14 تشرين الثاني 1996
الكاتب:طلال عتريسي
كلمة الدكتور طلال عتريسي في الجلسة الخامسة من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار
الإسلام والمسيحية في لبنان بين دعوات
الحوار والجهد المتبادل في الكتب المدرسية
تصاعدت منذ سنوات وتيرة الحديث واللقاءات والندوات عن العلاقات الاسلامية المسيحية، وعن الحوار الاسلامي المسيحي. وبدأنا نشهد دولاً وتجمعات إقليمية تدعو إلى مثل هذه اللقاءات، أو تعقد بدورها حلقات بحث ومؤتمرات حول العلاقات الاسلامية المسيحية، أو حول اللقاء بين الأديان بما فيها اليهودية. كما نشأت هيئات وجميعات ومنظمات تضم مسلمين ومسيحيين، هدفها هذا النوع من العلاقات، والتقريب والحوار والنقاش السياسي والديني والاجتماعي. واختلفت التفسيرات وتعددت في أسباب الاهتمام بهذا الموضوع، كما اختلفت المواقف منه بين مؤيد ومشجع أو متحفظ ومشكك.
تأتي الدعوة إلى العلاقات الاسلامية المسيحية في إطار المتغيرات التالية:
1- إن الحضارة الغربية التي قدمت على امتداد ما يزيد على قرن من الزمن نموذجاً "مادياً" غير روحي أو غير ديني للعالم، وأنجزت تقدماً هائلاً على المستويات العلمية والتكنولوجية، تعاني اليوم من خلل عميق في الجوانب الانسانية والمعنوية، تجمع الآراء على اعتباره نتيجة لتهميش البعد الديني في حياة الإنسان، وتأليه العقل وهيمنة الفرد. ويكاد هذا الخلل ان يهدد كل منجزات تلك الحضارة. وتتزايد أصوات المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع الذين ينبهون إلى ضرورة اللجوء إلى النظام القيمي والأخلاقي الذي يحفظ التوازن الانساني. كما تتزايد الاتجاهات التي تدعو إلى الاهتمام بالدوافع المعنوية والروحية عند الإنسان باعتبارها دوافع أصلية، وإلى عدم اغفالها في الدراسات الانسانية في علوم النفس والتربية والاجتماع وسواها. والأمثلة على ذلك كثيرة، يكفي أن نذكر ما قاله أحد علماء التحليل النفسي (يونغ) الذي يعتبر ولادة علم النفس في اوروبا "تعبير عن اختلال عظيم في حياتنا الروحية".
2- إن التطورات السياسية والاستراتيجية التي حصلت في بداية التسعينات وأدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، أطلقت الدوافع والنزعات القومية والإثنية والدينية والعرقية من السجن الذي فرضته عليها الشيوعية الحاكمة على امتداد أكثر من نصف قرن. وظهرت الهويات الدينية الاسلامية في جمهوريات آسيا الوسطى في الاتحاد السوفياتي السابق، كما تفككت دول اخرى في اوروبا الشرقية إلى قومياتها السابقة، ودخلت بعضها في صراعات دموية وتصفيات عرقية، وتحولت البوسنة على سبيل المثال إلى نموذج لهذا التداخل بين العرقي والديني، على مستوى الحرب الدائرة بين أطرافها، أو حتى على مستوى الدعم الخارجي الاسلامي او الارثوذكسي لهؤلاء الاطراف. أي أن انهيار منظومة الصراع السابقة بين الرأسمالية والشيوعية، أخرج من الظلمات عناصر الهويات الدينية في الصراعات بين البلدان والشعوب في أنحاء كثير من العالم.
3- ان الدعوات التي صدرت قبل سنوات من أوساط بحثية واستراتيجية أميركية تعتبر الاسلام عدواً قادماً للحضارة الغربية، وان الصراع القادم هو صراع بين الحضارات، لم تهدف فقط إلى تسليط الضوء على أهمية البعد الديني في الصراع، بل أرادت التحذير من مخاطر هذا الجانب الذي يمثله الاسلام في عالم اليوم. وقد ترافقت هذه الدعوات مع أخرى مماثلة لها، ترى في الإسلام، على مستوى تحديد الخصوم والصراعات بالنسبة للولايات المتحدة، بديلاً للشيوعية البائدة، أي عدواً ينبغي العمل على ضربه ومحاصرته أو احتوائه.
4- إن "عملية السلام" التي بدأت قبل سنوات لحل الصراع العربي الاسرائيلي، ترتكز في جوهرها إلى مقولة الأرض مقابل السلام. أي عودة الأرض العربية التي احتلتها اسرائيل في حروبها ضد العرب. ومن المعلوم أن من أشدّ ما تسعى اليه اسرائيل هو التطبيع مع جوارها العربي والاسلامي. أي إيجاد علاقات طبيعية على جميع المستويات التجارية والاقتصادية والثقافية ... وهذا يفترض لكي تتحقق بداية تعايش حقيقي بين اليهودية وبين الاسلام في فلسطين وفي البلدان العربية المجاورة. وهذا يستدعي، إلى التفاوض الثنائي والمتعدد، ايجاد مناخات موازية للحوار، او لتذليل الحواجز النفسية بين أصحاب الاديان المختلفة، ومن بينها اليهودية التي كانت على امتداد نصف القرن الماضي ديناً مقاتلاً بواسطة الصهيونية لبناء الدولة في اسرائيل، ولحمايتها من "أعدائها". كما يمكن الالتفات هنا إلى ما تقوم به بعض المنظمات والهيئات الدولية من أنشطة مختلفة تتمحور حول مفاهيم السلام غير السياسي. كالتربية على السلام، والطفولة والسلام، والاديان والسلام، او غير ذلك مما يدعو إلى قبول آخر والعيش معه .. والتي لا تهدف فيما نظن سوى إلى مواكبة "موازية لعملية السلام"، وتهيئة الارضية المناسبة لاستقبال نتائج تلك العملية على مستوى المؤسسات الاهلية والتربوية التي تتوجه اليها هذه المنظمات الدولية.
5- إن ظاهرة "الانبعاث أو الصحوة الاسلامية" أو ما يطلق عليه أيضاً الاصولية والتطرف والاسلام السياسي، كان لها بدورها تأثير مباشر على الاهتمام بمستقبل العلاقات الاسلامية المسيحية. فمع وصول جزء من هذه الحركات أو الاتجاهات الاسلامية، إلى السلطة في بعض البلدان العربية والاسلامية أثارت بعض الأوساط الفكرية والسياسية والدينية مشكلة الاقليات غير المسلمة في هذه البلدان. كما أثير إلى جانب ذلك وقبله، أصل المشكلة في التفكير الاسلامي حول الدولة والسلطة والمواطنية. وقد ساهم في مشروعية مثل تلك الاسئلة، أو المخاوف المرافقة لها، ما قامت بعض الجماعات الاسلامية في بلدان كالجزائر ومصر تحديداً من اعتداءات طاولت المسيحيين في الارواح والممتلكات. وقد عمد البعض إلى سحب هذا النموذج الشاذ من الاعتداء على كل الحركات الاسلامية أو على ظاهرة الاسلام السياسي برمتها في المنطقة العربية والاسلامية. وقد دفعت المخاوف الناجمة عن مثل هذه الاعتداءات إلى البحث عن الضوابط أو القوانين التي تحدد أو تنظم أسس العلاقات الاسلامية المسيحية في بلدان تتنامى فيها الظاهرة الاسلامية، وتتعاظم ضغوطها على حكوماتها، إما من أجل المشاركة في السلطة أو من أجل العمل على أسلمة المجتمع والسياسة والثقافة.
