سماوية الإسلام

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

أيام فضيلة وشهر نور يحتضن معجزات نبي الهدى... براق يسري ليلًا به إلى أرض مباركة، وتصديق بالنبوة، وتقديس للمبدأ والمنتهى... معاني طموح الإنسان وسلوكه خط الرسالة المحمدية تختزنها مناسبات ثلاث في رجب: الإسراء والمعراج والمبعث النبوي. وفي هذه المحاضرة للإمام الصدر يبين كيفية احتفالنا الحقيقي لهذه الذكريات بالعمل بتعاليم الإسلام. 

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم

في الحقيقة بعد الاستماع إلى ما استمعنا إليه يصعب عليّ التحدث، ولو لم يكن في حديثي جانب آخر هو تطبيق لهذه الرغبات المؤمنة الصادقة لاكتفيت بالصمت؛ ولكن كلِّفنا بأن نصبر، ونجنّد أنفسنا، ونجنّد الطاقات البشرية، ونقول ونعمل حتى على رؤوس الحراب، وحتى في حالات مثل حالاتنا، ولا أكثر من هذا الوقت، حالة مثل حالنا.
ذكرى المبعث والإسراء والمعراج، في حديثي مقدمة موجزة أبحث فيها عن معاني هذه الذكرى بالصورة التاريخية ثم أحاول أن أستعرض معكم الجانب الذي ذكرت.
المبعث، هذا اليوم مبدأ الإسلام وبدء تنزيل القرآن الكريم، وأحب أن أذكر لكم إيضاحًا هو أن القرآن الكريم قد نزل مرتين، مرة بصورة دفعية التي يعبر عنها القرآن بالإنزال: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ [القدر، 1]، ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ [الدخان، 3]، ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ [البقرة، 185]. النزول الدفعي للقرآن على قلب محمد (ص) كان في شهر رمضان، ولكن بعد أن أُنزل القرآن وأُحكمت آياته، جاء دور التنزيل والتفصيل. وكما تعلمون التنزيل في اللغة الترتيب أو النزول بالتدريج، وكان القرآن ابتداءً من هذا اليوم وإلى مدة 23 سنة قد نزل تدريجيًا لكي يُقال ويُقرأ على الناس. وهكذا نعرف سبب تسمية هذا اليوم بالمبعث.
وسبب تسمية ليلة القدر بليلة نزول القرآن، من دون أن يتنافى أمر مع أمر وإليكم بعض الشواهد القرآنية: ﴿كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ [هود، 1]، مرتان أُحكمت ثم فُصلت. والآيات التي تشير إلى أن النبي كان يعرف القرآن قبل أن يؤمر بالبيان والقراءة للناس: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾ [طه، 114]، وآية أخرى: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به* إن علينا جمعه وقرآنه* فإذا قرآناه فاتبع قرآنه* ثم إن علينا بيانه﴾ [القيامة، 16-19]. وهكذا نجد تفسيرًا لاحتفالنا هذا اليوم بمبعث النبي وبدء رسالته.
أما الإسراء فكما تعلمون، السير في الليل أعدّه الله لرسوله في ليلة هذا النهار والمعبر عنه في القرآن الكريم: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام الأقصى إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله﴾ [الإسراء، 1]، والغاية: ﴿لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾ [الإسراء، 1].
والمعراج المعبَّر عنه بسورة النجم في آيات كثيرة يذكر القرآن غاية المعراج بهذا التعبير: ﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى﴾ [النجم، 10-12] وفي بعض آيات قليلة وردت هذه الآيات: ﴿لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ [النجم، 18]. فالإسراء انتقال محمد في الليل بجسمه -وهو عبد لله- من مكة إلى المسجد الأقصى، ومن المسجد الأقصى إلى ما يعلمه إلا الله لكي يوحى إليه، ولكي يرى من آيات ربه الكبرى، هذا هو المبعث والإسراء والمعراج، الملتقي كلٌ مع الآخر في ذكرانا هذا اليوم.
