التكاثر- مقام الرسالة والولاية

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترونَّ الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾ [التكاثر]
صدق الله العظيم
نحن يوم الجمعة من الأسبوع الماضي، كنا نبحث في تفسير سورة التكاثر. ووصلنا إلى الآية الأخيرة ﴿ثم لتسألنَّ يومئذٍ عن النعيم﴾. فسّرنا حسب ما افتهمنا من الآيات القرآنية وآراء المفسرين هذه السورة المباركة التي تهيب بالإنسان بأن يترفع عما حوله من الحياة العادية اليومية، وينتبه إلى المستقبل، المستقبل الحياة، وضع الإنسان بعد الموت، بالنسبة إلى النار والجحيم. ثم قلنا أن السؤال عن النعم شيء عادي لأن الله حينما ينعم على الإنسان، المفروض أن يكون الإنسان أهلًا لهذه النعمة، وأن يصرف النعمة في مصارفها ومواردها. وذكرنا روايات تفسر النعيم بنعم الدنيا، مثل الماء البارد، مثل الدفء، مثل الظل، مثل الخبز، وأمثال ذلك. ثم قلنا أن هناك روايات واردة في تفاسيرنا، تفاسير الشيعة، مثل كتاب "نور الثقلين"، تفسير يروي أحاديث الأئمة، (س)، وتفاسير أخرى مثل تفسير "البرهان" وتفسير "الصافي".
هذه التفاسير، تؤكد بأن النعيم، لا يقصد به نعم الدنيا كالماء البارد، ولحم الجزور، وخبز الشعير، بل يُقصد بها، يقصد بالنعمة والنعيم، ولاية الإمام. الولاية! وقلت لكم أن هناك أكثر من رواية تقول حاشا لله، سبحانه وتعالى، أن ينعم، ويضيّف ويُرزق عباده في هذه الدنيا برزق، ثم يسألهم عن هذا الرزق. ويذكر الإمام مثلًا، فيقول أنت، إذا دخل عليك ضيف، فأطعمته، وسقيته، هل بعد ذلك تسأله وتحاسبه عن هذا الشيء؟ غير معقول! فكيف ترضون هذا لله سبحانه وتعالى وخاصة في هذا المقام، وفي هذا البيان؟
هذا التفصيل، يؤكد كثرة الروايات، يعني أكثر من عشر من الروايات، تؤكد أن المراد بالنعيم، الولاية. لا يمكن تجاهل هذه الأخبار، ويجب أن نفسّر. فوعدتكم بأن هذه الليلة، أبحث عن هذه النقطة وعن قضية الولاية، وتأثير الولاية في حياة الإنسان. ثم قلت لكم أن هناك روايات كثيرة بهذا المعنى.
"بُنِيَ الإسلام على خمس". الروايات الواردة في طرقنا، تذكر الخمس، غير الروايات المشهورة، فتقول: "بُنِيَ الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نُوْدِيَ بالولاية"[1]. وهناك روايات كثيرة متواترة، تقول إيمان الموجودات والأجسام والنباتات، إيمانهم بالولاية، واعترافهم بالولاية، مما يجعلنا نحن، أن نأخذ فكرة عن الولاية أوسع من الواجب الديني العادي. هذه الروايات تُدْخِلُ في ذهننا أن الولاية أمر كوني، أوسع من التكليف الشرعي. أحب أن أوضح في هذه الليلة هذه النقطة.
أولًا: مقدمةً، أذكّركم، تأكيدًا لهذه الروايات، وتأييدًا من القرآن على تصديق هذه الروايات، على التفسير الصحيح أننا في سورة الحمد، كل يوم نقرأ: ﴿إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم﴾ [الفاتحة، 6-7]. هذا المعنى في القرآن يتكرر بكثرة، ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾ [النساء، 69]، كلمة أنعم الله عليهم في القرآن، استعملت في المهتدين، الذين اهتدوا ووجدوا الطريق وما انحرفوا، ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ [الفاتحة، 7].