وكان من الطبيعي أن يتفاوت حجم الاهتمام بموضوع العلاقات الاسلامية المسيحية، أو بالحوار الاسلامي المسيحي وفقاً لمدى وجود هذه الظاهرة أو المعاناة في هذا البلد أو ذاك، أو وفقاً لانعكاس عنصر أو اكثر من العناصر التي أشرنا إليها في إيجاد المناخ الملائم للبحث في مثل هذه العلاقات.
ويمكن أن نلاحظ أن الاهتمام بهذا الموضوع لم يصبح ظاهرة بارزة في جميع البلدان العربية والاسلامية أو في باقي بلدان العالم. وإنما اقتصر الاهتمام به على بعض هذه البلدان وعلى بعض المنظمات أو الهيئات الدولية. ولا تعود أسباب غياب هذا الاهتمام في كثير من البلدان العربية والاسلامية، إلى رفض لهذه العلاقات أو للحوار حولها، بل لأن أصل المشكلة أو عقدة العلاقات الاسلامية المسيحية، ولهذا يصبح البحث في مثل هذه المشكلة وكأنه افتعال لها حيناً، او تحريض على وجودها حيناً آخر، بينما نلاحظ أن المجتمعات المتعددة مثل لبنان على سبيل المثال، هي التي تهتم اهتماماً عالياً بهذا الموضوع. ويمكن القول ربما بدون أي مبالغة، أن ليس هناك بلد مماثل للبنان في اهتمامه بالعلاقات الإسلامية المسيحية وبالحوار حولها، وكذلك في حجم الهيئات والمؤتمرات التي أسست وتؤسس وعقدت وتعقد للبحث فيه. وقد يكون السبب الرئيس لهذا الاهتمام المفرط، الإنقسام الاهلي والديني الذي عاشه لبنان على امتداد سنوات الحرب الأهلية، والذي هدد في مراحل كثيرة منها بتقسيمه إلى دويلات دينية حيناً ومذهبية حيناً أخر. وخصوصاً وأن لبنان بلد متعدد الطوائف، يقوم دستوره على هذا التعدد، ويقر نظامه التعليمي بحرية هذه الطوائف في تعاليم أبنائها.
وقد سمح السلم الأهلي، بعد توقف الحرب منذ بضع سنوات، بهذا الاهتمام اللافت بالعلاقات الإسلامية – المسيحية، نظراً لأن ما تركته الحرب من انقسام نفسي واجتماعي ومناطقي لم تردمه عودة السلم، أو عودة السلطة المركزية. كما أن التحولات السياسية والديمغرافية والإجتماعية التي حصلت في العقدين الأخيرين، وربما قبلهما، أخلَّت بالتوازن السابق الذي كان يقوم على هيمنة طائفية ودينية معينة على مقدرات السلطة وعلى الطوائف الأخرى. وطرحت هذه التحولات آفاقاً جديدة، أو توزاناً وقلقاً جديداً لم تعهده الطوائف الأخرى منذ تأسيس لبنان قبل نصف قرن من الزمن. وعلى الرغم من خطوات التقريب، أو على الأقل بناء عناصر الثقة، أو توليد مناخات الإطمئنان المتبادل التي تقوم به لجان الحوار الإسلامي المسيحي، وهيئات التنسيق واللقاءات على مستوى الشخصيات والقادة من الطرفين، فإن ما لم يخضع للبحث والتدقيق على مستوى خدمة مشروع التقريب والعيش المشترك والمواطنية، وبالتالي خدمة أهداف لجان الحوار والتنسيق الاسلامي المسيحي، فيما يطمح اليه على مستوى الوحدة الوطنية، ومن أجل خدمة الثروة التي ينبغي على لبنان التمسك بها في الوجود الاسلامي المسيحي والعيش معاً في ظل هذا الوجود، هو البرامج التعليمية في مدارس كل من المسلمين والمسيحيين. خصوصاً وان الدستور اللبناني كما أشرنا يكفل للطوائف حريتها في التعليم بما ينسجم مع الاهداف التربوية والتعليمية العامة، وبما يحقق الاهداف التربوية والدينية الخاصة لكل طائفة.
وقد لا نحتاج إلى أن نشرح أهمية هذه المسألة (أي مضمون البرامج التعليمية) في إطار المشاريع الجادة للعيش المشترك الإسلامي المسيحي أو الوحدة الوطنية الراسخة، اذ يكفي ان تكون النظرة إلى الآخر سلبية على سبيل المثال في هذه الكتب، لكي ندرك مسبقاً أن أي مشروع لهذا العيش او تلك الوحدة سيبقى مشروعاً قلقاً ولا أصل ثابتاً له. ولن يحقق غاياته، طالما الاجيال التي نربي في مدارسنا تحمل نظرة مضادة لذلك. ولا داعي أيضاً للتأكيد على أهمية هذه الاجيال في صنع مستقبل البلاد.
ولكن ماذا في كتب التعليم عند الطوائف في لبنان؟ أي نظرة تحملها هذه الكتب إلى الذات وإلى الآخر؟ وما هي الاتجاهات في رؤية هذا الواقع والبدائل المقترحة؟.
ينبغي الاشارة قبل محاولة الاجابة عن هذا النوع من الاسئلة، إن الدراسات التي تناولت صورة "الآخر" في الكتب المدرسية تعتبر من أهم المرتكزات وأصدقها في التعبير. لأنها تكشف البعد الذي نزرعه في نفوس الاجيال من خلال التربية والتعليم حول قضية معينة، أو حول شعب من الشعوب أو مفهوم من المفاهيم. هكذا نلاحظ على سبيل المثال كيف درس الباحثون صورة العرب والمسلمين في كتب القراءة الفرنسية، أو صورة الفلسطيني والعربي في الكتب المدرسية الاسرائيلية. او صورة البطل في كتب التاريخ، أو غير ذلك من المفاهيم حول الانتماء والولاء، او حول صورة الوطن والطائفة. وهكذا نلاحظ أيضاً كيف تهتم الدولة العبرية بعد كل اتفاق للسلام تعقده مع دولة عربية، بمضامين الكتب المدرسية في تلك الدول، ولا تتوانى عن الطلب الرسمي إلى تغيير أو إلغاء ما يمت بالاساءة في تلك الكتب إلى اسرائيل باعتبارها عدواً أو محتلاً ...
