدأين (4):
- المبدأ الأول : ﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ [البقرة، 3]... إلى آخره.
- المبدأ الثاني : ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ [البقرة، 3].

والإنفاق ليس معناه دفع المال بل مما رزقناهم معناه العطاء من العلم إلى الكفاءة والخبرة إلى الجهاد والدفاع إلى صيانة المجتمع إلى كل شيء، فالعمل الاجتماعي وأداء الواجب الاجتماعي يعتبر واجبًا دينيًا أصيلًا، والإنفاق واجب وهذا يعطيه صفة القداسة أيضًا إذا لاحظنا ما يعني الفرد للمجتمع بمثابة حقوق المجتمع عليه: "الناس جميعهم عيال الله أحبهم اليه أنفعهم لعياله". (حديث شريف)
"لا يجتمع حب الله مع كره الإنسان". (الإنجيل المقدس)
"ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع". (حديث شريف)
﴿أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين﴾ [الماعون، 1-3]
من هنا جاء العمل الاجتماعي على نمط من المسؤولية والقداسة.

ثانيًا- التغيير الاجتماعي :
إن عنوان التغيير الاجتماعي يعتبر أكثر شمولًا لا لتأمين حاجات الفرد المعيشية ورعايته فقط بل أظنه يأخذ بعدًا أكثر اتساعًا وشمولًا خاصة إذا دققنا في مضمون عبارة إزالة الحرمان وتأمين ظروف ومناخات الأمان. فشبكة الأمان هذه لا يمكن اختزالها بإشباع الحاجات مع تجاهل الأمن الاجتماعي الذي يستهدف المستقبل حتى للذين لم يولدوا بعد، وكذلك فإن الأمن الاجتماعي وإشباع الحاجات لم يبلغ بر الأمان مع تجاهل الأمن الوطني. فما هو مصير التغيير الاجتماعي مع عدوان المرض والجهل والفقر؟ وما هو مصير المجتمع بكامله في ظل تكبيل إرادته وحريته؟ أليست الحرية ولادة الإبداع وشعور الإنسان بإنسانيته؟ أليست العبودية هي قتل للطاقات وتحجير على القدرات ومقبرة للإبداع؟ حتى وإنْ جاء القمع على طريقة قيود الذهب والإغراءات المادية بدل قيود الفولاذ والسجون، فكم من أفواه كمت ومنعت من التغيير ووضعت في السجون وغيبت؟ وكم من ألسن قطعت بالترغيب وإغداق النعم.

هل نبلغ شاطىء الأمان الاجتماعي مع التخلي في الدفاع عن الأرض في وجه الأعداء والأمثلة ساطعة عندما كان الأمن الاجتماعي يقايض بالتخلي بالدفاع عن الأرض (قوة لبنان في ضعفه).

إن الإمام السيد موسى الصدر واجه المشكلات في لبنان بشكل موضوعي ومتكامل في مواجهة العدوان والتصدي للحرمان ثنائية كانت تحكم خطاب الإمام الصدر كنموذج في عملية التغيير الاجتماعي ومحاربة العدوان وإزالة الحرمان.

وكانت اللقاءات والخطب والمهرجانات وتأسيس أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية كضمانة لتشكيل شبكة أمان للذين أستبيحت أرضهم وممتلكاتهم وأهرقت دماء أبنائهم، وكانت حركة المحرومين كحركة إيمانية غير طائفية أو مذهبية بل مطلبية من أجل المحرومين في لبنان لأي طائفة انتموا، لذلك وضع الدراسات وجند الطاقات، وأضف أن هذا السياق في صلب موضوع التغيير الاجتماعي للإنتقال من قوة لبنان في ضعفه إلى قوة لبنان في مقاومته وهذا السياق في صلب موضوع التغيير الاجتماعي إذا لاحظنا النشاط الذي اضطلع به الإمام الصدر ومن معه في مسيرة حركة أمل من الدراسات إلى أوراق العمل إلى المطالب بإزالة الحرمان ومطالبة الدولة الغائبة لتكون حاضرة في إطار عملية التنمية مستندًا إلى تقارير ودراسات من بعثة أرفد (5) إلى سواها من الدراسات، أليست مطالبة الدولة بالقيام بواجبها هي إطار مناسب لعملية التغيير الاجتماعي؟ أليست المهرجانات الحاشدة (6) في بعلبك وصيدا وصور وسواها بمثابة صفعة للذين تجاهلوا مطالب الفقراء والمحرومين من جميع الطوائف وفي جميع المناطق ليستفيقوا من غفلتهم، ليكونوا أمناء على مصالح كافة شرائح المجتمع: "أيها الحكام إعدلوا قبل أن تبحثوا عن وطنكم في مجاهل التاريخ".

