الكاتب:موسى الصدر
* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها * يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾ [الزلزلة]
صدق الله العظيم
هذه السورة المباركة أيضًا مثل السور الثلاثة السابقة التي تحاول دعوة الإنسان إلى الانتباه لما بعد هذه الحياة المادية التي نعيشها على الأرض، أيضًا السورة في نفس الموضوع.
قرأنا ﴿ألهاكم التكاثر﴾ [التكاثر، 1]، ونذكر في ذيل السورة ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين* ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾ [التكاثر، 5-8]، وسورة القارعة ﴿القارعة * ما القارعة﴾ [القارعة، 1-2]، وفي ذيلها ﴿يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش * فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشةٍ راضيةٍ * وأما من خفت موازينه * فأمه هاويةٌ * وما أدراك ما هيه * نارٌ حاميةٌ﴾ [القارعة، 4-11]. والسورة الثالثة ﴿والعاديات ضبحًا * فالموريات قدحًا﴾ [العاديات، 1-2]، وكان في آخر السورة ﴿أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحُصِّل ما في الصدور * أن ربهم بهم يومئذٍ لخبيرٌ﴾ [العاديات، 9-11].
هذه السور الثلاثة كلها مثل هذه السورة ﴿إذا زلزلت الأرض﴾ حول تنبيه الإنسان ودعوة الإنسان إلى ما بعد هذه الحياة والمحاسبة التي تقع بعد وفاة الإنسان. وحتى يتمكن الإسلام أو القرآن الكريم أن يلفت النظر ويوجه الإنسان الغافل الغريق في حياته المادية والملتهي بالصور العادية في الحياة. كان الإنسان في هذه الحياة، خاصة في حال نزول هذه السور، كان الإنسان ملتهيًا بمادته، بحياته العادية، بالتكاثر وتعداد النفر والنفوس. وهذه السور التي قرأناها... الإنسان الغريق أو النائم في حياته المادية الملتهي بهذه الحياة، السكران من الانتصارات المادية والتكاثر بحاجة إلى هزة عنيفة حتى ينتبه ويفيق على حاله، وحينئذٍ يتوجه إلى تفسير القيامة.
ولهذا في كل هذه السور استعملت أساليب متعددة لهز الإنسان ومحاولة إيقاظه حتى ينتبه إلى المعاد. أحيانًا في صيغة ﴿ألهاكم التكاثر﴾ [التكاثر، 1]، وأحيانًا بصيغة ﴿القارعة ما القارعة﴾ [القارعة، 1-2]، وأحيانًا بتصوير صورة الغارة الغريبة ﴿والعاديات ضبحًا﴾ [العاديات، 1]، بهذا الشكل محاولة إيجاد اليقظة في الإنسان، حتى بعد أن استيقظ يعرضون له أنه أينك أنت أمامك القيامة، أمامك المحاسبة. أسلوب هذه السورة أسلوب آخر، هذا الأسلوب يبدأ بتصوير البعث والنشور والقيامة: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾.
أنت تتصور أن الزلزلة إذا كانت محلية ما هو شعور الإنسان؟ لا أعرف إذا الشباب صادف معهم زلزال للأرض حتى يشعروا بعجز الإنسان وقت الزلزال، ولا أضعف وأعجز من الإنسان في حالة الزلزال.
هناك شبه لهذا الزلزال حال تدهور السيارة. السيارة التي تتدهور، الإنسان الجالس داخل السيارة يجد نفسه غير ملتجئ إلى أي مكان، إلى أين؟ تريد توقف السيارة؟ تريد تأخذ بيدك الحائط؟ تريد تستند إلى عصا؟ إلى أين؟ الإنسان يشعر أنه غير معلق، معلق بين السماء والأرض بشكل غريب، وهذا شبيه بحالة الزلزال. الزلزال يجعل الإنسان يشعر باحتقار وحيرة وتخوف غريب، باعتبار أن الإنسان كل سنده أنه مستند إلى الأرض، أليس كذلك؟ يعني الآن نحن مثلًا إذا نقف على الحائط أو نجلس على الأرض نحن نمسك أرضنا حتى نستقر، عندما الأرض تتحرك ماذا يعمل الإنسان؟ يشعر باحتقار، بضعف، بعجز، خاصةً إذا كانت الزلزلة زلزلة عامة، لأن الزلازل التي نحن رأيناها زلازل محلية، تعرف هذه الزلازل التي تفتك بالعالم بثوانٍ، خمس ثوانٍ، عشرين ثانية، خمس عشرة ثانية، هذه كلها الزلازل التي تحصل. والزلازل العادية زلازل جانبية، يعني تأتي عامودية أو أفقية بخط واحد ومع ذلك نحن نشعر بهذه الحقارة فكيف ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾، ماذا يعني زلزالها؟
نحن نستعمل ونقول فلان ضرب ضربته، فلان ألقى كلمته، فلان استعمل سلاحه، هذا يعني سلاحه المفضل، كلمته المفضلة. فلان ضرب ضربته، يعني هذه الضربة النهائية، يعني التي تلخص كل قواه استعملها في هذا، فلان ضرب ضربته، أليس كذلك؟
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ يعني تلك الزلزلة التي كل الزلازل تهون دونها إذا زلزلت. فإذا نحن الآن عندما نسمع هذه الآية ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ نتوجه بأن الأرض تتحرك وتتزلزل زلزالًا عنيفًا، الزلزال الذي يفوق زلزال أغادير، وزلزال قوم عاد، وزلزال لبنان سنة 56، زلزلة تفوق كل هذه الزلازل.
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ طيب وقت الأرض تتحرك إلى أين تلتجئ؟ تتمسك بماذا؟ بالحائط. الحائط مبني على الأرض، وقت الأرض تزلزلت الحائط تزلزل، تمسك الشجرة، الشجرة أيضًا تتزلزل لأن الأرض تتحرك إلى أين تصل؟ تطلع للخارج، الزلزلة معك، الداخل معك، البحر، رأيتم أن مياه البحر تتدفق ويصير خسف ويصير كثير من المسائل. فإذًا، ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ هذا ترسيم حالة مخيفة يعجز الإنسان وينقطع الإنسان انقطاعًا نهائيًا ولا فوق هذا الانقطاع انقطاع أبدًا.
وبعدها ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾، الأرض تخرج ما في جوفها من الأموات، من الكنوز، من الذخائر، من الدفائن، من ركائز البناء، من جذور الأشجار هذا كله أثقالها، أثقال جمع ثقل يعني كل شيء مثقل بالأرض له وزنه وله أساسه كله يخرج.
فإذًا، نحن الآن ننتبه لمنظر آخر، يعني هذه الأرض تتزلزل، والأرض تقذف ما فيها من الأسرار، من الأموات، من جذور الأشجار، من أعمدة البناء، من ركائز الحيطان كل هذا يخرج؛ من جذور الجبال وأنتم تعرفون أن الجبال لها جذور تحت الأرض كلها تقذفها الأرض. ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ أسرار ثقيلة على القلب، يعني الإنسان إذا كان عنده سر مكتوم يشعر بثقل هذا السر، وإذا قاله لأحد يشعر بأنه خفَّ عنه، أليس كذلك؟ السر ثقيل على الإنسان، هذا تعبير كناية جميل كأن ما في جوف الأرض سر الأرض وثقيل على الأرض فقذفته وارتاحت، كأن هذا الزلزال وهذا التحرك وهذا المنظر الغريب حتى تعبر عن أسرارها وتلقي ما في نفسها.
فإذًا، نحن الآن نتصور الزلزلة، وخروج هذه الجذور والأثقال والأموات، فيطلع منظرًا مفزعًا ومرعبًا جدًا.
