يركز الإمام الصدر في خطبته على الجانب الاجتماعي من حياة الإمام علي (عليه السلام)، ويشدد على اهتمامه بالفقراء والمساكين وحرصه على تحقيق العدل والمساواة. ويحث الإمام الصدر المؤمنين إلى اتباع نهج الإمام علي في خدمة المجتمع والتخفيف من معاناة المحتاجين. بمناسبة ولادة أمير المؤمنين نستعرض نص الخطبة كاملًا:
أيّها الإخوة الأكارم،
السلام عليكم ورحمة الله.
الوحيد الذي عُوقب بالتأخير والتخلف عن الحضور في الموعد المحدد هو أنا، تخلفت لأسباب وارتباطات والطقس القاسي في الطريق، ولكن حضرت وسوف أتكلم.
إنما حُرِمت من كلمة أخي العلامة الشيخ عبد الأمير، ومن القصيدة العصماء التي سمعتموها دوني من الأخ السيد محمد نجيب حفظه الله، وشاركت في الاستماع لبقية القطع النادرة.
كما أني حييت... وازدادت أملًا وثقة بالمستقبل لمشاركتكم في إقامة هذا الصرح، وفي دعم هذا الخطّ النير، وفقكم جميعًا.
أما بعد فمنذ أربعين يومًا، اشتركنا في هذا الحفل الكريم وفي هذا المكان الكريم مع تفاوت في الوضع ولكن بنفس المناسبة، مناسبة ذكرى مولد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
والليلة نحتفل في ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
فلهذه القاعة ولهذا المشروع ولهذه الجمعية ولكم ولي شرف المشاركة في المناسبتين.
ولا يمكنني أن أسميهما مناسبتين، فذكرى مولد الإمام هي بالذات ذكرى استشهاده، وذكرى استشهاد الإمام
هي عينًا ذكرى ميلاده.
فعليّ وُلِد لخدمة الله في خلقه وقُتِل لخدمة الله في خلقه.
عليّ وُلِد في بيت الله وقُتِل في بيت الله.
عليّ ظهر إلى الوجود لدعم رسالة محمد، رسالة الله وقُتِل لأجلها وعاش لأجلها.
حياة عليّ بين هذين السجودين، سجود في الكعبة وسجود في محراب مسجد الكوفة.
حياة عليّ بين السجودين سجود مستمر فما رفع جبهته لحظة من السجود أمام الله ولا ترك ساعة يتحكم فيه هواه، ويوجهه ميله وتسيره رغباته.
بل كلّما مشى، مشى بأمر الله،
وكلّما ضرب، ضرب بإرادة الله،
وكلّما قتل، قتل بتوجيه من الله،
وكلّما مسح وساعد وأخذ بيد المتعبين، أخذ بأمر الله.
فلو كان لله يد، وتعالى الله عن ذلك، لما كان إلا يد عليّ.
فإن يد عليّ هي اليد التي تتحرك مع الحق، والحق يتحرك معها يدور معها أينما دار.
ولو كان لله قلب أو عين أو لسان، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، لما كانت تتصرف تلك الجوارح إلا كما تصرف علّي.
يقول جدي السيد صدر الدين قدس الله نفسه، يقول:
عليّ بشطر صفات الإله حُبيتَ وفيك يدور الفلك
ولما أراد الإله المثال لنفي المثيل له مثّلك
ولولا الغلو لكنت أقول جميع صفات المهيمن لك
ونحن نقول: عليّ هو المثل الكامل الذي طبق الحديث الشريف: تخلقوا بأخلاق الله وقد فعل.
عليّ هذا لا يمكنني أن أتحدث عنه ولا غيري يتحدث عنه في جلسة أو في جلسات أو طوال العمر. فلنأخذ زاويةً من زوايا حياته ولنقتبس شعاعًا من مصباحه، ولنستقِ ولنرتوِ في هذا اليوم المظلم بقطرة من قطرات
بحره، فـسلام الله عليه، قوله حق وحكمه فصل ولسانه صدق ويده يد حق.
