بسم الله الرحمن الرحيم
﴿حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم﴾ [الدخان، 1-6]
صدق الله العظيم
هذه الآيات في سورة الدخان، وسورة الدخان تسمى بهذا الاسم لأنه ورد في هذه السورة كلمة الدخان، وهذه السورة من السور التي تُتلى في ليلة القدر، والآيات الأُول التي تلوناها تبين بوضوح أن السورة تهتم بموضوع ليلة القدر. ولذلك فمن الأفضل أن نتحدث في مفهوم ليلة القدر، سيما أن الموضوع غامض، وأصبح في نفوس الجماهير من المسلمين سر من الأسرار.
هذه السورة تبين معنىً لليلة القدر يختلف عن المعنى الشائع، لأنها تقول: ﴿إنا أنزلناه﴾ أيّ إنا أنزلنا القرآن ﴿في ليلة مباركة﴾، وفي سورة ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ [القدر، 1] تؤكد السورة أن القرآن أُنْزِل في ليلة القدر. فإذًا، الليلة المباركة هي ليلة القدر التي أُنْزِل فيها القرآن الكريم.
هذه الآيات تفسر معنىً لليلة القدر، هو التالي: ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن، والقرآن فيه تبيان لكلّ شيء، وتوضيح للحلال والحرام، والصحيح والفاسد، وتوضيح للحقائق الشرعية، وتحديد لجميع القيم الغيبية، والمفاهيم والتعاليم السماوية.
﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين﴾، هذه الجملة، كالحال بالنسبة إلى الجملة السابقة. ومعنى الجملة: أننا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، في الليلة المباركة، في حال كنّا فيها منذرين، يعني بصدد الإنذار، لا بصدد الخلق والتكوين، بل بصدد الإنذار؛ يعني كنّا بصدد تشريع ما لا يجوز، وتشريع المحرمات.
﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾، جميع الأمور المحكمة الثابتة تتضح في هذه الليلة. ما هو الأمر المحكم؟
﴿أمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين﴾، أيضًا الجملة كالحال بالنسبة إلى ما سبق، يعني في حال كنّا مرسلين، وبصدد إرسال التعاليم الدينية والأحكام الإسلامية، كنّا نبعث هذه الأمور المحكمة.
فملخص معنى هذه الآيات: أننا في حالة الإنذار، وفي حالة إرسال الرسل، وفي حالة الرحمة من الله، أنزلنا القرآن الكريم في الليلة المباركة. فليلة القدر، وهي ليلة مباركة، في الحقيقة ليلة توضيح أبعاد كلّ شيء، ليلة نزول القرآن، أو بالتعبير المعاصر ليلة الدستور. ولذلك، فعندما يحتفل المسلمون بليلة القدر، تحتفل الأمة بذكريات أعز ليلة من ليالي تاريخها. ليلة نُزِّلَ فيها القرآن الكريم، وحُدِّد للأمة كلّ شيء، واتضح لها الطريق.
وعندما نحتفل بهذه الليلة، ففي الحقيقة، نجدد عهدنا بهذه الليلة. ونضع أمامنا صورًا جديدة عن نزول القرآن لكي نحاسب أنفسنا للماضي، ونأخذ خطًا وتصميمًا للمستقبل.
ولكن في الروايات الواردة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن ليلة القدر باقية في هذه الأمة حتى القيامة. ومعنى هذه الأحاديث، أن ليلة القدر لها معنى آخر، غير معنى نزول القرآن. القرآن أُنْزِلَ في ليلة القدر، ولكن هناك شيء آخر أيضًا في هذه الليلة المباركة. فما هو ذلك الشيء أيّها المحتفلون، وأيّها المؤمنون بهذه الليلة المباركة؟ وما أُنْزِلَ في هذه الليلة المباركة؟
أعتقد أن معنى ليلة القدر يرتبط إلى حد بعيد، بمفهوم الصيام في شهر رمضان. فإذا لاحظنا أن الصيام تحضير للإنسان الصائم، حيث إنه في الدرجة الأولى، يجعل الحجب مرتفعة أمام عيون عقله. فيجعله يرى، ويفكر، ويتعلم، ويفهم بصورة أكثر من الأيام التي يُكْثِرُ فيها الأكل. ومن ناحية ثانية، الصيام يجعل الإنسان متحسسًا بآلام الآخرين، وهكذا يجعل عاطفته أرهف وأكثر إدراكًا وشمولًا.