إن الحراك الذي نشهده في العالم عبر تحرك شرائح المجتمع والذي أودى بحكام أليس هو في صلب موضوع التغيير الاجتماعي حيث حاول الحكام سد الباب أمام التطور الاجتماعي معتمدين على قاعدة مارسها الطغاة في التاريخ. إن تجهيل المجتمع واستدامة الفقر ضمانة لاستمرار حكمهم فكان تكديس الثروات بدل التنمية والاهتمام بخواص الدائرة الصغرى من الحكام بدل الوصول إلى معاناة المعذبين والفقراء والمقهورين.

وأيضًا وأيضًا الإمام السيد موسى الصدر إنموذجًا في عملية استنهاض المجتمع والتغيير الاجتماعي عبر الشروع بتأمين مؤسسات اجتماعية هادفة تنفيذًا لقناعاته الراسخة أن خدمة الإنسان هو المعبر الحقيقي عن الإيمان بالله وهو الذي يصلنا بالله فكان الاهتمام بالمؤسسات الاجتماعية التي تعنى بالمرأة والرجل والطفل والشاب والكهل والشيخ الكبير وعلى مستويات مختلفة، من بيت الفتاة إلى معهد الدراسات الإسلامية في صور (7) إلى مؤسسة جبل عامل المهنية في البرج الشمالي إلى مؤسسة الزهراء في بيروت إلى مبرة الإمام الخوئي من قبلها في صفير إلى مشاريع أمّن لها الأراضي الشاسعة من البقاع إلى بيروت والساحل إلى الجنوب... هذه المؤسسات كان لها الدور والأثر الكبير في عملية التحول المجتمعي عبر بلسمة العديد من الجراح وإنْ كان للمؤسسات التي ذكرنا من دور واضح على مستوى معالجة بعض الحالات الاجتماعية والتربوية والثقافية، فلا ننسى مستشفى الزهراء والعديد من المستوصفات، هذه المؤسسات الاجتماعية كانت بمثابة الأساس والمثال الذي دفع بالعديد من المهتمين أن يقتفوا الأثر بل منهم من تابع كمؤسسات الإمام السيد موسى الصدر التي ترأسها السيدة البارة الأخت رباب الصدر شرف الدين، وهذه المؤسسات أدت دورًا كبيرًا على المستويات الصحية والتربوية والاجتماعية، وكذلك مؤسسات أمل التربوية التي استمرت على درب الإمام السيد موسى الصدر قدوة واقتداء وكان لي شرف الإشراف على بنائها وإدارتها بتوجيه من دولة الرئيس الأخ الأستاذ نبيه بري وهي الآن عشرة مؤسسات تضم ثلاثة عشرة ألف طالب على مساحة وطننا لبنان، إضافة إلى مؤسسات صحية واجتماعية أخرى في إطار حركة أمل وكشافة الرسالة الإسلامية، كل ذلك تيمنًا برؤية الإمام الصدر، ومؤسسة جبل عامل المهنية التابعة لجمعية البر والإحسان (8) التي رأسها الإمام الصدر المثال في إطلاق هذه المشاريع وكذلك هناك جمعيات أخرى لها طول باع في العمل الاجتماعي وساهمت في عملية التغيير الاجتماعي كل هذه الإنجازات وأمام عطاء الإمام الصدر ورؤيته الصائبة يشجع المهتمين من مراجعة هذا الرصيد الرافد لقضايا الإنسان في عملية التبادل الاجتماعي والتغيير كدور فاعل للمؤسسات في هذا الإطار.

وليس غريبًا أن كان الإنسان هو الهدف وذلك لأن الإنسان في نظر الإمام الصدر يشكل موضوعًا أساسيًا للدين والعلم والتشريع والطب والأدب والفن (9).

