* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾ [العصر]
صدق الله العظيم
وصلنا في بحثنا إلى سورة العصر. وهي سورة معروفة عظيمة الشأن، ففي الأحاديث المتواترة والمنقولة عن الشيعة والسنة، يعني في تفاسيرنا موجودة وفي تفاسير السنة أيضًا هذا الحديث، في تفسير "نور الثقلين" من تفاسير الشيعة، وفي تفسير "السيوطي" من تفاسير السنة. هذا الحديث منقول، مما يؤكد أن هذا الحديث ثابت تاريخيًا، إن أصحاب رسول الله (ص) في أول الدعوة وفي أيام الرسول ما كانوا يفترقون -بعد الإلتقاء- بعضهم عن بعض إلا بعد أن يتلو أحدهم على الآخر سورة ﴿والعصر﴾. وأن هذه السورة من الموحيات والمقويات للعزيمة، ومن الشعارات التي كان من اللازم الانتباه إليها دائمًا، حتى أنا في ذهني أن أطلب من الأخ "حسين عيسى" أن يكتب هذه السورة بخط جميل ويعلقها على حيطان المعهد.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾.
أولًا: المعنى السطحي للتفسير لا يخفى عليكم، يقول القرآن الكريم: احلفوا بالعصر، أقسموا بالعصر، ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾، في نقصان، في خسارة، إلا الذي يكون فيه أربع خصال: ﴿آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾. كل بشر في خسارة إلا البشر الذي يكون فيه هذه المزايا الأربع.
أولًا، ﴿والعصر﴾ ما معنى العصر، وما هو سبب اليمين بالعصر، نحن نحلف يمينًا بالأشياء المقدسة، نحلف يمينًا بالله، ورسول الله، نحلف يمينًا بالأعزاء، فنقول وحياتك، دائمًا اليمين بالشيء المقدس والمحترم عند الخالق، هل العصر محترم ومقدس عند الله؟ هذا البحث الأول.
أما معنى العصر، فالعصر كما تعلمون استعمل ويُستعمل في أكثر من معنى، العصر مقابل الظهر، يعني آخر النهار، والعصر بمعنى الدهر والأيام، عصر "الرشيد"، عصر الجاهلية الأولى، عصر النبي، هذا المعنى الثاني. والعصر مصدر من عَصَرَ يَعْصِرُ، بمعنى الضغط على الشيء، هذا أيضًا عصر، فما هو المقصود بكلمة العصر باليمين المبدوء به السورة المباركة؟
لأي أمر نفهم معنى كلمة العصر؟ أذكر لكم بحثًا عامًا حول اليمين في القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعًا يحلف يمينًا، والأيامين القرآنية تختلف عن الأيامين الأخرى. نحن نحلف بالله، برسوله، بكتبه، بملائكته، بحياة "محمد"، بحياتي، بحياتك، لكن القرآن لا يحلف بهذا الشيء، القرآن يحلف بالموجودات السماوية والموجودات الأرضية، فيقول مثلًا ﴿والشمس وضحاها﴾ [الشمس، 1] ، يحلف بالشمس، ﴿والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفسٍ وما سواها﴾ [الشمس، 2-7]، اليمين بالموجودات الكونية: بالشمس، بالقمر، بالليل، بالنهار، حتى بالنفس. وهكذا ﴿والتين والزيتون * وطور سينين﴾ [التين، 1-2]، يعني اليمين بمواقع النجوم، اليمين بالضحى ﴿والضحى * والليل إذا سجى﴾ [الضحى، 1-2].
فإذًا، اليمين طالع في القرآن، حتى إن بعض الماديين أخذوا على القرآن هذا المأخذ كثرة اليمين في القرآن الكريم، لماذا؟ الجواب، أرجو الانتباه، لأن هذا بحث مستقل، قد يكون اليمين تأكيدًا على صحة القول، مثلًا: أنا حينما أريد أن أقول شيئًا وأؤكده لك، أقول "والله"، أو "وحياة محمد"، أو "وحياتك"، أو "وحياتي"، اليمين قد يكون للتأكيد على صحة القول، أنا أريد أن أثبت لك صحة ما أقول، فأقول: "والله"، "وحياتك"، "وحياتي"، هنا معنى مباشر لليمين أجعل شيئًا مقدسًا بيني وبينك، وأجعله ضمانة لصدقي، أليس كذلك؟ هذا معنى اليمين العرفي.
