* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ويلٌ لكل همزةٍ لمزةٍ * الذي جمع مالًا وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدةٌ * في عمدٍ ممددةٍ﴾ [الهمزة]
صدق الله العظيم
سورة الهمزة هذه مكية، وفيها رد ورفض لتصرفات كانت تصدر عن المشركين تجاه رسول الله (ص) وتجاه أصحابه.
مقدمةً، نحن نعلم أن رسول الله (ص) في مكة، صحيح أن قومه أو عائلته كانوا يحمونه ويمنعون وقوع الأذى عليه، ولكن هذا ليس معناه أنه كان لرسول الله سلاح، ما كان له سلاح. يعني هو ما كان أحد معه، لا رجال ولا جيش ولا سلاح حتى يتمكن من الهجوم على الآخرين.
بنو هاشم، بقيادة "أبي طالب"، كانوا يدافعون عنه، لكن ماذا يعني يدافعون؟ بين الحين والآخر، إذا واحد أضرّه، أزعجه، آذاه، أدخل عليه ضررًا في بعض الأحيان يدافعون عنه، لكن غالبًا لم يكونوا مستعدين في كل ساعة، وكل وقت، وكل ليل، وكل نهار، يقفون معه بالنسبة لمعركته، وبالنسبة لرسالته، وكثير من بني هاشم ما كانوا مسلمين.
فرسول الله، في الحقيقة، كان رجلًا أعزل في مكة، سلاحه المعنوي طبعًا دعوته وإيمانه وصدقه ونبوته، وكان له سلاح مادي أيضًا، وهو أسلوب القرآن، فصاحة القرآن والتعبيرات القرآنية القاصمة للظهر. وطبعًا أنتم تعرفون أن العرب في أوائل أيام الرسول (ص)، وقبل الرسول كانوا فصحاء، كانوا يهتمون بالمدح والقدح، يعني كان يعتبر الشعر سلاحًا، وتذكرون في تفسير سورة ﴿تبت يدا أبي لهبٍ وتب﴾ [المسد، 1]، ذكرنا أن هذه السورة حينما نزلت اشتهرت مثل القنبلة، دوت في أوساط العرب، حتى في الحديث أن الخليفة "أبا بكر" كان واقفًا مع رسول الله جاءت "أم جميل" التي لقبها القرآن بحمالة الحطب، جاءت مثل المجنونة، وقالت: أين صاحبك؟ سمعت أنه قد هجاني.
يعني كان العرب يهتمون جدًا بقضية الهجو وقضية المدح. ما كان شيئًا عاديًا، قصيدة شعر في مدح أو ذم أحد كانت أمرًا عظيمًا وسلاحًا قارعًا، ولهذا نقدر أن نقول أن رسول الله (ص) في أول رسالته كان يستعمل الآيات القرآنية مثل السلاح، لأنه ما كان له سلاح آخر. بهذا السلاح كان يدافع عن نفسه، كان يرد الكيد والتآمر والهزء والعناد الذي يصوره المشركون بالنسبة للنبي وأصحاب النبي، كان يرد عليهم لكي يحذر الرأي العام، حتى لا يقولوا بأنه ضعيف أو جماعته ضعيفة.
يعني أنتم تعرفون أن الدعاية لها أثر كبير في وضع المجتمع. هذه النقطة، نقطة القرع بالكلام كانت سلاح الرسول الوحيد، سلاح الند، وكان يستعمله بأقوى صورة. والعربي الفصيح يتمكن، والعربي الفصيح كان يفهم كم أن له أثر هذا القرع الكلامي، ولهذا كانوا يتجنبونه.
الرأي العام كان ضد الشخص الذي كان يقرعه النبي بالآيات... يعني القضية لم تكن قضية ذم بسيط؛ القضية، السلاح كان يستعمل كمعركة الرسالة التي كان يقودها النبي (ص). فالعدو كان يستعمل جميع الأسلحة، التهديد، التخويف، إثارة الأطفال لضرب النبي وإزعاج النبي، تعذيب العبيد الذين كانوا مملوكين لجماعة، أولياؤهم وسادتهم كانوا يعذبونهم مثل ما سمعتم حتمًا بالنسبة لـ"بلال"، القبائل المتحالفة مع الأشخاص، مثلًا "عمار بن ياسر" و"ياسر" أبوه و"سمية" أمه كانوا متحالفين مع قبيلة بني مخزوم باعتبار أن الذي ليس له قبيلة لا يستطيع أن يعيش في المجتمع العربي السابق لأن النظام القبلي هو المسيطر. فكانوا يضطرون للتحالف، يكونون أقوياء بالحليف، فالقبائل المتحالفة كانت تعذبهم أشد العذاب.