ثالثًا: تطور المؤسسات الاجتماعية:
مما لا شك أن الربع الأخير من القرن العشرين شهد نموًا مضطردًا في عدد ونوعية المؤسسات الاجتماعية حتى قيل أنه في العديد من الدول المتقدمة يفوق تأثير مؤسسات المجتمع المدني على مؤسسات الدولة الاجتماعية بل وتؤثر هذه الجمعيات في صناعة قرارات تلك الدول على صعيد التطوير، أما في الدول العربية فإن كنا نشهد حضورًا خجولًا لهذه المؤسسات فإن ذلك لم يمنع تلك المؤسسات الاجتماعية من أن تشق طريقها في ظروف قاهرة وصعبة للغاية دونها عقبات نابعة في هلع الحكام من أي اجتماع بشري إن لم يكن بهدف الإطراء والمديح أو غسل جرائم ظلم الحكام ولكن النتائج تشير بضياء صبح قريب إن تم تجاوز الإملاءات الخارجية التي تعطي بيد لتأخذ بناصية الناس.

وفي لبنان فإن الفلسفة الإنمائية منذ فجر الإستقلال حتى بداية الستينات في القرن الماضي تشدد على النمو الإقتصادي والمادي وتعتبر أن الإستثمار على قطاعات التربية والصحة والشأن الاجتماعي مجرد إستهلاك على حساب النمو الإقتصادي، ولكن دراسات بعثة إرفد التي استقدمها الرئيس فؤاد شهاب أنتجت رؤى جديدة وإن كانت الدولة قاصر على تطبيقها إلا إنها فتحت هذه الرؤيا طريقًا للعمل على الإنماء الاجتماعي طبقًا لرؤية التصور الأوروبي لدولة الرعاية Welfare state مما أدى إلى نشوء فلسفة جديدة هدفت إلى إنشاء حلقات للأمن الاجتماعي مصلحة الإنعاش الاجتماعي-الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي- المراكز القطبية (10).

وكذلك شجعت هذه القوانين نشوء جمعيات كثيرة مستفيدة في التعاون بين مؤسسات الدولة الاجتماعية والمجتمع المدني بعدما كانت هذه الجمعيات في السابق حكرًا على رؤوس الطوائف أو المتعلقين بهم بشكل محصور أو بعض المبادرات التي لم تشكل حالة في عملية التطور والتغيير الاجتماعي من هنا تبدل مفهوم الخدمة الاجتماعية وبات المجتمع المدني يلعب دورًا في الظروف الصعبة التي عصفت بلبنان واستمرت هذه المؤسسات في عملها بتركيزها على التنمية البعيدة المدى، لذلك لا بد من تسليط الضوء على هذه المؤسسات التي لعبت دورًا كبيرًا حتى ارتقت إلى صياغة الميثاق الاجتماعي الذي يحمل النظرة الشاملة والكلية للإنسان في علاقته بالمجتمع والدولة ويظهر معنى وقيم وقواعد وضوابط الاحتكام والتصرف بما ينسجم مع ثقافة المجتمع وقيمه، هذا الميثاق الذي رعته وزارة الشؤون الاجتماعية انطلاقًا من الرؤية المشتركة التي تصبو إلى الدولة المدنية المبنية على المواطنة (11)... ومن المقاربة الجامعة لمبادئ اجتماعية واحدة يلتقي اللبنانيون حولها مما يكرس الأمان الاجتماعي على أساس العدالة وتكافؤ الفرص.

* تعريف الخدمة الاجتماعية:
تهدف الخدمة الاجتماعية إلى تنمية المجتمعات المحلية التي تعاني من البطالة والحرمان وبطء النمو والتقدم الاجتماعي، وهي لا تكتفي بذلك، بل وتنظر إلى البحث عن أسباب العلل التي تصيب المجتمع بهدف التقليل من أضرارها ومكافحة الأسباب التي تؤدي إلى تفاقمها، وهي بالتالي خدمة اجتماعية قد تكون مرتبطة بالدين أو بدافع إنساني أخلاقي، سبق ظهور المؤسسات الحكومية والمدنية منذ قديم الأزل.