ومن خلال مراجعة العديد من الكتب المدرسية في لبنان، خصوصاً كتب التربية المدنية التي تعتمدها المدارس المختلفة الرسمية والخاصة، والمحلية والارسالية والاسلامية والمسيحية، يتبين لنا أن صورة الآخر تغيب تماماً عن هذه الكتب. فالمسيحية كدين تغيب تماماً عن كتب التعليم التربوي والديني في المدرسة الاسلامية بأنواعها واتجاهاتها. كما تغيب معها بطبيعة الحال صورة المسيحي الفرد أو المواطن. ولن يكون مفاجئاً أن نكتشف الامر نفسه في الكتب التربوية والدينية في المدارس المسيحية أو الكاثوليكية. فالمسلم بدوره غير موجود، والاسلام كذلك.
بينما تنزع هذه الكتب إلى تقديم صورة أحادية عن الذات. هي الصورة المثلى. فالمسلم هو من يمتلك الاخلاق والفضائل والآداب. والمسيحي ايضاً، يمتلك بدوره مثل تلك الفضائل. لكن من منظارين مختلفين، لا يلتقيان ولا يتعارفان ولا يصادف واحدهما الآخر. لكن ذلك لم يمنع بعض هذه الكتب من ربط لبنان بوجود طائفة دينية محددة في أذهان طلابها. هكذا تصبح "قيامة المسيح، قيامة لبنان". كما يصبح لبنان الممزق، "كمسيحه على الخشبة" (1) . ولا يظهر تحليل سلاسل التعليم الديني الاسلامي، في مراحله كافة أي اهتمام بالآخر. بحيث ينهي الطالب مرحلته الثانوية من التعليم، وهو على أعتاب الجامعة دون أن يتزود بأي معرفة نظرية أو عملية بالشريك الآخر المفترض، أو بالاديان الاخرى التي تنتشر حوله في لبنان أو في العالم (2) .
ثمة من يعتبر هذا النوع من التعليم الديني في مدارس لبنان خطراً على الحياة النفسية والعقلية والاجتماعية. لأن هذا التعليم يقوم في أحد جوانبه على إبراز الفوارق والمفاضلة بين الاديان. وهذا يعني التمييز بين الناس والمواطنين على أساس طائفي. وهو تمييز لا يخدم قضية الدين ولا قضية المجتمع. خصوصاً وأن التفرقة الدينية تبلغ ذروتها في المدارس الرسمية، حيث يتم فصل تلاميذ الصف الواحد بعضهم عن بعض، وإعطاء كل فئة منهم درسها الديني الاسبوعي على حدة (3).
ولا يسوغ أصحاب هذا الرأي "استغلال المدرسة" لنشر العقائد الخاصة لأن المدرسة العامة ينبغي أن تكون أداة توحيد. والأجدى في مواجهة هذه المخاطر، الاقلاع عن التعليم الديني كما يمارس حالياً في المدارس، وإبداله بتعليم آخر يقدم للطلاب إجابات عن الاديان. أي تعليماً وصفياً عن الدين وليس تعليماً للدين.
كما ينتقد اتجاه آخر هذا التعليم الديني الحالي في المدارس في لبنان، لأنه يعتمد استراتيجية تجاهل، بحيث يبدو لمن يقرأ تاريخ لبنان على سبيل المثال أن لا وجود للطوائف فيه، ويقترح بديلاً هو "العلمنة التربوية" التي تحترم خصوصية الظاهرة الدينية، استناداً إلى المنهج العلمي، واعتماداً على الطريقة التاريخية والواقعية السياسية والدينية.
هذا الاتجاه لمقاربة عقلانية أو علمية للتعليم الديني في مجتمع متعدد الاديان والطوائف بعنوان "التربية العلمانية" او "التعليم الوصفي" للدين، يصطدم في الواقع برغبة كل الطوائف والاديان بتعليم أولادها عقيدتها ومذهبها. نظراً لأن هذا النوع من التعليم هو الذي يضمن استمرار العقيدة او المذهب من جيل إلى جيل. لا بل يذهب البعض إلى اعتبار المدرسة هي الحقل الاهم للتعليم الديني الذي لا نجد له أثراً في وسائل الاعلام. لذا يكاد يكون من المستحيل ان تطرح فكرة التخلي عن هذا التعليم. وإن كان الأمر لا يجب ان ينفي ضرورة التعرف "الوصفي"، أو "العلمي" على المذاهب والاديان والعقائد الاخرى. ولكن الأمر يحتاج إلى الخطة المناسبة او المراحل المتدرجة التي تبدأ فيما نظن، بنقل العقيدة في الصفوف الابتدائية والمتوسطة دون أن يداخلها شيء من العقائد الأخرى، لكن لا تختلط الأمور في ذهن الطالب الذي لا تسمح قدراته العقلية في سنواته الأولى من التعلم والمعرفة بقدر عال من التمييز. اما في المراحل اللاحقة التي تبدأ في الثانوي والجامعي فينبغي أن تكون المعرفة الدينية معرفة شاملة تفتح للطالب آفاق الاطلاع على الاديان في العالم، دون أي قلق او خوف، لا بل تصبح هذه المعرفة ضرورية في فهم ومتابعة ما يجري في العالم الذي يحيط به، خصوصاً وأن تنامي الظاهرة الدينية يفرض التعرف على أصولها الفطرية عند الإنسان، وعلى ظروفها السياسية والاجتماعية والثقافية. إن المشكلة التي يواجهها التعليم الديني، فيما نعتقد ونلاحظ، لا تقتصر على تحويل تعلم الدين أو العقيدة إلى معرفة وصفية أو علمية عن الاديان، بل ثمة مشاكل او مفارقات اخرى تطرح نفسها على جميع الشعوب التي ترغب في استعادة هويتها الدينية وفي تثبيتها عبر الاجيال بواسطة التربية. ذلك ان ما يحصل في عالم اليوم من فرض أو تعميم لنموذج واحد في الثقافة والسلوك والقيم، نموذج تفرضه الدول التي تهيمن على العالم وتمتلك وسائل الاعلام والتأثير، يتعارض مع هذه الرغبة لدى الشعوب في حفظ خصوصيتها الدينية والثقافية والقيمية. وربما تأتي الدعوات إلى "التعليم الوصفي" وإلى "العلمنة التربوية، أو إلى دعوات اخرى حول استبدال التعليم الديني بالتربية الاخلاقية لتخدم تعميم النموذج الواحد الذي لا يريد أن يعترف بخصوصيات الشعوب وأديانها. كما يمكن القول ان مثل هذه الدعوات إلى تجاوز تعليم الدين، تتفق من حيث أرادت ذلك ام لا مع القلق الذي تعيشه المسيحية في العالم، خلافاً للتحفز أو الحيوية التي يمتلكها الاسلام اليوم. فإلى الانكفاء التاريخي للمسيحية عن شؤون المجتمع والحياة في أنحاء العالم كافة، تواجه في العصر الراهن ايضاً تهديدات جدية في معظم بلدان اوروبا واميركا، مصدرها أديان أخرى يصل عددها إلى بضع مئات، قد تكون مزيجاً من عقائد متنوعة، تجذب إليها الاتباع من كل الأعمار والأجناس والطبقات، بينما يعيش الإسلام وأتباعه بالمقابل حالة من "الانبعاث" السياسي والاجتماعي والثقافي. وهو أمر يدفع المسلمين في أكثر من مكان في العالم، إلى الاستجابة لهذا الانبعاث ولتلك "الصحوة" عبر تثبيت العقيدة أو المذهب بواسطة التعليم والتربية منذ السنوات الاولى من العمر، ولهذا السبب يرى البعض أن التربية ضرورية لتخطي الخوف المتبادل. وهي التي تساعد على التحرر من الماضي. كما أن الخوف الذي يساور الاقليات، إسلامية كانت أم مسيحية في المجتمعات المتعددة لن يشجع بدوره مثل تلك الدعوات التي تجاوز التعليم العقيدي إلى تعليم وصفي للعقائد والاديان. وقد أقرت المنظمات والهيئات الدولية مثل هذا التعليم الديني كما أقرّت اللغة الخاصة لهذه الاقلية أو تلك في إطار السعي الدولي لتثبيت حقوق الاقليات أو رفع الاضطهاد الثقافي أو الديني عنها.