فإذًا، هذه الموارد أيضًا، تؤكد بأن النعمة نعمة الهداية إلى الطريق، وليست نعمة الأكل والشرب. لأن الهداية إلى الطريق، أهم شيء في حياة الإنسان. لأننا نأكل لكي نعيش، نلبس لكي نعيش، نتنفس لكي نعيش، نأوي إلى ظل، أو إلى بيت، لكي نعيش. طيب عشنا وبعد ذلك؟ لماذا نحن نعيش؟ ما الهدف من العيش؟ هذا الصراط، هذا الصراط المستقيم. يعني، نحن هذه الأمور التي تحيط بنا، وتقضي حاجاتنا المادية، حتى تؤمن لنا الحياة. طيب، يا سيدي عشنا، لماذا عشنا؟ أيضًا لكي نأكل؟ أيضًا لكي نشرب؟ أيضًا لكي نأوي؟ غير معقول! هذه الحاجات مقدمات للعيش. العيش والحياة، لأي شيء؟ لأي سبب؟
الخط الذي يحدد لنا سيرنا في الحياة، الخط الذي يجعلنا نعيش لغاية، هذا هو الصراط المستقيم، وهذه النعمة الحقيقية على الإنسان. وإلا إذا أكلنا وشربنا وعشنا وما اهتدينا إلى الطريق، ضعنا وانحرفنا ومتنا ونُسينا وانتهينا، لكن إذا عشنا ومشينا، انتقلنا، وصلنا، هذه النعمة الحقيقية.
ننتقل إلى البحث في الولاية، بعد هذه المقدمة الصغيرة، فنقول نحن - أرجو الانتباه - نحن بالنسبة إلى الدين، وبالنسبة إلى الإيمان، وبالنسبة إلى رسالة الأنبياء، وبالنسبة إلى متممات الرسالة، كان لنا تفسير كنا نذكره دائمًا. أكرر في هذه الليلة هذا التفسير، ونذكر مثالًا لهذا التفسير.
كنا نقول أن الإنسان، إذا اشترى سيارة من شركة، الشركة تسلمه السيارة، ثم تعطيه تعليمات، الشركة إما خطيًا أو شفهيًا، تعطي المشتري تعليمات. تقول هذه السيارة بحاجة إلى روداج، تدريب، تمرين؛ ألف، ألفان، خمسة الآف، حسب تفاوت جنس السيارة. يجب أن تمشي السيارة مدة في التمرين، الذي يسمونه روداج؛ في هذه الفترة لا تطلع على الجبل، لا تمشِ بسرعة، لا تمشِ بأقل من السرعة اللازمة، لازم تغيّر الزيت، ثم بعد ذلك تعطيك معلومات أخرى عن كيفية صيانة السيارة، كيفية سير السيارة، كيفية تحريك السيارة، كيفية معاملة السيارة، إذا أردت أن تمشي للأمام مشيت لقدام، إذا أردت أن تمشي للجبل، إذا أردت أن تمشي للوراء، توقف السيارة، ما الطرق التي يجب أن تستعملها لهذه الغايات. الشركة تعطيك هذه المعلومات، وأنت تأخذ هذه المعلومات. لماذا الشركة تعطيك المعلومات؟ الشركة تريد أن تتحكم فيك؟ لتسيطر عليك؟ أنت يحق لك أن تقول أنا حر. لا أريد أن أتبع هذه الأوامر الصادرة من الشركة. طيب! إذا أخذت السيارة، وما طبقت هذه الأوامر، ماذا يصير؟ أخذت السيارة أول يوم، وطلعت على الجبل من دون روداج، وما غيرت الزيت، وما غيرت البنزين. لتوقف السيارة وضعت رجلك على البنزين. لتمشي السيارة، وضعت رجلك على الفرام. يعني الشركة ماذا تريد منك، وأمثال ذلك، ماذا يحدث؟ من الخاسر؟ السيارة تخرب. وقد تفقد أنت روحك مع السيارة. أليس كذلك؟ هذا بالنتيجة. فإذًا، تعليمات الشركة في الحقيقة، توضيح لحقيقة هذا الجهاز، الذي هو من صنع هذه الشركة. الشركة صنعت هذا الجهاز، وأعطتك معلومات حتى تعرف هذا الجهاز الذي سلمتك إياه. ثم ذكرت لك كيف تستفيد من هذه السيارة. وإذا أردت أن لا تصدق؛ لا تصدق، لكن أنت الخاسر. لماذا الشركة أعطتك المعلومات؟ لأن هذه الشركة هي التي صنعت السيارة وهي تعرف قوة الموتورات، كيفية صرف البنزين، كيفية قوة البوجيات وأمثال ذلك. أليس كذلك؟