الزاوية التي كنت أفكر أن آخذها في هذه الليلة المباركة، وأمام هذه الوجوه الطيبة والقلوب المقبلة، لاستماع الإمام، ولاستماع الحديث عن الإمام، هي الزاوية التي نحتاج إليها في يومنا هذا حاجة ملحة، إننا نسمي الإمام إمامًا أشهر اسم، أشهر صفة نذكرها مع عليّ الإمام، الإمام عليّ.
الإمام، ماذا يعني كلمة الإمام، كيف تُفسَّر وكيف نفهمها؟
إنما جعل الإمام إمامًا ليُهتم به، الإمام القائد، الإمام للمأمومين، ونحن نرجو أن نكون من المأمومين. فإذًا، الزاوية التي تخصنا من الإمام هي زاوية الاقتداء والأسوة والتأسّي به. بقية الزوايا له، نحن نعتز بهذه الثروة وبهذا الرصيد، ولكننا نختص بهذا الجانب من حياة عليّ، جانب الإمامة. عليّ إمامي نقول هذا ونكرر ونعيش فنرجو أن يكون علي إمامنا.
إمامة عليّ يعني مأموميتنا، إمامة عليّ لنا تتحقق وتُنجز حينما نأتمُّ به وإلا فليس هو إمامنا. هو إمامنا إذا اتبعناه، وأما إذا ما اتبعناه فنسبتنا لعلي ونسبة غيرنا على حد سواء. علي هذا، كيف كان يمشي وكيف كان يسلك وكيف كان يتحدث وكيف كان يتصرف؟
إذا تصرفنا وعملنا وقلنا فنحن من أتباعه وإلا فنحن دعاة أو الأدعياء لمتابعة علي.
كيف كان عليًّا في هذا اليوم العصيب، لو كان؟ كيف كان عليًّا في حياته حينما كان؟
علي كان رجل جدٍّ، كان رجل عمل، كان رجل حق لا تأخذه في الله لومة لائم.
قُتل عليّ لهذا السبب، وعاش عليّ لهذا السبب وولد عليّ لهذا السبب.
عليّ كان في المحراب عابدًا زاهدًا متهجدا حتى يقول عنه حفيده عليّ بن الحسين زين العابدين حينما يطلب صحيفة عليّ، يقول: من يتمكن أن يكون مثلك يا أبا الحسن؟
هذا العابد الزاهد المتهجد الذي يتململ في الليل تململ السليل، ويبكي بكاء الحزين ويقول: آه آه. هذا الرجل الزاهد العابد حينما تجده في ميدان الحرب، وحينما تجده في وقت الصراع، وحينما تجده في وقت الجِدّ، تجده شخصًا آخر. فحينما أُمِر بعد انتهاء واقعة الأحزاب من قبل رسول الله، وبحكم من الله، أن يقتل تسعمئة يهودي ما تروّى ولا صبر لحظة، وطبق الحكم بحذافيره وبكل دقة. هذا الرجل حينما... الرسول يوصي يقول: أخرجوا اليهود من جزيرة العرب. لو كنا نخرجهم، لو كنا مثل عليّ لما كنا ابتلينا. صبرنا وجاملنا وسايرنا وراعينا وابتلينا.
عليّ هذا في المحراب كما نراه وفي الحرب كما نشاهده، وعلى الصعيد العام لا يترك واجبًا من الواجبات الاجتماعية إلا ويقوم به.
عليّ يقول: أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم مكاره الدهر. عليّ لا يرضى بأن يبات شبعانًا وجاره جائع. ويؤكد على أنه ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع، ويؤكد أيضًا من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم.