أحب أن أذكر هنا بعض النقاط لعلها تفسر لقاء هذه الذكريات الثلاث في يوم واحد؛ فالمبعث كما تعلمون بدء الإسلام وانطلاق الإسلام، والإسراء انتقال النبي من مكة... من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى اتساع الإسلام، شمول الإسلام، تصديق الإسلام للنبيين: ﴿لا نفرق بين أحد من رسله﴾ [البقرة، 285]، وكونه وارثًا للرسالات السماوية، مقدسًا لجميع الرسالات، مرتبطًا بهم، محترمًا لأمرهم.
[هذه الذكرى تعني] الإسلام واتساعه وتصديق النبيين وحماية رسالتهم في يوم واحد. وهكذا نرى بعض آيات من سورة الإسراء، هذه الآية التي تؤكد احترام الإسلام بشكل صريح لجميع الديانات: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [البقرة، 62]، اعتراف وتصديق بأن الرسالات من الله، وأننا: ﴿لا نفرق بين أحد من رسله﴾ [البقرة، 285].
والمعراج طموح الإنسان ووصول الإنسان إلى السماء، إلى الله... وصول الإنسان... عبد، هذه الكلمة التي تتكرر في واقعة الإسراء وفي واقعة المعراج. عبد الله أُسريَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعبد الله عُرِج به الى السماء: ﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ [النجم، 10]، يبين أبعاد الإنسان. لا يقول إن محمدًا غير البشر، وإن كان هو سيد البشر، ولكن يقول: ﴿أسرى بعبده﴾ [الإسراء، 1]، تأكيدًا لخطنا وسيرنا ورسالتنا، وأنه هو قائدنا والنموذج الأمثل لحياتنا. فنحن أبعادنا الأرضية من بلد إلى بلد، وأبعادنا السماوية إلى الله، هذا هو خطنا. والإسلام يتكون من هذه المجموعة، من هذه النقاط الثلاث، المبعث والإسراء والمعراج. وهذه النقاط الثلاث تلتقي لكي تكوّن الإسلام الحقيقي ومن دون أحدها لا معنى للآخرين. هذه خلاصة لتفسير هذه الذكريات الثلاث.
أما نحن فنحتفل ونعيد إلى أذهاننا معاني هذا اليوم، نحضر اجتماعًا، لكي ننظر إلى الصور التي يرسمها المتكلمون والخطباء عن معنى هذا اليوم. سمعتم وارتسمت أمامكم حقيقة اللوحة، في هذا اليوم استمعنا ما معنى هذا اليوم، نظرنا إلى هذه اللوحة وعشنا معناها بأعيننا وبعاطفتنا، ونريد أن نعيش بقلوبنا وبأعمالنا. حينما نريد أن نعيش المبعث يعني أن نكرم تعاليم الإسلام ونعمل بها، وحينما نعيش ذكرى الإسراء يعني نعيش تنقل النبي وننتقل معه ونقدس المبدأ والمنتهى، ولا نفرق بين بدء الحركة ونهايتها. وحينما نعيش المعراج يعني نتذكر طموح الإنسان، سماوية الإسلام، أبعاد الإنسان الذي يسير مع النبي، ويسلك خط الرسالة المحمدية.
نعيش هذه الذكريات في هذا الوقت، وأحب أن أضيف إلى هذه المعاني وهذه التعاليم بعض الإيضاحات. هناك أبحاث تطرح في هذا اليوم هنا وهناك. يقال إن اليهود هم استلموا القدس، واليهود من أتباع الرسالة السماوية من أتباع موسى، ويقولون إن التوحيد هو دين نادى به اليهود قبل المسيح وقبل محمد؛ فهم مبدأ هذه السلسلة، وهم بدء هذه الحلقة، دينًا وحضارة وتعاليم، هذه الكلمات التي طالما تغش الفكر الغربي والإنسان البدائي الغريق في حياته المادية كلمات خطرة يجب أن نبحث في بعضها وفي مدى صحتها.