ومن أساليب المشركين لإيجاد خلل يعارض سبيل الرسالة الإسلامية أسلوب الاستهزاء والتقريع، وهذا وارد في كثير من الروايات. من الجملة أشخاص من قريش، المفسرون يذكرونهم، منهم "الوليد" ومنهم أشخاص آخرين، لكن الروايات التي تقول وتتحدث عن الأشخاص الذين كانوا يهزأون بالنبي غير معتبرة. ثم أن الهزء ما كان يختص بفئة دون فئة، كل المشركين كانوا يستعملون أسلوب الهزء في جميع الأوقات، بالجملة كانوا يستعملون أسلوب الهمز واللمز.
طبعًا تعرفون، همزة ولمزة صيغة مبالغة من همز ولمز. وهمز ولمز في اللغة اختلف اللغويون على تفسير كلمة الهمز واللمز، بعضهم يقول التعييب والقدح في الحضور لمز، وفي الغياب همز، وبعضهم يقولون بالعكس.
بعضهم يقول الهمز هو الطعن بالكلام، الشتم، التعييب، واللمز هو التعييب بالحركات كـ: التواء العنق، وعبوس الوجه، والبسمات الهازئة، والحركات الجسدية. مهما كان، ليس مهمًا المعنى اللغوي من كلمة الهمز واللمز، المهم الغاية من الآية الكريمة: ﴿ويلٌ لكل همزةٍ لمزةٍ﴾، يعني هؤلاء الهمازون الغمازون اللمازون الهماسون، المعايبون القداحون الذين يقومون بتعييب النبي وقدح النبي وإيجاد نوع من الاستياء في الرأي العام وتحقير النبي أمام الرأي العام، ويلٌ لهم.
﴿الذي جمع مالًا وعدده * يحسب أن ماله أخلده﴾ هؤلاء الذين يعيبون النبي، يعيبونه على ماذا؟ على أنه يرتكب انحرافًا خلقيًا؟ والنبي معروف بالأمانة والصدق. وما صدف في تاريخ حياته أنه ارتكب عملًا منحرفًا أو يكون منحرفًا في الحياة. لا أحد يقدر أن يأخذ عليه مأخذًا. فإذًا، الاحتقار بالأخلاق، بالأمانة غير وارد، فإذًا، كيف يعيبونه؟ يعيبونه بالفقر، وأن هؤلاء الفقراء، هؤلاء "المعترين" يدَّعون سيطرتهم على العالم ويدَّعون أنهم حكام الله في الأرض وخلفاء الله في الأرض، التعييب بالفقر، يعيبون لأن النبي وجماعته فقراء وليسوا من أصحاب الوجاهات، باصطلاحنا اليوم من الدراويش، وهم من الطبقات الممتازة.
﴿جمع مالًا وعدده﴾ الوجيه في الطبقة الجاهلية كان يأكل من المال فقط، إما لرئيس أو جميع القبيلة. والمال أعم من المصاري طبعًا، فالمال والغنم والعقار والعبيد والإماء التي كانوا يملكونها، ﴿الذي جمع مالًا وعدده﴾، يعني ويكثر التعداد، يعني الفرق بين عد وعدد المبالغة طبعًا. يعني كثرة التعداد، يعدد ثم يعدد، ثم يصمد، ثم يحط هنا وهنا، يعني يعتد بأنه يملك مالًا ﴿يحسب أن ماله أخلده﴾ هو يحسب أن ماله يعمل له خلودًا، إما الخلود في الحياة أو الخلود في الذكر أو الخلود في المجد والقبيلة، يفكرون أنهم يكسبون الخلود بمالهم. هذا يرسم القرآن الكريم أول شيء وضعهم، يعني هؤلاء الهمازون اللمازون ما لهم شيء غير المال وهذا المال يفكرون أنه سوف يخلدهم، ثم يرسم لوحة مقابل هذه اللوحة، ﴿كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدةٌ * في عمدٍ ممددةٍ﴾. يعني هؤلاء المستكبرون المتكبرون المعتزون بالمال والجاه والطامعون في الخلود، هؤلاء تصور ما هو مصيرهم؟ هنا أنقل عن التفاسير، رأي التفاسير، ثم أقول ما أفهمه من خلال هذه الآيات.