أما القلق المشروع الذي تحمله تلك الدعوات في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب، وترى في الاعتراف بالاديان دون الانتماء اليها، مدخلاً لتجاوز الطائفية او الانقسامات الدينية ومدخلاً لإزالة عقد الخوف والشك والجهل والاستعلاء، فازالته لن تكون كما أشرنا بإلغاء الانتماء الديني والعقيدي. وما ينبغي أن يطرح في هذا الاطار هو كيفية تحقيق التربية المنظمة أو العامة التي تؤدي إلى تجاوز الجهل المتبادل بالمسلمين والمسيحيين في كتبهم التعليمية والدينية. أي كيف تنقل عمليتي التربية والتعليم العقيدة الخاصة في كل دين، وتخطط في الوقت نفسه لتعريف الطلاب على الدين الآخر، خصوصاً وإننا نعلم أن الكتب المدرسية في المدارس الاسلامية والمسيحية، في بلد مثل لبنان، تتجاهل كل واحدة منها الآخر وكأنه غير موجود، وعلى الرغم من انقضاء بضع سنوات على توقف الحرب الاهلية وما نتج عنها من انقسام اجتماعي على أسس مناطقية ودينية، لا يزال التعليم الديني على حاله ومضامينه لم تمس ولم تتبدل. ولا يزال طلاب المدرسة الاسلامية على سبيل المثال يعيشون وهم لا يعرفون شيئاً عن "الآخر" المسيحي خلال فترة طويلة من إعدادهم في مراحل التعليم كافة. علماً بأن القرآن الكريم، كتاب المسلمين المقدس يؤكد في الكثير من آياته ليس فقط على موجة أهل الكتاب وإنما على منهج الحوار للتعرف حتى على العقائد او الافكار التي تخالف ما يدعو اليه.
إن الدعوة إلى فصل المدرسة عن التعليم الديني، وربط هذا الاخير بالبيت او بدور العبادة، قد لا تكون بدورها حلاً مثالياً، لأن الطالب سيحمل إلى المدرسة مجدداً ما تلقّاه خارجها، وهذا يعني عود على بدء إلى الانقسام الديني او المذهبي داخل المدرسة حتى لو لم تبادر المدرسة نفسها إلى مثل هذا النوع من التعلم. ان الاقرار في مجتمع متعدد، بأهمية وضرورة تعلم كل طائفة أو دين للمذهب أو العقيدة التي يرتبط بها وجوده وفلسفته الانسانية والعبادية، هو المدخل الواقعي والعقلاني لمعالجة السلبيات أو المخاطر التي قد تنجم عن مثل هذا التعلم. وهي التي تحتاج فعلاً إلى البحث الجاد والعميق الذي يمكن ان يحوّلها إلى أسئلة، قد لا تختصر الاحتمالات كلها، لكنها تشكل فيما نعتقد المقومات الضرورية لمثل تلك المعالجة:
- في مجتمع متعدد الاديان تبرز دائماً مخاطر التمازج بين الديني والسياسي. كما تصبح إمكانية التدخل الخارجي لصالح الطوائف، كما حصل دائماً في التاريخ، مؤاتية في عالم يتسم بالصراع الحاد من أجل النفوذ والسيطرة، ما يهدد باندلاع الحروب والنزاعات التي يتداخل فيها الديني والسياسي والاجتماعي. والامثلة على ذلك في عالم اليوم كثيرة، في لبنان والبوسنة وفلسطين والهند وسريلانكا وغيرها من بلدان تعيش مثل هذا النوع من النزاعات بين أديان ومذاهب مختلفة. كيف يمكن في وضع معقد كهذا ان ننجح في الفصل بين الديني والسياسي: أي كيف نتفق مع الديني ونختلف مع السياسي؟.
- كيف نؤسس لتربية عمادها التسامح أو المعرفة المتبادلة أو القيم الاخلاقية المشتركة بين الديانات، دون ان يقترن ذلك باختلاط طبيعي وعفوي بين المسلمين والمسيحيين في مجتمع متعدد؟ ألا يهدد ذلك، إذا لم يحصل بفقدان الحس النقدي للآخر وللعالم؟ ألا يحتمل ذلك ايضاً تضاؤل الوعي الحقيقي الذي يولده اتصال الكائن الانساني بالآخر "المختلف"؟ ألا يُخشى في وضع مماثل نزع الطابع الإنساني والرمزي عن الدين، وتحويل كل من الاسلام والمسيحية إلى عالمين بعيدين يعيشان في الكتب المقدسة ولا يلتقيان في الواقع؟ بينما يدعو القادة والعلماء والمفكرون من الطرفين وبلا كلل إلى التلاقي والتحاور و"العيش المشترك"؟.
- في ظل الرغبة المشروعة، إن لم تكن الحاجة، لدى كل جماعة دينية في حفظ عقيدتها وتعليم أصولها إلى الابناء والاجيال الفتية، كيف نتيح إلى هؤلاء التعرف على الآخر؟ في أي مرحلة من مراحل العمر؟ من خلال أي صورة أو نموذج؟ الصورة الدينية أم الانسانية أم الصورة المواطنية؟ ومشروعية هذا التساؤل تأتي من الحدود التي تضعها كل جماعة دينية أو كل طائفة بين عقيدتها وبين العقائد الاخرى. ما يفرض على الباحثين في التربية والسياسة والاجتماع العمل الجاد والدؤوب لاكتشاف المرتكزات الاساسية التي تسمح بحفظ خصوصية كل عقيدة، دون المساس بوحدة المجتمع، أو بوحدته الوطنية.
________________________________
(1) راجع كتاب "على دروب السعادة". دار الجودة، 1991، ص 87 وص 31.
(2) راجع سلسلة الاسلام رسالتنا. للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية (12 جزءاً) – صادر عن جمعية التعليم الديني الاسلامي في بيروت.
(3) أديب صعب. الدين والمجتمع. دار النهار للنشر – الطبعة الثانية 1995 – الفصل الأول، التعليم الديني التقليدي.