عليّ يعتبر أن سجوده وعبادته، ليسا سجودًا في المحراب وعبادة في المسجد فحسب، بل عليّ يعبد الله في إيواء الأيتام، وفي قضاء الحاجات، وفي التخفيف عن المتعبين، وفي إنجاز مهمة المحتاجين، وفي إصلاح شأن الناس وفي الأمور العامة. لا يرى عليّ أن المشاركة في الأمور العامة... لا يرى عليّ أن الخروج من المسجد، والنزول إلى الشارع، والدخول في بيوت الناس والسعي لقضاء حوائج الناس، هذه دنيا يتركها لغيره. كلا، فهو كما يسجد في المحراب يسجد مع اليتيم، ويسجد مع الفقير، ويسجد مع المحتاج.
يدخل في بيت أرملة بعد واقعة صفين فيحاول أن يساعدها، فيشعّل التنور ويلعّب الأولاد ثم يضع وجهه أمام النار ويقول: ذق يا أبا الحسن هذا جزاء من ضيع الأيتام. فلا يعتبر أن ترك الصلاة يدخل الإنسان في النار، ولكن ضياع الأيتام لا يدخل الإنسان في النار! أبدًا.
عليّ يرى أن المسلم ليس هو الذي يصلي فحسب، وإن كانت الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدَّت رد ما سواها. ولكن يرى أن الصلاة دون الاهتمام بأمور الناس بإصلاح حاجات الناس، بإصلاح شؤون الناس، بإيواء الأيتام، بالسعي في بقاء الأمة عزيزة كريمة. ليست بصلاة ولا تقبل صلاة من لا يهتم بشؤون الآخرين. أليس يقول رسول الله سيده وسيدنا لمن كان يعتكف في المسجد ويترك العمل، قال: لا يستجاب لهم دعاء.
عليّ هذا منطقه، وعليّ هذا إمامنا. وكل واحد منا عالمًا أو جاهلًا، زعيمًا أو شعبًا، تاجرًا أو فقيرا، يجب أن
يقيس نفسه بمقياس عليّ. فعليّ هو الصراط المستقيم، وعليّ هو مع الحق وعليّ هو القسطاس الذي عُبِّر عنه في التفسير في الآية الكريمة: ﴿وزنوا بالقسطاس المستقيم﴾ [الشعراء، 182]. القسطاس هو عليّ، أو المصداق الكامل للقسطاس هو عليّ. فنحن إذا نريد أن نعرف أننا على حق، أو على ضلال، لا نقيس الأمور بمقياسنا الخاص، ولا نزنها بالعواطف والرغبات والاحترام والمصالح، بل نزن الإنسان، ونزن أنفسنا ونقيس أنفسنا بمقدار ما يكون بيننا وبين عليّ شبهًا.
فإذا وجدنا أن عليًّا يرفع السبيتة وهي الدرة وهي المهماز ويدخل في السوق وينادي الفقه ثم المتجر. وهو يلبس الجزمة ويدخل في الحرب، ويشتغل ويعمل ويترك ويقوم بهذه الواجبات.
لو كان عليًّا بيننا ماذا كنا نقول له؟ لما كنا نقول: أن هذا ليس من شأن العالم، ولا من شأن رجل الدين يسوى أن يبقى في المسجد. يسوى أن يترك هذه الأعمال لأهلها ولأصحابها، ويكتفي بصلاته وبشؤونه، وبصيامه وبأعماله الخاصة؟
هل يجوز أن نكتفي بالصلاة ونترك الأيتام؟ هل يجوز أن نكتفي بالصيام ونترك المدارس؟ هل يجوز أن نحج ونترك الناس يتخبطون في ضياعهم وابتعادهم ونتجاهل واجبات الناس؟ كلا: غيرنا، النائب، الوزير، الرئيس التاجر، الشعب، كل فرد من الأفراد، إذا يريد أن يرى مقدار إنسانيته ومقدار إيمانه ومقدار كونه على حق يزن نفسه مع عليّ.
مقياس عليّ في الحياة، مقياس الحق، والحق لم يلد ولم يولد.