عبادة الله الواحد ما بدأت عند اليهود، بل أول من أسس بنيان عبادة الله الواحد ووضع أسسه وركائزه هو إبراهيم (ع) الذي يسميه القرآن الكريم مؤسس الإسلام وأبو الأنبياء الكرام. أما العبادة البسيطة البدائية لله الواحد فقد كانت مع الإنسان من أول يوم حينما خلق الإنسان كان يعبد الإله الواحد ثم انحرف بعكس ما يقال أو يفلسف أن الإنسان فهمه من الله تطور نتيجة للوضع الاقتصادي أو الوضع الاجتماعي الخاص به، بالعكس الأدلة التاريخية تثبت بأن الإنسان الأولي كان يؤمن بالإله الأسمى. والمكتشفات التاريخية عند الهنود الحمر، وعند الأقزام في إفريقيا، وعند الآريين مكتشفات معروفة لدى علماء تاريخ الأديان تثبت قدم التوحيد بالشكل البسيط عند جميع البشر.
نعم! حينما جاء اليهود إلى فلسطين وجدوا في فلسطين قبائل عربية... كنعانيين وغيرهم، ووجدوا الفينيقيين وغيرهم في هذه المناطق، شردوهم. والتوراة تغنينا عن البحث في كيفية معاملة اليهود حينما جاؤوا إلى فلسطين... شردوهم، وقتلوا أولادهم، وأسروا نساؤهم، واحتالوا بكلّ أنواع الحيلة والمكر حتى سيطروا عليهم. وكانت القبائل هذه تؤمن بالإله الواحد وكانوا يسمون إلههم إيل. تأثرت هذه الفرقة المنحرفة بهذه الفكرة، وحاولت هذه الفرقة أن تجعل لنفسها إلهًا خاصًا يكون إله اليهود، هنا يأتي الانفصال والانحراف ومبدأ الحديث الذي أحب أن أذكر في هذا اليوم.
خلقوا إلهًا لهم سموه يهوه إله اليهود، وسموا أنفسهم شعب الله المختار، واعتبروا أنفسهم قادة العالم، وصنفوا البشر إلى قسمين، إلى قسم أول هم اليهود، وقسم ثانٍ هو بقية البشر التي خُلقت لكي تكون في خدمة الإنسان المختار. ولكي يتمكنوا من تمييز أنفسهم عن الآخرين ما اكتفوا بالملابسات والشؤون والظروف والكفاءات الفردية، بل حاولوا أن يعمقوا الفلسفة فيبدأوا من الأساس، إلههم غير إلهنا، هكذا كانوا يعتقدون. وهذا هو الشيء الذي: ﴿ما نزل الله بها من سلطان﴾ [الأعراف، 71]، وموسى (ع) متبرىء وبريء من هذا الحديث ولا يقول شيئًا. غيروا جميع معالم دينهم وحرفوا كتابهم وإذا لاحظت كتابهم كيف عاش لوط وكيف زنى ببناته، وكيف أنتج من بناته أحفادهم لتعرف مدى تمسكهم بمبادىء الخلق، وأساس الإنسانية والشرف. تجد في التوراة أشياء غريبة أستحي من ذكرها، أقبح مما ذكرت بالنسبة لكلّ شيء وبالنسبة لكلّ قيمة. كلّ هذا شرف وكمال لهم.