فالإنسان النائم، الإنسان الملتهي، الإنسان الغافل يهتز أمام هذا الأمر. ثم يؤكد العجب والفزع بهذه الكلمة ﴿وقال الإنسان ما لها﴾. الإنسان، جنس الإنسان طبيعة الإنسان يلفظ من دون إرادة ما لها؟ ماذا صار؟ يعني حالة تعجب ودهشة أمام هذا المنظر. ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها﴾ حينئذٍ عندما هذا المنظر يهز الإنسان ويتساءل ما لها، والنائم يفيق والسكران ينتبه والغافل يتوجه، بعد هذه اللوحة فورًا يضع القرآن أمام الإنسان هذه الأشياء: ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾. الأرض في هذه الحالة تتحدث وتحكي، تحكي أخبارها، تحكي أنه هنا صارت جريمة، هنا صارت العبادة، هنا صار الخلاف، هنا فلان سرق، هنا فلان قتل، هنا فلان تآمر. كل ما يجري على الأرض، الأرض تقوم تتحدث. غريب هذا... هل الأرض تتحدث؟ نعم، حينما قلنا حسب توصيف القرآن: ﴿وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ﴾ [فصلت، 21]، وهنا نفس العجب هل الأرض تتحدث؟ ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾ الله قال لها. الله أنطقها. الله قال للأرض إحكي إشهدي. فإذًا، لا غرابة في ذلك. ونحن اليوم بعد التقدم العلمي، قلَّ استغرابنا جدًا عن هذه الشهادة وعن هذه الأخبار والحديث. نحن الآن بكل سهولة نقدر أن نفهم ماذا يعني الأرض تحدث أخبارها وتشهد علينا، والأرض تشهد، واليد تشهد، والرجل تشهد، والسمع يشهد، والبصر يشهد، والجلد يشهد، نقدر نفهم بسهولة.
أرجو الانتباه لهذه المقدمة الصغيرة، أنتم تعرفون أن الإنسان حينما يتكلم ما هو السبب في سماعك أنت صوتي؟ قرأتم في الكتب أنتم والحمد لله بأن الصوت عبارة عن قرع في أجهزة الفم، يحدث موجًا، يحدث أمواجًا صوتية، مثلما تحط صخرة في الماء، كيف هذه الصخرة تخلق موجة؟ نفس الشيء عندما أنت تحكي، هذا الحكي يحدث موجة في الجو، هذا الشيء مقرر في الفيزياء. وهذه الموجة قائمة موجودة، وهذه الموجة تسير في كل ثانية ثلاثمئة وأربعين مترًا. يعني شيء ملموس ومشهود ولا شك فيه، يعني أنا الآن أحكي، بعد ثانية صوتي يصل لثلاثمائة وأربعين مترًا بعيدًا عني، وهذه الموجة تمشي بدونها داخل الهواء. فإذًا، كما أن الحجارة في الماء تحدث موجة على سطح الماء، الصوت في الجو يحدث موجة في الجو؛ هذه الأمواج تنبثق وتتوسع فتصل إلى مطرقة سمعك وإلى صماخ سمعك، هذه الموجة تحرك هذا الجلد، هذا الستار، هذا الصماخ، فتسمع صوتي. وهذه الموجة تصل لمسامع الحاضرين فيسمعون، وهذه الموجة تصل لهذين الجهازين الموجودين عندي، فتتحول إلى أمواج كهربائية بالأجهزة الموجودة فتتسجل على هذين الشريطين الموجودين أمامي، واللذين يسجلان كل ما أقول، أليس كذلك؟
ونفس الصوت عندما أنا أحكي بالتلفون في محل الفم، هناك ورقة منسوجة بشكل خفيف، هذه الورقة تهتز بقرعات الصوت فتنزل وتطلع وتعكس على الجهاز الذي يحكي بواسطة الكهرباء صوتًا ينتقل بواسطة الشريط إلى مسامع الشخص الآخر فيسمع صوتي، أليس كذلك؟ والآن عندهم وسائل بأن يحولوا الموج، موج الصوت إلى نور والعكس، يعني العلم اليوم يتصرف بهذه الموجات كشيء عادي، كمادة، يعني، لا شك في ثبوت هذا الشيء.
أنا وقت أتكلم، هذه الأمواج الصوتية التي تسمعها أنت ويسجلها المسجل، وينتقل إلى التلفون، ويتحول إلى نور، هذه الموجة موجة الصوت ألا تصل إلى هذا الحائط؟ ألا تصل إلى هذه الأرض؟ أنت تقدر أن تقول لا تتسجل على الحائط، كيف عرفت أنه لا تتسجل على الحائط. حتمًا ينعكس على الحائط لأنه شيء موجود، لا تقل أن هذا الحائط خشن. فليكن خشن الصوت والموج الصوتي ما بحاجة إلى الخشونة والخفة، من الممكن أن يتسجل على الحائط. ثم هذه الأمواج الصوتية التي تروح إلى أين تروح؟ تنعدم؟ أبدًا. قانون "لافوازييه" يقول لا ينعدم شيء في الوجود ولا يوجد شيء في الوجود. كل شيء ثابت ثابت باقٍ، هذه الأمواج الصوتية موجودة في الجو، فإذًا، أنا الآن بإمكاني أن أقول أن كل الأحاديث التي صدرت مني خلال هذه الفترة بشكل أمواج موجودة في الفضاء وبشكل أمواج انعكست على هذه الحيطان وعلى هذه الأرض، لماذا تتعجب؟ كيف تتسجل هذه الأمواج على هذا الشريط وتتسجل على الأسطوانات ولا تتسجل على الحائط؟ من قال لك لا تتسجل؟ هذه الأصوات تتسجل على سمعك ولا تتسجل على وجهي أنا ووجهك أنت وجلدي أنا وجلدك أنت، تتسجل، لم لا، هذا في الصوت.
أما النور أنتم تعرفون أنه لماذا تروني أنتم، هل تعرفون سبب الرؤية؟ سبب الرؤية، أنا لو كنت الآن في ظلام دامس لا أحد يراني لكن أنا موجود في جو من النور، يعني هذه الأضواء أو الشمس تشرق علي، يعني تصب علي النور وعليكم أيضًا. هذا النور الذي عليَّ فينعكس مثل المرآة، كل لون كما تعلمون يأخذ شيئًا من الألوان، ويعطي بعض الألوان، فيصير انعكاسًا، النور يأتي من هناك ثم ينعكس، فينتشر في الفضاء، فيصل إلى عينك، فتراني، ويصل إلى حائط فيبقى هناك، ويصل إلى كل مكان.
فإذًا، كما أن الأمواج الصوتية تصدر من فمي وتنتشر في الجو، فالأمواج النورية أيضًا تنتشر في الجو وتصل إلى عينك وتصل إلى كاميرا للتصوير، جهاز التصوير. ماذا يحدث بجهاز التصوير؟ النور الصادر المنعكس عني يدخل إلى العدسة فتنعكس على الفيلم الذي عليه دواء للصباغ، فتنعكس صورتي على هذا الفيلم وتظهر، أليس كذلك؟
وهكذا نجد أن الوجود والمنظر أيضًا ينعكس على المجموعة ويتسجل في الأفلام وفي العيون وفي الأوراق، فلماذا لا يتسجل على الحيطان وعلى السقف وعلى المناخ وعلى الأرض وعلى كل شيء
إذًا، ما دام أننا نرى أمامنا التصوير والصباغ في الصورة على التصوير، ونرى أمامنا مسجلات فإذا قالوا لنا أن الشيخ "إسحاق" الآن كل حركة تصدر منه تنعكس على هذه الحيطان، وهذه الأرض، وهذا السقف، وهذه الأجساد، وعلى جسدي، وعلى جسده هو نحن نقدر نصدق هذا. فإذًا، الله سبحانه وتعالى الذي أنطقنا والذي أنطق المسجلة عن طريق ذوق الإنسان، والذي تمكن من إنطاق كل شيء بإمكانه أن ينطق جلدي ويدي وعظمي والأرض والحائط والشجر وكل شيء. ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾ من الذي يتمكن أن ينكر؟
كل هذه الصور والأصوات والحركات تتسجل في كتاب الله، ماذا يعني كتاب الله؟ يعني في كتاب مؤلف هناك؟ لا، الأرض والسماء كتاب الله، ما بين الأرض والسماء، جنود الله وملائكة الله، كل شيء، كل شيء. الفعل والصوت والعمل كما أنه ينعكس على النفس. وهذا باب آخر نحكي فيه إن شاء الله في باب المعاد.
