بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار* إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير* ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يُوفَ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ [البقرة، 270- 272].
لقد كنّا في الليلة الماضية في الحديث عن الإنفاق بالنفس في سبيل الله، وأن هذا الإنفاق يبعد عن الإنسان خطر التهلكة. والآن نعود إلى الإنفاق بغير النفس، من الإنفاق بالمال، أو الجاه، أو التجربة، أو الصحة أو كلّ ما يملكه الإنسان، كما تؤكد ذلك الآية الكريمة في أول القرآن ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ [البقرة، 3].
قلنا إن الإنفاق في سبيل الله يبعد عن الإنسان خطر الإلقاء في التهلكة، وهذا الترابط في الإنفاق بالنفس اتضح في الحلقة السابقة. والحقيقة أن الترابط بين الأمرين، ثابت في غير الإنفاق بالنفس أيضًا، لأننا إذا أنفقنا في سبيل الله من المال أو من كلّ ما نملك، فقد أبعدنا عن نفسنا وعن مجتمعنا خطر التهلكة. والتهلكة في هذا الفهم هي التهلكة الاجتماعية، والعقد التي تحصل في المجتمعات. فالمجتمعات تتعقد وتتناقض، وتنفجر وتحصل الثورات والصعوبات، وتتعقد الأنفس نتيجة للظلم الاجتماعي، ونتيجة للتفاوت الطبقي، ونتيجة لاحتكار بعض من أبناء المجتمع خيرات المجتمع جميعها، أو احتقارهم واغتصابهم لحقوق الآخرين.
عندما يحصل في المجتمع انفجار، فالانفجار يعود إلى مشاعر القلق والعقدة التي تنمو في نفوس الطبقات الكادحة. والطبقات الكادحة إنما تُحرم نتيجة للوضع الاجتماعي المسيطر على المجتمع. فإذا شعرت الطبقات المرفهة بوجود هذا الفرق وبضرورة المساعدة والإنفاق والإحسان فبعملها ترفع مستوى الطبقات الكادحة أولًا، وبذلك تمكّن تلك الطبقات من المشاركة في الحياة الاجتماعية، وبالتالي من رفع مستوى الحياة الاجتماعية التي يتمتع بها المحسِن والمحسَن إليه على حدّ سواء. وهذا مفهوم قوله تعالى في الآيات التي قرأناها في هذه الليلة المباركة: ﴿وما تنفقوا من خير فلأنفسكم﴾، وقوله تعالى: ﴿وما تنفقوا من خير يوف إليكم﴾.
فمعنى الكلمتين أن المحسن إذا أحسن إلى الطبقات الكادحة عن طريق الإنفاق الفردي، أو الإنفاق الجماعي، أو وضع نظام يؤمن الحياة السعيدة للطبقات الكادحة، بذلك يشركهم في تحمل المسؤولية وفي رفع مستوى الحياة الاجتماعية، فيتمتع الجميع بهذا المستوى، ويكون خير للمحسِن وللمحسَن إليه، يوفى إليه الخير كما يوفى إلى الآخرين.
ومن جانب آخر، امتناعه عن هذا الإحسان يجعل العقدة نامية في نفوس الكادحين، فيبعدهم أولًا عن المشاركة في رفع حياة المجتمع، وبذلك يشارك في إبقاء مستوى المجتمع نازلًا، فيخسر هو قبل أن يخسر الآخرون.
ثم ابتعاده عن الآخرين في المشاركة، يلقيه في العقد النفسية وفي الأمراض التي تنتج عن الفقر والأمراض النفسية والمادية التي تحصل نتيجة للضعف والكدح والفقر، ولا تبقى مقتصرة على أولاد الفقراء، بل تسري وتتعدى إلى جميع أبناء المجتمع، فيعود الضرر إلى الجميع.
والعقد النفسية المتراكمة في الطبقات الكادحة النابعة عن الظلم الاجتماعي تؤدي إلى الأحقاد، وإلى تراكم الأحقاد، وإلى التذمر، وبالتالي إلى الثورة والانفجار من الداخل، فيعرّض المجتمع والإنسان الذي امتنع عن الإحسان إلى التهلكة.
فقوله تعالى: ﴿أنفقوا في سبيل الله﴾ [البقرة، 195]. نتيجته الطبيعية أن عدم الإنفاق، إلقاء للنفس في التهلكة، وهذا هو المفهوم من الآية الكريمة، ونتيجة الآية الكريمة ﴿وما تنفقوا من خير يوفَ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾. فالامتناع عن الإنفاق يؤدي إلى الظلم الاجتماعي، الذي يعود إلى الممتنع عن الإحسان قبل أن يعود إلى من امتنع عن الإحسان إليه. كما أن إلقاءه في التهلكة، هو نتيجة طبيعية من الامتناع عن الإحسان لأنه يعرض المجتمع للتهلكة.
هذا المفهوم من الإنفاق، إن الإنفاق يرفع مستوى الحياة الاجتماعية، ويعمم الخير ومشاعر الخير، والإمتناع عنه يعرض المجتمع للظلم والتهلكة الاجتماعية، والعقد والأمراض، هو مفهوم آخر ما عدا جزاء الله في الآخرة.
ونحن نعتقد كما يؤكد لنا القرآن الكريم، أن جزاء الله خير وأبقى وما عند الله أوفى.
فالإحسان إلى المتعبين، بالصورة الفردية أو بالصورة الجماعية، له نتائج في هذه الحياة إلى جانب نتائجه في تلك الحياة والحياة الآخرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