وتتواصل هذه الخدمة مع المجتمعات بالإتصال المباشر عبر المؤسسات الاجتماعية، التي هي عبارة عن تجمع اجتماعي اقتصادي يخضع لإشراف الدولة أو لجهات خاصة تعرف بإسم مؤسسات المجتمع المدني، التي يعتبرها البنك الدولي "دولة ظل" تقوم بالوظائف التقليدية للدولة في الكثير من نشاطاتها ومنها على سبيل المثال:
1. نشر القيم الاجتماعية.
2. المساهمة في تنمية الموارد البشرية والمجتمعات المحلية.
3. تجنيب المجتمع الأعباء الإقتصادية والاجتماعية المستقبلية.
4. مواجهة مشكلات الإدمان والجريمة.
5. العمل على حماية العمل والعامل وقطاعات الإنتاج.
وترتكز مؤسسات المجتمع المدني في لبنان على أساس قانون الجمعيات الصادر عام 1909، الذي ينص على تقديم إعلام إلى وزارة الداخلية، وهو القانون الأكثر ملائمة في منطقتنا العربية (12).

- دور مؤسسات المجتمع المدني في لبنان:
لعبت الحرب اللبنانية دورًا كبيرًا في توسيع وتفعيل عمل مؤسسات المجتمع المدني حيث عملت هذه المؤسسات على ملء الفراغ الذي أحدثه غياب الدولة، خصوصًا في مجالات الإغاثة والطوارىء، وهي بالتالي جذبت عددًا كبيرًا من المتطوعين، وتوسع عملها في تلك المرحلة لتقديم بالإضافة إلى الخدمات الصحية، الخدمات التعليمية وإقامة برامج محو الأمية وتنمية الريف، كما وأقامت حينها شراكات مع الحكومة (الغائبة أساسًا في تلك الفترة في الكثير من المناطق) والأمم المتحدة ووكالات أجنبية ومنظمات غير حكومية، وساهمت الطوائف في نهضة هذه المؤسسات فظهرت جمعيات تعمل في مجتمعات ومناطق محددة، بالإضافة إلى أن بعضها كان يرتبط بالأحزاب السياسية، أو برجالات السياسة بهدف تقديم خدمات تعود بالنفع على بعض الفئات.
واستمر عمل مؤسسات المجتمع المدني بعد الحرب، مع تركيز هذه المرة على التنمية البعيدة المدى، وقد شهدت فترة ما بعد الحرب اللبنانية ظهور العديد من الجمعيات فبحسب وزارة الشؤون الاجتماعية ولجنة الأمم المتحدة الإقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا، تأسس أكثر من 55 % من المنظمات في لبنان بين عامي 1990 و2002 ينصب عملها على المسائل الاجتماعية، كما أن أكثر من 25 % من الجمعيات تأسس بهدف تقديم الخدمات للفقراء والأيتام، وتشير الدراسات إلى أن منظمات المجتمع المدني في لبنان والعالم العربي تهدف أكثر ما تهدف إلى تقديم خدمات الإحسان والأعمال الخيرية منها في ممارسة النصرة والمدافعة وبرامج بناء القدرات المستمرة (13)... هذا مع وجود النقابات المهنية والمهن الحرة، وأبرزها الاتحاد العمالي العام، إلا أن هذه الأخيرة عانت وتعاني من انقسامات وتدخلات سياسية ومذهبية أدى إلى سيطرة بعض القوى السياسية على تلك النقابات مما حدّ من عملها وكفاءتها هذا من جهة، ومن جهة أخرى تفاوتت تقديمات وخدمات مؤسسات المجتمع المدني بين المناطق اللبنانية، فبحسب دراسة أجراها البنك الدولي عام 2001 أظهرت إلى وجود تفاوتات من حيث تقديم موازنة هيئات المجتمع المدني على المناطق اللبنانية، حيث توزعت على الشكل التالي:57.7 % لبيروت/ 13.2 % للجنوب/ 7.3 % أنفقت على المشروعات الوطنية، بينما تجد المناطق الأكثر حرمانًا في الشمال وبعلبك تحصل على أدنى النسب المئوية (14).