كذلك يتسجل كل عمل وكل فعل. والله سبحانه وتعالى ينطقها يوم القيامة، ولهذا في الحديث أنكم إذا صليتم فصلوا في أماكن متعددة، واجعلوا طريقكم إلى الجامع ذهابًا غير طريقكم إيابًا حتى تشهد لكم الأرض كلها بالصلاح وبالخير والتقوى وإن ذهبت من طريق واحد الأرض أيضًا تشهد لك بالذهاب والإياب، لكن تعبيرات لإفهام الناس والإيحاء للناس يا أخي لا تفكر أنه لا أحد ينتبه إلى جريمتك، يدك تشهد، الأرض التي تقع عليها الجريمة تشهد، أين تُخَبئ؟ وعلى من تُخَبئ؟ ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾.
ثم يعود إلى نفس التصوير فيقول: ﴿يومئذ يصدر الناس أشتاتا﴾، أشتات جمع الشتيتة، يعني متفرقة، صدور الناس ليس بالمظاهرات ولا بالصفوف ولا بالتجمعات المنظمة بل متفرقة من الهول والفزع ثم من التفرق الحقيقي، لأن هذه الأجساد التي تدفن تحت الأرض لا تبقى بالشكل الموجود، فالجسد يتفرق ويتحول أول شيء إلى تراب، وهذا التراب بعد مدة الأحداث الأرضية والخسف والزلازل والحركات، تفرق هذا التراب، فقسم من هذا التراب يروح مع الريح إلى البحر الفلاني، وقسم منها ينتقل إلى الأرض الفلانية، ثم تزرع فيها البذرة فتتحول إلى الشجرة وإلى العلف وإلى أشياء كثيرة، وربما يوم القيامة إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلقني من جديد وأن يعيد إليَّ الجسد من جديد يجب أن يجمع من مختلف أقطار الأرض تتمة من ترابي ويخلقني ويكونني من جديد، كما نحن اليوم، نفس الشيء، فنحن مكوَّنون من عناصر مختلفة. فإذًا، يوم الحشر بالفعل منظر غريب، تصوروا أنه قطعة من الحائط، قطعة من هنا، وقطعة الشجرة، وقطعة من الأرض، وقطعة من هناك، تتجمع وتأتي ويتكون إنسان، شيء غريب سيكون.
يحضر الناس أشتاتًا متفرقين وهائمين وفزعين يقولون: ﴿ما لها﴾؟ لماذا يصدر الإنسان؟ ﴿ليروا أعمالهم﴾ حتى الله سبحانه وتعالى "يري" أعمالهم، طبعًا تعرفون أن الفعل المبني للمجهول يستعمل إذا كان الاهتمام بالفعل دون الفاعل، ﴿ليروا أعمالهم﴾ حتى يريهم، ومن هم الذين يريهم، ليس مهمًا، المهم أنهم هم يرون. ﴿ليروا أعمالهم﴾، ليس في الميدان شيء غير العمل، ﴿ليروا أعمالهم﴾ الناس يصدرون حتى يرون أعمالهم.
﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ يره، ما معنى يره؟ يرى العمل، مثقال ذرة، ذرة ماذا تعني؟ ذرة معناها كما يقولون الهباء المتطاير في الهواء، ذرة التي نراها في خيط من النور، هذه ذرة. والحقيقة أن ذرة تستعمل في هذا لأن العرب الذين وضعوا اللغة العربية ما كانوا يتصورون أصغر من هذا، الذرة متكون من الذر، والذر يعني صغير النملة لأنه كان أصغر الحيوانات عندهم صغار النمل، فالذرة يعني أصغر شيء. لكن الإنسان القديم ما كان يفهم أصغر من الهباء المتطاير في السماء، اليوم نحن نطلق على ATOME ذرة لأنهم في السابق ما كانوا يعرفون ATOME (الذرة) لماذا ما كانوا يعرفون؟ لأن الذرة إسم لكل صغير، لأصغر الأشياء، فنحن سابقًا كنا نقول ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ﴾، مثقال يعني مصدر ميمي من الثقل، مثقال ذرة يعني وزن هذه الذرة كم نيترون باصطلاحنا مهما كانت، لكن اليوم نقدر نزن أصغر من هذا، ذرة، الذرة الموجودة في الجسم، هذا الذي لا يراه الإنسان لا بالعين المجردة ولا بجميع الوسائل التي خلقها إلى الآن الإنسان واخترعها لا يقدر يشوف الذرة التي تدور يعني ATOME أليس كذلك؟ هذه ذرة أيضًا.
﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ﴾، يعني إذا كان عمل الإنسان من الخير أو من الشر بمقدار وزن هذه الذرة يره، ﴿ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾. فإذًا، الحساب ليس للأشياء الكثيرة الكبيرة بل الأشياء الصغيرة الحقيرة ولو كان بمقدار ذرة ووزن ذرة، يراها. فلا تحتقروا الطاعات ولا تستقلوا الصدقات، ولا تستصغروا الذنوب والمعاصي، فإن ﴿من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾. هذا مضمون عدة روايات أنه لا تستصغروا الطاعات ولا تستصغروا الخدمات والصدقات، لا تستصغروا المعاصي والذنوب، فكل شيء مهما كان صغيرًا أو كبيرًا له أثر في حياتكم، وفي معادكم، وفي حسابكم، وفي معاشكم مطلق. فإذًا، هذا التصوير يعطينا تفاعلًا وانعكاسًا وملاقاتنا للعمل يوم القيامة.
هنا ألفت نظركم لشيء، وهو أن ظاهر هذه السورة، بل صريح هذه السورة أننا نرى أعمالنا يوم القيامة، أرجو الانتباه هذا بحث علمي وفلسفي وعقيدة قرآنية حول المعاد. ﴿يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم﴾، ليس جزاء عملهم، ﴿ليروا أعمالهم﴾، يعني سوف ترى نفس عملك، ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره﴾ نفس الذرة تراها، أليس كذلك؟ وهذا أيضًا ما ورد في الآية الأخرى: ﴿يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا﴾ [آل عمران، 30]، ليس جزاء ما عملت من خير محضرًا. لماذا هذا؟ مع أنه في بعض الآيات أننا نرى جزاء عملنا. لماذا القرآن قد يقول نحن نرى عملنا وقد يقول نحن نرى جزاء عملنا؟ لأن الجزاء الإلهي يختلف عن الجزاء الإنساني، الإنسان حينما يضع قوانين المجازاة، الإنسان يجعل الجزاء الإنساني، يقولون السارق يغرم أو يسجن، السرقة عمل ما يختلف عن السجن، السجن حجز حرية الإنسان المواطن في مكان محدود في مدة معينة، أليس هذا هو السجن؟ السرقة تختلف عن هذا، هذا شيء وهذا شيء.
