الإسراء -2-

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾ [الإسراء، 1]
صدق الله العظيم
وقبل أن نطرق البحث في هذه الآية المباركة، علينا أن نشير إلى نقاط مهمة أيضًا، رغم عدم إمكاننا الإحاطة الكاملة بكتاب الله وبآياته، ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك جله.
أولًا: إن معجزة الإسراء العظيمة، وهي إرادة الله، وتشريفه لعبده، قد حصلت باسم عبده. والعبادة هي مصدر هذا الكمال، دون سائر الصفات البشرية والصفات النبوية التي كان النبي يتحلى بها. فالعبادة معنىً، تختلف عن العبودية، بل هي أقرب إلى التحرر، وهي منتهى الكمال. ذلك أن العبادة، هي في مصطلح الفقه: كل عمل حسن عند الله، يؤتى به بقصد التقرب إلى الله.
فالعبادة ذات ركنين: الأول، هو أن يكون العمل حسنًا عند الله. وعندما، نأخذ بعين الاعتبار مفهوم قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني﴾ [فاطر، 15]، ندرك أن العمل الحسن عند الله، ليس هو ما ينفع الله، بل هو ما ينفع الخلق نفعًا حقيقيًا. ينفع عامل ذلك العمل أو الآخرين، أو هما معًا. فالعمل الحسن عند الله، هو كل ما يرفع الإنسان، ويزيد في كماله الحقيقي. والكمال الحقيقي للإنسان، هو التقدم الذي يحرزه في إطاره الواقعي، بوصفه فردًا، أو بوصفه جزءًا من الجماعة، أو بوصفه موجودًا في هذا الكون الكبير. وهذا الكمال يحصل من خلال اتصاف الإنسان بصفات كمالية كالعلم، والمعرفة، والرحمة، والعزة، والحب، والصدق وغير ذلك من الأوصاف.
أما الركن الثاني للعبادة، فهو قصد القربة إلى الله. وإذا لاحظنا أن الله لا مكان له، في رأي الإسلام، نعرف أن التقرب إليه، ليس بالمكان. وكذلك عندما أدركنا أن الله ﴿ليس كمثله شيء﴾ [الشورى، 11] حسب الرأي القرآني، ندرك أيضًا، أن أي مفهوم للقرب إلى الله، لا يمكن أن يخضع لاعتبارات الزمان والشكل والنسب.
فالحقيقة أن الأحاديث الشريفة أوضحت مفهوم القرب من الله، حيث أوردت لنا هذا التعليم المبارك، قائلة: "تخلقوا بأخلاق الله"[1]. لذلك، فإننا نفهم كلمة التقرب بمعنى التخلق، لا التشابه ولا التماثل. وعلى هذا، فمفهوم التقرب إلى الله في العبادة، يعني أن يكون الدافع منها التخلق بأخلاق الله. وأخلاق الله صفات معروفة، سامية، يستثنى منها ما هو مختص بالذات الإلهية، ويقتبس منها الصفات الأخرى من علم، ورحمة وعدل، وعزة، وجمال وغير ذلك.
وهنا يلتقي ركنا العبادة، حيث إن العبادة عمل حسن عند الله، وتصدر بدافع التقرب من الله. وهذا يعني أن العبادة، أي عبادة، خطوة في سبيل الكمال الإنساني، وهي في نفس الوقت تحرر من الجمود والتخلف. فالعبادات كلها، هي وسيلة للغايات السامية، وهي تبعد الإنسان عن الغرور والأنانية، أو البخل، أو الجهل، أو الكسل أو غير ذلك.
فالعبادة تحرر الإنسان من القيود الحقيقية التي عاشها الإنسان المتخلف. ولنعيد إلى ذاكرتنا قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات، 56]. ونتذكر أن التفاسير الواردة عن الرسول الأكرم، تفسر لنا أن معنى "ليعبدون" هو ليعرفون، يعني أن المعرفة سبيلها العبادة، وأن العبادة سبيل المعرفة.
وبعد هذا البحث نرى البعد التربوي الذي يستشم من هذه الكلمة المباركة، كلمة "عبده" في هذه الآية، وأن العبادة هي التي جعلت "محمدًا" لائقًا بهذا التشريف الإلهي، وهو الانتقال المعجز من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وما وراء ذلك من معاني العالمية والإنسانية الشاملة. ومن الطبيعي أن عكس السبب يؤدي إلى قلب النتائج، وبالتعبير الفلسفي نفي العلة يؤدي إلى نفي المعلول. وها نحن أمام ظاهرة الطغيان والكبرياء، ورفع العبادة بركنيها، الإساءة، ونية الإساءة. والنتائج هي ما نشاهدها في الذين سكنوا واحتلوا المسجد الأقصى، والأبعاد البعيدة وهي ليست ببعيدة لأعمالهم ولطغيانهم، ستكون الإنحسار، والتقلص والعودة إلى غطاء الأنانية الضيقة. وإلى هذه الحقيقة، تشير الآيات التي تلوناها في الحلقات السابقة، سيما هذه الجملة ﴿فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار﴾ [الإسراء، 5]، وهذه الآية: ﴿فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرًا﴾ [الإسراء، 7]، وهذه الآية: ﴿وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا﴾ [الإسراء، 8]. صدق الله العظيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
________________________________
[1] - بحار الأنوار، ج58، ص129.

source
عدد مرات التشغيل : 1