البينة

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر
* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسولٌ من الله يتلو صحفًا مطهرةً * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جآءتهم البينة * ومآ أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة* إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزآؤهم عند ربهم جنات عدنٍٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه﴾ [البينة]
صدق الله العظيم
هذه السورة من السور المدنية، أي السور التي نزلت في المدينة، وإن كان بعض الآثار يقول بأن السورة نزلت في مكة. على كل حال هذه السورة المباركة توضح بعض الحقائق الرسالية في صلات الإنسان مع الله وتأثير الدين في حياة الإنسان.
أولًا، يأتي سؤال أو إيضاح من دون سؤال، خلاصة هذا السؤال أو التساؤل أن الدين حسب ما يظهر من كثير من الآيات القرآنية واحد. دين الله لا يختلف، وبناءً على هذا فما هي الحاجة إلى تكرار الأنبياء وتعدد الأنبياء؟ السؤال بوجه عام وبوجه خاص متوجه إلى دعوة رسول الإسلام "محمد" (ص) بأنه أنت يا رسول الله تقول أنك تدعو إلى الإسلام، تقول في أماكن من القرآن أن الإسلام دين "ابراهيم"، ﴿ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل﴾ [الحج، 78] بناءً على هذا، وبناءً على أن الدين واحد والإسلام من شريعة "إبراهيم"، وبناءً على أن عند العرب كان هناك أناس قبل الإسلام، كانوا يسمونهم "حنفاء" حنفاء جمع حنيف، وحنيفي نسبة إلى حنيف أو حنفيًا وهذه الكلمة مشتقة من كلمة حَنَف وحَنْف ومعناها اللغوي أي الميل. حَنَف يعني مال وأنتم تعرفون أن المائل مقابل العامود في الهندسة، فمال معنى حَنَف، ولكن "مال" له معنيان باعتبار الإضافة والتعدي. هناك مال إليه، وهناك مال عنه، مثل رغب، رغب فيه يعني أحبه، رغب عنه يعني أعرض عنه، وهناك بيت معروف:
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن ما عنده مال فعنه الناس قد مالوا
وهكذا، فمال بمعنى مال إليه ومال عنه ولكن حنف غالبًا يستعمل في مال إليه، يعني توجه إليه، وغالبًا يستعمل فيما إذا كان التوجه عن الانحراف، لأن الميل قد يكون عن الانحراف إلى الإستقامة، وقد يكون الميل عن الإستقامة إلى الانحراف. حنف نوع من مال، يعني إذا واحد مال عن الانحراف والاعوجاج وتوجه إلى الاستقامة يقال له حنف. وبالتدريج هذا أصبح معنى لغويًا لحنف. فحنف مع أن المبدأ اللغوي له كان بمعنى مال، ولكن المعنى العرفي العام لكلمة حنف يعني استقام. يعني مال عن الانحراف وتوجه إلى الإستقامة، حنف استقام، حنيف مستقيم أحنف مستقيم بالجسد. ولكن لمن يعرج أو كانت رجله منحرفة يقال أحنف، وأحنف تقال له في الحقيقة تفاؤلًا كما نحن نسمي الأعمى بالبصير، البصير تعبير متفائل عن الأعمى، متعارف هذا، وهكذا في كثير من الاستعمالات يستعمل هذا.
فإذًا، حنيف يعني "مستقيم"، وكانوا يسمون أتباع "إبراهيم" الذين بقوا على ملة "إبراهيم" قبل رسول الله وما انحرفوا وما اعوجوا وما اتخذوا آلهة أصنامًا، هؤلاء كانوا يسمونهم حنفاء؛ لأن العرب كما تعلمون كانوا على دين "إبراهيم" لأنهم أولاد "إبراهيم"، ولكن نتيجة لكثير من التطورات والأغراض والمصالح الخاصة انحرفوا، ومن جملة انحرافاتهم أنهم كانوا يتفاعلون مع الأمم المجاورة، ويتعلمون منهم الزيغ والانحراف. مثلًا يجدون أن القبيلة الفلانية المجاورة تعبد الشمس أو تعبد الصنم الفلاني أو تعبد "هبل"، فكانوا يرغبون إلى هذا الشيء ويهيئون صنمًا يسمونه "هبل" ويضعونه في بيت الله على اعتبار أن هذا شفيع إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذًا، قسم كبير من العرب أو أكثر العرب انحرفوا، ولكن بقي آحاد من الناس مستقيمين ومستمرين على حالة على الدين الإبراهيمي، يعني على الإسلام وهؤلاء كانوا يلقبون بالحنفاء وكانوا موجودين قبل الإسلام، وأجداد النبي من هذا النوع الذين ما عبدوا الأصنام أبدًا، "أبو طالب"، "عبد المطلب" جد النبي، طبعًا "عبد الله"، وما سبق منهم كانوا من الحنفاء وما سجدوا لصنم ولا عبدوا غير الله.