الإسلام والمسيحية في لبنان بين دعوات
الحوار والجهد المتبادل في الكتب المدرسية
تصاعدت منذ سنوات وتيرة الحديث واللقاءات والندوات عن العلاقات الاسلامية المسيحية، وعن الحوار الاسلامي المسيحي. وبدأنا نشهد دولاً وتجمعات إقليمية تدعو إلى مثل هذه اللقاءات، أو تعقد بدورها حلقات بحث ومؤتمرات حول العلاقات الاسلامية المسيحية، أو حول اللقاء بين الأديان بما فيها اليهودية. كما نشأت هيئات وجميعات ومنظمات تضم مسلمين ومسيحيين، هدفها هذا النوع من العلاقات، والتقريب والحوار والنقاش السياسي والديني والاجتماعي. واختلفت التفسيرات وتعددت في أسباب الاهتمام بهذا الموضوع، كما اختلفت المواقف منه بين مؤيد ومشجع أو متحفظ ومشكك.
تأتي الدعوة إلى العلاقات الاسلامية المسيحية في إطار المتغيرات التالية:
1- إن الحضارة الغربية التي قدمت على امتداد ما يزيد على قرن من الزمن نموذجاً "مادياً" غير روحي أو غير ديني للعالم، وأنجزت تقدماً هائلاً على المستويات العلمية والتكنولوجية، تعاني اليوم من خلل عميق في الجوانب الانسانية والمعنوية، تجمع الآراء على اعتباره نتيجة لتهميش البعد الديني في حياة الإنسان، وتأليه العقل وهيمنة الفرد. ويكاد هذا الخلل ان يهدد كل منجزات تلك الحضارة. وتتزايد أصوات المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع الذين ينبهون إلى ضرورة اللجوء إلى النظام القيمي والأخلاقي الذي يحفظ التوازن الانساني. كما تتزايد الاتجاهات التي تدعو إلى الاهتمام بالدوافع المعنوية والروحية عند الإنسان باعتبارها دوافع أصلية، وإلى عدم اغفالها في الدراسات الانسانية في علوم النفس والتربية والاجتماع وسواها. والأمثلة على ذلك كثيرة، يكفي أن نذكر ما قاله أحد علماء التحليل النفسي (يونغ) الذي يعتبر ولادة علم النفس في اوروبا "تعبير عن اختلال عظيم في حياتنا الروحية".
2- إن التطورات السياسية والاستراتيجية التي حصلت في بداية التسعينات وأدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، أطلقت الدوافع والنزعات القومية والإثنية والدينية والعرقية من السجن الذي فرضته عليها الشيوعية الحاكمة على امتداد أكثر من نصف قرن. وظهرت الهويات الدينية الاسلامية في جمهوريات آسيا الوسطى في الاتحاد السوفياتي السابق، كما تفككت دول اخرى في اوروبا الشرقية إلى قومياتها السابقة، ودخلت بعضها في صراعات دموية وتصفيات عرقية، وتحولت البوسنة على سبيل المثال إلى نموذج لهذا التداخل بين العرقي والديني، على مستوى الحرب الدائرة بين أطرافها، أو حتى على مستوى الدعم الخارجي الاسلامي او الارثوذكسي لهؤلاء الاطراف. أي أن انهيار منظومة الصراع السابقة بين الرأسمالية والشيوعية، أخرج من الظلمات عناصر الهويات الدينية في الصراعات بين البلدان والشعوب في أنحاء كثير من العالم.
3- ان الدعوات التي صدرت قبل سنوات من أوساط بحثية واستراتيجية أميركية تعتبر الاسلام عدواً قادماً للحضارة الغربية، وان الصراع القادم هو صراع بين الحضارات، لم تهدف فقط إلى تسليط الضوء على أهمية البعد الديني في الصراع، بل أرادت التحذير من مخاطر هذا الجانب الذي يمثله الاسلام في عالم اليوم. وقد ترافقت هذه الدعوات مع أخرى مماثلة لها، ترى في الإسلام، على مستوى تحديد الخصوم والصراعات بالنسبة للولايات المتحدة، بديلاً للشيوعية البائدة، أي عدواً ينبغي العمل على ضربه ومحاصرته أو احتوائه.
4- إن "عملية السلام" التي بدأت قبل سنوات لحل الصراع العربي الاسرائيلي، ترتكز في جوهرها إلى مقولة الأرض مقابل السلام. أي عودة الأرض العربية التي احتلتها اسرائيل في حروبها ضد العرب. ومن المعلوم أن من أشدّ ما تسعى اليه اسرائيل هو التطبيع مع جوارها العربي والاسلامي. أي إيجاد علاقات طبيعية على جميع المستويات التجارية والاقتصادية والثقافية ... وهذا يفترض لكي تتحقق بداية تعايش حقيقي بين اليهودية وبين الاسلام في فلسطين وفي البلدان العربية المجاورة. وهذا يستدعي، إلى التفاوض الثنائي والمتعدد، ايجاد مناخات موازية للحوار، او لتذليل الحواجز النفسية بين أصحاب الاديان المختلفة، ومن بينها اليهودية التي كانت على امتداد نصف القرن الماضي ديناً مقاتلاً بواسطة الصهيونية لبناء الدولة في اسرائيل، ولحمايتها من "أعدائها". كما يمكن الالتفات هنا إلى ما تقوم به بعض المنظمات والهيئات الدولية من أنشطة مختلفة تتمحور حول مفاهيم السلام غير السياسي. كالتربية على السلام، والطفولة والسلام، والاديان والسلام، او غير ذلك مما يدعو إلى قبول آخر والعيش معه .. والتي لا تهدف فيما نظن سوى إلى مواكبة "موازية لعملية السلام"، وتهيئة الارضية المناسبة لاستقبال نتائج تلك العملية على مستوى المؤسسات الاهلية والتربوية التي تتوجه اليها هذه المنظمات الدولية.
5- إن ظاهرة "الانبعاث أو الصحوة الاسلامية" أو ما يطلق عليه أيضاً الاصولية والتطرف والاسلام السياسي، كان لها بدورها تأثير مباشر على الاهتمام بمستقبل العلاقات الاسلامية المسيحية. فمع وصول جزء من هذه الحركات أو الاتجاهات الاسلامية، إلى السلطة في بعض البلدان العربية والاسلامية أثارت بعض الأوساط الفكرية والسياسية والدينية مشكلة الاقليات غير المسلمة في هذه البلدان. كما أثير إلى جانب ذلك وقبله، أصل المشكلة في التفكير الاسلامي حول الدولة والسلطة والمواطنية. وقد ساهم في مشروعية مثل تلك الاسئلة، أو المخاوف المرافقة لها، ما قامت بعض الجماعات الاسلامية في بلدان كالجزائر ومصر تحديداً من اعتداءات طاولت المسيحيين في الارواح والممتلكات. وقد عمد البعض إلى سحب هذا النموذج الشاذ من الاعتداء على كل الحركات الاسلامية أو على ظاهرة الاسلام السياسي برمتها في المنطقة العربية والاسلامية. وقد دفعت المخاوف الناجمة عن مثل هذه الاعتداءات إلى البحث عن الضوابط أو القوانين التي تحدد أو تنظم أسس العلاقات الاسلامية المسيحية في بلدان تتنامى فيها الظاهرة الاسلامية، وتتعاظم ضغوطها على حكوماتها، إما من أجل المشاركة في السلطة أو من أجل العمل على أسلمة المجتمع والسياسة والثقافة.
