* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
للإستماع إلى التسجيل الصوتي إضغط هنا
بسم الله الرحمن الرحيم
[...]
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، شجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها. المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، الكهف الحصين، وغياث المضطر المستكين، وملجأ الهاربين، ومنجى الخائفين، وعصمة المعتصمين.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، صلاة طيبة، تكون لهم رضى. وبحق محمدٍ وآل محمد، أداءً وقضاءً، بحول منك وقوة، يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واعمر قلبي بطاعتك، ولا تخزني بمعصيتك. وإرزقني مواساة من قترت عليه من رزقك، بما وسّعت عليّ من فضلك، ونشرت عليّ من رحمتك. وهذا شهر نبيك سيد رسلك، شعبان الذي حففته منك بالرحمة والرضوان. والذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله، يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيامه، نخوعًا لك، في إكرامه وإعظامه إلى محل حِمامه. اللهم وأعنّا على الاستنان بسنته فيه، ونيل الشفاعة لديه. اللهم واجعله لي فيه شافعًا مشفعًا، وطريقًا إليك مهيعًا، واجعلني له متبعًا، حتى ألقاك يوم القيامة عني راضيًا، وعن ذنوبي قاضيًا. قد أوجبت لي منك الرحمة والرضوان، وأنزلتني دار القرار، ومحل الأخيار.
هذه الفقرات من الأدعية، والتحيّات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولآل بيته في هذا الشهر، إيحاء وتنبيه أن في مقام هؤلاء وفي خدماتهم، وآثارهم. هذه الجمل تكسب عاطفة الإنسان حينما ينتبه إلى مقامهم، وشخصيتهم، ثم هذه العاطفة في الأغلب تتجسد في المتابعة والعمل.
في أول الدعاء، تحيات وصلوات، ثم الطلب من الله سبحانه وتعالى ما فيه خير. ومن هذه الفقرات، التي يطلب الإنسان مع زوال كل يوم من شعبان، يطلب من الله هذه الجمل التي سمعتموها، والتي فيها الخير، كل الخير، والخير ليس بقصد الخير للإنسان. هذه الأدعية توجهنا كيف نطلب الخير كما رأيتم في هذه الفقرة، وفي الجملة الأولى من الأدعية، نقرأ أننا نطلب من الله، مواساة من قتّرت عليه من رزقك، بما وسّعت عليّ من فضلك، ونشرت عليّ من رحمتك. الخير ليس بأن تطلب المال أو الرحمة، أو الخير لنفسك. بل الخير الأول في أن تطلب مواساة من قتّر الله عليه الرزق. يعني مواساة الفقير، مواساة المحروم، مواساة الجاهل، مواساة الشخص الكادح المتعب بما وسعت علي من فضلك، ونشرت عليّ من رحمتك.
ويعلم الدعاء، ويوحي بأنك تريد الخير، ليس طلبك للخير أن تطلب كل الخيرات لك لا، بالعكس. الخير في أن تشعر بالمواساة، أن تنفق مما أنفق الله عليك. إذا أنت عندك إمكانات مالية، فواسِ من ليس عنده إمكانات مالية. عندك إمكانات تجريبية، خبرة، علم، علّم الشخص الذي هو بحاجة إلى هذه الأشياء. عندك صحة، واسِ بصحتك المريض. عندك جاه، قولك مسموع، كلامك مطاع، واسِ الإنسان الذي لا يملك جاهًا، وليس عنده كلام مسموع، ولا مقام عند أحد. واسِه مواساة، يجب أن تشعر بأنك أخاه، وأنه أخوك. يجب أن تشعر بأن الخير الكامل ليس بأن تدرك نفسك من الغرق، وتمتّع نفسك باللذات، أو بالراحة، أو بالمال، أو بالعلم، كلا! ليس هذا هو الإنسان الذي يريده الله.