نرجع إلى أصل البحث فما دام الإسلام دين "إبراهيم" وما دام هناك بين الأمة العربية بين العرب قبل الإسلام حنفاء فما هي الحاجة لمجيء نبي جديد، وبحث جديد، وكتاب جديد، ورسالة جديدة، ما هو السبب؟ الآية كأنها تريد أن توضح هذه النقطة، وتؤكد بأن العالم كان بحاجة إلى وجود نبي ورسول. والحقيقة أننا إذا درسنا وضع العالم قبل الإسلام نجد العجب. كما تعلمون أن رسول الله (ص) بعث في القرن السادس من ميلاد المسيح، في هذا الوقت بالذات إذا استعرضنا وضع العالم نجد العجب، وحاولت أنا في محاضرتي في مولد النبي الكريم قبل سنتين أن أحضر صورة مأخوذة من التواريخ من مجموعة العالم أن أوروبا في أية حالة كانت، وآسيا في أية حالة، آسيا الوسطى وآسيا الشرقية وآسيا الغربية وبأية حالة كان الشرق الأوسط؟
في الحقيقة ظلمات بعضها فوق بعض. ما كان هناك أي أثر من الحضارة والدين والتقوى، ما كان هناك أي أثر لعبادة الله بالمعنى الصحيح. كما تعلمون التعاليم المسيحية انحرفت نتيجة للتفاعل مع القبائل المجاورة وبقية الناس، فكثير منهم انحرفوا. وبحدود معلوماتنا انقسموا إلى أقسام كثيرة خمسة أو ستة أقسام أساسية انحرفوا "نسطوريين"، "يعاقبة"، "فريسيين"، "صدوقيين"؛ ورثوا هذه التقسيمات من اليهود وأمثال ذلك. اليهود أيضًا انقسموا ثم بين اليهود والنصارى كان من المعارك والقتلى والإفساد والتشريد والذبح إلى درجة لا تتصور. وضع العالم قبل الإسلام كان مؤسفًا جدًا، يعني كان في ظلمات شديدة أربعة أو خمسة قرون مرت على العالم والوضع متردٍ إلى أبعد الحدود.
في هذا الوقت بعث رسول الله (ص) فالقرآن الكريم يقول: ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة  رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة  فيها كتب قيمة﴾ يعني كون "إبراهيم" مؤسسًا للإسلام ووجود آحاد من الحنفاء بين الناس ومجيء النبي "موسى" والنبي "عيسى" عليهما السلام ودعوتهما للناس ما كانت كافية بدليل الواقع المعاش، لو كانت هذه الدعوات كافية لما كان العالم يعيش في هذا الظلام الذي نحن نعرفه، وذلك لأن الأهواء تغلبت على العقول، والفطرة انحرفت واعوجت فأصبحت البشرية في ظلمات.