ولكن هذا المعنى ليس هو كل شيء في القرآن الكريم، لأن القرآن كتاب ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ [فصلت، 42]، ﴿لا ريب فيه﴾ [البقرة، 2]، وخاصةً في مخاطبة الله مع الرسول، الإنسان لا يشعر بلزوم هذه التأكيدات واليمين والقسم.
هنا يأتي معنى ثانٍ لليمين، وهو انتباه ولفت نظر السامع إلى قداسة المقسوم به، يعني أنا وقت أقول ﴿والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين﴾ [التين، 1-3]، ثم أسرد ما أريد أن أقول، فأنت المستمع وكل مستمع يشعر بأن هذه الأمور التي يحلف الخالق بها أمور مقدسة وإلا فلماذا يحلف بها؟ انتبهتم للفائدة الثانية لليمين! مثلًا أنت تريد أن تؤكد لشخص أنك تحترم فلانًا، ويأتيك أحدهم يفتن على شخص غائب، على "زيد" من الناس أنت تلتفت إلى هذه المحاولة فتقول له و"حياة زيد" أنا أعمل كذا وكذا. و"حياة زيد". أنت ماذا تفهم من هذه الكلمة، المستمع ماذا يفهم من الكلمة؟ المستمع يفهم أن حياة "زيد" عزيزة على القائل ولهذا يحلف بها، أنت نفذت مقصدك وبينت كلامك بشكل غير مباشر، قلت وحياة "زيد" أفعل كذا.
فإذًا، فائدة اليمين ليست للتأكيد على صحة الكلمة، قد يكون لليمين أثر آخر وهو لفت نظر المستمع إلى قداسة ما يحلف المتكلم به. فإذا أنا قلت، أو إذا القرآن الكريم قال ﴿والتين والزيتون﴾ [التين، 1] المستمع وكل إنسان يفهم أن التين شيء مقدس، والزيتون شيء مقدس. فإذًا، معنى اليمين في القرآن زيادة على المعنى العادي لليمين لفت نظر لقداسة ما يحلف القرآن به.
بناءً على هذا، نحن نقدر أن نستخلص من القرآن قداسة هذه الأشياء، هنا نتساءل: لماذا هذا التأكيد؟ لأجل أي سبب يريد القرآن الكريم أن يلفت نظر المستمع إلى قداسة التين والزيتون والضحى والعصر والشمس والليل والنهار، لماذا؟ هذا حقل من الحقول التربوية في الإسلام. الإسلام يريد أن يؤكد بأشكال من البيان وبطرق متعددة من التعبير، يريد أن يؤكد للبشر بأن كل ما حولك من الموجودات مقدس. ليس في الكون أمر حقير ولا شيء خفيف ولا شيء بعيد عن الله، ولهذا تجد أنه أحيانًا يقول أن الشمس والقمر والنجوم كلها ساجدة لله، ﴿ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثيرٌ من الناس﴾ [الحج، 18]، وقد يقول بأن كل ما في الكون مسبح لله ﴿يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض﴾ [الجمعة، 1]، "ما" وليس "من"، كل ما في السماوات. أحيانًا يقول: ﴿ويسبح الرعد بحمده﴾ [الرعد، 13] الرعد يسبّح، أحيانًا يقول: ﴿والطير صافاتٍ كل قد علم صلاته وتسبيحه﴾ [النور، 41]، الطير يصلي ويسبِّح. هذه النظرة القرآنية إلى الموجودات الكونية... ومن هذه الحلقات التربوية نصل إلى هذه الحلقة محاولة تقديس هذه الأشياء وليس محاولة عبادة هذه الأشياء كالوثنيين، محاولة تكريم هذه الأشياء.
﴿والشمس وضحاها﴾ [الشمس، 1] لا تفكر أن الشمس موجود كوني عادي، لا احترام لها، لا. الله يحلف بالشمس، يعني الشمس شيء مهم، لماذا مهم؟ لأنها ساجدة لله كما قرأنا في السورة السابقة. ﴿والتين والزيتون وطور سينين﴾ [التين، 1-2]، والليل والنهار والسماء والأرض والنفس والنجوم ومواقع النجوم وهكذا كل هذه النقاط.