الإنسان وضع قوانين ووضع مجازاة أمام أعمال بأشياء أخرى، مفهوم الكلام؟ اليوم مثلًا إذا واحد ارتكب جريمة، مثلًا جريمة ضرب أو إهانة أو إطلاق نار يغرم بالمال، المال شيء وإطلاق النار شيء، أو يسجن، السجن شيء، وإطلاق النار شيء. وهكذا ترون أن عمل الجريمة يختلف عن عمل المجازاة، هذا شيء وذاك شكل آخر. بينما العمل الإنساني والجزاء الإلهي شيء واحد نحن نجزى بعملنا بنفس عملنا، يعني عملنا في هذه الدنيا له صورة هي نفس العمل له صورة يوم القيامة نجتزي بنفس الشيء. من باب المثل الماء في درجة حرارة معينة أكثر من أربع درجات مثلًا أو فوق الصفر مثلًا، الماء مائع، أليس كذلك؟ إذا نفس الماء أعطيته حرارة حتى بلغت درجة الحرارة إلى مئة، نفس الماء شكله يختلف، ويصير مثل البخار أليس كذلك؟ وإذا نزلت درجة الحرارة تحت الصفر، فنفس الماء يكون شكله جماد، الماء واحد له ثلاثة أشكال في درجات حرارة مختلفة أليس كذلك؟
العمل الواحد، هذا العمل الخير أو عمل الشر هنا له شكل، وفي عالم آخر له شكل آخر، نفس العمل. أذكر لكم مثالًا أقرب إلى الذهن: الفلاح في خلال موسم الزراعة والعمل، يحرث الأرض، ويسقي الحرث، يكافح المرض، يخدم الشجرة، تطلع الثمرة المطلوبة أليس كذلك؟ إذا لم يكافح مرض البرتقالة أو التفاحة، أو الشجرة التي تأتي معيوبة مسوسة باصطلاحنا أليس كذلك؟ هذا السوس من أين أتى؟ لأنه كان موجودًا، كان من المفروض أن يكافح لأنه ما كوفح، ظهر هنا. فإذًا، هذا الرش الذي يرشه الفلاح ينعكس على سلامة هذه الشجرة؛ إذا ما حرث الأرض أو ما أعطاها السماد اللازم، الثمرة تطلع هزيلة، هذا الهزال من أين جاء؟ من نفس العمل، ليل نهار كبر هذا، فكل نشاط وضعه على الأرض، هذه الشجرة نمت درجة أليس كذلك؟ نفس الشيء. فإذًا، العمل عمل الفلاح يتجمع في صندوق الشجرة، وصندوق الثمرة، أليس كذلك؟
مثل واحد، طفل يدخر المال وقت تصير مئة ليرة لا تقدر أن تقول له من أين لك هذا، هو جمعه. الثمرة مثل صندوق العمل، كل نشاط، كل كيماوي، كل رش، كل خدمة كأنه وضع شيئًا بالصندوق، فامتلأ الصندوق، مثال واضح، أليس كذلك؟ هذا الجزاء بالعمل، التلميذ بالامتحان نفس الشيء، المصارع في المسابقة، نفس الشيء هؤلاء يجدون أنفسهم أمام عملهم المصمد في هذا الصندوق. فإذا صمدوا عملًا جيدًا يجدون نفس العمل نفس الأموال التي وضعوها وليس شيئًا آخر. نحن مع الأسف يوم القيامة أمام أعمالنا، فالأعمال التي عملناها نحترق بها يوم القيامة أو نجزى بها يوم القيامة، تقول لي كيف؟ أقول لك أن الإنسان يكون ذاته بأعماله هذا بحث فلسفي أحاول أن أعطيه الشكل البسيط.
باعتبار أنه نحن نقرأ التربية، نقرأ التفسير لا نقرأ فلسفة ولا كلام. الإنسان والأعمال التي تصدر عن الإنسان هي التي تكون ذاتي، أنا طفل، عندما أتيت كنت كطفل كنت مثل المرآة، كنت مثل المادة الخام، كنت مثل المعجونة التي يستعملها الطلاب الصغار في المدارس، أنا وقت كنت طفلًا كنت مثل هذه المعجونة، التربية، ثم عملي أنا وهذا العمل، كل كلمة تغير، هذه المعجونة كل موقف، كل تصرف، كل خطيئة، كل حسنة، تكوَّن هذه المعجونة وتعطيها صورة. فإذًا، أنا صورتي يوم القيامة، ذاتي يوم القيامة ما هي؟ صندوق أعمالي فقد أحشر لا سمح الله يوم القيامة بشكل كلب إذا كانت أعمالي أعمال كلب، وقد أحشر بشكل إنسان، وقد أحشر بشكل آخر، من يدري ما هي صورة الإنسان يوم القيامة!
مثال آخر، الفنان يرسم لوحة، صورة. هذه اللوحة هذه اللوحة هي مجموعة الأقلام التي هو يستعملها ويلون هذه اللوحة أليس كذلك؟ فكل قلم يمد على هذه اللوحة يعطي حالة جديدة لهذه الصورة. فهذه الصورة الفنية التي أمامكم هي مجموعة حركات يد هذا الفنان والألوان التي اختارها، أليس كذلك؟ ونحن نفس الشيء.
فإذًا، نحن ذاتنا هي مجموعة أعمالنا، لوحة ذاتنا مجموعة الخطوط التي رسمناها في أيام الحياة. فإذًا، كل أعمالنا لا تروح هباءً، كما أنها تنعكس على الأرض والسماء والحيطان والجلود أيضًا تكون ذاتنا، فذاتنا خلاصة أعمالنا، وحينئذٍ نحن نحشر بهذه الذات التي هي العذاب الأبدي ولا مقام إلا في النار ومع الشياطين، أو نحشر وصورتنا إنسان، فمقامنا الجنة ونحشر مع الصديقين والشهداء والصالحين.
أنت اليوم إذا تريد أن تعمل عدالة في بيتك تضع الضوء فوق رأسك، وتضع الإبريق النظيف في البراد، وتضع الإبريق للطهارة في المرحاض، وتضع البلاط تحت رجلك فهل ظلمت البلاط؟ لماذا ما وضعت البلاط فوق رأسك؟ لماذا ما وضعت الضوء على المدخل؟ لماذا ما وضعت إبريق الطهارة في غرفة النوم لماذا؟ لماذا الساعة لا تلبسها برجلك؟ لماذا اللفة لا تضعها في ظهرك؟ كل شيء له مكان. أنا يوم القيامة ذات من الذوات لي مكان، أين مكاني؟ متناسب معي فلا ظلم في العذاب، يعني إذا عذبنا الله ما ظلمنا، أعطانا مكاننا بكل احترام تفضل هذا مكانك في المرحاض لأنه إبريق أو تحت الأرجل لأنه بلاط. فأنا أتكون من مجموع أعمالي، هذه المجموعة تكونني وتعطيني الصورة الحقيقية وتحدد محلي في النار، أو في الجنة، أو في درجات الجنة، أو في دركات النار.
فإذًا، نحن نرى عملنا أمامنا ﴿يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا﴾ ]آل عمران، 30[، لا تفكر أن هذه العملية يوم القيامة تكون... الآن موجودة ولكن نحن لا نرى. نحن الآن علينا غطاء إلهي وستر إلهي، وهو هذا الوجه الذي يخبئ في جوفه كل شيء، وفي يوم القيامة ﴿فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديدٌ﴾ [ق، 22] أليس كذلك؟ يوم القيامة نحن نرى، ﴿ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾.
هذا توضيح، نرجع إلى خلاصة الآية، الإنسان الغافل، الإنسان السكران، الإنسان النائم، الإنسان الملتهي بالحياة أول شيء الآية تضربه سوطاً على دماغه يقول: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾، ربما أخبار الأرض هي أثقال الأرض هي أسرار الأرض كما قلنا، ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾، يعني أسرارها، الأسرار التي طالما ثقلت على قلب الأرض.
﴿يومئذٍ تحدث أخبارها﴾، لماذا؟ ﴿بأن ربك أوحى لها﴾، ﴿يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا﴾ إلى هنا تصورنا الواقعة ﴿ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾. أول شيء ضرب ضربة بهذا الشكل حتى يوقظ الناس وينتبهوا ويعطوا سمعهم إلى صوت الله الذي يقول: ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره﴾ فلا ظلم ولا محسوبية ولا احتساب أبدًا أبدًا. ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾، ﴿وان ليس للإنسان الا ما سعى﴾ [النجم، 39].
هذه خلاصة وجيزة من هذه السورة المباركة. في تفسير هذه السورة روايات حول الخيرات الصغار التي قلت أن لا تستصغروا الحسنات، كسرة خبز، شقة تمر، خدمة صغيرة لا توفروها، ولا تستصغروا الحسنات، ولا تحتقروا السيئات؛ كما أن الإنسان في بعض الروايات مفسر بالإمام أمير المؤمنين (س) ولا شك أنه هو الإنسان الكامل. فإذًا، هو مصداق من مصاديق البشر، ونحن كما تعلمون بطريقتنا بالتفسير، الروايات التي تعين مصاديق للآيات الكريمة نحاول أن نقول أن هذه التفسيرات مصداق من الآية، أركان من الآية ﴿وزنوا بالقسطاس المستقيم﴾ [الشعراء، 182] يفسر بـ"علي بن أبي طالب" (ع) نقول أنه هو القسطاس الكامل، هو المقياس الكامل للإنسان. فإذًا، ﴿وقال الإنسان ما لها يومئذٍ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ أعتقد أنه ما عندي شيء، ولا شك أن ما بقي من المعاني العميقة في القرآن أكثر بكثير، وما قلنا إلا نقطة.