فإذًا، لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين عن ضلالهم حتى تأتيهم البينة، ما كان من الممكن أن يهتدي هؤلاء من أهل الكتاب والمشركين وسائر الناس، ما كان من الممكن أن يهتدوا إذا لم يكن هناك من بينة جديدة حتى تجدد دعوة الله بأساليب جديدة، أو بمستوى أرفع يتناسب مع تطور الفكر البشري وعمق التفكير وكثرة الوعي. فإذًا، كان العالم بحاجة ملحة إلى النبي وما كان العالم منفكًا وتاركًا للضلال إذا لم يكن هناك بينة. والبينة رسول من الله يأتي ويتلو صحفًا مطهرة. الصحيفة المطهرة، الطهارة في كل شيء بحسبه طبعًا؛ الطهارة في الجسد من النجاسة، الطهارة في اللسان، من الكذب والزيف بعدم الكذب وعدم الزيف؛ الطهارة في القلب، بعدم الحسد وعدم الحقد وعدم البغضاء. فإذا قلنا الصحيفة المطهرة، يعني الصحيفة التي هي منزهة عن الكذب والضلال والمبالغة والتزييف والتناقض والشكل وسائر الأوساخ التي تتعلق بالصحيفة. الصحيفة المطهرة يعني كان من الضروري وجود رسول ووجود صحيفة مطهرة ﴿فيها كتب قيمة﴾ يعني فيها مواضيع، لأن الكتاب يستعمل في الكتاب ويستعمل في فصول الكتاب، مثلًا في علم الفقه نقرأ كتاب الطهارة، كتاب الصلاة. العالم كان بحاجة إلى رسول وإلى صحيفة مطهرة تكون فيها مواضيع قيمة حتى يهتز العالم ويؤمن العالم. فإذًا، في الآية الأولى أو في هذه الآيات الثلاث الأول يذكر القرآن الكريم بأنه على الرغم من أن الإسلام دين الله ودعا به الأنبياء و"إبراهيم" لأول مرة، ولكن العالم بحكم وبشهادة الواقع كان يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، وكان بحاجة إلى رسول وكتاب ودعوة وإلا ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة﴾ ما كان ممكنًا، هذا القسم الأول.
ثم يأتي هنا سؤال ثانٍ بأنه إذا العالم كان بحاجة إلى الكتاب. فلماذا لومك أيها القرآن لما سبق من أهل الكتاب؟ لماذا تلومهم؟ لماذا توبخهم؟ لماذا تقول: ﴿قد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة﴾ [المائدة، 73]؟ لماذا تعاقبهم على تصرفاتهم؟ ما دامت البينة ما كانت آتية بعد، والبينة جاءت مع "محمد" (ص) فإذًا، من سبق "محمدًا" لا ذنب له لماذا تعاقبهم؟ يؤكد بأنه لا، الجماعة، كانت الحجة دامغة بالنسبة إليهم. ﴿وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة﴾، البينة كانت موجودة سابقًا. الحجة بين الخلق وبين الله كانت موجودة، إنما ما كانت كافية لتأثر البشر، فالله رفقًا بعباده ولطفًا بخلقه بعث بينة جديدة. ثم أن البينة السابقة كانت خاصة بأهل الكتاب، وأهل الكتاب هم حالوا بين العالم وبين كتابهم. فإذًا، التفرق الذي حصل عند أهل الكتاب، انحرافهم عن كتابهم واختلاف بعضهم مع بعض حصل بعد نزول البينة لا قبل نزول البينة. ﴿وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة﴾، فإذًا، البينة كانت موجودة ومع ذلك انحرفوا والعالم عاش في ظلام فاحتاج العالم إلى بينة جديدة مع رسول يحمل ﴿صحفًا مطهرة  فيها كتب قيمة﴾.
هنا، وايضاحًا لما قيل، وتوضيحًا لكلمة بينة، يعني واضحة، ولكن لأنها مبالغة من الوضوح يعطي معنى الايضاح. الشباب قارئون طبعًا في كتاب اللغة، أو في بعض كتب الفقه أن الطهور مبالغة في الطهارة، مثلًا نقول هذا ماء طاهر، يعني طاهر يعني غير نجس، وقد نقول هذا ماء طهور، طهور يعني طهارته كثيرة كثيرة كثيرة، ماذا يعني؟ يعني ليس فقط الماء طاهر لنفسه بل مطهر لغيره أيضًا. المبالغة قد تستعمل في التعدي، الطهارة طهارة، الطاهر مقابل النجس، لكن المبالغة منه تستعمل بشكل متعدٍ يعني ليس فقط الماء طاهر بل ويطهر الأشياء الأخرى.