هؤلاء ﴿لينبذن في الحطمة﴾، انتبهوا كيف يكون التقريع سلاحًا، لا يقول ليطرحن في جهنم. لا يقول لنلقينهم، لا يقول لندخلنهم، ﴿لينبذن في الحطمة﴾، نبذ، وأنتم تعرفون النبذ، مقابل هذا المجد وهذا الاستكبار ﴿لينبذن﴾، التعبير لا يقول النار، لا يقول جهنم، لا يقول الهاوية أو التعبيرات المختلفة الأخرى. الحطمة، والحطمة إسم جهنم أيضًا استخدم لغة التحطيم، أن هؤلاء الكبار المعتزين بمالهم والمعددين له الذين يريدون الخلود ﴿لينبذن في الحطمة﴾، تقريع. ﴿وما أدراك ما الحطمة﴾، هل تعرف ما هي الحطمة؟ ﴿نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة﴾، يعني تحرق وتصل إلى القلب الذي هو باطن وجود الإنسان، تحرق الجلد واللحم والعظم وتدخل في القلب، ثم ﴿إنها عليهم مؤصدةٌ﴾، أو موصدة، الباب مقفول لا يتمكنون من الاتصال والخروج، رسالة إلى الخلود الذي كانوا يتصورونه. ﴿يحسب أن ماله أخلده﴾، نعم، هو خالد لكن أين؟ في الحطمة، ﴿في عمدٍ ممددةٍ﴾ جمع عميد أو عماد، هم في المكان الموصود الذي هو الحطمة، ومسيطرة عليهم نار، النار العظيمة لأنها نسبت إلى الله، نار الله، وليس نار جهنم، نار الله، يكبر في اللفظ، كما هو كبير في الواقع. ﴿في عمدٍ ممددةٍ﴾ يعني هؤلاء في هذا المكان المؤصد، مشدودون ومربوطون مثل الحمار، هؤلاء المستكبرين، تأمل التقريع، يعني مقابلة لوحة بلوحة بأعمدة مربوطين، أعمدة ممددة، أو أنهم مرتبطون بهذه الأعمدة الممدودة على النار المستطالة والموزعة على النار.
هذا التفسير، بهذا الشكل طبعًا، خلاصة ما يقوله المفسرون بالنسبة للحطمة، وبالنسبة للمؤصدة، وبالنسبة لعمد وعمد وممددة، خلاصة الكلام مع هذه المقابلة اللطيفة التي هي في الحقيقة من كلمات في تفسير "في ظلال القرآن" لوحتين متقابلتين أسلوب استعمله النبي (ص) لأجل التقريع ودرء الخطر عن أصحابه وعن نفسه، ثم لأجل كسب الرأي العام العالمي، وقصد تخويفهم من الهمز واللمز والهمس، ثم إبطال أساليبهم في الاعتماد على المال، وأن المال يخلد وأنهم أرفع من العالم لأنهم يملكون. هذه هي خلاصة التفاسير الواردة في هذا المكان.
هناك نقطتان: نقطة يشير إليها "تفسير الجواهر" لـ"الطنطاوي" وسمعت وقرأت في بعض المجلات وفي بعض الأبحاث الجديدة، ﴿نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة﴾ يقول أحدهم أن ليس المراد بالنار، فقط النار التي تحرق الجسد وتصل إلى القلب، بل المراد أيضًا النار التي تتمكن أن تنفذ إلى القلوب من وراء الأجساد، وهذا تمامًا ما يكشف العلم الحديث عنه ويعطي مثلًا واضحًا لهذا النوع من النار، فأنتم تعلمون أن اليوم أشعة "إكس X"، هذه الأشعة التي تستعمل في التصوير، اليوم، الإنسان أصبح عنده جهاز يسيطر عليه نوع من الأشعة. الأشعة تصور داخل جسدك، تكشف داخل جسدك، حتى أقول أن أحد أصدقائنا المطلعين على هذه الحقول، قال أنهم اخترعوا (بواسطة هذه الأشعة) كاميرات تصور الجسد دون اللبس، تصور الكلية أو القلب من دون أن تصور الكاميرا اللحم والشحم وسائر العظام. فإذًا، هذه النار تسيطر على الأفئدة وتمر من الجسم رأسًا وتصل إلى القلب من دون أن يكون اللحم والشحم والجلد حائلًا عن إحراق هذه النار للقلب. ليس المراد الإخبار عن هذا الشيء إنما المراد ذكر المثل لإمكانية هذا النوع من العذاب.
هنا "الطنطاوي" لا يرضى بهذا التفسير، ولكن يتخذ منه شيئًا آخر جديدًا أيضًا، وهو أن العذاب بالنار قد يكون عذابًا ماديًا، وهذا احتراق الجسد بالنار المحرقة، وقد يكون العذاب بالنار المعنوية التي تحرق القلب مثل الحسد مثلًا، مثل الشعور بالمهانة، مثل الذل، مثل الفشل والانكسار. نيران تحرق القلب. نكتفي بهذه النقطة من هذا الحديث ذكرته نقلًا؛ وإلا القرآن والآية ظاهرة من دون هذا المعنى الذي أنقله لكم.
