الفلق والناس

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد* ومن شر حاسد إذا حسد﴾ [الفلق]
﴿قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس* من شر الوسواس الخناس* الذي يوسوس في صدور الناس* من الجنَّة والناس﴾ [الناس]

صدق الله العظيم
هاتان السورتان وأمثالهما من الآيات القرآنية التي تجعل الاستعاذة واللجوء إلى الله تعالى فقط، سور وآيات تربوية. يحاول القرآن الكريم أن يعمِّق هذه التربية في نفوس الناس. وحينما يجد الإنسان نفسه أمام شرور لا قبل له بها، شرور تأتي من غير أن يدري مكانها، وشرور تفاجئه، وشرور أسطورية لا يعرف حقيقتها؛ أمام هذه الشرور يجد في نفسه اضطرابًا، وترددًا وضعفًا. هذا الاضطراب غير مرغوب فيه من قبل الإسلام. بل إنه يريد الإنسان المسلم مطمئنًا، ثابتًا، علميًا، يقف بقوة وانطلاق، وبحزم وثبات، أمام الحياة ومشاكلها.
عندما نزلت هاتان السورتان وأمثالهما من آيات الاستعاذة، كان الإنسان ولا يزال، في بعض الأوساط، يخاف من شرور لا يعرف حقيقتها. من شرور الخلق، ومن شرور الليل والظلام، ومن شرور النفاثات في العقد، أي النساء اللواتي ينفخن في العقد، وبهذه الوسيلة يحاولن التأثير على سعادة الإنسان الزوجية، وسعادته الحياتية ونجاحه في علاقاته مع الناس. وهكذا كان يخشى من شرور الحاسدين واللاعنين ومن شرور العيون وأمثال ذلك.
في السورة الأولى وهي سورة الفلق، يحاول القرآن الكريم أن يعالج هذه المشكلة علاجًا تربويًا. فيبدأ القرآن الكريم في هذه السورة بقوله: ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾. والمقصود من ذلك، أن هذه الشرور الوهمية أو الحقيقية، إن كانت موجودة فهي داخل الخلق. ولكن الإنسان يتمكن أن يلتجىء وأن يهرب من هذه الشرور الموجودة في داخل الخلق، يلجأ إلى خالق الخلق. ولذلك يعلِّمه القرآن فيقول: ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾ خالق هذا العالم وما فيه.
وفي اختيار كلمة الفلق والتعبير عن الله برب الفلق، نقطة لطيفة وموجهة. فالفلق، الانفتاح؛ انفتاح الصبح وفجره، انفتاح الحب ونموه وتحوله إلى النبات، إلى الحياة النباتية. رب الفلق، تعبير عن الجانب الحياتي، الذي ينهي الظلام، وينهي الجمود فيحول الليل إلى النهار، ويحول الجامد إلى النبات. نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى الذي ينهي الظلام، وينهي الجمود. وهذا التعبير يفتح الأمل، والثقة بالمستقبل في نفس الإنسان.
نلجأ إلى رب الفلق، من شر كل ما خُلِق في هذا الكون، ومن شر الظلام، أو من شر كل ما يجري في الظلام، أو من شر المظلم الذي يدخل بصورة غير منتظرة، والذي يمارس عمله في ظلام الجهل، وفي ظلام الغفلة. نحن نلجأ إلى الله، وننتبه إلى أخطار هؤلاء، نلجأ إلى الله الذي ينير الطريق فيكشف أوضاع هؤلاء وأسرارهم.
ونلجأ إليه من شر النفاثات في العقد اللاتي، أو بصورة عامة، الذين يحاولون أن يسحروا الناس بنفثاتهم في العقد، كما كان متعارفًا في أيام الجاهلية؛ أو بتعبير أصح وشامل ومعاصر، أولئك الذين يحاولون أن يخلقوا عقدًا ومشاكل للناس بتعبيراتهم، وكلماتهم، وفتنتهم، وافتتانهم ونميمتهم. هؤلاء تمامًا، مثل الصورة الأسطورية التي في أذهاننا عن النساء اللواتي كنّ ينفثن في العقد.
فالذي يحاول بكلماته أن يخلق عقدًا وأن يكوّن فتنة، وخلافات بين الناس، بين العائلة وبين الأصدقاء، هؤلاء من النفاثات في العقد، والذين يشكلون خطرًا على سلامة الإنسان.
وأخيرًا، نلجأ إليه ﴿من شر حاسد إذا حسد﴾. والحاسد حينما يمارس حسده، يشكل خطرًا. أما إذا لم يمارس هذا الحسد، فهذا شعور إنساني، وإذا لم يمارسه الإنسان، فيضعف ويذوب ويموت.
فهذه الأخطار، أخطار الخلق، وأخطار الظلام، وأخطار الفتنة وأخطار الحساد، أخطار أربعة يشير إليها القرآن الكريم، ويأمرنا باللجوء إلى إله النور، إله الفَلَق، حتى نجد طريقنا النير، بتدابير علمية ودينية، تقضي على هذه الصعوبات وعلى هذه المشاكل، وتنقذ حياتنا من الأخطار المفاجئة التي تنتج عن الجهل، وعن الغفلة، وعن الإيمان بالأساطير وعن المشاعر الإنسانية التي يمارسها الإنسان دون انتباه.
وهكذا نصل إلى نهاية هذه السورة المباركة. فلنؤجل الحديث عن السورة الثانية، سورة الناس، إلى حلقة أخرى من التفسير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source
عدد مرات التشغيل : 7