في كل صلاة كان يقرأ علي: ﴿قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص، 1]. كان في الجهاد، حينما رجعوا، شكا بعضهم إلى رسول الله بأن عليًّا كان يقرأ سورة ﴿قل هو الله أحد﴾ في جميع صلواته، فسأله رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله أنا أحب هذه السورة قال له: والله يحبك. لماذا يحب عليّ سورة ﴿قل هو الله أحد﴾؟ لماذا قالوا أن سورة التوحيد ثلث القرآن؟ لماذا كانوا يهتمون بهذه السورة؟ هذه السورة تقول: ﴿قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفؤًا أحد﴾ [الإخلاص]. الله لم يلد ولم يولد ماذا يعني لم يلد ولم يولد؟ يعني ليس له أولاد ولا أحفاد ولا أصهرة. ليس له أب، ولا عم ولا أولاد عم، ليس له أم ولا خال ولا خالة ولا أولاد خال وخالة. فإذًا، ليس له عشيرة، ليس لله عشيرة ولا قبيلة، ولا أزلام ولا جماعة ينتسبون إليه. الناس أمام الله سواسية كأسنان المشط. وأكرمكم عند الله أتقاكم.
هذا مبدأ نعرفه كلنا، ولكن يجب أن نعرف أيضًا أن كل شيء حقيقي في الكون، كل شيء هو من الله، أيضًا مثل الله لم يلد ولم يولد، فالعدل لم يلد ولم يولد لأن العدل من الله.
ماذا يعني أن العدل لم يلد ولم يولد؟ يعني لا يمكنك أنت القاضي أن تحاكمني بمقياس وتحاكم غيري بمقياس آخر. العدل ليس أقرب إليّ من غيري ولا أبعد مني عن غيري. العدل بالنسبة إلى الجميع سواء لا يمكنك أنت حينما تنظر إلى خلاف من بعيد، فتحكم مع الحق، وتقف مع الحق وتشجب الباطل، ولكن حين الصدام بينك وبين غيرك يختلف الميزان، فالحق يكون دائمًا معك؟
ولا يمكنك حينما يختلف أخوك مع شخص أجنبي، أو صاحبك مع شخص آخر، أو جماعتك مع جماعة الآخرين... لا يمكنك أن تحكم أن الحق هنا يقاس بغير ميزان. الحق لم يلد ولم يولد. الحق مع هذا ومع غير هذا، مع الأجنبي ومع الصاحب ومع النفس ومع الأهل كله على حد سواء. ما لا فرق بين حق هنا وحق هناك.
العلم لم يلد ولم يولد. لا يمكن لي أن أتعب فأتعلم، أنت إذا تعبت لا تتعلم هذا غير وارد كل من سعى يتعلم وكل من تكاسل لا يتعلم. فالعلم حقيقة من الله لم يلد ولم يولد، لا يختص بأحد ولا بشخص ولا بمصلحة ولا بعائلة ولا بقبيلة، بل العدل من الله، والعلم من الله، والحق من الله، وكما أن الله لم يلد ولم يولد، فكل حق وكل خير وكل مثال وكل سمو في العالم، لم يلد ولم يولد
لا يمكن للإنسان أن يتعب ولا ينجح، لأن النجاح والنصر من الله والنصر لم يلد ولم يولد. وقد شاهدنا أمام أعيننا لماذا اليهود انتصروا علينا. ألسنا نحن المسلمين؟ ألسنا نحن جماعة الله؟ ألسنا نحن مؤمنون برسالة الله لأننا تكاسلنا، وتواكلنا واتخذنا من الكسل والكلام والتجارة حجة لعدم الشغل، وعدم العمل، وعدم السعي، وتركنا الآخرين يشتغلون. بطبيعة الحال النصر لا يمكن أن يكون لنا. لأننا ما سلكنا سبيل النصر. وكل من سلك سبيل النصر يصل إلى النصر لأن النصر لم يلد ولم يولد. في كل شؤوننا وفي كل حياتنا وفي كل حقول مجتمعنا هذا هو الخط.
