* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآتٍ وهو السميع العليم* ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين﴾ [العنكبوت، 1-6]
صدق الله العظيم
لقد تحدثنا في الحلقة السابقة من هذه السورة المباركة التي سميت باسم سورة العنكبوت لأن هذه الكلمة وردت ضمن السورة.
تحدثنا عن الآيتين الأوليتين من هذه السورة اللتين تتحدثان عن الافتتان، وتحدثنا عن الافتتان والابتلاء والامتحان ومعاني هذه الكلمات في القرآن الكريم، ثم نصل إلى هذه الآية: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآتٍ وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين﴾. هذه الآيات تؤكد على نقطتين مهمتين في حياة الإنسان:
النقطة الأولى: الفكرة التي تقول أن الإنسان الذي يرتكب السيئات، ويمارس الملذات والشهوات، يفكر هذا الإنسان، أنه نجح وتوفق في اغتنام حياته، وفي استغلال ساعة من عيشه. هذا الخطأ الكبير الذي يفكر أن منع الله الناس عن بعض السيئات، لسببٍ يعود إلى الله، حاشاه، ﴿إن الله لغني عن العالمين﴾، كما تقول الآية الكريمة. الأوامر والنواهي التي توجه إلى الناس، جميعها في مصلحة الناس. فلا يجوز لمن يعمل السيئات أن يفكر بأنه سبق واغتنم وفاز، والذي لم يتوفق لممارسة ملذاته ورغباته وشهواته يعد نفسه محرومًا.
"جلال الدين الرومي"، أحد كبار علماء الإسلام، يتحدث في ديوانه عن قصة تتناسب لإيضاح هذه الفكرة يقول:
في الأزمنة السابقة حينما كان الناس يستعملون الحجارة أو الطين لأجل التوزين، بدلًا من الأوزان الحديثة الدقيقة المعاصرة، في تلك الأزمان، جاء رجل كان مبتلىً بمرض أكل التراب أو الطين، جاء لكي يشتري من محل كمية من السكر، فطلب كمية من السكر، فوضع صاحب الدكان وزنة من الطين في كفة من الميزان، وذهب لكي يأتي بكمية من السكر. اغتنم المشتري غياب صاحب الدكان، فأكل قطعة من الطين "الوزنة"، فانتبه صاحب الدكان. ولذلك بدأ يكرر ذهابه وإيابه حتى يوفر للمشتري وقتًا للمزيد من أكل الطين، لأنه بالنتيجة يقلل الوزنة التي يوزن بها السكر. وبالنتيجة أيضًا، المشتري يظن أنه اغتنم الفرصة فأكل شيئًا يلتذ به، وهو أكل من حصته وقلل وزن سكره، وبالتالي دفع مالًا أكثر مما أخذ السكر.
ثم يقول أن الإنسان الذي يغتنم الفرص لكي يرتكب المعاصي يشبه إلى حد كبير هذا الإنسان. نحن نفكر أننا بممارستنا للسيئات، اغتنمنا الفرص. ولكن في الحقيقة، السيئات والمعاصي التي نُهِيْنَا عنها ليست من مصلحة الإنسان، بل تؤدي إلى انحرافات شخصية أو اجتماعية. ومن هنا نصل إلى هذه النتيجة:
إن جميع ما حُرِّم من قبل الأديان، ليست هذه المحرمات تضييقًا على الإنسان، وإنما صيانة للإنسان، وترفع للإنسان ومحاولة للمحافظة على سلامة النفس والفكر والجسد للإنسان. ما عدا أن قضية الحلال والحرام تجعل الإنسان يترفع عن بيئته، فلا يذوب في الطبيعة، ويصلح أن يكون خليفة الله، لا ظاهرة أرضية سهلة.
وبهذا المعنى، تستمر الآيات: ﴿ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه﴾ كما قرأنا: ﴿أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون﴾. ويلخص القرآن النتيجة، في قوله تعالى: ﴿إن الله لغني عن العالمين﴾. فلا الذين يرتكبون المعاصي هم الذين اغتنموا الفرص، ولا الذين قاموا بواجباتهم وجهادهم خسروا وحُرِموا من الملذات، بل جاهدوا لأنفسهم، وارتفعوا، وكوَّنوا كيانًا ذاتيًا وكيانًا اجتماعيًا منيعًا.
والنقطة الثانية: التي من الممكن المطالعة والتأكيد عليها، هي النقطة التي تُفْهَم من كلمة "يسبقونا". ومعنى ذلك أن الظالمين أو الأعداء الذين هيأوا وسائل الظلم قبل المؤمنين، والذين تآمروا على الإنسان، وعلى سلامة الإنسان في الخفاء فلا يظنن الإنسان الذي عمل السيء أنه قد سبقنا، وأنه قام بهذا العمل في معزل وفي غفلة عن الله سبحانه وتعالى. فلا يمكن ذلك، فالظلم لا يدوم. والإنسان المؤمن والإنسان الصحيح بمجرد ما يواجه الظلم حتى ولو انتكس، وتأخر بعض الشيء فسوف يعود، لأن نشاط الإنسان المؤمن هو النشاط المنسجم مع الكون والخالد في العالم.
أما نشاط الذين يعملون السيئات، حتى لو سبقوا المؤمنين، فليس نشاطًا منسجمًا مع حقيقة الكون، بل إنه حركة ضد الأمواج الكونية والتيار الكوني. فهي، هذه النشاطات، محكومة بالفناء. وهكذا، وضْعُنا مع أعدائنا. وهذا المعنى يُفْهَمُ بصورة واضحة من الآيات التي وردت في "واقعة بدر" حينما نقرأ:
﴿ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون * وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾ [الأنفال، 59-60].
فلا الذي قام بالمعصية كان ناجحًا لأنه اغتنم الفرص، ولا الذي قام بالظلم وهيأ للاعتداء والمؤامرة، سبق المؤمنين وتغلب عليهم؛ فكل منهم محكوم بالفشل، لأن السماء والأرض خلقتا على أساس الحق والعدل. وما أمر الله تعالى وما نهى عنه، فجميع ذلك في مصلحة الإنسان. والله غني عن العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