وكان من الطبيعي أن يتفاوت حجم الاهتمام بموضوع العلاقات الاسلامية المسيحية، أو بالحوار الاسلامي المسيحي وفقاً لمدى وجود هذه الظاهرة أو المعاناة في هذا البلد أو ذاك، أو وفقاً لانعكاس عنصر أو اكثر من العناصر التي أشرنا إليها في إيجاد المناخ الملائم للبحث في مثل هذه العلاقات.
ويمكن أن نلاحظ أن الاهتمام بهذا الموضوع لم يصبح ظاهرة بارزة في جميع البلدان العربية والاسلامية أو في باقي بلدان العالم. وإنما اقتصر الاهتمام به على بعض هذه البلدان وعلى بعض المنظمات أو الهيئات الدولية. ولا تعود أسباب غياب هذا الاهتمام في كثير من البلدان العربية والاسلامية، إلى رفض لهذه العلاقات أو للحوار حولها، بل لأن أصل المشكلة أو عقدة العلاقات الاسلامية المسيحية، ولهذا يصبح البحث في مثل هذه المشكلة وكأنه افتعال لها حيناً، او تحريض على وجودها حيناً آخر، بينما نلاحظ أن المجتمعات المتعددة مثل لبنان على سبيل المثال، هي التي تهتم اهتماماً عالياً بهذا الموضوع. ويمكن القول ربما بدون أي مبالغة، أن ليس هناك بلد مماثل للبنان في اهتمامه بالعلاقات الإسلامية المسيحية وبالحوار حولها، وكذلك في حجم الهيئات والمؤتمرات التي أسست وتؤسس وعقدت وتعقد للبحث فيه. وقد يكون السبب الرئيس لهذا الاهتمام المفرط، الإنقسام الاهلي والديني الذي عاشه لبنان على امتداد سنوات الحرب الأهلية، والذي هدد في مراحل كثيرة منها بتقسيمه إلى دويلات دينية حيناً ومذهبية حيناً أخر. وخصوصاً وأن لبنان بلد متعدد الطوائف، يقوم دستوره على هذا التعدد، ويقر نظامه التعليمي بحرية هذه الطوائف في تعاليم أبنائها.
وقد سمح السلم الأهلي، بعد توقف الحرب منذ بضع سنوات، بهذا الاهتمام اللافت بالعلاقات الإسلامية – المسيحية، نظراً لأن ما تركته الحرب من انقسام نفسي واجتماعي ومناطقي لم تردمه عودة السلم، أو عودة السلطة المركزية. كما أن التحولات السياسية والديمغرافية والإجتماعية التي حصلت في العقدين الأخيرين، وربما قبلهما، أخلَّت بالتوازن السابق الذي كان يقوم على هيمنة طائفية ودينية معينة على مقدرات السلطة وعلى الطوائف الأخرى. وطرحت هذه التحولات آفاقاً جديدة، أو توزاناً وقلقاً جديداً لم تعهده الطوائف الأخرى منذ تأسيس لبنان قبل نصف قرن من الزمن. وعلى الرغم من خطوات التقريب، أو على الأقل بناء عناصر الثقة، أو توليد مناخات الإطمئنان المتبادل التي تقوم به لجان الحوار الإسلامي المسيحي، وهيئات التنسيق واللقاءات على مستوى الشخصيات والقادة من الطرفين، فإن ما لم يخضع للبحث والتدقيق على مستوى خدمة مشروع التقريب والعيش المشترك والمواطنية، وبالتالي خدمة أهداف لجان الحوار والتنسيق الاسلامي المسيحي، فيما يطمح اليه على مستوى الوحدة الوطنية، ومن أجل خدمة الثروة التي ينبغي على لبنان التمسك بها في الوجود الاسلامي المسيحي والعيش معاً في ظل هذا الوجود، هو البرامج التعليمية في مدارس كل من المسلمين والمسيحيين. خصوصاً وان الدستور اللبناني كما أشرنا يكفل للطوائف حريتها في التعليم بما ينسجم مع الاهداف التربوية والتعليمية العامة، وبما يحقق الاهداف التربوية والدينية الخاصة لكل طائفة.
وقد لا نحتاج إلى أن نشرح أهمية هذه المسألة (أي مضمون البرامج التعليمية) في إطار المشاريع الجادة للعيش المشترك الإسلامي المسيحي أو الوحدة الوطنية الراسخة، اذ يكفي ان تكون النظرة إلى الآخر سلبية على سبيل المثال في هذه الكتب، لكي ندرك مسبقاً أن أي مشروع لهذا العيش او تلك الوحدة سيبقى مشروعاً قلقاً ولا أصل ثابتاً له. ولن يحقق غاياته، طالما الاجيال التي نربي في مدارسنا تحمل نظرة مضادة لذلك. ولا داعي أيضاً للتأكيد على أهمية هذه الاجيال في صنع مستقبل البلاد.
ولكن ماذا في كتب التعليم عند الطوائف في لبنان؟ أي نظرة تحملها هذه الكتب إلى الذات وإلى الآخر؟ وما هي الاتجاهات في رؤية هذا الواقع والبدائل المقترحة؟.
ينبغي الاشارة قبل محاولة الاجابة عن هذا النوع من الاسئلة، إن الدراسات التي تناولت صورة "الآخر" في الكتب المدرسية تعتبر من أهم المرتكزات وأصدقها في التعبير. لأنها تكشف البعد الذي نزرعه في نفوس الاجيال من خلال التربية والتعليم حول قضية معينة، أو حول شعب من الشعوب أو مفهوم من المفاهيم. هكذا نلاحظ على سبيل المثال كيف درس الباحثون صورة العرب والمسلمين في كتب القراءة الفرنسية، أو صورة الفلسطيني والعربي في الكتب المدرسية الاسرائيلية. او صورة البطل في كتب التاريخ، أو غير ذلك من المفاهيم حول الانتماء والولاء، او حول صورة الوطن والطائفة. وهكذا نلاحظ أيضاً كيف تهتم الدولة العبرية بعد كل اتفاق للسلام تعقده مع دولة عربية، بمضامين الكتب المدرسية في تلك الدول، ولا تتوانى عن الطلب الرسمي إلى تغيير أو إلغاء ما يمت بالاساءة في تلك الكتب إلى اسرائيل باعتبارها عدواً أو محتلاً ...