هذا المثل الصغير، يعطينا فكرة عن تصور صحيح للدين. الله سبحانه وتعالى خلق العالم، خلق الكون. ويعلم خواص الأشياء، ومنافعها، ومضارها، وكيفية استعمالها. أليس كذلك؟ وخلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه، يعلم ما صنع، ما خلق، يعلم ما في قلب الإنسان، ما حاجات الإنسان، ما هي رغبات الإنسان؟ وكيفية الإنسان... يعلم كل هذه المسائل. ثم يقول أيها الإنسان، أنت تريد أن تستفيد من هذه السيارة الكبيرة التي اسمها الكون. تريد أن تستفيد منها، إذا تريد أن تستفيد منها، الله يضع لك خطوطًا عريضة، ويقول لك إمشِ في هذه الخطوط، وتصرف مثلما تريد، ولكن بهذا الإطار على الخط العريض. هذا هو الدين. أليس كذلك؟ بأي دليل؟ القرآن الكريم يقول: ﴿من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ [النحل، 97]. ويقول: ﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ [طه، 124]. وهكذا، فإذًا، الدين في الحقيقة، هو التعليمات التي تقدَّم عنايةً من الله للبشر حتى يتهنأ بحياته في هذه الكرة. وحتى يعيش سعيدًا، ويموت سعيدًا. هذا هو الدين، لا أكثر ولا أقل.
لماذا يجب أن يعطي الله هذه التعليمات؟ لأنه هو خالق الأرض وخالقنا، هو الخبير بأني كيف أسعد. وهو الخبير بما خلق في هذه الكرة الأرضية من الأسباب والأمور والأشياء. أريد أن أوجز هذه النقطة حتى نصل لهدفنا. فإذًا، أرجو الانتباه لهذه النقاط، خالق الكون، وخالق الإنسان، هو بالذات واضع الشريعة، وصانع الدين. هو مثل الشركة التي صنعت السيارة، وسنَّت الأنظمة، بكيفية استعمال السيارة. الله خلق الكون، وخلق الإنسان، وسنَّ الشريعة. قال لك إذا تريد أنت يا مخلوق، الذي أنا أعرف ما في قلبك، تريد أن تستفيد من هذه السيارة الكبيرة التي أنا أعرف ما فيها بأجهزتها، إستعمل هذه الطريق، إمشِ في هذا الطريق.
فإذًا، الدين هو الخط السليم المرسوم لنا حتى نستفيد من حياتنا ومن كوننا ومن مماتنا. ونسلك الخط الصحيح، ونبلغ الغاية الصحيحة ويكون لنا هدف في الحياة ولا نخسر جانبًا من جوانب وجودنا. هذا التفسير الديني للدين. طيب! هذا التفسير الذي أوضح لنا بأن الشريعة والحقيقة شيئان من مصدر واحد، ومن منبع واحد. ما هو الدين؟ الدين له حقول. حقل الإيمان كما قلنا: ﴿إلاّ الذين آمنوا﴾ [العصر، 3]، وحقل العمل: الذين ﴿عملوا الصالحات﴾ [العصر، 3]، والعمل الاجتماعي، كما قرأنا في سورة العصر. الإيمان ما معناه؟ الإيمان جزء من الدين. أليس كذلك؟ هذا الجزء، هذا الركن من الدين الذي اسمه الإيمان، هذا وسيلة للتعرف على الهدف، وللحياة الصحيحة الهنيئة في الكون. الإيمان يتكون من الإيمان بالله، الإيمان بالله والإيمان بالرسالة. لماذا الإيمان بالرسالة؟ لأن الرسالة هي الشريعة. والشريعة، كما قلنا: خطنا في الحياة. الخط الصحيح الذي نسلكه في حياتنا لكي نعيش سعداء، ونموت سعداء. شريعة؟ كيف يمكن أنا أتبنى الشريعة دينًا وخطًا؟ إذا آمنتُ بالرسالة، إلى هنا وصلنا لهذه النقطة. الآن ندخل في الولاية.