وغفر الله لنا ولكم والسلام عليكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها * يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾ [الزلزلة]
صدق الله العظيم
هذه السورة المباركة أيضًا مثل السور الثلاثة السابقة التي تحاول دعوة الإنسان إلى الانتباه لما بعد هذه الحياة المادية التي نعيشها على الأرض، أيضًا السورة في نفس الموضوع.
قرأنا ﴿ألهاكم التكاثر﴾ [التكاثر، 1]، ونذكر في ذيل السورة ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين* ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾ [التكاثر، 5-8]، وسورة القارعة ﴿القارعة * ما القارعة﴾ [القارعة، 1-2]، وفي ذيلها ﴿يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش * فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشةٍ راضيةٍ * وأما من خفت موازينه * فأمه هاويةٌ * وما أدراك ما هيه * نارٌ حاميةٌ﴾ [القارعة، 4-11]. والسورة الثالثة ﴿والعاديات ضبحًا * فالموريات قدحًا﴾ [العاديات، 1-2]، وكان في آخر السورة ﴿أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحُصِّل ما في الصدور * أن ربهم بهم يومئذٍ لخبيرٌ﴾ [العاديات، 9-11].
هذه السور الثلاثة كلها مثل هذه السورة ﴿إذا زلزلت الأرض﴾ حول تنبيه الإنسان ودعوة الإنسان إلى ما بعد هذه الحياة والمحاسبة التي تقع بعد وفاة الإنسان. وحتى يتمكن الإسلام أو القرآن الكريم أن يلفت النظر ويوجه الإنسان الغافل الغريق في حياته المادية والملتهي بالصور العادية في الحياة. كان الإنسان في هذه الحياة، خاصة في حال نزول هذه السور، كان الإنسان ملتهيًا بمادته، بحياته العادية، بالتكاثر وتعداد النفر والنفوس. وهذه السور التي قرأناها... الإنسان الغريق أو النائم في حياته المادية الملتهي بهذه الحياة، السكران من الانتصارات المادية والتكاثر بحاجة إلى هزة عنيفة حتى ينتبه ويفيق على حاله، وحينئذٍ يتوجه إلى تفسير القيامة.
ولهذا في كل هذه السور استعملت أساليب متعددة لهز الإنسان ومحاولة إيقاظه حتى ينتبه إلى المعاد. أحيانًا في صيغة ﴿ألهاكم التكاثر﴾ [التكاثر، 1]، وأحيانًا بصيغة ﴿القارعة ما القارعة﴾ [القارعة، 1-2]، وأحيانًا بتصوير صورة الغارة الغريبة ﴿والعاديات ضبحًا﴾ [العاديات، 1]، بهذا الشكل محاولة إيجاد اليقظة في الإنسان، حتى بعد أن استيقظ يعرضون له أنه أينك أنت أمامك القيامة، أمامك المحاسبة. أسلوب هذه السورة أسلوب آخر، هذا الأسلوب يبدأ بتصوير البعث والنشور والقيامة: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾.
أنت تتصور أن الزلزلة إذا كانت محلية ما هو شعور الإنسان؟ لا أعرف إذا الشباب صادف معهم زلزال للأرض حتى يشعروا بعجز الإنسان وقت الزلزال، ولا أضعف وأعجز من الإنسان في حالة الزلزال.
هناك شبه لهذا الزلزال حال تدهور السيارة. السيارة التي تتدهور، الإنسان الجالس داخل السيارة يجد نفسه غير ملتجئ إلى أي مكان، إلى أين؟ تريد توقف السيارة؟ تريد تأخذ بيدك الحائط؟ تريد تستند إلى عصا؟ إلى أين؟ الإنسان يشعر أنه غير معلق، معلق بين السماء والأرض بشكل غريب، وهذا شبيه بحالة الزلزال. الزلزال يجعل الإنسان يشعر باحتقار وحيرة وتخوف غريب، باعتبار أن الإنسان كل سنده أنه مستند إلى الأرض، أليس كذلك؟ يعني الآن نحن مثلًا إذا نقف على الحائط أو نجلس على الأرض نحن نمسك أرضنا حتى نستقر، عندما الأرض تتحرك ماذا يعمل الإنسان؟ يشعر باحتقار، بضعف، بعجز، خاصةً إذا كانت الزلزلة زلزلة عامة، لأن الزلازل التي نحن رأيناها زلازل محلية، تعرف هذه الزلازل التي تفتك بالعالم بثوانٍ، خمس ثوانٍ، عشرين ثانية، خمس عشرة ثانية، هذه كلها الزلازل التي تحصل. والزلازل العادية زلازل جانبية، يعني تأتي عامودية أو أفقية بخط واحد ومع ذلك نحن نشعر بهذه الحقارة فكيف ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾، ماذا يعني زلزالها؟
نحن نستعمل ونقول فلان ضرب ضربته، فلان ألقى كلمته، فلان استعمل سلاحه، هذا يعني سلاحه المفضل، كلمته المفضلة. فلان ضرب ضربته، يعني هذه الضربة النهائية، يعني التي تلخص كل قواه استعملها في هذا، فلان ضرب ضربته، أليس كذلك؟
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ يعني تلك الزلزلة التي كل الزلازل تهون دونها إذا زلزلت. فإذا نحن الآن عندما نسمع هذه الآية ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ نتوجه بأن الأرض تتحرك وتتزلزل زلزالًا عنيفًا، الزلزال الذي يفوق زلزال أغادير، وزلزال قوم عاد، وزلزال لبنان سنة 56، زلزلة تفوق كل هذه الزلازل.
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ طيب وقت الأرض تتحرك إلى أين تلتجئ؟ تتمسك بماذا؟ بالحائط. الحائط مبني على الأرض، وقت الأرض تزلزلت الحائط تزلزل، تمسك الشجرة، الشجرة أيضًا تتزلزل لأن الأرض تتحرك إلى أين تصل؟ تطلع للخارج، الزلزلة معك، الداخل معك، البحر، رأيتم أن مياه البحر تتدفق ويصير خسف ويصير كثير من المسائل. فإذًا، ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ هذا ترسيم حالة مخيفة يعجز الإنسان وينقطع الإنسان انقطاعًا نهائيًا ولا فوق هذا الانقطاع انقطاع أبدًا.
وبعدها ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾، الأرض تخرج ما في جوفها من الأموات، من الكنوز، من الذخائر، من الدفائن، من ركائز البناء، من جذور الأشجار هذا كله أثقالها، أثقال جمع ثقل يعني كل شيء مثقل بالأرض له وزنه وله أساسه كله يخرج.
فإذًا، نحن الآن ننتبه لمنظر آخر، يعني هذه الأرض تتزلزل، والأرض تقذف ما فيها من الأسرار، من الأموات، من جذور الأشجار، من أعمدة البناء، من ركائز الحيطان كل هذا يخرج؛ من جذور الجبال وأنتم تعرفون أن الجبال لها جذور تحت الأرض كلها تقذفها الأرض. ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ أسرار ثقيلة على القلب، يعني الإنسان إذا كان عنده سر مكتوم يشعر بثقل هذا السر، وإذا قاله لأحد يشعر بأنه خفَّ عنه، أليس كذلك؟ السر ثقيل على الإنسان، هذا تعبير كناية جميل كأن ما في جوف الأرض سر الأرض وثقيل على الأرض فقذفته وارتاحت، كأن هذا الزلزال وهذا التحرك وهذا المنظر الغريب حتى تعبر عن أسرارها وتلقي ما في نفسها.
فإذًا، نحن الآن نتصور الزلزلة، وخروج هذه الجذور والأثقال والأموات، فيطلع منظرًا مفزعًا ومرعبًا جدًا.