بينة من هذا النوع، وبان يعني ظهر ووضح، بيِّن لا يعني واضح، يعني موضح، يعني يوضح الشيء الآخر. هنا يأتي توضيح لكلمة البينة التي كررت مرتين، ماذا يعني؟ دعوة الله، الرسول، الكتب، الصحف المطهرة، دائمًا تقول بينة ماذا يعني بينة؟ موضحة، لماذا موضحة؟ موضحة لأي شيء؟ هنا يبدأ القرآن بتوضيح المسألة فيقول أيها الناس دعوة الأنبياء ليست دعوة مخالفة لعقلكم ولذوقكم ولفطرتكم، دعوة الأنبياء دعوة الفطرة والضمير البشري، هذه الفطرة والضمير البشري بحاجة إلى توضيح حتى هذا الضمير يرى وتنكشف أمامه حقائق الأمور، بحاجة إلى ايضاح. وإلا الأنبياء لا ينادون ولا يدعون الناس إلى خلاف فطرتهم وضمائرهم، وأنتم تعلمون أن القرآن الكريم في مرات ومرات يؤكد أن الدين فطرة: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾ [الروم، 30]، ﴿صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة﴾ [البقرة، 138] دائمًا يريد أن يؤكد أن الدين هو فطرتك، ضميرك، أنت مخلوق على أساس قبول الدين، الدين ليس شيئًا ثقيلًا يأتي من الخارج، ويحمل عليك كثقل. لا، كان الدين ضروريًا؛ الدين متناسب مع ضمير الإنسان.
فإذًا، الأنبياء والكتب السماوية شغلهم لايضاح بينة، الإيضاح، يعني يريدون أن يوضحوا للفطرة الجاهلة أو النائمة أو المنحرفة نتيجة للمصالح، يوضحوا لها بأن الدين شيء من صميم ذاتك، لماذا؟ الدين لأي شيء يدعو؟ يدعو بهذه النقاط ﴿وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾. الدين لا ينادي إلى شيء غريب عن الإنسان بل ﴿وما أمروا﴾ تكليفهم بالرسالة، وأمر الله لهم لهذه النقاط الثلاثة. ﴿وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾ يعني يجعلوا دينهم، والدين هنا يستعمل بمعنى الصلة بين الإنسان وبين الله، إلا بأن يجعلوا صلاتهم خالصة لله، يعني لا ينحرفوا عن الخط الكوني، لماذا الخط الكوني؟ ألسنا مخلوقات لله؟ فإذًا، التوجه الذاتي عندنا إلى الله ولماذا نتوجه إلى غير الله، لماذا نعبد غير الله وغير الله صنفان: إما بشر والبشر مثله مثلي فلماذا أعبده؟ وإما موجود غير بشري فقد خلقه الله لي وأنا أرفع منه لماذا أسجد له؟ فإذًا، عبادتي لغير الله تنزيل من مقامي وتشويه لفطرتي وجرح لكرامتي، لماذا أعبد غير الله؟ أعبد البشر؟ مهما كان البشر شخص مثلي. أعبد الشيء والشيء شيء مخلوق لي فلماذا أعبده؟ فإذًا، العبادة لله شرف للإنسان وكمال للإنسان وسمو للإنسان وصيانة لكرامة الإنسان ثم عبادة الله ضرورة خلق الإنسان؛ ما دامت هذه الأضواء الكهربائية تستمد نورها من "الفبركة" فهي مضيئة ما دامت متصلة بالفبركة الأصلية.
نحن معلولات ومخلوقات لله، فالتوجه الذاتي الحقيقي عندنا توجه إلى الله، ما دام ذاتنا وحقيقتنا، أقصد ما أقول بالاصطلاح الفلسفي، ما دامت ذات الإنسان وخلق الإنسان منبثق من الله وشعاع من أشعة الله، لماذا نحن في الحقل العبادي في الأعمال الخارجية نعبد غير الله؟ فلنكن منسجمين مع ذاتنا ما دامت ذاتنا تستمد وجودها من الله فنحن نستمد قوتنا وخضوعنا وتوجهنا من الله سبحانه وتعالى. فإذًا، ﴿وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾ وهذا ذاتيتك وكرامتك وصراطك ﴿ويقيموا الصلاة﴾ وإقامة الصلاة مع الفوائد الكثيرة التي ذكرناها في أكثر من موضع تكريس لعبادة الله وتعويد للخروج عن طاعة من سواه لأن الإنسان، أرجو الانتباه لهذه الكلمة، لأن الإنسان في حياته العادية، نتيجة للحاجات الشكلية والمعاملات الخارجية وتقسيم الأمور والأشغال والكفاءات، قد يرى أنه يحتاج إلى شخص آخر؛ قد يرى أنه محتاج إلى صاحب مال أو صاحب علم أو صاحب قوة، ففي خلال حياته يخيل إليه أنه بحاجة إلى غير الله، في نهارنا خمس مرات نقف للصلاة. وفي الصلاة نخلص، ماذا تعني نخلص؟ يعني جميع أفعالنا وحركاتنا، سكناتنا، أقوالنا، قيامنا، قعودنا لله أليس كذلك في هذه الحالة؟