أولى بالناس من أنفسهم؟ من أين أتى هذا الأمر؟ لأن القرآن الكريم يقول: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ [الأحزاب، 6]. ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾، ماذا تعني؟ تعني مقام الولاية. مقام الولاية مقام للرسول، غير مقام الرسالة. فإذًا، نحن نقول للرسول مقامان: مقام الولاية، ومقام الرسالة. مقام الرسالة ما هو؟ الرسول يحمل الدين ويستوحي الأحكام، ويُوحى إليه بالآيات والتعاليم الدينية، ثم ينقلها حرفيًا ومن دون تصرف للناس. هذا معنى الرسالة، يعني هو رسول، يعني يستوحي ويبلغ، هذا مقام الرسالة. هذا المقام، الرسول الأكرم (ص) أكمله، وأتمه، وبيَّن جميع ما يوحى إليه من الله، بيَّنه للناس: إما للعامة، أو لأصحابه، أو لبعض أصحابه، حتى يبلغوا الأمة بالتدريج. هذا مقام الرسالة، أليس كذلك؟
مقام الولاية، ما هو؟ ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ [الأحزاب، 6]. مقام الولاية، مقام ذاتي، ليس مقامًا ناقلًا. مقام الرسالة، الرسول يأخذ ويعطي. مقام الولاية، هو يتصرف. مقام الولاية، ما معناه؟ مقام وجوب الإطاعة. مقام الحكم. الرسول كان حاكمًا على أمته. كيف؟ لأن معنى ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ [الأحزاب، 6] ما معناه؟ يعني المؤمنون إذا أرادوا شيئًا، والرسول أراد شيئًا آخر، فإرادة الرسول مقدمة على إرادة الناس. أليس هذا معناه؟ الرسول إذا أمركم، يجب عليكم أن تطيعوا، وهذا ليس شيئًا غريبًا. ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ [المائدة، 92] أطيعوا الرسول في أي شيء؟ في الدين، في الأحكام الشرعية، في الحلال والحرام، هذا إطاعة الله. أطيعوا الله، يعني أطيعوا الله في أي شيء؟ يعني في الحلال، في الحرام، في الحق، في الواجب.
أطيعوا الرسول، ما معناه إذًا غير أطيعوا الله؟ إطاعة في شيء آخر غير مقام الرسالة؟ الرسول كرسول، تجب إطاعته. حينما يجب إطاعة الرسول ماذا تكون النتيجة؟
النتيجة، أن الرسول (ص) حينما تجب إطاعته، يتمكن من تربية الناس، وتكوين المجتمع الصالح، وخلق البيئة الصالحة، وتوجيه الناس إلى الخط الصحيح. بعبارة أخرى، المهندس حينما يريد أن يبني بيتًا، أول شيء يصمم ويخطط. وثاني شيء يطبق هذا التصميم على الأرض. أليس كذلك؟ الخريطة ليست كل البناء. الخريطة هي الخطوة الأولى للبناء. الخطوة الثانية تنفيذ هذه الخريطة. تروح عند الحكيم يعطيك وصفة، ما يريدك أن تفعل بالوصفة؟ تعالج بتطبيق الوصفة. فإذًا، هنا وهناك، توجد مرحلة التخطيط والتصميم، توجد مرحلة التنفيذ والتطبيق.
مرحلة الرسالة مرحلة التصميم. يعني رسول الله قال: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب، وبيّن للناس الأحكام. أخذ الناس علمًا بذلك. ثم جاء مقام الولاية، مقام تطبيق هذه الأحكام. يريد أن يطبق هذه الأحكام على الواقع حتى يربي الناس. هذا المقام الثاني، مُتمم للمقام الأول. لأن الناس لن يهتدوا بمجرد أخذ العلم بالحلال والحرام. أليس كذلك؟ فإذًا، مقام الولاية، يعني مقام التطبيق متمم لمقام الرسالة ومقام التصميم. كيف طبق الرسول؟ كوَّن مجتمعًا إسلاميًا صالحًا، فتمكن من خلق بيئة صالحة، وعلَّم الناس الحلال والحرام. ولهذا أخذ إبلاغ الوحي ثلاثًا وعشرين سنة. كان يقدر الرسول في خلال شهر واحد يقرأ القرآن كله، ويحفظ القرآن للناس كلهم. أليس كذلك؟ فلماذا ثلاث وعشرون سنة؟ لأنه كان يربي الناس، كان يطبق على الناس. هذا مقام الولاية، وذاك مقام الرسالة. فإذًا، مقام الولاية كان المقام الثاني من مقامين للرسول الأكرم (ص)، وكان مكملًا لمقام الرسالة. ومقام الرسالة دون مقام الولاية كان ناقصًا.