فإذًا، الغاية الأصلية من اليمين بالموجودات الكونية لفت نظر البشر لقداسة هذه الأشياء، والمقصد من القداسة هو التربية الدينية التوحيدية حتى نشعر نحن بأنه نحن البشر لسنا وحدنا في هذا العالم في خطنا الديني التوحيدي، بل نحن في هذا الكون مع موكب، مع مهرجان من العالم، مع طقوس تتكون من كل موجودات العالم في محراب الله. يعني أنا لست وحدي أو المؤمنون ليسوا وحدهم بل السماء والأرض، الأشجار، الجبال، الرعد، أمواج البحر، حركة الأوراق في الأشجار وكل شيء في الكون كلها ساجدة لله، مسبحة له، مصلية له بشكل من الأشكال.
فإذًا، الكون كله محراب لله، والإنسان جزء من هذه المجموعة. فحينئذٍ لا تنظر للموجودات الكونية نظرة احتقار ولا تشعر بأن هذه أمور ليس لها عقول جامدة متحركة من حيث لا تعرف، بلى أشياء جامدة، لكن سيرها سجود لله، هذا بحث آخر ذكرناه في بعض أبحاثنا التفسيرية السابقة أن السجود يعني غاية الخضوع والموجودات الكونية خاضعة ومطيعة إطاعة مطلقة للأوامر الإلهية التي نسميها عوامل كونية. والتسبيح عبارة عن التنظيم فكما أن البناء الضخم يشهد على خبرة المهندس، هكذا كل ذرة من ذرات الكون تشهد بعظمة الله وعدم النقص في ذات الله وهذا معنى التسبيح، قد يكون باللسان التسبيح، وقد يكون التسبيح بالوجود وهكذا... هذا بحث آخر.
لكن هنا قصدنا من هذا البحث أن نصل لهذه النقطة، وأن الموجودات الكونية موجودات سالكة في الخط الإلهي والطريق التي خصصها الله لها، فلو كنا نحن نسلك سبيل التوحيد والإيمان والسير نحو الله فنحن مع الكون و"لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله" (1) كما يقول أمير المؤمنين (ع) يعني لو افترضنا نحن نفر قليل في العالم، ولكن الكون والسماء والأرض والنجوم والبحار والجبال والرعد والعواصف، كل شيء معنا في موكبنا في خطنا؛ طبعًا هذا بحث طويل نذكره في وقت آخر.
لكن وصلنا إلى هذه النقطة بأن المقصود من اليمين في القرآن الكريم ليس التأكيد على صحة ما يقول ويأتي بعد اليمين، بل المقصود لفت نظر المستمع إلى قداسة ما يحلَفُ به، بناءً على هذا، العصر شيء مقدس، ما هو معنى العصر؟ المفسرون ذكروا وجوهًا عديدة، فبعضهم قال والعصر يعني والدهر، والزمان، والأيام. ونحن نعرف أن الأيام والزمان والدهر مخلوقات لله مقدسة ككل شيء في الكون، لأن الإنسان يتمكن أن يستفيد من هذا الدهر ومن هذا الزمان، وفي الدهر وقع ما وقع، والدهر مليء بالعبر، كم من ناس، كم من شخصيات، كم من كبار، كم من صغار في التاريخ نجد ما فيه عبرة للإنسان. فإذًا، الدهر والعصر أمر عظيم إذا قدسناه واحترمناه وأخذنا العبر منه نستفيد في حياتنا.
فإذًا، العصر يعني الدهر. بعض المفسرين يقول: العصر يعني عصر النبي (ص) وألف ولام العصر يعني وعصر. لماذا عصر النبي على أساس أن عصر النبي كان مليئًا بالخير وإشاعة النور والبدء بالرسالة الخاتمة العامة الإلهية، يعني عصر النبي عصر عظيم. هذه أقوال القائلين.