ومن خلال مراجعة العديد من الكتب المدرسية في لبنان، خصوصاً كتب التربية المدنية التي تعتمدها المدارس المختلفة الرسمية والخاصة، والمحلية والارسالية والاسلامية والمسيحية، يتبين لنا أن صورة الآخر تغيب تماماً عن هذه الكتب. فالمسيحية كدين تغيب تماماً عن كتب التعليم التربوي والديني في المدرسة الاسلامية بأنواعها واتجاهاتها. كما تغيب معها بطبيعة الحال صورة المسيحي الفرد أو المواطن. ولن يكون مفاجئاً أن نكتشف الامر نفسه في الكتب التربوية والدينية في المدارس المسيحية أو الكاثوليكية. فالمسلم بدوره غير موجود، والاسلام كذلك.
بينما تنزع هذه الكتب إلى تقديم صورة أحادية عن الذات. هي الصورة المثلى. فالمسلم هو من يمتلك الاخلاق والفضائل والآداب. والمسيحي ايضاً، يمتلك بدوره مثل تلك الفضائل. لكن من منظارين مختلفين، لا يلتقيان ولا يتعارفان ولا يصادف واحدهما الآخر. لكن ذلك لم يمنع بعض هذه الكتب من ربط لبنان بوجود طائفة دينية محددة في أذهان طلابها. هكذا تصبح "قيامة المسيح، قيامة لبنان". كما يصبح لبنان الممزق، "كمسيحه على الخشبة" (1) . ولا يظهر تحليل سلاسل التعليم الديني الاسلامي، في مراحله كافة أي اهتمام بالآخر. بحيث ينهي الطالب مرحلته الثانوية من التعليم، وهو على أعتاب الجامعة دون أن يتزود بأي معرفة نظرية أو عملية بالشريك الآخر المفترض، أو بالاديان الاخرى التي تنتشر حوله في لبنان أو في العالم (2) .
ثمة من يعتبر هذا النوع من التعليم الديني في مدارس لبنان خطراً على الحياة النفسية والعقلية والاجتماعية. لأن هذا التعليم يقوم في أحد جوانبه على إبراز الفوارق والمفاضلة بين الاديان. وهذا يعني التمييز بين الناس والمواطنين على أساس طائفي. وهو تمييز لا يخدم قضية الدين ولا قضية المجتمع. خصوصاً وأن التفرقة الدينية تبلغ ذروتها في المدارس الرسمية، حيث يتم فصل تلاميذ الصف الواحد بعضهم عن بعض، وإعطاء كل فئة منهم درسها الديني الاسبوعي على حدة (3).
ولا يسوغ أصحاب هذا الرأي "استغلال المدرسة" لنشر العقائد الخاصة لأن المدرسة العامة ينبغي أن تكون أداة توحيد. والأجدى في مواجهة هذه المخاطر، الاقلاع عن التعليم الديني كما يمارس حالياً في المدارس، وإبداله بتعليم آخر يقدم للطلاب إجابات عن الاديان. أي تعليماً وصفياً عن الدين وليس تعليماً للدين.
كما ينتقد اتجاه آخر هذا التعليم الديني الحالي في المدارس في لبنان، لأنه يعتمد استراتيجية تجاهل، بحيث يبدو لمن يقرأ تاريخ لبنان على سبيل المثال أن لا وجود للطوائف فيه، ويقترح بديلاً هو "العلمنة التربوية" التي تحترم خصوصية الظاهرة الدينية، استناداً إلى المنهج العلمي، واعتماداً على الطريقة التاريخية والواقعية السياسية والدينية.
هذا الاتجاه لمقاربة عقلانية أو علمية للتعليم الديني في مجتمع متعدد الاديان والطوائف بعنوان "التربية العلمانية" او "التعليم الوصفي" للدين، يصطدم في الواقع برغبة كل الطوائف والاديان بتعليم أولادها عقيدتها ومذهبها. نظراً لأن هذا النوع من التعليم هو الذي يضمن استمرار العقيدة او المذهب من جيل إلى جيل. لا بل يذهب البعض إلى اعتبار المدرسة هي الحقل الاهم للتعليم الديني الذي لا نجد له أثراً في وسائل الاعلام. لذا يكاد يكون من المستحيل ان تطرح فكرة التخلي عن هذا التعليم. وإن كان الأمر لا يجب ان ينفي ضرورة التعرف "الوصفي"، أو "العلمي" على المذاهب والاديان والعقائد الاخرى. ولكن الأمر يحتاج إلى الخطة المناسبة او المراحل المتدرجة التي تبدأ فيما نظن، بنقل العقيدة في الصفوف الابتدائية والمتوسطة دون أن يداخلها شيء من العقائد الأخرى، لكن لا تختلط الأمور في ذهن الطالب الذي لا تسمح قدراته العقلية في سنواته الأولى من التعلم والمعرفة بقدر عال من التمييز. اما في المراحل اللاحقة التي تبدأ في الثانوي والجامعي فينبغي أن تكون المعرفة الدينية معرفة شاملة تفتح للطالب آفاق الاطلاع على الاديان في العالم، دون أي قلق او خوف، لا بل تصبح هذه المعرفة ضرورية في فهم ومتابعة ما يجري في العالم الذي يحيط به، خصوصاً وأن تنامي الظاهرة الدينية يفرض التعرف على أصولها الفطرية عند الإنسان، وعلى ظروفها السياسية والاجتماعية والثقافية. إن المشكلة التي يواجهها التعليم الديني، فيما نعتقد ونلاحظ، لا تقتصر على تحويل تعلم الدين أو العقيدة إلى معرفة وصفية أو علمية عن الاديان، بل ثمة مشاكل او مفارقات اخرى تطرح نفسها على جميع الشعوب التي ترغب في استعادة هويتها الدينية وفي تثبيتها عبر الاجيال بواسطة التربية. ذلك ان ما يحصل في عالم اليوم من فرض أو تعميم لنموذج واحد في الثقافة والسلوك والقيم، نموذج تفرضه الدول التي تهيمن على العالم وتمتلك وسائل الاعلام والتأثير، يتعارض مع هذه الرغبة لدى الشعوب في حفظ خصوصيتها الدينية والثقافية والقيمية. وربما تأتي الدعوات إلى "التعليم الوصفي" وإلى "العلمنة التربوية، أو إلى دعوات اخرى حول استبدال التعليم الديني بالتربية الاخلاقية لتخدم تعميم النموذج الواحد الذي لا يريد أن يعترف بخصوصيات الشعوب وأديانها. كما يمكن القول ان مثل هذه الدعوات إلى تجاوز تعليم الدين، تتفق من حيث أرادت ذلك ام لا مع القلق الذي تعيشه المسيحية في العالم، خلافاً للتحفز أو الحيوية التي يمتلكها الاسلام اليوم. فإلى الانكفاء التاريخي للمسيحية عن شؤون المجتمع والحياة في أنحاء العالم كافة، تواجه في العصر الراهن ايضاً تهديدات جدية في معظم بلدان اوروبا واميركا، مصدرها أديان أخرى يصل عددها إلى بضع مئات، قد تكون مزيجاً من عقائد متنوعة، تجذب إليها الاتباع من كل الأعمار والأجناس والطبقات، بينما يعيش الإسلام وأتباعه بالمقابل حالة من "الانبعاث" السياسي والاجتماعي والثقافي. وهو أمر يدفع المسلمين في أكثر من مكان في العالم، إلى الاستجابة لهذا الانبعاث ولتلك "الصحوة" عبر تثبيت العقيدة أو المذهب بواسطة التعليم والتربية منذ السنوات الاولى من العمر، ولهذا السبب يرى البعض أن التربية ضرورية لتخطي الخوف المتبادل. وهي التي تساعد على التحرر من الماضي. كما أن الخوف الذي يساور الاقليات، إسلامية كانت أم مسيحية في المجتمعات المتعددة لن يشجع بدوره مثل تلك الدعوات التي تجاوز التعليم العقيدي إلى تعليم وصفي للعقائد والاديان. وقد أقرت المنظمات والهيئات الدولية مثل هذا التعليم الديني كما أقرّت اللغة الخاصة لهذه الاقلية أو تلك في إطار السعي الدولي لتثبيت حقوق الاقليات أو رفع الاضطهاد الثقافي أو الديني عنها.