فالإنسان النائم، الإنسان الملتهي، الإنسان الغافل يهتز أمام هذا الأمر. ثم يؤكد العجب والفزع بهذه الكلمة ﴿وقال الإنسان ما لها﴾. الإنسان، جنس الإنسان طبيعة الإنسان يلفظ من دون إرادة ما لها؟ ماذا صار؟ يعني حالة تعجب ودهشة أمام هذا المنظر. ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها﴾ حينئذٍ عندما هذا المنظر يهز الإنسان ويتساءل ما لها، والنائم يفيق والسكران ينتبه والغافل يتوجه، بعد هذه اللوحة فورًا يضع القرآن أمام الإنسان هذه الأشياء: ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾. الأرض في هذه الحالة تتحدث وتحكي، تحكي أخبارها، تحكي أنه هنا صارت جريمة، هنا صارت العبادة، هنا صار الخلاف، هنا فلان سرق، هنا فلان قتل، هنا فلان تآمر. كل ما يجري على الأرض، الأرض تقوم تتحدث. غريب هذا... هل الأرض تتحدث؟ نعم، حينما قلنا حسب توصيف القرآن: ﴿وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ﴾ [فصلت، 21]، وهنا نفس العجب هل الأرض تتحدث؟ ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾ الله قال لها. الله أنطقها. الله قال للأرض إحكي إشهدي. فإذًا، لا غرابة في ذلك. ونحن اليوم بعد التقدم العلمي، قلَّ استغرابنا جدًا عن هذه الشهادة وعن هذه الأخبار والحديث. نحن الآن بكل سهولة نقدر أن نفهم ماذا يعني الأرض تحدث أخبارها وتشهد علينا، والأرض تشهد، واليد تشهد، والرجل تشهد، والسمع يشهد، والبصر يشهد، والجلد يشهد، نقدر نفهم بسهولة.
أرجو الانتباه لهذه المقدمة الصغيرة، أنتم تعرفون أن الإنسان حينما يتكلم ما هو السبب في سماعك أنت صوتي؟ قرأتم في الكتب أنتم والحمد لله بأن الصوت عبارة عن قرع في أجهزة الفم، يحدث موجًا، يحدث أمواجًا صوتية، مثلما تحط صخرة في الماء، كيف هذه الصخرة تخلق موجة؟ نفس الشيء عندما أنت تحكي، هذا الحكي يحدث موجة في الجو، هذا الشيء مقرر في الفيزياء. وهذه الموجة قائمة موجودة، وهذه الموجة تسير في كل ثانية ثلاثمئة وأربعين مترًا. يعني شيء ملموس ومشهود ولا شك فيه، يعني أنا الآن أحكي، بعد ثانية صوتي يصل لثلاثمائة وأربعين مترًا بعيدًا عني، وهذه الموجة تمشي بدونها داخل الهواء. فإذًا، كما أن الحجارة في الماء تحدث موجة على سطح الماء، الصوت في الجو يحدث موجة في الجو؛ هذه الأمواج تنبثق وتتوسع فتصل إلى مطرقة سمعك وإلى صماخ سمعك، هذه الموجة تحرك هذا الجلد، هذا الستار، هذا الصماخ، فتسمع صوتي. وهذه الموجة تصل لمسامع الحاضرين فيسمعون، وهذه الموجة تصل لهذين الجهازين الموجودين عندي، فتتحول إلى أمواج كهربائية بالأجهزة الموجودة فتتسجل على هذين الشريطين الموجودين أمامي، واللذين يسجلان كل ما أقول، أليس كذلك؟
ونفس الصوت عندما أنا أحكي بالتلفون في محل الفم، هناك ورقة منسوجة بشكل خفيف، هذه الورقة تهتز بقرعات الصوت فتنزل وتطلع وتعكس على الجهاز الذي يحكي بواسطة الكهرباء صوتًا ينتقل بواسطة الشريط إلى مسامع الشخص الآخر فيسمع صوتي، أليس كذلك؟ والآن عندهم وسائل بأن يحولوا الموج، موج الصوت إلى نور والعكس، يعني العلم اليوم يتصرف بهذه الموجات كشيء عادي، كمادة، يعني، لا شك في ثبوت هذا الشيء.
أنا وقت أتكلم، هذه الأمواج الصوتية التي تسمعها أنت ويسجلها المسجل، وينتقل إلى التلفون، ويتحول إلى نور، هذه الموجة موجة الصوت ألا تصل إلى هذا الحائط؟ ألا تصل إلى هذه الأرض؟ أنت تقدر أن تقول لا تتسجل على الحائط، كيف عرفت أنه لا تتسجل على الحائط. حتمًا ينعكس على الحائط لأنه شيء موجود، لا تقل أن هذا الحائط خشن. فليكن خشن الصوت والموج الصوتي ما بحاجة إلى الخشونة والخفة، من الممكن أن يتسجل على الحائط. ثم هذه الأمواج الصوتية التي تروح إلى أين تروح؟ تنعدم؟ أبدًا. قانون "لافوازييه" يقول لا ينعدم شيء في الوجود ولا يوجد شيء في الوجود. كل شيء ثابت ثابت باقٍ، هذه الأمواج الصوتية موجودة في الجو، فإذًا، أنا الآن بإمكاني أن أقول أن كل الأحاديث التي صدرت مني خلال هذه الفترة بشكل أمواج موجودة في الفضاء وبشكل أمواج انعكست على هذه الحيطان وعلى هذه الأرض، لماذا تتعجب؟ كيف تتسجل هذه الأمواج على هذا الشريط وتتسجل على الأسطوانات ولا تتسجل على الحائط؟ من قال لك لا تتسجل؟ هذه الأصوات تتسجل على سمعك ولا تتسجل على وجهي أنا ووجهك أنت وجلدي أنا وجلدك أنت، تتسجل، لم لا، هذا في الصوت.
أما النور أنتم تعرفون أنه لماذا تروني أنتم، هل تعرفون سبب الرؤية؟ سبب الرؤية، أنا لو كنت الآن في ظلام دامس لا أحد يراني لكن أنا موجود في جو من النور، يعني هذه الأضواء أو الشمس تشرق علي، يعني تصب علي النور وعليكم أيضًا. هذا النور الذي عليَّ فينعكس مثل المرآة، كل لون كما تعلمون يأخذ شيئًا من الألوان، ويعطي بعض الألوان، فيصير انعكاسًا، النور يأتي من هناك ثم ينعكس، فينتشر في الفضاء، فيصل إلى عينك، فتراني، ويصل إلى حائط فيبقى هناك، ويصل إلى كل مكان.
فإذًا، كما أن الأمواج الصوتية تصدر من فمي وتنتشر في الجو، فالأمواج النورية أيضًا تنتشر في الجو وتصل إلى عينك وتصل إلى كاميرا للتصوير، جهاز التصوير. ماذا يحدث بجهاز التصوير؟ النور الصادر المنعكس عني يدخل إلى العدسة فتنعكس على الفيلم الذي عليه دواء للصباغ، فتنعكس صورتي على هذا الفيلم وتظهر، أليس كذلك؟
وهكذا نجد أن الوجود والمنظر أيضًا ينعكس على المجموعة ويتسجل في الأفلام وفي العيون وفي الأوراق، فلماذا لا يتسجل على الحيطان وعلى السقف وعلى المناخ وعلى الأرض وعلى كل شيء
إذًا، ما دام أننا نرى أمامنا التصوير والصباغ في الصورة على التصوير، ونرى أمامنا مسجلات فإذا قالوا لنا أن الشيخ "إسحاق" الآن كل حركة تصدر منه تنعكس على هذه الحيطان، وهذه الأرض، وهذا السقف، وهذه الأجساد، وعلى جسدي، وعلى جسده هو نحن نقدر نصدق هذا. فإذًا، الله سبحانه وتعالى الذي أنطقنا والذي أنطق المسجلة عن طريق ذوق الإنسان، والذي تمكن من إنطاق كل شيء بإمكانه أن ينطق جلدي ويدي وعظمي والأرض والحائط والشجر وكل شيء. ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾ من الذي يتمكن أن ينكر؟
كل هذه الصور والأصوات والحركات تتسجل في كتاب الله، ماذا يعني كتاب الله؟ يعني في كتاب مؤلف هناك؟ لا، الأرض والسماء كتاب الله، ما بين الأرض والسماء، جنود الله وملائكة الله، كل شيء، كل شيء. الفعل والصوت والعمل كما أنه ينعكس على النفس. وهذا باب آخر نحكي فيه إن شاء الله في باب المعاد.