ونحن سوف نصل في آخر الآية الكريمة أن المعنى المتناسب لليمين هو العصر مقابل الظهر. لماذا؟ لأن بعد هذه الفترة وبعد هذه الفقرة ﴿والعصر إن الإنسان لفي خسرٍ﴾ الإنسان في خسارة، لماذا في خسارة؟ واضح جدًا لأن الإنسان مع كل يوم يخسر يومًا من حياته، مع كل يوم تطوى صفحة من حياة الإنسان؛ فالإنسان في خسارة دائمة، يعني عمره الذي هو رأس ماله الوحيد يفقده كل لحظة فهذا معناه الإنسان في خسارة، الإنسان كل ساعة يفقد شيئًا، كل لحظة يفقد شيئًا كل يوم، كل نهار، كل شهر، كل أسبوع، كل سنة يفقد شيئًا، فإذًا، لسنا بحاجة إلى أي دليل آخر أو أي تنظير آخر. طبعًا ﴿إلا الذين آمنوا﴾.
فما دام القرآن يريد أن يقول ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾، فمن المتناسب أن يذكر العصر مقابل الظهر، لماذا العصر الذي هو بقية النهار وصبابة النهار؟ باعتبار أن في العصر، بوضوح حسي، يشعر الإنسان بقصر عمر النهار وبذهاب النهار السريع، بينما في الصباح، الإنسان لا يشعر بهذا الشعور باعتبار أن العالم لا يزال نيرًا ومضيئًا، لا يزال أول النهار، كل يوم وكل لحظة الشمس تطلع أكثر والنور يزداد أكثر وإن كان من الصبح كل لحظة تنقص عمر النهار لكن ليس ملموسًا؛ إنما بعد الظهر، وخاصةً وقت العصر، الإنسان يرى أن النهار ينتهي... دور الانتهاء، فتناسب اليمين والجملة يقتضي أنه نقول: ﴿والعصر﴾ يعني أحلف بالعصر، انتبهنا إلى هذه الخسارة، والنقص المستمر في العصر، ثم نقول: ﴿إن الإنسان لفي خسرٍ﴾، ونفهم معنى ﴿الإنسان لفي خسرٍ﴾ في هذا المعنى أن الإنسان في كل لحظة يفقد شيئًا، فإذًا، في خسارة مستمرة. المتناسب في اليمين بالعصر مقابل الظهر، وهذا ليس شيئًا غريبًا في القرآن، ففي القرآن الكريم موجود ﴿والضحى﴾ [الضحى، 1] يعني اليمين بالضحى، والليل والشمس وهكذا…
النقطة الثانية التي أحب أن ألفت نظركم إليها أنه حتى لو كان العصر بمعنى الدهر والأيام والزمن هنا أيضًا لفت نظر، لأن القرآن كلام الله، وهذا الكلام تختلف فيه دقة في التعبير، لماذا القرآن لا يقول والدهر ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾، لماذا لا يقول والأيام، والزمن، لماذا لا يحلف بالتعبيرات الأخرى؟ وينتخب هذا التعبير بالذات؟ لعل السبب في اختيار كلمة العصر من بين سائر التعبيرات هو هذا المفهوم الخاص بهذا التعبير أنه في عصر وفي دهر. منتبهين؟
الدهر والعصر كلاهما زمن، لكن يجب أن الواحد ينتبه للعصر ويعرف أن العصر كلمة اشتقت من مادة عصر يعصر، والعصر ينتبه بأن الزمن يعصر، الزمن باهظ، الزمن يربي، الزمن يخلق مشاكل، مليء بالمشاكل والأحداث، ليس الوقت السهل الحصول العابر، فيختار هذه النقطة حتى يأتي على هذه النتيجة بأنه أَحْلِفُ بالزمان الذي هو يعصر الإنسان عصرًا، تمهيدًا للجمل الآتية، فمهما كان الأمر سواء أكان والعصر يعني آخر النهار أو الأيام أو عصر النبي كلها صحيحة باعتبار أن اليمين يصح تعلقه بكل هذه المسائل حسب المقدمة التي ذكرناها.