عليّ كان يقيس القريب بمقياس البعيد، ما كان يتنازل لطلحة والزبير بشيء. واستعد وتهيأ حتى خرجا، وتآمرا وأثارا أول فتنة داخلية في تاريخ المسلمين حتى لا يتنازل عن الحق.
هذا بالنسبة إلى البعيد، ثم بالنسبة إلى القريب، بالنسبة إلى أخيه عقيل: ولقد رأيت عقيلًا قد أملق، ووجدت أبناءه شعث الشعور، غبر الوجوه، كأنما سودت وجوههم بالعظلم.
موقف الإمام مع عقيل كيف كان؟ كان يختلف عن موقفه مع طلحة والزبير؟ أبدًا موقف واحد، حق لا يختلف بالنسبة إلى القريب وبالنسبة إلى البعيد.
فهل نحن نسلك هذا السبيل؟ أيها الإخوة نحن مقاييسنا عن الحق واحدة أو تختلف؟
حينما نجد أن واحدًا من أهلنا، أو جماعتنا أو أصدقائنا يختلف مع الآخرين، ما هو مقياسنا في معرفة الحق؟ لنا مقياس وحينما نجد شخصًا مع شخصًا كلاهما بعيدين عني يختلفان لي مقياس آخر في الحكم. إذا كان الآخر هكذا، فأنا لا أشابه وأتشابه بعليّ أبدًا، لأنه هو في وادٍ وأنا في وادٍ.
وهكذا في جميع الشؤون، وجميع الحقول الحياتية، فعليّ يتكلم أمامك بما كان يتكلم به في غيابك؟
اسمعوا، ولأسمع أنا أيضًا كلنا بحاجة إلى هذه الإشعاعات من حياة عليّ. والحقيقة أنا لا يمكنني أن آتي بشيء جديد، فأنتم طالما سمعتم الكلمات والأبحاث وقرأتم الكتب، فأنا أوضّح بعض الجوانب التي تعرفونها، وأضع إصبعي على بعض نقاط الضعف في قلبي وقلبكم، وأرجو أن لا يزعل أحد.
عليّ (ع) كان يتكلم أمام الإنسان بنفس الكلام الذي كان يتكلم في غيابه، أليس كذلك؟ لأن الحق، لأن الصدق والصدق من الله والصدق لم يلد ولم يولد. لا يمكن أن يكون كلامي صدقًا بحضورك وكذبًا بغيابك، هذا لا يمكن، الصدق صدق، والكذب كذب. فإذا كان كلامي هذا صدقًا سواء حضرت أو غبت كلامي صادق، وإذا كان كلامي هذا كذبًا فبحضورك كذب وبغيابك كذب.
هكذا كان عليّ، حتى إذا كان أمام سلطان جائر وهو الذي يؤكد إن: أفضل العبادة كلمة حق أمام سلطان جائر. فإذًا، مقياس الصدق عند علي واحد، الصدق عند عليّ لم يلد ولم يولد.
أما نحن، أحب في يوم من الأيام أن يحمل أحدنا معه مسجلة، يوجد مسجلات صغيرة، ممكن كل واحد يحملها حتى يسجل على نفسه ما يقول. يضع المسجل في جيبه، فيلتقي مع شخص ويتحدث معه بما يتناسب اللقاء، ثم يروح ويجتمع مع شخص آخر، إما خصمه أو غير خصمه، فيتحدث عن الشخص الأول الـذي قابله حديثًا طويلًا فيسجل الحديثين على المسجلة ثم يأتي إلى بيته فيرى ماذا قال بحضور هذا، وماذا قال بغياب هذا. إذا طبقنا هذا، ما هي النتيجة؟
حينئذ نرى أننا وجدنا الصدق، وقسنا الصدق بميزانين وبمقياسين. فقلنا أمام هذا الرجل كلامًا، ما قلنا مثله ولا شبيهه ولا قريبًا منه في غيابه. ربما نقول لا بأس يجب أن نجامل لا يضرّ!! لا يضرّ كثيرًا. أيها الإخوان،
أليس القرآن الكريم، يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا﴾ [الأحزاب، 70-71]. إصلاح الأعمال وغفران الذنوب جاءا نتيجة حتمية لتقوى الله وتسديد الألسنة. ﴿اتقوا الله وقولوا قولا سديدًا﴾ [الأحزاب، 70]، يعني لا تقولوا أن القول حكي، فهذا الحكي لا اعتبار به وإني جاملت فلانًا أو سايرت فلانًا أو أرضيت فلانًا.