ومن ناحية ثالثة، الصيام يُكوِّن نوعًا من التدريب والصمود في نفس الإنسان حيث أنه يقف أمام مشتهياته، وأمام المغريات وأمام الصعوبات، وبالتالي يتزود بالصبر. وللصبر مع الصيام علاقة طويلة، والقرآن الكريم في بعض الآيات يكني عن الصيام بالصبر. فيقول في الآية الكريمة: ﴿استعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة، 153]، فالصبر مفهومه في الأحاديث، هو الصيام.
وإذا لاحظنا، أن الصيام يعطي للإنسان الصائم، هذه الميزات الثلاث: فهم أكثر، وتحسس أكثر، وصبر أكثر. وهذه العناصر الثلاثة هي في الحقيقة، وسائل لاتخاذ الإنسان تصميمًا لمستقبله، ولتقرير مصيره. فالإنسان الذي يصوم، وخلال صومه يرى رؤية أوضح، ويتحسس بآلام مجتمعه بصورة أكثر، ويتزود بالصبر لمتابعة الطريق، فهذا الإنسان هو الذي يتمكن من اتخاذ تصميم ووضع منهاج لمستقبله، يقرر مصيره من خلال هذا التصميم.
فإذًا، شهر رمضان، فترة التدريب، الذي يقرر مصير الإنسان. ومعنى ذلك، أن مصير الإنسان خلال السنة القادمة، يتقرر حسب التخطيط الذي يوضع في شهر رمضان، في قلب المؤمن، وفي الدرجة التي يصل إليها المؤمن. ومعنى ذلك، أن شهر رمضان فترة التدريب. وبالنتيجة، فأيام القَدْر، حينما يبلغ الإنسان في هذه الفترة التدريبية، درجة كاملة. وهذه الدرجة بطبيعة الحال، يصل إليها الإنسان في العشر الأخيرة عند نهاية شهر رمضان. ولذلك، فهناك كثير من الروايات، تؤكد أن ليلة القدر موجودة في إحدى الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان. وفي بعض الروايات، أن لكلّ إنسان ليلة قدر تختلف عن ليلة إنسان آخر. وهذه المعاني تنطبق تمامًا على المفهوم الذي اكتسبنا من العلاقة بين ليلة القدر وبين الصيام.
وهناك معنًى آخر يرتبط بمفهوم الدعاء. فإذا لاحظنا آيات الصيام في شهر رمضان نجد أن القرآن الكريم يجعل آية الدعاء ضمن آيات الصيام: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ﴾ [البقرة، 186]. هذه الآية في وسط آيات الصيام، فهناك تظهر علاقة واضحة بين الدعاء واستجابة الدعاء، وبين الصيام.
ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يرى رؤية أوضح، ويشعر ويتحسس إحساسًا أكثر، وبالتالي عقله وقلبه، يتنوران بنور الإيمان، فهو أقرب إلى الله، ودعاؤه مستجاب. ولا شك أن الدعاء له تأثير كبير في مصير الإنسان، وفي تقرير هذا المصير.
فإذًا، شهر رمضان، فترة لاستجابة الدعاء. والدعاء في هذه الحالة، حالة صفاء القلب، حالة ابتعاد الإنسان عن الأحقاد، حالة رؤية الإنسان، حالة تحسس الإنسان، حالة صبر الإنسان.
في هذه الحالات، شروط الدعاء تتوفر ودعاء الإنسان يستجاب، وبالتالي، شهر رمضاننا يؤثر في مصيرنا. وهذا المعنى أيضًا، ينطبق على المعنى الثاني، باعتبار أن وصول الإنسان درجة عالية من مقام استجابة دعائه، يكون عادة في العشر الأخيرة، حيث مرت عليه فترة طويلة من الصيام.
وهكذا، نصل إلى بعض معانٍ جديدة لليلة القدر مستمرة في هذه الأمة، ويمكن أن يكون لليلة القدر معانٍ أخرى، وعلمها عند الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________________
* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