يريد الله منّا أن يكون أحدنا للآخر كأعضاء جسد واحد. الإنسان، في ليلة الشتاء، إذا ظلّت رجله خارج الفراش، وكان يشعر بالبرد في رجله، هل يتمكن أن ينام أو أن يرتاح، لأن رأسه وجسده، وبقية أجزاء جسمه تشعر بالدفء وبالحرارة؟ جزء من جسدك، إذا ظل خارج اللحاف، أو خارج الباب، يبرد وأنت لا تستقر. صحيح؟ أنت تستقر حين تكون كل أجزاء جسدك دافئةً؛ هذا هو شعور الإنسان تجاه أخيه الإنسان، شعور المؤمن تجاه أخيه المؤمن. كيف لا تشعر بأن جارك بردان، وأنت تشعر بالدفء والراحة؟ هذا الشعور ناقص. إذا لم تشعر يجب أن تعالج نفسك، مريض أنت. إذا أنت ترتاح حينما تأكل، وجارك جائع، يظهر أن إحساسك ضعيف. الإسلام يقول: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع. وبنفس المنطق، ما آمن بالله واليوم الآخر من بات في دفءٍ، وجاره في برد؛ من بات في راحةٍ، وجاره في العذاب؛ من بات في جاهٍ، وجاره بحاجة إلى جاهه. في تفسير الآية الكريمة: ﴿فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراؤون* ويمنعون الماعون﴾ [الماعون، 4-7]، أتعرف ما الوارد في الحديث، وما تفسير الآية الكريمة؟
يريد القرآن الكريم أن يقول الصلاة وحدها لا تكفي: ﴿فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾ [الماعون، 4-5]، الأشخاص الذين يصلون، ويتساهلون في صلاتهم، ويحتقرون صلاتهم، حتى يسهون، ويل لهم. والذين يصلون ويراؤون في صلاتهم، نيتهم غير طيبة، لا يصلون لله، ويل لهم. ثم ويل لفئة ثالثة، الذين يصلون، ولكن يمنعون الماعون. يعني إذا جارهم احتاج إلى صحن، أو ظرف، أو مال، أو وسيلة، أو أي غرض، يمتنعون عن تلبية هذا.
كيف يمكن أن يصلي الإنسان، ويشعر بأنه عبد لله، وأن جاره أيضًا أخوه، وعبد لله، ولا يشعر بمحنته؟ بمصيبته؟ بحاجته؟ ويمتنع عن مساعدته. هذا غير ممكن. مفهوم الكلام أيها الإخوان!
الإنسان مع جاره، الإنسان مع ابن بلده، الإنسان مع إنسان آخر، الإنسان مع مؤمن آخر، يجب أن ينمو عنده هذا الشعور، حتى يجد نفسه جسمًا كبيرًا، هذا الجزء، وهذا الجزء، وهذا الجزء عندما يصيبك أنت أذى، أنا يجب أن أتألم وأقول (آخ) مفهوم؟ هذا المطلوب منا. يجب أن نشعر بأن جسمنا ليس هذا الذي نلبسه، ونغطيه وننفصل به عن الآخرين. لا، هذا ليس جسمي؛ أنا جسمي ووجودي واسعان معكم. إذا وصل الأذى لأي جزء يجب أنا أقول (آخ)، أنا أتألم وأنا أحاول دفع الأذى عن كل جزء، طبعًا مع الإمكان.
فإذًا، هذا الشعور هو الذي جعله هذا الدعاء المبارك، الدعاء الأول: وإرزقني مواساة من قتّرت عليه من رزقك بما وسّعت علي من فضلك، ونشرت علي من رحمتك. إلهي إرزقني هذا الشرف الكبير، وهذا المقام الخطير، إرزقني حتى أواسي الآخرين بما عندي، حتى أكون مثل الشمعة، مثل النبع، مثل الشمس. لا أريد أموال الآخرين، وجاه الآخرين، ومصالح الآخرين... أريدها كلها لنفسي، ولا أن أتجاهل الآخرين. لا، أريد ما عندي للآخرين، مواساة. وهكذا كانوا يقومون بهذا العمل، هكذا بدأ الأئمة، وبدأت تعاليمهم تدربنا من هذا اليوم تمهيدًا لشهر رمضان المبارك.
من اليوم نقرأ كل يوم هذه الأدعية نتذكر أننا في شهر شعبان المبارك نصوم يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، أو على الأقل يوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر... أو على الأقل بعض الأيام من هذا الشهر، استعدادًا لمقابلة شهر رمضان والدخول في ضيافة الله.