أما القلق المشروع الذي تحمله تلك الدعوات في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب، وترى في الاعتراف بالاديان دون الانتماء اليها، مدخلاً لتجاوز الطائفية او الانقسامات الدينية ومدخلاً لإزالة عقد الخوف والشك والجهل والاستعلاء، فازالته لن تكون كما أشرنا بإلغاء الانتماء الديني والعقيدي. وما ينبغي أن يطرح في هذا الاطار هو كيفية تحقيق التربية المنظمة أو العامة التي تؤدي إلى تجاوز الجهل المتبادل بالمسلمين والمسيحيين في كتبهم التعليمية والدينية. أي كيف تنقل عمليتي التربية والتعليم العقيدة الخاصة في كل دين، وتخطط في الوقت نفسه لتعريف الطلاب على الدين الآخر، خصوصاً وإننا نعلم أن الكتب المدرسية في المدارس الاسلامية والمسيحية، في بلد مثل لبنان، تتجاهل كل واحدة منها الآخر وكأنه غير موجود، وعلى الرغم من انقضاء بضع سنوات على توقف الحرب الاهلية وما نتج عنها من انقسام اجتماعي على أسس مناطقية ودينية، لا يزال التعليم الديني على حاله ومضامينه لم تمس ولم تتبدل. ولا يزال طلاب المدرسة الاسلامية على سبيل المثال يعيشون وهم لا يعرفون شيئاً عن "الآخر" المسيحي خلال فترة طويلة من إعدادهم في مراحل التعليم كافة. علماً بأن القرآن الكريم، كتاب المسلمين المقدس يؤكد في الكثير من آياته ليس فقط على موجة أهل الكتاب وإنما على منهج الحوار للتعرف حتى على العقائد او الافكار التي تخالف ما يدعو اليه.
إن الدعوة إلى فصل المدرسة عن التعليم الديني، وربط هذا الاخير بالبيت او بدور العبادة، قد لا تكون بدورها حلاً مثالياً، لأن الطالب سيحمل إلى المدرسة مجدداً ما تلقّاه خارجها، وهذا يعني عود على بدء إلى الانقسام الديني او المذهبي داخل المدرسة حتى لو لم تبادر المدرسة نفسها إلى مثل هذا النوع من التعلم. ان الاقرار في مجتمع متعدد، بأهمية وضرورة تعلم كل طائفة أو دين للمذهب أو العقيدة التي يرتبط بها وجوده وفلسفته الانسانية والعبادية، هو المدخل الواقعي والعقلاني لمعالجة السلبيات أو المخاطر التي قد تنجم عن مثل هذا التعلم. وهي التي تحتاج فعلاً إلى البحث الجاد والعميق الذي يمكن ان يحوّلها إلى أسئلة، قد لا تختصر الاحتمالات كلها، لكنها تشكل فيما نعتقد المقومات الضرورية لمثل تلك المعالجة:
- في مجتمع متعدد الاديان تبرز دائماً مخاطر التمازج بين الديني والسياسي. كما تصبح إمكانية التدخل الخارجي لصالح الطوائف، كما حصل دائماً في التاريخ، مؤاتية في عالم يتسم بالصراع الحاد من أجل النفوذ والسيطرة، ما يهدد باندلاع الحروب والنزاعات التي يتداخل فيها الديني والسياسي والاجتماعي. والامثلة على ذلك في عالم اليوم كثيرة، في لبنان والبوسنة وفلسطين والهند وسريلانكا وغيرها من بلدان تعيش مثل هذا النوع من النزاعات بين أديان ومذاهب مختلفة. كيف يمكن في وضع معقد كهذا ان ننجح في الفصل بين الديني والسياسي: أي كيف نتفق مع الديني ونختلف مع السياسي؟.
- كيف نؤسس لتربية عمادها التسامح أو المعرفة المتبادلة أو القيم الاخلاقية المشتركة بين الديانات، دون ان يقترن ذلك باختلاط طبيعي وعفوي بين المسلمين والمسيحيين في مجتمع متعدد؟ ألا يهدد ذلك، إذا لم يحصل بفقدان الحس النقدي للآخر وللعالم؟ ألا يحتمل ذلك ايضاً تضاؤل الوعي الحقيقي الذي يولده اتصال الكائن الانساني بالآخر "المختلف"؟ ألا يُخشى في وضع مماثل نزع الطابع الإنساني والرمزي عن الدين، وتحويل كل من الاسلام والمسيحية إلى عالمين بعيدين يعيشان في الكتب المقدسة ولا يلتقيان في الواقع؟ بينما يدعو القادة والعلماء والمفكرون من الطرفين وبلا كلل إلى التلاقي والتحاور و"العيش المشترك"؟.
- في ظل الرغبة المشروعة، إن لم تكن الحاجة، لدى كل جماعة دينية في حفظ عقيدتها وتعليم أصولها إلى الابناء والاجيال الفتية، كيف نتيح إلى هؤلاء التعرف على الآخر؟ في أي مرحلة من مراحل العمر؟ من خلال أي صورة أو نموذج؟ الصورة الدينية أم الانسانية أم الصورة المواطنية؟ ومشروعية هذا التساؤل تأتي من الحدود التي تضعها كل جماعة دينية أو كل طائفة بين عقيدتها وبين العقائد الاخرى. ما يفرض على الباحثين في التربية والسياسة والاجتماع العمل الجاد والدؤوب لاكتشاف المرتكزات الاساسية التي تسمح بحفظ خصوصية كل عقيدة، دون المساس بوحدة المجتمع، أو بوحدته الوطنية.
________________________________
(1) راجع كتاب "على دروب السعادة". دار الجودة، 1991، ص 87 وص 31.
(2) راجع سلسلة الاسلام رسالتنا. للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية (12 جزءاً) – صادر عن جمعية التعليم الديني الاسلامي في بيروت.
(3) أديب صعب. الدين والمجتمع. دار النهار للنشر – الطبعة الثانية 1995 – الفصل الأول، التعليم الديني التقليدي.