كلا، القول، واللسان مفتاح شخصيتك، وباب وجودك، فإذا استرخصت ما تقول وما تكتب، وإذا ما أتقنت ما تقول وما تكتب، فقد استرخصت نفسك وجعلت نفسك لا قيمة لها. فلساني وقولي وشهادتي وكتابتي وتوقيعي وفعلي، جزء مني وخلاصة وجودي وثمرة حياتي. إذا استرخصتها وإذا اعتبرتها رخيصة لا قيمة لها فمعنى هذا أني لا أعتبر لنفسي قيمة أبدًا.
فإذًا، لا يمكننا أن نقول أنني إذا قلت أمامك شيئًا فرضيت عني لا بأس، مجاملات، مسايرات. ويا ليته الأمر يتوقف عند هذا الحد فغالبًا هذه المواقف المجاملة، وهذه الكلمات التي تجري حسب المجالس تضيع الناس. أنا حينما أسمع منك مجاملات وتعريف ومدح حينما أجدك تقول أنت كذا وأنت كذا وسمعت من الثاني والثالث والرابع والخمسين نفس الكلمة، أضيع فأفكر بجد بأني على حق. وحينما أضيع أتصرف غير التصرف الذي يجب أن أتصرفه في كل مكان.
فنحن مجاملاتنا، ومسايراتنا وكلماتنا المتنوعة، ولا أحب أن أقول كوننا ذوي لسانين وذوي وجهين، هذا يهدم حقيقة مجتمعنا، هذا يحول دون إقامة الحق في مجتمعنا وإبطال الباطل. كيف يمكن للحق أن ينمو في مجتمع هذا شأنه؟ وكيف لا ينمو الباطل حينما لا تقول أمام المبطل أنت مبطل.
الحديث الشريف يقول: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده وإلا فبلسانه وإلا فبقلبه وهذا أضعف الإيمان. ولكن نحن حينما وجدنا شخصًا مبطلًا، إذا سكتنا كما يقولون نصف مصيبة. ولكننا لا نسكت، نحترم فنجامل حتى يشعر بأنه أصبح أعلى شأنًا وأرفع درجة، بعد ارتكابه هذا الظلم، أو هذا الاحتيال، أو هذه المعصية. هذا الشعور متغلغل فينا بشكل عجيب، رعاية المقام ورعاية الحضور. الجد ذهب من عندنا نتيجة لهذه المجاملات.
أنا حينما أراعي وجودك، وليس خيري ولا شري ولا رزقي بيدك، حينما أراعي وجودك وأتكلم كما تشاء؛ فإذًا، كيف لي أن أقف مع الحق أمام مصلحة أوطاغية أو ظالم أو ضغط؟ لا يمكنني أن أنجح في سبيل الحق إذا ما تمسكت، وإذا ما كنت جديًا مصممًا عازمًا متحملًا لكل الصعاب، لا يمكنني أن أنتصر في الحقل العام ولا في الحقل الخاص، إذا كنت بهذا الشأن.
عليّ لا يختلف قوله وكلامه وحديثه أمام الناس وفي غياب الناس. عليّ في حياته لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يطمع في الناس بمقدار ما يغير موقفه أو حديثه أو تصرفه أو كلامه، الناس يرضون والناس يزعلون، فإذًا، الناس الإله الذي يُعبد من دون الله. الله يرضى أو لا يرضى، هذا هو الإيمان، أما الناس يرضون أو لا يرضون لا يجوز أن يكون هذا غاية.