فنحن في خلال الصلاة بهذه الخمس دقائق نتدرب على الإخلاص لله ومن هذا نستمد ونستعين بالإخلاص في جميع حياتنا. فإذًا، الصلاة تكريس لعبادة الله وتحرير للإنسان وتدريب للإنسان بأن يكون متحررًا في حياته العادية. ويؤتي الزكاة، وإيتاء الزكاة يعني الشخص المتمكن يعطي لغير المتمكن، هذا أساس تكريم المجتمع، أساس حياة المجتمع، لأن المجتمع على أي أساس يقوم؟ لو كان أفراد البشر كلهم متساوون مئة في المئة مثل الأكواب أو مثل زجاجات "البيبسي كولا" مثلًا كل البشر كانوا شكلًا واحدًا، هل كان يتكون هناك مجتمع؟ أبدًا. المجتمع من أي شيء يتكون؟ من الأخذ والعطاء، يعني أنا أستعين بما عندك وأنت تستعين بما عندي، أنا أرفع وحشتي فيك وأنت ترفع وحشتك فيَّ، أنت تأخذ مني الخبز وأنا آخذ منك الزبد، أنت تأخذ مني القوة وأنا آخذ منك الفكر وهكذا... المجتمع يتكون من المبادلة والتعاطي، فإذا كان أفراد البشر متساوين مئة في المئة ما كان هناك بدونها مجتمع.
فإذًا، أساس تكوين المجتمع أن الإنسان صاحب المال يعطي من ماله لغير صاحب المال، الإنسان صاحب القوة يعطي من قوته لغيره، الإنسان صاحب الفكرة يعطي من فكرته، الإنسان صاحب كل كفاءة يعطي من كفاءته، فتتكون المجتمعات. فإذًا، المقصود من الدين خلق مجتمع متكامل متعاون ثم مجتمع مؤمن أبناؤه لا يؤمنون ولا يخضعون إلا لله. وهذا من صميم فطرة الإنسان.
فإذًا، بينة الأديان والأنبياء بينات توضح ما يرغب إليه الإنسان وما يحب الإنسان وما يتمناه الإنسان في حياته، ﴿وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾. حنفاء، حنفاء كما قلنا يعني مستقيمين كما ذكرنا، ﴿ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾ وهذا هو دين القيّمة، طبعًا القيّم معناه واضح، القيّمة مؤنث من كلمة قيم، لماذا دين القيمة؟ قيل: يعني أن دين القيمة يعني دين الملة القيمة، وقال أحدهم أن قيمة جمع قيم بمعنى قائم. دين القائمين، دين المستقيمين، دين الصلحاء. وعلى كل حال، سواء أكان هذا أو ذاك، فالمعنى واضح يعني عبادة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، دين المستقيمين في الطريق، الدين المتناسب مع فطرة الإنسان ولحقيقة الإنسان.
﴿ان الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية﴾ ما دام أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وله حق العبادة على الإنسان، وله فضل العبادة على الإنسان، فضل الخلق، ثم بعث له الدين لصالحه ولمصلحته ولتحريره من الشرك وعن الخضوع أمام مثله أو أمام أقل منه. إنتبهوا، ما دام الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وله فضل الخلق ثم بعث الدين، والغاية من الدين، هي مسألة إصلاح شؤون الإنسان وتحرير الإنسان وكمال الإنسان وسعادة الإنسان ما دام هذا المقصد. فإذًا، الذي لا يؤمن وينحرف هذا شر البرية. شر البرية يعني شر الخليقة. برية مشتق من كلمة برأ. سبحان الله بارئ النسم، خالق، وبرية يعني خليقة، هؤلاء هم شر الخليقة، باعتبار أنهم تنكروا لذاتهم، تناسوا، ناقضوا أنفسهم ذاتهم بذاتهم ثم تنكروا لفضل الله ونعمته وانحرفوا وخضعوا لغير الله سبحانه وتعالى.