المعنى الذي أحب أن أقوله لكم هو أن المتعارف في تفسير القرآن كان دائمًا مخصصًا في سابق الزمن، كانوا يفسرون القرآن في حقل المجازاة، والجزاء خلَّف شعورًا دائمًا عن القيامة وعن الدار الآخرة، مثلًا ﴿وما تنفقوا من خيرٍ يُوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون ﴾ [البقرة، 272]، أو ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له﴾ [البقرة، 245] الآيات التي تعد الجزاء على الإحسان ماذا كانوا يفسرونها؟
كانوا يفسرونها أن هذه الآيات ترمي إلى سعادة الآخرة ودخول الإنسان في الجنة، وجزاء الآخرة أوفى، كانوا يفسرونها بالآخرة. ولكن ما المانع أن نفسر المجازاة بشكل أوسع من الآخرة؟ نفسر بشكل يشمل الدنيا والآخرة معًا.
من باب المثل ﴿وما تنفقوا من خيرٍ يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ [البقرة، 272]، إذا فسرنا هذه الآية بالترتيب الآتي أنه زائدًا على المجازاة والحسنات والثواب الذي هيأه الله لعباده تجاه حسناتهم، زائدًا على هذا، الإنسان المحسن يلاقي جزاء عمله في هذه الدنيا بالذات. وتوضيح هذا المبدأ أننا نعيش في مجتمع، المجتمع فيه مرحلة من الحضارة، مرحلة من المدنية، هذه المرحلة من الحضارة والمدنية، جميع أبناء المجتمع يتمتعون بها: الماء، الكهرباء، الطرق، الصحة العامة، الأمن، هذه الأشياء لجميع الناس كل الناس يتمتعون بهذه الأشياء. مستوى المدنية أو الحضارة في مجتمع ما تتكون من أي شيء؟ تتكون الحضارة والمدنية في مجتمع ما من طريق أبنائها، يعني المجتمع فيه العمال، فيه المهندسون، فيه الأطباء، فيه السياسيون، وفيه رجال الدين ورجال الإصلاح، هؤلاء يتعاونون فيكوّنون مستوى من الحضارة، أليس كذلك؟ في هذا العصر، وما سبق طبعًا، الماضون أيضًا لهم دور في مستوى حضارتنا. فلنتصور مجتمعًا فيه ألف شخص، من هؤلاء نفترض مئة شخص فقير. إذا نحن ما أنفقنا على هؤلاء، إذا ما أنفقنا على المئة شخص، يعني هؤلاء الفقراء ما تمكنوا أن يغذوا أولادهم، أو يكوّنوا عمالًا صالحين أقوياء، ما تمكنوا أن يثقفوا أبناءهم فيكوّنوا من أبنائهم مهندسين وأطباء أو رجال دين أو صحفيين أو سياسيين مثلًا، يعني تسعمئة يد اشتغلت لتكوين الحضارة، ولو افترضنا أن هؤلاء تسعمئة أنفقوا على أولئك المئة فمكنوهم من أن يغذوا أبناءهم وأن يثقفوا أبناءهم ويعلموهم ويربوهم ما النتيجة؟ النتيجة أن ألف يد تشترك في تكوين الحضارة. ومستوى الحضارة التي تشترك فيها تسعمئة يد شيء، والحضارة التي يشترك فيها ألف شيء آخر.
فإذًا، إذا أنفقت على هؤلاء المئة في الحقيقة كسبت بناةً جددًا لمستوى الحضارة، وتمتعت أنت بهذا المستوى ﴿وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ [البقرة، 272]. أليس كذلك! إذا ما أنفقت، مجتمعك يتكون من تسعمئة يد ثم تركك لهؤلاء يعرضهم معرض الفقر، والجهل، والمرض الجسدي الذي يعدي أولادك؛ والمرض الخلقي الذي يعدي أبناءك والشعور بالحرمان، والحقد، وتأزيم العقد النفسية التي تؤدي إلى الانفجارات الداخلية في المجتمع. أليس كذلك؟ الانفجارات والثورات لماذا تحصل في المجتمعات؟ أليس نتيجة لطبقة من الناس محرومة.