كذلك يتسجل كل عمل وكل فعل. والله سبحانه وتعالى ينطقها يوم القيامة، ولهذا في الحديث أنكم إذا صليتم فصلوا في أماكن متعددة، واجعلوا طريقكم إلى الجامع ذهابًا غير طريقكم إيابًا حتى تشهد لكم الأرض كلها بالصلاح وبالخير والتقوى وإن ذهبت من طريق واحد الأرض أيضًا تشهد لك بالذهاب والإياب، لكن تعبيرات لإفهام الناس والإيحاء للناس يا أخي لا تفكر أنه لا أحد ينتبه إلى جريمتك، يدك تشهد، الأرض التي تقع عليها الجريمة تشهد، أين تُخَبئ؟ وعلى من تُخَبئ؟ ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾.
ثم يعود إلى نفس التصوير فيقول: ﴿يومئذ يصدر الناس أشتاتا﴾، أشتات جمع الشتيتة، يعني متفرقة، صدور الناس ليس بالمظاهرات ولا بالصفوف ولا بالتجمعات المنظمة بل متفرقة من الهول والفزع ثم من التفرق الحقيقي، لأن هذه الأجساد التي تدفن تحت الأرض لا تبقى بالشكل الموجود، فالجسد يتفرق ويتحول أول شيء إلى تراب، وهذا التراب بعد مدة الأحداث الأرضية والخسف والزلازل والحركات، تفرق هذا التراب، فقسم من هذا التراب يروح مع الريح إلى البحر الفلاني، وقسم منها ينتقل إلى الأرض الفلانية، ثم تزرع فيها البذرة فتتحول إلى الشجرة وإلى العلف وإلى أشياء كثيرة، وربما يوم القيامة إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلقني من جديد وأن يعيد إليَّ الجسد من جديد يجب أن يجمع من مختلف أقطار الأرض تتمة من ترابي ويخلقني ويكونني من جديد، كما نحن اليوم، نفس الشيء، فنحن مكوَّنون من عناصر مختلفة. فإذًا، يوم الحشر بالفعل منظر غريب، تصوروا أنه قطعة من الحائط، قطعة من هنا، وقطعة الشجرة، وقطعة من الأرض، وقطعة من هناك، تتجمع وتأتي ويتكون إنسان، شيء غريب سيكون.
يحضر الناس أشتاتًا متفرقين وهائمين وفزعين يقولون: ﴿ما لها﴾؟ لماذا يصدر الإنسان؟ ﴿ليروا أعمالهم﴾ حتى الله سبحانه وتعالى "يري" أعمالهم، طبعًا تعرفون أن الفعل المبني للمجهول يستعمل إذا كان الاهتمام بالفعل دون الفاعل، ﴿ليروا أعمالهم﴾ حتى يريهم، ومن هم الذين يريهم، ليس مهمًا، المهم أنهم هم يرون. ﴿ليروا أعمالهم﴾، ليس في الميدان شيء غير العمل، ﴿ليروا أعمالهم﴾ الناس يصدرون حتى يرون أعمالهم.
﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ يره، ما معنى يره؟ يرى العمل، مثقال ذرة، ذرة ماذا تعني؟ ذرة معناها كما يقولون الهباء المتطاير في الهواء، ذرة التي نراها في خيط من النور، هذه ذرة. والحقيقة أن ذرة تستعمل في هذا لأن العرب الذين وضعوا اللغة العربية ما كانوا يتصورون أصغر من هذا، الذرة متكون من الذر، والذر يعني صغير النملة لأنه كان أصغر الحيوانات عندهم صغار النمل، فالذرة يعني أصغر شيء. لكن الإنسان القديم ما كان يفهم أصغر من الهباء المتطاير في السماء، اليوم نحن نطلق على ATOME ذرة لأنهم في السابق ما كانوا يعرفون ATOME (الذرة) لماذا ما كانوا يعرفون؟ لأن الذرة إسم لكل صغير، لأصغر الأشياء، فنحن سابقًا كنا نقول ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ﴾، مثقال يعني مصدر ميمي من الثقل، مثقال ذرة يعني وزن هذه الذرة كم نيترون باصطلاحنا مهما كانت، لكن اليوم نقدر نزن أصغر من هذا، ذرة، الذرة الموجودة في الجسم، هذا الذي لا يراه الإنسان لا بالعين المجردة ولا بجميع الوسائل التي خلقها إلى الآن الإنسان واخترعها لا يقدر يشوف الذرة التي تدور يعني ATOME أليس كذلك؟ هذه ذرة أيضًا.
﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ﴾، يعني إذا كان عمل الإنسان من الخير أو من الشر بمقدار وزن هذه الذرة يره، ﴿ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾. فإذًا، الحساب ليس للأشياء الكثيرة الكبيرة بل الأشياء الصغيرة الحقيرة ولو كان بمقدار ذرة ووزن ذرة، يراها. فلا تحتقروا الطاعات ولا تستقلوا الصدقات، ولا تستصغروا الذنوب والمعاصي، فإن ﴿من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾. هذا مضمون عدة روايات أنه لا تستصغروا الطاعات ولا تستصغروا الخدمات والصدقات، لا تستصغروا المعاصي والذنوب، فكل شيء مهما كان صغيرًا أو كبيرًا له أثر في حياتكم، وفي معادكم، وفي حسابكم، وفي معاشكم مطلق. فإذًا، هذا التصوير يعطينا تفاعلًا وانعكاسًا وملاقاتنا للعمل يوم القيامة.
هنا ألفت نظركم لشيء، وهو أن ظاهر هذه السورة، بل صريح هذه السورة أننا نرى أعمالنا يوم القيامة، أرجو الانتباه هذا بحث علمي وفلسفي وعقيدة قرآنية حول المعاد. ﴿يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم﴾، ليس جزاء عملهم، ﴿ليروا أعمالهم﴾، يعني سوف ترى نفس عملك، ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره﴾ نفس الذرة تراها، أليس كذلك؟ وهذا أيضًا ما ورد في الآية الأخرى: ﴿يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا﴾ [آل عمران، 30]، ليس جزاء ما عملت من خير محضرًا. لماذا هذا؟ مع أنه في بعض الآيات أننا نرى جزاء عملنا. لماذا القرآن قد يقول نحن نرى عملنا وقد يقول نحن نرى جزاء عملنا؟ لأن الجزاء الإلهي يختلف عن الجزاء الإنساني، الإنسان حينما يضع قوانين المجازاة، الإنسان يجعل الجزاء الإنساني، يقولون السارق يغرم أو يسجن، السرقة عمل ما يختلف عن السجن، السجن حجز حرية الإنسان المواطن في مكان محدود في مدة معينة، أليس هذا هو السجن؟ السرقة تختلف عن هذا، هذا شيء وهذا شيء.