الحقيقة أنني أستحي وكنت أحب أن أذكر بعض النماذج كيف اجتمع سليمان بملكة سبأ وأنتج الملوك ملوك الحبشة؛ لا أحب أن أذكر الأشياء التي يستحي الإنسان أن يعبر عنها، هذه هي التوراة. إلههم يهوه، كتابهم التوراة، هم شعب الله المختار، لهم شؤون تختلف عن كلّ إنسان. وهكذا تكوّنت هذه العنصرية البشرية الفلسفية الدينية العميقة، وهكذا تكوّنت هذه المصيبة للبشرية من أسبق أيام التاريخ وإلى يومنا هذا. يقولون شعب الله المختار... اختارهم في فترة معينة وفي مرحلة خاصة من الزمن فحمّلهم رسالة الله، فخانوا كما نجد، وحرفوا وكفروا بالرسالة، فأخذ منهم الرسالة وأعطاها لشعب آخر وهذا هو نص القرآن المجيد ونص الإنجيل. أقرأ لكم قسمًا منها في واقعة معروفة، يسأل السيد المسيح كبار القوم ويذكر لهم مثلًا الكرّامين الذين استأجروا بستانًا كرمًا. وامتنعوا عن دفع الأموال والتعويض لأصحابه فبعث أجرائه، فقتلوا بعضهم وشردوا بعضهم، وأسروا بعضهم. ثم بعث ابنه فلما رأى الكرامون الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونستولي على ميراثه، فقبضوا عليه وطرحوه خارج الكرم وقتلوه. هذا موجود بإنجيل متى في الإصحاح 21. فإذا جاء رب الكرم... فماذا يفعل بأولئك الكرّامين؟ المسيح يسألهم. يقولون إنه يهلك أولئك الأردياء على شر وجه، ويدفع الكرم إلى كرّامين آخرين يؤدون إليه الثمر في وقته وفي أوانه. من هؤلاء؟ غيرهم حتمًا.
حينئذٍ قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رذله البناؤون هو صار رأسًا للزاوية من قبل الرب، كان ذلك وهو عجيب في أعيننا، من أجل ذلك أقول لكم أن ملكوت الله يعني رسالة الله يُنزع منكم ويدفع إلى أمة تستثمره فلما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون مثاله، فهموا أن التعريض بهم. من هؤلاء؟ ومن هو الشعب الذي هو غيرهم والذي رذله البناؤون، فأصبح حجرًا للزاوية؟ هذه هي... أمتكم أيها العرب. ثم غالوا، فقتلوا أنبياء الله بغير حق، وبدأوا تاريخًا كله مؤامرات ودس وفتنة.
فإذا لاحظنا تاريخ المسيحية وتاريخ الإسلام نجد أنه مليء بأنواع من المواجهة والدس والفتنة والمؤامرات. فالمسيحيون بعدما حاولوا قتل المسيح وما تمكنوا حسب رأينا بدأ اليهود بتشريد المسيحيين، وخلق الفتن، وتكوين المؤامرات، وقتل مئات الألوف منهم، وخلق مشاكل وصعوبات لهم، وما اكتفوا بهذه المواجهة حتى قسم منهم يذكرهم التاريخ تلبّس... وتلبّس ثوب الإيمان، ودخل فيهم وغير وبدل وحاول خلق المشاكل والفتن. وموقفهم من الإسلام لا يختلف عن هذا، فنحن نجد بعض المواجهات والمؤامرات والتحالف الموجود بينهم وبين المشركين، خاصة في واقعة الأحزاب والصعوبات الأخرى والتحقير والدس والفتنة، ما اكتفوا بهذا فحاولوا أن يكوّنوا عناصر... لبسوا ثوب الإسلام ودخلوا في رواة الحديث وأخذوا منهم الكتب، وتركوا لنا تركة مثقلة من الأحاديث التي نسميها اليوم بالإسرائيليات وما أكثرها في كتبنا، وما أكثر مشقة الاجتهاد وتمحيص الصحيح من الباطل نتيجة لوجود هذا النوع من المؤامرات.