نحن افترضنا مئة لكن عادةً في المجتمعات أكثر من مئة، أكثرية الناس. فإذًا، الإنفاق، وليس فقط بشكل المال، الإنفاق بشكل ما، بشكل رفع مستوى الطبقات الفقيرة. هذا يعود بالخير لي، وترك العمل يعود بالشر لي.
فإذًا، على ضوء هذا التوضيح نقدر نفهم الآية الكريمة ﴿وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ [البقرة، 272] يعني إذا أنفقت يعود الخير لي، وإذا ما أنفقت أنت تبلى، والآية الكريمة المباركة الثانية ﴿وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ [البقرة، 195] يعني إذا ما أنفقتم إهلاك لنفسك. على هذا المستوى ذكرت لكم مثالًا أنه ما هو الدليل على أن الكلمات الواردة في القرآن حول الجزاء والمجازاة كلها نحصرها بيوم القيامة والدار الآخرة، هنا جزاء، هنا أيضًا، الجزاء هنا والجزاء هناك؛ هذا باب، وعلى ضوء هذا الباب نرجع إلى هذه الآية الكريمة ونعرف أن فلانًا وفلانًا ما قال في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم آياته عامةً ولجميع الأزمان والأمكنة والأشخاص.
﴿ويلٌ لكل همزةٍ لمزةٍ * الذي جمع مالًا وعدده * يحسب أن ماله أخلده﴾ كل إنسان يجمع مالًا ويعدده ويحسب أن ماله فقط هو الذي يخلده، ثم يستكبر على الناس ويهمس ويهمز ويلمز ويعيب ويسخر من الآخرين، ويتباهى أنه أرفع من الآخرين، هؤلاء ﴿كلا لينبذن في الحطمة﴾، معنى القيامة موجودة ومعنى الدنيا، ﴿لينبذن في الحطمة﴾ يعني في الحالات الاجتماعية التي هي مثل النار التي تحطم، يعني مصير هؤلاء الأشخاص المحتكرين للمال، المعتزين بالمال، المترفعين بالمال على سائر الناس، مصيرهم أن ينبذوا ويتحطموا وتُسلَّطُ عليهم نار الله الموقدة عن طريق غضب الناس، وهزء الناس، وإعراض الناس عنهم. فالمصائب التي تدخل عليهم من أخذ مالهم والابتعاد عنهم واحتقارهم في المجتمعات، النيران التي تحرق قلوبهم. فإذًا، كل إنسان يكون بهذا المستوى قبل أن يُبتلى بالحطمة في يوم القيامة ويكون تحت سيطرة ﴿نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة﴾، وتكون الأبواب عليه مؤصدة وتكون مربوطة بالعمد الممددة.
هنا في هذه الدنيا أيضًا نتيجة الاستهتار والاحتكار والاعتزاز بالمال وتحقير الناس نتيجته غضب الناس ونبذ هذا الشخص وتحطيم هذا الشخص وسيطرة النار الإلهية المشتعلة عن طريق الغضب وعن طريق المصاعب وعن طريق الفتن والمشاكل والمحن، تلك النيران التي تسيطر على قلب هذا الرجل وتحرق قلبه وتحطمه وتؤصد عليه الأبواب، ثم تربط بالعمد الممددة مثل البهيمة المربوطة، يعني تُطْرَدُ وتُعْزَلُ كأنه في السجن في مجتمعه، ومصير الطغاة أمامنا. ما أكثر الطغاة الذين عاشوا معتزين بأموالهم ومن المجد ومن الجاه ومن أمثال ذلك عاشوا معتزين مستكبرين ثم غضب عليهم الله عن طريق الناس فابتلوا وتحطموا وأُحْرِقَتْ قلوبهم بالنيران، ورُبِطُوا وسُجِنُوا وكأنهم في السجن. وهذا تمامًا ما تشير إليه الآية الكريمة في مورد آخر ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار﴾ [هود، 113]، أن الإنسان أحيانًا يكون دخوله في معصية أو في انحراف يؤدي إلى سيطرة الظالم عليه، وانتفاء الأسباب عنه، يعني هو الذي سلط الظالم على نفسه.
لا أقول أن الآية الكريمة ينحصر معناها بما أقول، ولكن أقول ما المانع أن تحمل السورة المباركة الجزاء في الآخرة والجزاء في الدنيا، نقرأ السورة المباركة ختامًا: ﴿ويلٌ لكل همزةٍ لمزةٍ * الذي جمع مالًا وعدده * يحسب أن ماله أخلده﴾. فإذًا، أولًا الشعور بالخلود، الاعتزاز بالمال وجمع المال واحتقار الناس: ﴿كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدةٌ * في عمدٍ ممددةٍ﴾ صدق الله العظيم.
والسلام عليكم.