ثم يذكّرنا الدعاء مرتين: مرة بالنسبة إلى الرسول الأكرم، ومرة بالنسبة إلينا... بأنك يا بني آدم، إنتبه! ربما يكون هذا الشعبان هو شعبانك الأخير، ربما يكون رمضان، رمضانك الأخير، من يدري ماذا يجدّ؟ نحن أمام حياة، أمام عيش ليس لنا، مزعزع، لا نملكه، لا نسيطر عليه كل لحظة ممكن أن نتعرض للموت. أليس هذا صحيحًا أيها الإخوان؟
من منكم يضمن أن يبقى حيًا بعد ساعة؟ من منا يضمن أن يرى نفسه غدًا حيًا؟ مرة تقول أنا لا أبالي ولا أفكر في هذا الشيء. شيء مسلَّم؛ نعم، قوة الاستمرار تعطيك، لا أعرف... هل عملت حادث سيارة، أو لا؟ قبل ما أنت تعمل الحادث لا تفكر أبدًا بالحادث، تسمع عن الحوادث، وتجد أمامك حوادث، ولكن تفكر أن هذه الحوادث لغيرك. أما أنت مطمئن، أنه لن تواجه حادثًا بينما الإنسان يقع في الحادث.
الموت هكذا، ما دام الإنسان حيًا لا يشعر بأن الموت أمامه. ولكن المفاجآت، لا يمكن الإنسان أن يفكر فيها. لو كان الإنسان يفكر في المفاجآت، ما كانت مفاجآت. أليس كذلك؟ مفاجأة، لأنك لم تنتظرها. فإذًا، ولا واحد منا يطمئن ويعلم أنه في السنة القادمة موجود. ماذا نعمل؟
نغتنم هذه الفرصة الباقية. يريد الاسلام منّا أن لا نتلف لحظة واحدة من الحياة. هذا الحديث المعجز النبوي الشريف الذي يقول: ولو أن امرءًا مؤمنًا قامت قيامته وبيده غرسة لغرسها قبل أن يموت؛ يعني الإنسان المؤمن في الحقل وهو يزرع، جاءه الموت، في حال مجيء الموت لا يترك الغرسة، لا يرمي الغرسة، الشجرة الصغيرة حتى يموت؛ لا، وهو يسقط على الأرض يغرس الغرسة ثم يموت. ماذا يقصد بهذا الحديث؟ يريد أن يقول أن هذه اللحظة الصغيرة من الحياة لا تُذهبها، استعملها في الخير... في غرس الشجرة، وإن كنت في هذه الحالة. يريدون أن نستغل ونغتنم كل لحظة من لحظات حياتنا حتى يكون الإنسان في حياته مليئًا بالخير والبركة، والرحمة والعطاء.
ما هذه الحياة التي تمر على الإنسان، والإنسان لا يفيد الآخرين؟
الإنسان الذي لا يفيد الآخرين، هذا غير حي، غير موجود، هذا مثل الحجارة. ما هو الفرق بين الإنسان الحي وبين الحجارة؟ الحجارة موجودة، والإنسان الذي لا يصل خيره إلى الناس أيضًا موجود. بل الحجر أبقى وأدوم وأصلب منه. ما الفرق بين حياته وموته؟ لا فرق. حياة الإنسان تقاس بمقدار ما له من الخير! بمقدار ما له من العطاء! بمقدار ما له من الخدمة للآخرين. هذه هي الحياة، وإلا من دون هذا ماذا يكون؟ يريدون منا أن هذه الساعات من العمر نغتنمها ونملأها بالخير، بالصلاة، بالتقوى، بخدمة الآخرين. ودائمًا يذكروننا، من قال لكم أنكم ستعيشون؟ لا أحد يقدر يضمن على نفسه البقاء. فإذًا، إستعد.
يقول أمير المؤمنين (س): تزوّدوا رحمكم الله، تجهّزوا رحمكم الله، فقد نوديَ فيكم بالرحيل... نوديَ فيكم بالرحيل ماذا يعني؟ يعني هناك ميكروفون يصرخ كل يوم أن إمشوا. لا حاجة لميكروفون، أنا أعرف كل يوم عن الرحيل، كل من يموت. هذا نداء لرحيلي، بأنه يأتيك يوم. كل يوم، كل شروق شمس، وغروب شمس، مناداة للرحيل... لأن في كل يوم طي صفحة من صفحات عمري، وتقليل البقية الباقية من عمري؛ مع كل ساعة، مع كل لحظة، مع كل ثانية تمر على الإنسان جزء من عمره ينتهي.
