النفاق

الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون﴾ [البقرة، 8 - 9]
صدق الله العظيم
كنّا نتحدث في هذه الأمراض الثلاثة: الكذب والكفر والنفاق، والحقيقة أن النفاق يجمع بين الكفر وبين الكذب، لأن المنافق في نفسه كافر، وفي تعبيره كاذب. إذًا، يجمع في عمله هذا جميع مضار الكذب وجميع مساوئ الكفر. فهو من ناحية كونه كاذبًا يغير ويقلب المقاييس الاجتماعية التي تتحكم في العلاقات الصحيحة، بين أبناء شعب واحد أو أمة واحدة؛ ومن جهة أخرى فهو كافر في ذاته، أيّ منحرف في خطه الأصيل، عن الخط العام وعن الموكب الكبير، الذي يسعى إلى هدف مرموق من الكمال في حياة الأمة.
والنفاق حسب التعبير القرآني، معبر عنه بصور مختلفة، من جملة تلك الصور، هذه الفقرة التي سمعناها، في هذه الليلة المباركة. كما أن الآيات التي استمعنا إليها في الليلة السابقة، تضيف بشكل واسع أبحاثًا وصورًا مختلفة عن النفاق، فتبدأ الآيات بهذه الكلمات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون﴾.
ومن الملاحظ في القرآن الكريم أن هذا المرض، معرض للازدياد والنمو، في حياة الإنسان، وفي نفس الإنسان. والسبب في ذلك أن كلّ مرض نفسي إذا مارس الإنسان مفعوله وآثاره ونتائجه، يزداد في النفس من خير أو شر. فكما أن الإيمان في النفس إذا اقترن مع الممارسة العملية، يزداد وينمو، كذلك الشجاعة والكرم. وبنفس الوقت الصفات السيئة كالحسد والكفر والطمع وبقية الصفات السيئة ومنها النفاق، إذا مارس الإنسان مقتضيات هذه الصفات في عمله، فالصفة تزداد وتتعمق في النفس. ولذلك يقول القرآن الكريم في الآية العاشرة من سورة البقرة: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون﴾ [البقرة، 10]. هذا المرض الذي هو كذب في اللسان وكذب في القلب أو جمع بين الكفر والكذب، مصدره الضعف والخداع. والضعف النفسي الذي وراء الكذب ووراء الكفر أساس المصائب وأساس السيئات.
فالضعف النفسي هو الذي يجعل الإنسان يشعر بحاجته إلى الكذب، أو بحاجته إلى الطمع، أو بحاجته إلى النفاق. فهذه الصور نتائج عن الضعف في الذات الذي يشكل النفاق أبرز صور هذا الضعف. ويضيف القرآن الكريم راسمًا لوحة واضحة عن الإنسان المنافق أو عن الغربة التي يعيشها المنافق في حياة مجتمعه في أمته وحتى مع نفسه ومع ذاته، وأنه كما تحدثنا في الليلة الماضية يعيش جسمًا خاضعًا للقوانين الكونية التي قررها الله سبحانه وتعالى في الحياة. فالقرآن الكريم يشبه المنافق وغربته ويرسم اللوحة بهذه الآيات المعجزات:
﴿مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير﴾ [البقرة، 17 - 20].
أما الأخطار التي يتعرض لها المجتمع من جراء النفاق فكثيرة، يعبر عنها القرآن الكريم خلال هذه الآيات بأخطار ثلاثة، الإفساد والسفاهة والاستهزاء. ففي التعبير الأول "الإفساد" يقول القرآن الكريم: ﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون﴾ [البقرة، 11 -12].
والحقيقة واضحة جدًا، هو أن المجتمع الواحد إذا تعرض للنفاق يتعرض للفساد، وأن المجتمع الواحد قوته كثيرة، أما إذا تعرض للتناقض من الداخل فوجد جماعة من الكفار غير مؤمنين داخل هذا المجتمع، فهذا المجتمع يضعف، وبصورة أولى عندما يتعرض لوجود جماعة من المنافقين، فهم يضعِّفون المجتمع ويقللون طاقاته، ويعرِّضون علاقات المجتمع للفساد والانحراف بالإضافة إلى أنهم يشكلون عنصرًا خطرًا منافقًا يعبرون عن هذا العنصر في عصرنا بالطابور الخامس. فهم يعرِّضون المجتمع للتناقض والتزعزع من الداخل، بل يعرِّضون بقية أبناء المجتمع من الضعفاء للإفساد أيضًا، لأن المرض، مرض النفاق، معدٍ كبقية الأمراض.