أمام هذا الواقع الذي تجد المؤسسات المدنية نفسها فيه، لا بد من إيجاد العلاج لمكامن الخلل وتحديد دورها وعلاقتها بالسلطة في سبيل تعزيز انتاجيتها وكفاءتها، وزيادة الموارد البشرية القادرة والمؤهلة على أداء الخدمة الاجتماعية ومواجهة مشكلات المجتمع المتفاقمة بهدف تلبية حاجات وطموحات هذه المجتمعات، وذلك ببناء الشراكات مع الدولة والمنظمات الإقليمية والدولية.

- الشراكة بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة:
بالنسبة للعلاقة بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة يجب على هذه الأخيرة في البداية أن تحترم إستقلالية المجتمع المدني ضمن معايير محددة، وإعفائها من الضرائب ومساعدتها ماديًا، مع إلتزام هذه المؤسسات بتطوير رؤيتها وتحديد رسالتها ومهامها التي تصب في خدمة فئات المجتمع الأكثر حاجة، وهذا يوجب أيضًا على مؤسسات المجتمع المدني أن تعزز إجراءات الشفافية والمحاسبة الداخلية، وتداول السلطة الداخلية بشكل ديمقراطي بعيدًا عن الفردية والشخصانية، وقد سمحت القوانين اللبنانية بإقامة الشراكة بين المنظمات الأهلية والجهات الحكومية، كوزارة الشؤون الاجتماعية التي عززت علاقتها مع المجتمع المدني فهي، أي الوزارة، تمول 70 % من مشروعات مشتركة مع مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي لعبت هذه المؤسسات دور الرابط بين الوزارة والمجتمعات المحلية في مختلف المناطق اللبنانية، إلا أنه من الملاحظ أن العلاقة بين مؤسسات المجتمع المدني والوزارة تقتصر على تقديم الخدمات فقط، ولا تتجاوزه إلى تطوير رؤية واستراتيجيات في سبيل مواجهة الخدمات الاجتماعية المختلفة (15).

وتأتي الشراكة أيضًا مع وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، ضمن إطار العلاقة المتبادلة بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة، بهدف التأسيس لمشاريع التعليم والتدريب المهني والتقني، وهي تهدف إلى تطوير مهارات المعلمين في مجالات مختلفة تتمحور حول حقوق الإنسان ونشر السلام والحد من النزاعات عبر برامج مشتركة بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة ومنظمات دولية تابعة للأمم المتحدة.

كما وتوسع العلاقة بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة لتشمل وزارتي البيئة والصحة العامة والمؤسسة الوطنية للإستخدام والمديرية العامة للشباب والرياضة (16).

- الشراكة بين مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية:
طورت الأمم المتحدة برنامجًا انمائيًا يهدف إلى تأمين الشراكة بين المانحين والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص وذلك بهدف:
1. تحديد السياسات التي تدعم التنمية البشرية المستدامة.
2. تأمين حاجات المجتمع المدني إلى التدريب وبناء القدرات والبحث عن موارد برنامجية إضافية.
3. تقوية قدرات برنامج الأمم المتحدة الذاتية وعملياته عبر زيادة انخراط منظمات المجتمع المدني في قرارات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمشروعاته.

وتعمل الأمم المتحدة في برنامجها الإنمائي على إشراك مؤسسات المجتمع المدني في مجالات عمله، وخصوصًا في مجالات كالقضاء على الفقر وإدارة الموارد الطبيعية وصياغة السياسات وتبادل المعلومات، وظهر اهتمام الأمم المتحدة بالعلاقة مع مؤسسات المجتمع المدني بشكل عام من برنامج إصلاح الأمم المتحدة الذي أطلق عام 1997، حيث شدد أمين عام الأمم المتحدة حينها كوفي أنان على أن المجتمع المدني "يحث نظام الأمم المتحدة وغيره من البنى الحكومية في اتجاه قدر أكبر من الشفافية والمحاسبة والعلاقات الأوثق بين المستويين الوطني والدولي لعملية صنع القرار" (17).