﴿والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ﴾ البشر في خسارة، قلنا أن خسارة الإنسان واضحة باعتبار أن الإنسان يفقد في كل لحظة لحظة من عمره وصفحة من حياته. فالإنسان في خسارة دائمة، ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾. هذا الإنسان الذي يحفل ويتميز بهذه الشروط الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، -التواصي بالحق يعني التوصية المتقابلة يعني كلٌ يوصي الآخر بالحق- والتواصي بالصبر، التواصي بالحق يعني التوصية المتقابلة يعني كلٌ يوصي الآخر بالصبر. الإنسان الذي فيه هذه الشروط الأربعة هذا ليس بخاسر، ليس في خسر، لماذا؟ نوضح النقطة. ابتداءً بصورة موجزة، مبين الذي يؤمن بالله ويعمل الصالحات يفقد يومًا، مضبوط. ولكن عوَّض عن هذا اليوم وصرف هذا اليوم في سبيل شيء أغلى.
المنطق المادي التجاري: الفلاح يملك عشرة كيلو من القمح يوزعها في الأرض، يعني يخسر هذه الكيلوات، لكن هل هذا خسارة؟ أبدًا لأنه محل كل حبة ترجع إليه أكثر من سبعة أو أكثر أو أقل حسب المنطقة وحسب خدمة الأرض والسقي والمناخ. هذا ليس خسارة. فالإنسان الذي هو في خسر، والإنسان الذي يفقد في كل لحظة لحظة من عمره، إذا استعمل هذه اللحظة في سبيل خير وعمل صالح. فإذًا، أعطى ساعة وأخذ الخلود. أنت فقدت ساعة ولكن درست، درست، مجرد الدرس لا يكفي، يعني فقدت يوم تثقفت، ملكت قوة جديدة للعمل، العلم ليس غاية، وسيلة.
أنت بخلال هذه الساعات التي فقدت في المدرسة تزودت وأصبح عندك رأس مال للعمل، فإذا استعملت علمك في سبيل الخلود، في سبيل راحة البشر، في سبيل الخير العام، في الحقيقة أنت ما فقدت شيئًا. أنت ما ذهب من عندك لحظة ولا ساعة ولا شهر من حياتك، أنت باقٍ ما دام العمل باقيًا، وهذا الشيء واضح لأن حقيقة الشيء وحياة الشيء بآثاره، وما دام يعيش الآخرون في أثرك، في مؤسستك، في مدرستك يستفيدون من خدماتك، من نتائج عمرك إذًا، أنت موجود.
الآن نحن نعيش مع "محمد" في تعاليمه، نحن نعيش مع "علي"، نحن نعيش مع الخيرين من الناس الذين خدموا البشرية وهيأوا الراحة والعلم ووسائل الراحة للبشر، أن نعيش معهم ويعيشون معنا، فإذًا، الإنسان في خسارة إلا الشخص الذي يقدم عمره كرأس مال، فيرجّع أكثر من عمره. هذا واضح، الإنسان في خسارة، إلا هؤلاء. من هؤلاء؟ علينا أن ننتبه لهذه القطعة، لأنه هذا كلام الله، ليس فيه مبالغة لأن القرآن الكريم يقول ﴿وما علّمناه الشعر وما ينبغي له﴾ [يس، 69]، لا ينظم الشعر "محمد" حتى يبالغ، حتى يجامل، إن النبي "محمدًا" (ص) لا يتكلم ولا يقول عن هواه بل يقول عن وحي الله من دون مبالغة ومن دون أي إفراط أكثر من الواقع، الحقيقة أي الحقيقة وكل الحقيقة.
ثم بحث مصيري نحن نشعر بأن عمرنا ينقضي، فإذًا، من الرابح؟ الإستثناء يحصر الرابح، لا رابح غير هؤلاء، هناك من يربح مؤقتًا ولزمنٍ ما، وهناك من يربح أكثر، ولكن الربح المطلق، ولكن التحرك عن الخسارة بشكل أبدي هؤلاء وبإمكاننا أن نقول أن هذه الشروط الأربعة ترسم الخط الصحيح والتفكير الصحيح لحياتنا، للذي يحب الخلود، أو بتعبير آخر لحياة الإنسان لأن الإنسان ما وُلِد لكي يموت، الإنسان ما خُلِقَ لكي يفنى، الإنسان وُلِد لكي يبقى، وما دام يموت في جسده المفروض أن يعيش في آثاره. أما هذه الشروط الأربعة نريد أن نبحث فيها طويلًا. أذكر قسمًا من المعاني التابعة لهذه الشروط الأربعة ونترك القسم الآخر لليلة القادمة.