والتعبير الثاني "السفه" يقول القرآن الكريم: ﴿وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون﴾ [البقرة، 13].
وسفاهتهم أيضًا حقيقة واضحة، لأن الإيمان يقوي الإنسان فردًا وجماعة، يجند طاقات الإنسان، يوحد جهود الإنسان وينسق طاقات المجتمع، ويشكل من الفرد بطلًا ومن الأمة أمة بطلة. أما إذا لم يؤمن ونافق فهو يضر نفسه ومجتمعه، فمنطقه غير منطق العقل، فهو سفيه.
والحقيقة أن هذا التعبير يذكّرنا بكثير من شؤوننا الاجتماعية المعاصرة، وأن الذين ينافقون ويتحدثون حديثًا جميلًا ولكنهم لا يعملون بمقتضى أحاديثهم، يعتبرون أنفسهم فوق البشر، ويعتبرون وعيهم فوق بقية الناس فهم رغم سفاهتهم يعرِّضون الناس للاستهزاء، وهم أولى للاستهزاء.
وهنا نصل إلى التعبير الثالث "الاستهزاء" عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون﴾ [البقرة، 14 - 15].
ويلخص القرآن الكريم هذه الأوصاف بهذه الكلمة الجميلة الطيبة: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين﴾ [البقرة، 16]. كان بإمكانهم أن يهتدوا وبهداهم يفيدون أنفسهم ويفيدون مجتمعهم ولكنهم نافقوا فباعوا هداهم واشتروا الضلالة بهذا الهدى، فتجارتهم خاسرة، فهم معرضون للمشاكل، للفقر، للجهل، لتناقض المجتمع، لتخلف المجتمع. وهم السبب وبالتالي فهم أول المصدومين بهذه النتائج السيئة التي تحصل نتيجة لوجود النفاق.
والحقيقة أن محاربة القرآن الكريم للنفاق، بالشكل القاسي الذي نلاحظه، يذكرنا بخطورة هذا المرض داخل مجتمعنا، فالكفر أصلح من النفاق، والنفاق في المجتمع مرض لا علاج له إلا القسوة. ولذلك فلا بد لكلّ إنسان، إذا يريد تصليح مجتمعه أن يحارب هذا المرض، وبتعبير آخر، أول خطوة يخطوها الإنسان في سبيل تصحيح أوضاع المجتمع أن يحارب النفاق في نفسه وفي أبناء مجتمعه.
ولا نستغرب إذا قلنا إن هذا المرض متوفر في مجتمعنا مع شديد الأسف، فالنفاق له درجات. فعندما نجد إنسانًا يلتقي بإنسان ويقول له كنّا في شوق إليك وفي نفسه لا يجد أيّ شوق، بل يجد ضده فهذا بداية عمل النفاق. يقولون أن هذه المجالات، كما كانوا يقولون: ﴿إنما نحن مصلحون﴾ [البقرة، 11] ولكن عندما يبدأ النفاق بالكلمة، بالبسمة، بالزيارة، بالمجاملات، بالمديح على المنابر، بالمديح في الشعر، بالمديح في الشهادة، فهذا النفاق مرض يستشري ويزداد، كما يقول القرآن الكريم: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون﴾ [البقرة، 10].
ولذلك فعلى كلّ واحد منا أن يبدأ بمحاربة النفاق في نفسه، فيتجنب أن يقول بغير ما يؤمن، وأن يعبر بغير ما يشعر. وبذلك يتمكن من معالجة نفسه ثم منع السريان إلى الآخرين أو نصيحة الآخرين.
نسأل الله أن يجعل رمضاننا هذا وصومنا هذا وجهادنا وجهدنا هذا سببًا لصفاء نفسنا وقوة قلبنا وبالتالي نجاتنا من النفاق، هذا المرض الخطر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source