- الشراكة بين المجتمع المدني والقطاع الخاص:
نجد أن قطاعي المجتمع المدني والقطاع الخاص يترددان في القيام بالأعمال المشتركة، فالقطاع الخاص الذي يلعب دورًا مهمًا في تأمين الخدمات الاجتماعية، وخصوصًا في مجالات التعليم والصحة والإعلام، لم يطور رؤية تعاونية مع مؤسسات المجتمع المدني، حيث أن هذه الأخيرة حذرة في العلاقة مع القطاع الخاص وذلك لأسباب عديدة منها عدم ثقة مؤسسات المجتمع المدني بإلتزام الشركات بحقوق الإنسان وبالتحديد حقوق العمال، وبالإستدامة البيئية والمسؤولية الاجتماعية، يضاف إلى ذلك محدودية قدرات منظمات المجتمع المدني التي تسمح لها بالإنخراط في مشروعات شراكية مع القطاعات الأخرى وغلبة ثقافة الرعاية وهيمنتها على صعيد القطاع الخاص (18).

- كيفية تفعيل عمل المؤسسات الإجتماعية :
لتفعيل دور وعمل المؤسسات الاجتماعية لا بد من انتهاج سياسة تهدف إلى تقوية إستقلاليتها وقدراتها وأثرها داخل المجتمع وهذا يكون عبر:

1. تحقيق الشراكة بين مؤسسات المجتمع المدني، وإقامة علاقة متوازنة بينها، مما يساعد على تبادل المعلومات وفهم أكثر دقة للأهداف التنموية، ومشاركة المهارات والخبرات والتجارب، مما يقوي دور تلك المؤسسات، فيمكنها بالتالي الوصول وبسهولة إلى المنتديات الإقليمية والدولية حيث السياسات التنموية العالمية، وتلعب بالتالي دورًا فعالًا في صنع السياسة وتؤدي دورها المطلوب في تقوية المواطنة والحوارالوطني في مواجهة الإنقسام الطائفي، وهناك تجارب للشراكة بين مؤسسات المجتمع المدني في لبنان، من بينها الاتحاد العمالي العام والمجلس النسائي اللبناني وتجمع الهيئات والمنظمات التطوعية في لبنان، وتجمع المنظمات الإنسانية، والاتحاد الوطني للجمعيات المتعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية وغيرها، إلا أن هذه الشراكة كانت ضعيفة، ونحن بحاجة إلى مراجعة تلك التجارب من الشراكات وإزالة مكامن الضعف، لتصبح بالتالي قوة ضاغطة قادرة على المدافعة عن السياسات التنموية.

2. تحول مؤسسات المجتمع المدني نحو التخصص في أدوارها والعمل على بلوغ مستوى يمكنها من أن تكمل بعضها بعضًا من خلال تقديم الخدمات وبناء القدرات.

3. ترسيخ الشراكة بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، بشكل يكمل كل طرف عمل الطرف الآخر على المستويات كافة البشرية والمالية والفنية، وهذا يساهم بالتالي في تعميق مبدأ المسؤولية الاجتماعية لدى كل الشركاء.

4. تطوير العلاقة بين المؤسسات الاجتماعية ووسائل الاعلام، بهدف تحقيق التنمية في بيئة فرضت العولمة نفسها على حياة المجتمعات، وهو ما يفعل عمل المؤسسات الاجتماعية ويخفف من عبء الضعف في الكادر البشري العامل فيها، عبر مخاطبة الرأي العام والمجتمعات الشبابية وحثها على مشاركتها في عملها التنموي.

5. توسيع الشراكة مع المؤسسات الاجتماعية لتشمل النقابات ومراكز الأبحاث والأكاديميين، والمؤسسات الصغيرة والمحلية التي تعود بالنفع على المجتمعات.

6. تطوير المؤسسات الاجتماعية من الداخل، عبر تطوير نظمها واعتماد الدقة والشفافية وتبني الممارسة الديمقراطية والمشاركة في اتخاذ القرار وتطوير كفاءة العاملين فيها، والتقويم الذاتي لعملها بعيدًا عن المذهبية والطائفية والمناطقية (19).

وبشكل مختصر إذا أردت أن تعرف رأي الإمام موسى الصدر بعملية التغيير والتنمية في لبنان فنعيدك لقراءة كلمة السيد موسى الصدر في كنيسة الآباء الكبوشيين عندما وقف المفكر والصحافي الكبير الأستاذ غسان تويني ليقول لو كنا نؤرخ لسمّرنا محاضرة الآباء الكبوشيين على أبواب منازلنا لأنها من أيام لبنان الأعظم، وعندما حضر رئيس الجمهورية شارل حلو والكثير الكثير من المفكرين من ميشال الأسمر وسواهم ومن هناك، قال: الله والإنسان ولبنان كانوا من الحاضرين في هذه الكنيسة.