الإيمان ومفهوم الإيمان، الإنسان بحد ذاته موجود قصير العمر لأنه يعيش أقل من مئة سنة. الإنسان بحد ذاته موجود ضعيف ذو حاجات كثيرة، وكل حاجة تشكل ضعفًا، الإنسان بحد ذاته له ميول وأهواء قد تجره إلى نقاط عديدة مختلفة، بينما الإنسان المؤمن، يعني الإنسان المتصل بحبل متين، الذي هو حبل إيمانه بالله الخالق. فيتحول الإنسان إلى الخالق، الإنسان يتصل بالله بإيمانه بالله القوي فيتحول إلى موجود قوي بالله الحق، فيتحول الإنسان إلى الحق. هذا بحث سوف نذكره تفصيلًا ولكن أعطيكم فكرة عن هذه الخطوط الأربعة يعني أضع العناوين لكي ندخل في يوم مستقل في توضيح هذه النقاط.
الإنسان بإيمانه قوي خالد حق، ثم جزء منسجم مع الكون. النقاط الأربع، الإنسان وحده قصير العمر، عاجز، له أهواء، منفصل عن العالم؛ والإنسان المتصل بالله بالإيمان، قوي، خالد، حق، منسجم مع العالم. هذه النقاط الأربع للبحث القادم.
﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾، العمل الصالح من نتائج الإيمان أولًا وضمانة لبقاء الإيمان ثانيًا؛ يعني ليس العمل الصالح له أثر فقط في الإيمان بل ترك العمل الصالح يؤدي إلى ترك الإيمان أيضًا. والعمل الصالح هو خلود الإنسان وبقاء الإنسان. هذه النقطة الثانية، والعمل الصالح هو عوض وربح عن ساعات الحياة التي يخسرها.
رابعًا، التواصي بالحق والتواصي بالصبر، لا شك أن الإنسان وحده مهما كان بطلًا أو مجاهدًا يتأثر ببيئته، ينفعل بالعالم الذي يعيش فيه ولهذا البقاء في خط الإيمان والعمل الصالح لا يمكن إلا نادرًا، نادرًا جدًا لا يمكن إلا مع تكوين الجماعة، الجماعة الكبيرة التي نسميها المجتمع؛ والجماعة الصغيرة التي نسميها باصطلاحنا الجديد الحزب أو الجماعة أو الكتلة أو الجمعية أو كتلة الأصدقاء أو إخوان الصفا، سمه ما شئت، الكتلة الصغيرة. الإنسان وحده لا يتمكن، يذوب، ينفعل، يضل، ينحرف، لكن الإنسان مع الجماعة يستقيم، ولهذا التواصي بالحق، يعني أنا أقول لك الحق وأنت تقول لي الحق، والتواصي بالصبر لأن الطريق شاق أنت تنصحني بالصبر وأنا أنصحك بالصبر، هذا الشرط الأساسي لبقاء الإيمان والعمل الصالح، ثم لتكريس العمل الصالح وتطبيق العمل الصالح على الخارج.
﴿إلا الذين آمنوا﴾ في العناوين الأربعة التي ذكرناها. الإيمان هو حقيقة الإنسان، لأن الإنسان ما وُلِدَ لكي يكون ضعيفًا، فانيًا، متعدد الأهواء، معزولًا عن الكون؛ بل خُلِقَ لكي يكون قويًا، خالدًا، حقًا موحد الأهواء، منسجمًا مع الكون. هذه النقاط الأربع. ثم بعد الإيمان، العمل الصالح الذي هو تكريس للإيمان وأثر من الإيمان.
خلقُ الجماعة لكي ينصح أحدهم الآخرين والعكس بالحق حتى تتكون مجموعة تضمن سلامة إيمان الإنسان وعمل الإنسان، وأخيرًا، التواصي بالصبر في الخط السليم الشاق، هؤلاء هم الخالدون وهم الرابحون، أما ما عداهم فيفقدون عمرهم من دون عوضٍ أو مع عوضٍ لا يعادل ما خسروه كما سوف نتكلم إن شاء الله، وبعض النقاط الرئيسية لبحثنا في الأسبوع المقبل إن شاء الله.
غفر الله لنا ولكم.
_______________
1- بحار الأنوار، ج2، ص267.