نعم، إذا حاولت أن تصلح بينك وبين الله، فالله يصلح بينك وبين الناس. وإنما يعرف الصالحون كما، يقول عليّ: وإنما يُعرف الصالحون بما يجري الله على ألسن عباده. إذا أصلحت بينك وبين الله، الله يجري الخير غصبًا عن الناس على لسانهم.
لا لزوم لأن تجاملهم أنت، لأنك إذا جاملتهم وتصرفت بمقتضى رضاهم وسخطهم، فهذا الشعور عندك ينمو، هذا الشعور ككل شعور نفسي في الإنسان ينمو إذا مارسته. من باب المثل، الإنسان الذي يخاف، عنده إحساس بالخوف، هذا الإحساس بالخوف إذا مارسه، يعني إذا تجنب عن الدخول في المعارك والظلام، وما بات في الليل وحده في بيت، وتجنب هذا وذاك ومن هنا وهناك خوفًا، هذا الخوف بالتدريج كالشجرة تنمو وتورق وتكبر وتحتل جميع وجودك. أما إذا تجاهلت عقدة الخوف في نفسك، فحاولت أن تدخل في المعارك، حينما ينهاك الخوف، أو تنام في البيت وحدك في مكان تخاف، إذا تجاهلت مقتضيـات الخوف، خوفك ينتهي.
نفس الشيء الكرم والبخل، إذا لم نتصدق نتيجة لضغط البخل، بخلك ينمو. لكن إذا تجاهلت عقدة البخل في نفسك، وتصدقت، عقدة البخل تذوب وتموت في تفسك. هذه طبيعة الصفات. فلهذا الإسلام نهى أن نمارس الوساوس (السرساب باصطلاحكم) الحديث يقول: لا تعوّد الخبيث. يعني حينما تشككوا في الصلاة بكثرة، فلا تبالوا. قولوا: إن شاء الله صلاتنا صحيحة. لماذا؟ لأن السرساب إذا مارسته، وأطعته، وقمت بما يقتضيه السرساب، فهو ينمو ويكبر ويطغى عليك. ولكن إذا تجاهلت سرسابك، إذا لم تمارس شؤون الوسواس في نفسك، فهو يتضاءل حتى يموت.
الحديث الشريف يؤكد أن الإنسان إذا كان حسودًا في قلبه، وربما كان الإنسان حسودًا في نفسه، ولكن ما نطق بشفتيه يعني أنه لم يمارس بلسانه أو بعمله، عملًا ضد المحسود فالحسد يتضاءل حتى يموت. بينما إذا حسدت شخصًا وقلت عليه شرًا أو تصرفت ضده شيئًا، فحسدك ينمو وينمو وينمو ويعذبك أكثر. هذه طبيعة الإنسان، وطبيعة الغرائز النفسية. وهكذا الإيمان بالله والإيمان بغير الله. الإيمان بالله إذا مارست مقتضياته، يعني صليت، يعني تركت المحرم لله، أطعت الواجب لله، كلما مارست هذا الشيء أكثر، إيمانك يقوى. ولكن إذا ما تجاهلت وقلت، إيماني في قلبي، لا يخص عملي، أنا حر في تصرفاتي، إيماني بيني وبين الله، لكن عملي أنا حر، إذا عملت هكذا فإيمانك يضعف، يضعف حتى يموت؛ ويبقى فتيل الإيمان، وتبقى صورة الإيمان في قلبك.
رعاية رضى الناس، المجاملات، حينما أجامل غريزة إرضاء الناس عندي تكبر وتنمو وتتبلور، حتى تتحول هذه الغريزة إلى كل وجودي. فأصبح لا أقوم بشيء إلا إذا عرف الناس. ولا أترك شيئًا إلا إذا عرف الناس، لا أطالع شيئًا إلا إذا قلت للناس ولا أصلي إلا إذا عرفت الناس، فأصبح الناس إلهًا عندي من دون الله. ما هو الإله؟ حينما يقول القرآن: ﴿أرأيت الذي اتخذ إلهه هواه﴾ [الفرقان، 43] كيف يمكن أن يكون إلهه هواه؟ هل من أحد يصلي لأجل هواه؟ لا! إلهه هواه، يعني كان إلهه باعثًا ودافعًا لتصرفاته، قدس الأقداس عنده وهذا المعنى، معناه انحراف الإنسان والشرك الخفي في حياة الإنسان.