متى بدأ النبي بتطبيق الولاية، وبممارسة مقام الولاية؟ بعد الهجرة. لماذا؟ لأنه قبل الهجرة كان مغلوبًا على أمره في مكة. في المدينة تمكن من أن يطبق الإسلام، ولهذا يوم الهجرة أول التاريخ. لماذا لم يكن أول البعثة أول تاريخ الإسلام؟ لأن البعثة أول نصف الإسلام، أول تصميم الإسلام، أول الإسلام الكامل، الهجرة وليس البعثة، أليست كذلك؟
فإذًا، الولاية متممة للرسالة. كم كانت فترة الرسالة؟ ثلاث وعشرون سنة، من أول البعثة إلى يوم الوفاة. كم كانت فترة ممارسة مقام الولاية؟ تسع سنوات وبضعة أشهر، يعني بعد الهجرة. أليس كذلك؟ بعد الهجرة، مارس العمل الولائي، الرسالة أكملت: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾ [المائدة، 3]. كل شيء، الذي هو في مقام الرسالة تمَّ. لكن مقام الولاية هل تمَّ أم لا؟
هذه الأحكام الإسلامية، هذه التعاليم الدينية، التي جاءت بواسطة النبي للناس بحاجة إلى تطبيق. والتطبيق بحاجة إلى رعاية، بحاجة إلى وقت. اليوم أنت تزرع شجرة، يجب أن ترعى الشجرة، فكيف بتربية الإنسان ورعاية الإنسان؟ بحاجة إلى وقت كبير.
تسع سنوات وكسور، ما كانت تكفي لتربية المجتمع والإنسان، تربية كاملة. ولهذا نجد أنه بعد وفاة النبي (ص)، حصلت الردات والمشاكل والحروب الكثيرة، لأن التطبيق الكامل للإسلام، وتصميم الإنسان المثالي المسلم ما تمَّ بعد. الرسول (ص) وجد نفسه أمام الموت، وأن موته قريب. فماذا يعمل؟ بحاجة إلى أن يعلِّم شخصًا لكي يكمِّل التطبيق. مثل مهندس خطط، وصمم ثم بدأ بالتطبيق وبالبناء. ووصل البناء إلى فوق السطح، إلى فوق السقف. جاء أجله ماذا يعمل؟ يجب أن يختار شخصًا يعرف بالخطة. وبالتعبير المعاصر، يكون ابن الثورة، ابن الفكرة الجديدة، لا يكون بشخصية مزدوجة مخضرمة. كل أصحاب النبي، قسم منهم كانوا من الذين سجدوا للأصنام، وقبل الإسلام كان لهم أديان، إلا علي بن أبي طالب، ابن الإسلام فقط، لأنه حينما جاء الإسلام، كان عمره ثماني سنوات، وكان في بيت النبي. فإذًا، علي تفتح على الإسلام. دمه، جسمه، فكره، أعصابه، نفسيته، طريقته، تصميمه إسلام. ليس عنده شخصية إلا الإسلام، وتربى في بيت النبي. علي كان ابن الإسلام، وتربى في مكتب معلم الإسلام محمد، في جميع شؤونه إلى درجة القرآن الكريم يعبر عن الإمام بأنه نفس النبي في آية المباهلة المعروفة. هذا موجود في جميع التفاسير: ﴿فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم﴾ [آل عمران، 61] قل تعالوا ندعوا أبناءنا، طُبِّقَ عمليًا يوم المباهلة بالحسن والحسين. نساءنا طُبِّقَ عمليًا بفاطمة. أنفسنا طُبِّقَ عمليًا بعلي بن أبي طالب.
ثانيًا: كلام الرسول في حقه: "علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما دار"[2].
ثالثًا: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"[3]. هذه الأحاديث متواترة.
رابعًا: كلام الإمام "كنت من رسول الله، كالفصيل من أمه". "أنا ميزان الأعمال وعلي لسانه"، "أنا مدينة العلم وعلي بابها"[4]. روايات متواترة، موجودة في جميع كتب المسلمين. الرجل، بتعبير معاصر، مثلما قلنا ابن الفكرة الجديدة، ابن الإسلام. يعني يمثل الإسلام تمثيلًا كاملًا، ما عنده فكرة دخيلة، ولا رواسب سابقة، ولهذا اختير هو لإكمال البناء.