سيدي الإمام شوقنا لمضارعة فعلك وإنا لفاعلون
واستمرار نهجك في عملية التغيير دلالة على عجز صنيعة
إسرائيل معمر القذافي عن حجبك
فمن يقوى على حجب الشمس في رابعة الظهيرة
أنت كسنديانة تعشقها القمم من دوحة شرّعت أبوابها
على درب النبيين والأئمة والصالحين
وإنا لمنتظرون لعودة تقودنا من نصر إلى نصر
وأنت المثل والقول والعمل.

والسلام عليكم.

مراجع البحث

(1) التغيير الحضاري وتنمية المجتمع " مجلة التربية الأساسية - مجلد 7، عدد 1 صفحة 11 "

(2) ساطع الحصري، دراسات عن مقدمة ابن خلدون - بيروت 1967، الطبعة الثالثة ص 354- 389

(3) كتاب موسى الصدر والخطاب الإنساني - مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث، ص 70- 75

(4) كتاب موسى الصدر والخطاب الإنساني – من محاضرة للامام ألقيت في دكار - السنغال 1967

(5) ارفد IRFED اختصار لبداية الكلمات الفرنسية
Institut de Recherches et de Formation En vue du Développement 

(6) حركة أمل السيرة والمسيرة، دار بلال للطباعة والنشر - أيلول 2006، جزء أول صفحة 282

(7) أعادت حركة أمل بناءه في صور وتشغله الجامعة الإسلامية حاليًا في مشروع مشترك بين أمل والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.

(8) هي جمعية أسسها وأشرف عليها الإمام المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين وأعاد نشاطها بعزم الإمام المغيب السيد موسى الصدر ومؤسسة جبل عامل المهنية احدى ثمارها بجهود جبارة بذلها الإمام في افريقيا ولبنان

(9) د. هادي فضل الله، كتاب فكر الإمام الصدر السياسي والاصلاحي، ص 116

(10) الأسرة واقع ومرتجى - كلمة سواء المؤتمر الثاني 1997 - د. عدنان مروة، ص 158 - 160

(11) الوزير د. سليم الصايغ , الميثاق الاجتماعي - وزارة الشؤون الاجتماعية، لبنان 2011، ص 3 - 70

(12) التقرير السنوي الخامس للمنظمات الأهلية العربية 2005، ص 253

(13) - المرجع نفسه.

(14) - ورشة عمل وطنية حول تطوير الحركة النقابية، الاتحاد الدولي للخدمات العامة ونقابات الخدمات العامة في لبنان.
- تقرير صادر عن الاتحاد الدولي للخدمات العامة ونقابات الخدمات العامة في لبنان، ورشة عمل وطنية حول تطوير الحركة النقابية في لبنان، 20 - 21 تشرين الأول 2010، ص 4 - 5

(15) التقرير السنوي الخامس للمنظمات الأهلية العربية 2005، ص 262 - 263

(16) د. غازي قانصو، ورقة عمل تفعيل دور الجمعيات غير الحكومية في التنمية المجتمعية، ص 11، 12، 13

(17) - التقرير السنوي الخامس للمنظمات الأهلية العربية 2005، ص 265 - 266
- د. غازي قانصو، ورقة عمل تفعيل دور الجمعيات غير الحكومية في التنمية المجتمعية، ص 15
- مجلة عالم العمل، العددان 45 و 46، أيار 2003، ص 5

(18) - مجلة المظلة، الشبكة العربية للمنظمات الأهلية، عدد 33 و 34، اكتوبر 2004، ص 15
- التقرير السنوي الخامس للمنظمات الأهلية العربية 2005، ص 267 - 268

(19) - مجلة المظلة، العدد 33 - 34، ص 14 - 15
- التقرير السنوي الخامس للمنظمات الأهلية العربية 2005، ص 276- 277 - 278
- د. غازي قانصو، ورقة عمل تفعيل دور الجمعيات غير الحكومية في التنمية المجتمعية، ص 19، 20، 21

source