فإذًا، إذا نريد أن نقتدي بعليّ، ونكون من المأمومين له ويكون هو إمامًا لنا، يجب أن نحافظ على هذه الخطوات الصغيرة والتصرفات الجزئية التي تحول نفسي وخطتي وسلوكي نحو غير الله.
عليّ كان في سره وعلانيته وبحضور الناس وفي غيابهم كان يقوم لله. ولهذا أصبح وبلغ في مقام صلاته ونسكه ومحياه ومماته، صار لرب العالمين. نتيجة لهذا الخط علي هو الجد، علي لا يقبل المزح، علي مع الحق والحق معه إن أتيته يعني بحضورك وبغيابك، عندما كان على الكرسي وعندما نزل إلى القبر.
خطبة عليّ يوم توليه للخلافة، وخطبة عليّ يوم كان في الفراش موصيًا، كلمات متشابهة لا فرق بينهما. فالرجل حينما يستلم الخلافة يستلمها كرسالة، يحتقرها إلا إذا كانت وسيلة لإقامة حق أو إبطـال باطل، الموت والحياة عند عليّ سواء. عند الخلافة وعند القبر في الحضور وفي الغياب، في السر وفي العلن مع الحق. في حال الطمع، وفي حال الخوف، وفي حالة اللاتفاوت، قِسْ نفسك وقِسْ نفسي، إذا كان في معاملة ما ربحًا والربح كان حرامًا، فإذا كنت مع الحق أراعي هذا الجانب ولا أنحرف. بينما إذا لم أكن مع الحق، الشيطان يخوفنا من الفقر ويأمرنا بالفحشاء والمنكرات.
أنا أقول إذا ما عملت هذه المعاملة غدًا أفتقر، أولادي (يتعتروا)، فإذًا، الحق يتغير عند الخوف من الفقر وعند الطمع بالربح، بينما عند الخسارة وعند الأرباح وعند اللا تفاوت الحق واحد لم يلد ولم يولد. نحن حينما نبتعد عن المعركة، نقول ونحكي ونتكلم ونتصرف ولكن حينما ندخل المعركة نجد أنفسنا في غير صورة. إذا كنا مع الحق دائمًا لا نبالي في المعركة وفي خارج المعركة، عندئدٍ نتمكن أن نتحول إلى جنود الله وإن جند الله هم الغالبون. حينها نكون مع الحق دائمًا داخل المعركة وخارج المعركة.
أيها الإخوة الأعزاء،
عليّ عظيم، عظيم، عظيم جدًا، قدر ما تريد قلْ عظيم، ولكن عليًّا ليس لؤلؤة تحفظ في الواجهات، وتسجل في الألواح ونعتز بها نحن ونقول هذا عليّ. أبدًا! عليّ هو الإمام، فبمقدار ما تطبق سيرة عليّ، وتزن بميزان عليّ وتتشابه بعليّ، فأنت من عليّ وعليّ منك.
ونسأل الله أن تكون هذه الذكرى الطيبة، التي هي إعادة التفكير في هذه الشخصية العظيمة، في هذه الليالي المباركة يكون وجود هذه الذكرى سببًا متينًا لترسيخ شعورنا بلزوم متابعة عليّ والسير مع عليّ.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق.
والسلام عليكم.
______________________
خطبة للإمام الصدر ألقاها في مركز الجمعية الخيرية في برج البراجنة بتاريخ 1968/12/14، ونُشِرت في جريدة الحياة بتاريخ 1968/12/19.