﴿ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية﴾ باعتبار أن عملهم منسجم مع ذاتهم، وتحرروا من عبادة غير الله، أصبحوا في درجة سامية، سموا وتحرروا وتقدموا وكانوا في طليعة الخلق.
﴿جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدًا﴾ هذا الجزاء الذي يقال عنه أنه الجزاء المادي، ثم أكثر من هذا ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ هناك نفوس وقلوب لا تقبل ولا تكتفي بالجنات والأنهار والنعمة المادية، فوق ذلك رضى الله ورضاهم عن الله، هذا الجو الطريف الذي تصفه هذه الكلمة المختصرة ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ يعني يعيشون في أسمى درجات الرضى والاكتفاء والسعادة والارتياح. هذه الجنة المعنوية، الرضى المعنوي، النعمة المعنوية مقابل النعمة المادية.
﴿ذلك لمن خشي ربه﴾، هنا نقطة أحب أن أذكر لكم، هذه النقطة أنه في الأحاديث الواردة في التفسير، التفاسير التي هي من مؤلفات الشيعة موجودة بكثرة، لكن اليوم في دراستي لتفسير "الدر المنثور" لـ "جلال الدين السيوطي" وجدت نفس الحديث ينقل عن "ابن عساكر" عن بعض الأصحاب أن الرسول (ص) كان جالسًا مع أصحابه فأقبل "علي" عليه السلام فقال له: "يا علي" أنت وشيعتك هم خير البرية، والرواية وردت في أكثر من تعبير. تعبير خير البرية، أنك أنت وشيعتك ستقبلون على الله راضين مرضيين، عبارة ثانية؛ عبارة ثالثة أنهم على الحوض رواء الغر المحجلين، متوجين؛ عبارات مختلفة موجودة في جميع التفاسير. وبإمكاننا أن نعتبر أن هذا الحديث حديث متواتر من جميع فرق المسلمين. وهذه الفكرة تثبت صحة طريقة أتباع "علي" (ع) ثم تثبت أن التشيع ليس شيئًا مختلقًا بعد رسول الله، وإنما التشيع كان فكرة قائمة في أيام رسول الله، هؤلاء الذين كانوا يتفاعلون مع "علي" ويستفيدون ويدرسون عند "علي" وتعاليم "علي" كانت تؤدي إلى تعمقهم في الإسلام والمفاهيم الإسلامية، وكانوا من كبار الصحابة، هؤلاء كانوا يسمون في أيام رسول الله "شيعة علي". هذه نقطة ولا شك أن هؤلاء خير ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ ولكن نحن كما قلنا أن هذه التفاسير لا تقيد بل هي مصداق.
﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ مصداق له هؤلاء. وإن كان في الإسلام بإمكاننا أن نقول أن الطريق الصحيح هو هذا الطريق ولكن لا شك أن هؤلاء هم أفضل من آمن وعمل صالحًا، فإذًا، هم خير البرية.
النقطة الثانية تناسب تقسيم الناس إلى شر البرية وخير البرية بعد وجود هذه التوضيحات، ورد في كلامنا أن هذه الآية الكريمة تحاول أن تربط بين دعوة الأنبياء وبين مصلحة الناس وأن مصلحة الإنسان المادية والمعنوية في الإيمان بالله. فإذًا، إذا انحرف فقد ظلم نفسه ولا شك بأن الذي يظلم نفسه هو لا يستحق العطف والعناية ولهذا يعبر عنه القرآن الكريم بأنه شر البرية، و﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية﴾.
هذه خلاصة هذه الآيات المباركات في هذه السورة والنقاط التي وجدتها فيها، ولا شك أن ما فيها من النقاط والأبحاث والمعاني أكثر بكثير من المستوى الذي نحن ممكن نصل إليه، وكما قلنا نحن نعتقد أن القرآن كلما تعمق الإنسان فيه يفهم شيئًا جديدًا فإن للقرآن ظهرًا وبطنًا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن وقد فسرنا هذا في أول التفسير بأن القرآن كلام الله ومستواه مستوى عالٍ. فالإنسان بمقدار ما يفكر فيه يكتشف منه اكتشافات جديدة. هذا الشيء الذي وصلنا إليه في هذه العجالة. ونسأل الله التوفيق وغفر الله لنا ولكم.
والسلام.
source
عدد مرات التشغيل : 4