النصر -1-

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

 

 

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إذا جاء نصر الله والفتح  * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا * فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنه كان توابًا﴾ [النصر]

صدق الله العظيم
إن هذه السورة المباركة، بشارة للرسول ولأصحابه بفتح مكة. ولا شك أن فتح مكة كان بشارة عظيمة، لأنه كان تحريرًا لكعبة المسلمين ولقبلتهم، وتمكينًا لهم من الحج، وهو أحد أهم مشاعرهم وواجباتهم. ثم أن فتح مكة كان تحطيمًا لقاعدة الاعتداء، لأننا كما نعلم، خلال فترة ما بعد الهجرة، عشرات من الهجمات انطلقت من مكة نحو المجتمع الحديث الذي أسسه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فالآية في البداية، والسورة كلّها، توجّه الرسول وتبشره بالفتح، وتعلِّمه ما يجب أن يعمل تجاه هذه النعمة العظيمة. والنعمة عظيمة، بسبب ما ذكرنا، وبسبب أن قبائل قريش، وأن قبائل مكة، بل وقبائل الجزيرة جميعًا، كانت تتوقع نهاية الصراع بين رسول الله وبين قريش. وكانوا يقولون إذا انتصر محمد على أبناء عمه، فإنه المنتصر على الجزيرة، لموقع مكة ولقوة قريش لأنهم كانوا سادات العرب.
إذًا، الانتصار على قريش معناه الانتصار على العرب جميعًا. ولذلك تؤكد السورة المباركة:
﴿إذا جاء نصر اللّه والفتح * ورأيت النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجًا﴾ عندما انتصرت على قريش، ودخلتَ مكة، سوف يدخل الناس في دين الله أفواجًا، لا يبقى بينهم وبين الإيمان مانع أو رادع. ولهذا السبب، عندما نزلت الآية، فرح الكثير من أصحاب الرسول، وحزن البعض، واعتبر أن هذه السورة نعي من قبل الله سبحانه وتعالى، وإعلان عن قرب وفاة الرسول لأنه بذلك تنتهي رسالته الكريمة عندما تمكنه من تثبيت دعائم مجتمعه. فقد بلّغ رسالته، وربى فردًا مسلمًا وأسس مجتمعًا مسلمًا.
وتفاصيل هذه السورة المباركة، إن الله يبشره بالفتح ولكن يقول: ﴿إذا جاء نصر اللّه والفتح﴾ فالنصر من الله وليس من عندك. ﴿ورأيت النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجًا * فسبح بحمد ربك﴾ شكرًا لهذه النعمة العظيمة، عليك أن تسبح بحمد الله، فتشكره وتنزهه عن النواقص. ﴿واستغفره﴾ وفي ذكر معنى الاستغفار نقطة عالية تربوية وسامية، وذلك لأن الإنسان عندما ينتصر تأخذه العزة، ويشعر بالغرور. رغم أن الغرور بعيد عن الرسول، ولكن سيطرة الغرور على أصحابه، وتوهم اقتراب الغرور منه، يجعل الله سبحانه وتعالى يحذِّر الرسول من أن يُستدرج بالغرور فيقول: ﴿واستغفره﴾ يجب عليك أن تستغفر الله لما قد تصاب به من بوادر الغرور، ورشحات الغرور.
والحقيقة أن الإيمان الحقيقي لدى الإنسان، يُكتشف في مثل هذا الموقف. فكما أن النصر يجعل الإنسان ينحرف، فالهزيمة والغضب والمصيبة والفقر والغنى، وغير ذلك من الحالات، تجعل الإنسان المؤمن يهتز. فإذا كان الإيمان عميقًا في نفسه، فإنه يتمكن من الاستمرار في التصرف المؤمن، أما إذا كان الإيمان حديثًا وسطحيًا في نفسه فسوف ينحرف.
ولذلك فقد ورد في الحديث: أن الرسول دخل مكة مطأطئ الرأس، مستغفرًا الله سبحانه وتعالى، وعندما سمع أن أحد رجاله يحمل الراية ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، أمر عليًا لكي يدركه ويأخذ الراية منه وقال له: كن أنت الذي يدخل بها، وأدخلها دخولًا رقيقًا، وقل: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا.
وعندما اجتمع بصناديد قريش قرب الكعبة، كانوا يظنون أن السيف لا يُرفع عنهم، جاء الرسول ووقف على باب الكعبة وقال: "لا إله إلا الله، وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". وهكذا أكد لهم أن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم وهو المنتصر، وهو الذي يجعل كلّ من يتَّبعه منتصرًا. ثم عاتبهم وقال لهم: "لبئس جيران النبي كنتم، فقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم والآن ماذا تقولون أني فاعل بكم"؟ قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"،  فخرج القوم فكأنما أُنْشِروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وكأن الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة، ولذلك سمي أهل مكة الطلقاء. [1]
دخل الرسول في شهر رمضان المبارك مكة، وتم النصر له. ونحن نرجو الله سبحانه وتعالى أن يتم لهذه الأمة النصر فيدخلون في مثل هذا الشهر المبارك الكعبة والقبلة الثانية بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

_____________________________
[1] - را: بحار الأنوار، ج21، ص105.

source
عدد مرات التشغيل : 9