الإنسان وضع قوانين ووضع مجازاة أمام أعمال بأشياء أخرى، مفهوم الكلام؟ اليوم مثلًا إذا واحد ارتكب جريمة، مثلًا جريمة ضرب أو إهانة أو إطلاق نار يغرم بالمال، المال شيء وإطلاق النار شيء، أو يسجن، السجن شيء، وإطلاق النار شيء. وهكذا ترون أن عمل الجريمة يختلف عن عمل المجازاة، هذا شيء وذاك شكل آخر. بينما العمل الإنساني والجزاء الإلهي شيء واحد نحن نجزى بعملنا بنفس عملنا، يعني عملنا في هذه الدنيا له صورة هي نفس العمل له صورة يوم القيامة نجتزي بنفس الشيء. من باب المثل الماء في درجة حرارة معينة أكثر من أربع درجات مثلًا أو فوق الصفر مثلًا، الماء مائع، أليس كذلك؟ إذا نفس الماء أعطيته حرارة حتى بلغت درجة الحرارة إلى مئة، نفس الماء شكله يختلف، ويصير مثل البخار أليس كذلك؟ وإذا نزلت درجة الحرارة تحت الصفر، فنفس الماء يكون شكله جماد، الماء واحد له ثلاثة أشكال في درجات حرارة مختلفة أليس كذلك؟
العمل الواحد، هذا العمل الخير أو عمل الشر هنا له شكل، وفي عالم آخر له شكل آخر، نفس العمل. أذكر لكم مثالًا أقرب إلى الذهن: الفلاح في خلال موسم الزراعة والعمل، يحرث الأرض، ويسقي الحرث، يكافح المرض، يخدم الشجرة، تطلع الثمرة المطلوبة أليس كذلك؟ إذا لم يكافح مرض البرتقالة أو التفاحة، أو الشجرة التي تأتي معيوبة مسوسة باصطلاحنا أليس كذلك؟ هذا السوس من أين أتى؟ لأنه كان موجودًا، كان من المفروض أن يكافح لأنه ما كوفح، ظهر هنا. فإذًا، هذا الرش الذي يرشه الفلاح ينعكس على سلامة هذه الشجرة؛ إذا ما حرث الأرض أو ما أعطاها السماد اللازم، الثمرة تطلع هزيلة، هذا الهزال من أين جاء؟ من نفس العمل، ليل نهار كبر هذا، فكل نشاط وضعه على الأرض، هذه الشجرة نمت درجة أليس كذلك؟ نفس الشيء. فإذًا، العمل عمل الفلاح يتجمع في صندوق الشجرة، وصندوق الثمرة، أليس كذلك؟
مثل واحد، طفل يدخر المال وقت تصير مئة ليرة لا تقدر أن تقول له من أين لك هذا، هو جمعه. الثمرة مثل صندوق العمل، كل نشاط، كل كيماوي، كل رش، كل خدمة كأنه وضع شيئًا بالصندوق، فامتلأ الصندوق، مثال واضح، أليس كذلك؟ هذا الجزاء بالعمل، التلميذ بالامتحان نفس الشيء، المصارع في المسابقة، نفس الشيء هؤلاء يجدون أنفسهم أمام عملهم المصمد في هذا الصندوق. فإذا صمدوا عملًا جيدًا يجدون نفس العمل نفس الأموال التي وضعوها وليس شيئًا آخر. نحن مع الأسف يوم القيامة أمام أعمالنا، فالأعمال التي عملناها نحترق بها يوم القيامة أو نجزى بها يوم القيامة، تقول لي كيف؟ أقول لك أن الإنسان يكون ذاته بأعماله هذا بحث فلسفي أحاول أن أعطيه الشكل البسيط.
باعتبار أنه نحن نقرأ التربية، نقرأ التفسير لا نقرأ فلسفة ولا كلام. الإنسان والأعمال التي تصدر عن الإنسان هي التي تكون ذاتي، أنا طفل، عندما أتيت كنت كطفل كنت مثل المرآة، كنت مثل المادة الخام، كنت مثل المعجونة التي يستعملها الطلاب الصغار في المدارس، أنا وقت كنت طفلًا كنت مثل هذه المعجونة، التربية، ثم عملي أنا وهذا العمل، كل كلمة تغير، هذه المعجونة كل موقف، كل تصرف، كل خطيئة، كل حسنة، تكوَّن هذه المعجونة وتعطيها صورة. فإذًا، أنا صورتي يوم القيامة، ذاتي يوم القيامة ما هي؟ صندوق أعمالي فقد أحشر لا سمح الله يوم القيامة بشكل كلب إذا كانت أعمالي أعمال كلب، وقد أحشر بشكل إنسان، وقد أحشر بشكل آخر، من يدري ما هي صورة الإنسان يوم القيامة!
مثال آخر، الفنان يرسم لوحة، صورة. هذه اللوحة هذه اللوحة هي مجموعة الأقلام التي هو يستعملها ويلون هذه اللوحة أليس كذلك؟ فكل قلم يمد على هذه اللوحة يعطي حالة جديدة لهذه الصورة. فهذه الصورة الفنية التي أمامكم هي مجموعة حركات يد هذا الفنان والألوان التي اختارها، أليس كذلك؟ ونحن نفس الشيء.
فإذًا، نحن ذاتنا هي مجموعة أعمالنا، لوحة ذاتنا مجموعة الخطوط التي رسمناها في أيام الحياة. فإذًا، كل أعمالنا لا تروح هباءً، كما أنها تنعكس على الأرض والسماء والحيطان والجلود أيضًا تكون ذاتنا، فذاتنا خلاصة أعمالنا، وحينئذٍ نحن نحشر بهذه الذات التي هي العذاب الأبدي ولا مقام إلا في النار ومع الشياطين، أو نحشر وصورتنا إنسان، فمقامنا الجنة ونحشر مع الصديقين والشهداء والصالحين.
أنت اليوم إذا تريد أن تعمل عدالة في بيتك تضع الضوء فوق رأسك، وتضع الإبريق النظيف في البراد، وتضع الإبريق للطهارة في المرحاض، وتضع البلاط تحت رجلك فهل ظلمت البلاط؟ لماذا ما وضعت البلاط فوق رأسك؟ لماذا ما وضعت الضوء على المدخل؟ لماذا ما وضعت إبريق الطهارة في غرفة النوم لماذا؟ لماذا الساعة لا تلبسها برجلك؟ لماذا اللفة لا تضعها في ظهرك؟ كل شيء له مكان. أنا يوم القيامة ذات من الذوات لي مكان، أين مكاني؟ متناسب معي فلا ظلم في العذاب، يعني إذا عذبنا الله ما ظلمنا، أعطانا مكاننا بكل احترام تفضل هذا مكانك في المرحاض لأنه إبريق أو تحت الأرجل لأنه بلاط. فأنا أتكون من مجموع أعمالي، هذه المجموعة تكونني وتعطيني الصورة الحقيقية وتحدد محلي في النار، أو في الجنة، أو في درجات الجنة، أو في دركات النار.
فإذًا، نحن نرى عملنا أمامنا ﴿يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا﴾ ]آل عمران، 30[، لا تفكر أن هذه العملية يوم القيامة تكون... الآن موجودة ولكن نحن لا نرى. نحن الآن علينا غطاء إلهي وستر إلهي، وهو هذا الوجه الذي يخبئ في جوفه كل شيء، وفي يوم القيامة ﴿فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديدٌ﴾ [ق، 22] أليس كذلك؟ يوم القيامة نحن نرى، ﴿ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾.
هذا توضيح، نرجع إلى خلاصة الآية، الإنسان الغافل، الإنسان السكران، الإنسان النائم، الإنسان الملتهي بالحياة أول شيء الآية تضربه سوطاً على دماغه يقول: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾، ربما أخبار الأرض هي أثقال الأرض هي أسرار الأرض كما قلنا، ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾، يعني أسرارها، الأسرار التي طالما ثقلت على قلب الأرض.
﴿يومئذٍ تحدث أخبارها﴾، لماذا؟ ﴿بأن ربك أوحى لها﴾، ﴿يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا﴾ إلى هنا تصورنا الواقعة ﴿ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾. أول شيء ضرب ضربة بهذا الشكل حتى يوقظ الناس وينتبهوا ويعطوا سمعهم إلى صوت الله الذي يقول: ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره﴾ فلا ظلم ولا محسوبية ولا احتساب أبدًا أبدًا. ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾، ﴿وان ليس للإنسان الا ما سعى﴾ [النجم، 39].
هذه خلاصة وجيزة من هذه السورة المباركة. في تفسير هذه السورة روايات حول الخيرات الصغار التي قلت أن لا تستصغروا الحسنات، كسرة خبز، شقة تمر، خدمة صغيرة لا توفروها، ولا تستصغروا الحسنات، ولا تحتقروا السيئات؛ كما أن الإنسان في بعض الروايات مفسر بالإمام أمير المؤمنين (س) ولا شك أنه هو الإنسان الكامل. فإذًا، هو مصداق من مصاديق البشر، ونحن كما تعلمون بطريقتنا بالتفسير، الروايات التي تعين مصاديق للآيات الكريمة نحاول أن نقول أن هذه التفسيرات مصداق من الآية، أركان من الآية ﴿وزنوا بالقسطاس المستقيم﴾ [الشعراء، 182] يفسر بـ"علي بن أبي طالب" (ع) نقول أنه هو القسطاس الكامل، هو المقياس الكامل للإنسان. فإذًا، ﴿وقال الإنسان ما لها يومئذٍ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ أعتقد أنه ما عندي شيء، ولا شك أن ما بقي من المعاني العميقة في القرآن أكثر بكثير، وما قلنا إلا نقطة.
وغفر الله لنا ولكم والسلام عليكم.
