الضحى والشرح

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿والضحى* والليل إذا سجى* ما ودعك ربك وما قلى* وللآخرة خير لك من الأولى* ولسوف يعطيك ربك فترضى* ألم يجدك يتيمًا فآوى* ووجدك ضالًا فهدى* ووجدك عائلًا فأغنى* فأما اليتيم فلا تقهر* وأما السائل فلا تنهر* وأما بنعمة ربك فحدث﴾ [الضحى]

صدق الله العظيم
هذه السورة المباركة والسورة التي تليها سورة الإنشراح المبدوءة بالآية الكريمة: ﴿ألم نشرح لك صدرك﴾ [الشرح، 1]، لهذه السورة قصة طريفة، وهي أن الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام، كان ينتظر الوحي الإلهي لكي يبلغ الناس، والوحي كان يأتيه متتاليًا منظمًا في كل وقت. وفي بعض الأوقات مرت عليه أربعون يومًا انقطع عنه الوحي، فشعر بالاضطراب والقلق الشديد. والسبب في ذلك، أن رسول الله "محمد بن عبد الله" (ص) في الحقيقة، كان يتحدى العالم أجمع. فهو كان يتحدى الناس في نظامهم الاجتماعي والإقتصادي، وفي نظامهم السياسي، وفي عقائدهم، وأخلاقهم وسلوكهم.
كان يتحدى العرب وغير العرب، ولم يكن له من حليف ولا حامٍ غير الله. كان له حماة من القبيلة ومن عشيرته، ولكنه لم يكن له حامٍ ودافع فكري وروحي. ولذلك فهو كان يستأنس بالوحي، ويتقوى به، ويشعر بالقوة والراحة والصمود عندما يوحى إليه. حتى إذا انقطع الوحي عنه شعر بالقلق، لأنه وجد أنه منقطع أمام العالم وأمام تحديات العالم. فشعر بقلق شديد، واستمر القلق حتى تعذب عذابًا شديدًا.
ولعل السبب في انقطاع الوحي، كان سببًا تربويًا، يقصد بذلك، التأكيد على الرسول الأكرم، أن الوحي ليس منه، وأنه من الله. والتأكيد على الناس، بأن الوحي ليس من صنع "محمد"، وإنما هو من الله سبحانه وتعالى، تربية له وللناس.
استمر العذاب مدة طويلة، ثم نزلت هذه السورة المباركة، بهذه البداية الدافئة ﴿والضحى﴾ اليمين بالضحى، والوقت المناسب المشرق الدافي من النهار، ﴿والليل إذا سجى﴾ واليمين بظلام الليل، المناسب الملائم، الذي هو سبب الراحة والاطمئنان للإنسان. اليمين بالليل والنهار، وبالحالات الملائمة الناعمة في الليل والنهار.
﴿ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾، ثم يؤكد بعد هذه التسلية اللطيفة الإلهية، يؤكد له، أننا لا يمكن أن نقطعك، وقد وجدناك يتيمًا فآويناك، ووجدناك جاهلًا فهديناك، ووجدناك فقيرًا فأغنيناك. ولذلك، فنعمتنا كانت مستمرة منذ الطفولة إلى اليوم، فلا يمكن أن ننساك.
ثم يؤكد عليه بأننا أمام هذه النعم، نطلب منك شكرًا عمليًا يكون بمستوى النعمة. فوجدناك يتيمًا وآويناك، ولذلك عليك أن لا تقهر اليتيم. ووجدناك ضالًا، أي جاهلًا فهديناك، ولذلك فعليك أن لا ترد سائل العلم فتعلمه كما علمك الله. ووجدناك فقيرًا عائلًا فأغنيناك، ولذلك عليك أن تشكر نعم الله وتتحدث لسانًا وعملًا بنعمة الله سبحانه وتعالى حتى يكون هذا شكر نعمتك.
وهنا علينا أن ننتبه إلى نقطة طريفة، وهي أن سبب تذكير الرسول بأنه كان يتيمًا، سبب تربوي أيضًا.
فالرسول كقائد أمة عليه أن يلمس آلام الناس، ومتاعب الناس ومشاكل الناس. ولمس هذه المتاعب، والصعوبات بالتفكير التجريدي يختلف عن الإحساس المباشر. فالزعيم الذي كان يتيمًا، وكان جاهلًا، وكان فقيرًا فتحسن وتغلب بعناية من الله، فهو يشعر بآلام الأيتام، ومشاكل الجاهلين ومصائب المعذبين في الأرض. أما الذين لا يشعرون بهذه المشاعر فعليهم أن ينتبهوا إلى هذه الحقائق الموجودة في داخل الناس حتى لا يترفعوا عنهم، وحتى لا يتجاهلوا واقعهم.
وللقرآن الكريم أيضًا، أسلوب طريف في هذه النقطة، عندما يجد الإنسان القائد، وكل إنسان راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، يجد القرآن الكريم أن الإنسان الذي لم يكن يتيمًا أو فقيرًا أنه قد لا ينتبه إلى آلام الناس، فيخاطبه بالآية الكريمة: ﴿وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولًا سديدًا﴾ [النساء، 9]، مؤكدًا أن الإنسان ولو لم يكن يتيمًا، ولكنه يخاف من أن يصبح أولاده يتامى.
وهذا الشعور يهز مشاعر الإنسان ويدفعه إلى أن يساعد الأيتام وأن يكون وسيلة اجتماعية لإيواء الأيتام ولخدمة الأيتام، حتى إذا صادف وأصبح أولاده يتامى، الموجة الخيرة والمؤسسات الحسنة تأوي أيتامه، وتصلح شأنهم ولا تهملهم.
وتتابع السورة المباركة، سورة أخرى، سورة الإنشراح، والتي قال فقهاؤنا أنها وسورة الضحى سورة واحدة، لا يجوز الاكتفاء بإحداهما في الصلاة. وسورة الإنشراح أيضًا، استمرار لهذا الرفق الإلهي والتسلية الإلهية لقلب رسول الله ومزيد من الأمل والثقة:
﴿ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرًا * إن مع العسر يسرًا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب﴾ [الشرح].
فكن يا "محمد" بأمل كبير وبثقة بأن الله معك، يجب عليك أن تتحسس آلام الآخرين، وتعرف أن مع كل مصيبة، سهولة ويسر. ولذلك فعليك أن تستمر في الجهاد والسعي معتمدًا على الله، متكلًا عليه. فلا يمكن إلا أن تصل إلى أن تؤدي الرسالة وأن تتوفق بإرضاء الله سبحانه وتعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

source
عدد مرات التشغيل : 25