وقال الرسول الأكرم: "ألست أولى بكم من أنفسكم". قالوا: "بلى"[5]. أنت لك مقام الولاية. قال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"[6]. فإذًا، مقام الولاية في الحقيقة مقام تطبيق الإسلام الصحيح. ومقام تنفيذ ما خططه الله سبحانه وتعالى، وجاء على لسان محمد. هذا معنى الولاية. نرجع إلى ما قلنا. فإذا قلنا أن خلق الإنسان والكون من قبل الله، جعل الله، ينعم علينا ويهدينا، ويبين لنا الخط الصحيح الذي يريد أن نعيش فيه. واعتبرنا أن هذا الخط هو الدين. فاكتماله بالولاية. فإذًا، الولاية متممة للرسالة، وإتمام للرسالة. طبعًا من هذا البحث تتفرع عدة بحوث. منها هدف قولنا بأن الولاية بحاجة إلى ناس كما تعلمون. لكن، نحن ننظر إلى هذا الجانب الذي يرد في اصطلاحنا أنه، بأن الدين يكتمل بالولاية، لأن الدين دون الولاية نصوص وتصميم وخريطة.
فإذًا، ما دام هذا الخط الذي هو النعمة الحقيقية، والذي نعيش لأجله. مثلما قلت نأكل لكي نعيش، نعيش لأي شيء؟ لأجل هدف، لأجل غاية، لأجل أداء رسالة، لأجل مهمة في هذا الكون. الخط العريض لهذه المهمة، هو خط الدين. وخط الدين يكتمل بهذا الشيء. ولهذا نتمكن أن نقول "ما نُوْدِيَ بشيء مثلما نُوْدِيَ بالولاية". على أساس أن الولاية هي السبب الأقوى لتكوين وتربية الإنسان الصالح. لماذا؟ لأن الإنسان يتأثر بمجتمعه أكثر من أي شيء آخر. والحكم الصالح سبب لتكوين المجتمع الصالح. ولهذا نقدر أن نقول أنه متمم للخط الإيماني للإنسان. وإيمان الإنسان هو انسجامه مع الكون. لأن هذا الكون، كل جزء من أجزاء هذا الكون يؤدي واجبًا ويؤدي دورًا. أليس كذلك؟ الشمس والقمر، وكل شيء هذا الذي يسميه القرآن السجود، كما بحثنا في بعض التفاسير السابقة. انسجامي أنا مع هذا الكون، أن أسلك خط الدين، فأنا ديني، لأني موجود حر مستقل. الشريعة... الموجودات، خطها، دينها، سجودها، تسبيحها، صلاتها، كما يقول القرآن، أنا قلت أن القرآن يعبر عنها صلاة وتسبيح وسجود. الموجودات دورها الكوني هو خطها، صلاتها، سجودها، دينها. هذا الخط للموجودات مع خطي متوازن، منسجم، نمشي في موكب واحد.
فإذًا، كما أن الولاية والرسالة متممتان للإيمان بالوحدانية، هكذا الموجودات الكونية. وهكذا، أن النعمة كما يقول القرآن الكريم في سورة الحمد: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ [الفاتحة، 7]، النعمة، نعمة الهداية، وأن الإنسان بعدما أكل، وشرب، واستعمل الماء البارد ولحم الجزور، وهذه الأشياء الواردة في الروايات الأخرى التي قلتها لكم، استعمل هذه الأشياء لكي يعيش. يعيش لأي شيء؟ لأجل هدف. الخط الذي يوصلنا إلى الهدف هو الدين، ويكتمل بالولاية.
فإذًا، و﴿لتسئلنَّ يومئذٍ عن النعيم﴾ ينطبق على هذا المعنى. هذا تتمة لتفسير سورة ﴿ألهاكم التكاثر﴾ [التكاثر، 1]، بعد هذه السورة تكون خُتِمَتْ جميع السور القرآنية، ولكن، تفسيرها مختصر.

________________________________

[1] - الكافي، ج2، ص18.
[2] - تقريب المعارف، ص126.
[3] - الأمالي، الطوسي، ص342-343.
[4] - بحار الأنوار، ج10، ص545.
[5] - الخصال، ج1، ص311.
[6] - ن.م.

source
عدد مرات التشغيل : 1