هذه البقية إذا ما اغتنمناها، إذا ما استفدنا منها، إذا ما أخذناها بعين الإعتبار بقوة وباستفادة وبتقوى وبسعي وبالخدمة... في الحقيقة ليس هناك حياة أبدًا. الحياة السليمة هي الحياة التي تقترن مع العطاء وتقترن مع الكرامة.
نحن أيها الإخوان، في هذا الشهر المقبل، شهر رمضان، نشعر شعورًا خاصًا ويجب أن نستفيد منه استفادة خاصة معينة، هذا الشهر يختلف عن كل شهر آخر، هذا الشهر عندما نتذكر أننا في حالة غير مرضية، في حالة لا يرضى عنها ربنا ولا نبينا ولا أئمتنا، نحن نشعر في هذا الشهر أنّنا لسنا كما يجب أن نكون في كل حياتنا، وفي كل عمرنا، كنا هيك سابقًا، لكن لم نكن نشعر بهذا الواقع الذي نحن نعيش فيه. الآن ننظر إلى أية زاوية من زوايا وجودنا لا نجد فيه نورًا... الآفاق مظلمة، حياتنا الداخلية، حياتنا الاجتماعية، حياتنا العامة، وضعنا الديني وضعنا مع أعدائنا، بلادنا، مقدساتنا، إخواننا كلها في محنة وكلها في عذاب. كل زاوية من زوايا حياتنا تدل على أننا ضعاف، على أننا حقيرون، على أننا مدبرون عن الله ورسوله.
ورمضان يقبل... شهر الله، شهر الضيافة، شهر التوبة، شهر الاستغاثة إلى الله، لعلنا نستعد من الآن حتى ندخل في هذا الشهر المبارك ونكون كما يريده الله ورسوله، أتقياء معتمدين على الله، مستندين إلى الله سبحانه وتعالى وعلى إيماننا به، أقوياء لا نهاب... لا نهاب الصعاب، لا نهاب الموت، لا نهاب المرض، ونستعد لمواجهة وجه ربنا.
نحن نقبل على شهر رمضان ونشعر بأن هذه الحياة التي نعيشها لا قيمة لها، فلنكوّن ولنصمم على حياة جديدة ولا تفكر أن هذه الحياة تنفصل عن الجانب الخارجي منها عن الجانب الداخلي أبدًا. إذا تريد أن تبني حياة جديدة، يجب أن تبدأ من بيتك، من جارك، من حياتك في السوق، من حياتك في الحقل، من حياتك مع جيرانك مع أصدقائك، في حياتك بصورة عامة لأن الإنسان موجود واحد لا يمكن أن يكون مخلصًا في الحقل الخارجي وخائنًا في الحقل الداخلي لا يمكن أن يكون مضحيًا بنفسه أمام العدو، وغير مضحٍ بشيء صغير أمام جاره أو زوجته أو ابنه، لا يمكن هذا. إذا الإنسان كان ساميًا متعاليًا مترفعًا يسمو على الحياة، فهو هكذا في بيته وخارج بيته.
هذه الأدعية المباركة بعد هذه الصلوات والتحيات تذكرنا وتوحي إلينا المعاني الخيرة وطرق الخير، وتحضرنا لأن نستعد لمواجهة شهر رمضان ولعله الفرصة الأخيرة في حياتنا. هذا الشهر الذي هو صانع الرجال، وصانع المؤمنين والأبطال. نستعد لمواجهة هذا الشهر، لعلنا نستفيد منه في سبيل تكوين سعادتنا وفي سبيل تطوير مستقبلنا وفي سبيل إسعاد حياتنا المادية وحياتنا الروحية حينما نقابل وجه ربنا، ولا شك أن في رسول الله وآل بيته خير شفيع، وفي هذه المواسم المباركة أفضل فرصة للعودة إلى الله.
غفر الله لنا ولكم جميعًا.
والسلام عليكم.