يقول القرآن الكريم في سورة الجمعة، السورة التي نقرأها دائمًا يوم الجمعة يذكرنا -أريد أن أقول- ليس كرههم والحذر الذي وجه إلينا من قبل القرآن أو الإنجيل تحذيرًا عنصريًا، لأنهم كانوا يكرهون هذا العنصر أبدًا، هناك سبب أساسي عميق في فلسفتهم ورأيهم وتكوينهم وتفسيرهم؛ القرآن الكريم يقول في سورة الجمعة، هذه السورة نقرأها كلّ جمعة: ﴿مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها﴾ [الجمعة، 5]، لا يعتزوا بأن عندهم التوراة كتاب الله: ﴿ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [الجمعة، 5]، دائمًا كلّ جمعة يقول القرآن أيها الناس: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [الجمعة، 5]؛ لا تأتمنوا عليهم، ولا ترتاحوا إليهم، لا تغفلوا عن خطرهم، لا تقللوا أخطارهم ومؤامراتهم، ثم يقول: ﴿قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس﴾ [الجمعة، 6] -شعب الله المختار- ﴿إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدًا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين﴾ [الجمعة، 6-7]. يركز القرآن على هذا، ثم يقول بالنسبة إلى صِلاتهم مع المسيح يقول: ﴿إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليّ مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون﴾ [آل عمران، 55]، وفي آية أخرى: ﴿وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله﴾ [البقرة، 61]. يقول هذا القرآن، وماذا يقصد؟
يذكرنا من أول يوم يا جماعة أيها الناس لا تنخدعوا، لا تغتروا، لا تمكنوهم: ﴿ضربت عليهم الذلة والمسكنة﴾ [البقرة، 61] ليس معناها أنها ضربت بالفعل، بل معناها أنها ضربت على أيديكم إذا أنتم موجودين؛ الخبر في موقع الإنشاء.
القرآن الكريم ينذرنا، وهكذا المسيح في الإنجيل ينذرنا يقول: يا أورشيلم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين كم مرة شئت أن أجمع بينكم، أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا فهو ذا بيتكم -هذا كلام المسيح أيها المسيحيون- فهوذا بيتكم يترك لكم خرابًا، أي خراب هذا؟ خراب بأيديكم وليس أنه يترك خرابًا من دون ما تريدون. ويقول في مكان آخر: وخرج يسوع من الهيكل ومضى، فدنا إليه تلاميذه ليروه أبنية الهيكل، فأجاب وقال لهم: ألا ترون هذا كلّه، الحق أقول لكم أنه لن يترك ها هنا حجر على حجر إلا وانقضّ هذا هو إخبار القرآن، كلام الله أصدق ولكن نحن الذين كذبنا هذا.
يقول المسيح في إنجيل متى هذا بالنسبة لأورشليم، أما بالنسبة إلى القدس التي تحولت قدسًا بعد ذلك، يقول في مقدمة لا تدينوا لكي لا تدانوا. إنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني أُخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك؟ يا مرائي أَخرج أولًا الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك. بعد ذلك يقول: لا تعطوا القدس للكلاب، لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها وتلتفت إليكم فتمزقكم.
هذه التعاليم، أيها الإخوان، كانت إنذارات وكانت إعلام لواقع الخطر، نحن سكتنا. كلّ جمعة كنا نقرأ: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [البقرة، 258]، أيها الناس، انتبهوا! هؤلاء ظالمون: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [البقرة، 258]؛ كلّ جمعة، وفي كلّ آية كنا نقرأ. والمسيحيون كانوا يقرأون ولكن نمنا وسكتنا، فأسسوا أساسهم، ونظموا أمورهم، وأسسوا الصهيونية، وبدأوا بأساليب معروفة مطبوعة اليوم في الكتب، بدأوا يطبقون خططهم، واستولوا على هذه المنطقة. والعالم المسيحي يسكت اليوم ولا يسمع ما يقوله المسيح، يسكت ويؤيد وسوف يواجه الخطر الداهم في مستقبل العالم. حتى في يومنا هذا إذا أردنا الحقيقة هل الأخلاق والتربية والدين المسيحي في أمن من اليهود؟ الذي يقول هذه الكلمة جاهل بما يجري في العالم اليوم. في جميع المناطق في العالم هناك مؤسسات تفسد الأخلاق يهودية، هناك مؤسسات تكون العقائد الهدامة، هناك مؤسسات تدس وتخلق الفتن وتكوّن النزاع الدائم بين الشعوب مؤسسات يهودية؛ قائمة هذه المؤسسات، ونحن لا نسمع... كتب كثيرة أخيرًا انتشرت في بعضها مذكور حتى تجارة الخمور وراءها اليهود، الفساد والعهر في كلّ مكان أكثرها مستند إليهم ورؤوس الخيوط بأيديهم، ومع ذلك العالم يسكت وسوف يرى نتيجة سكوته. يقولون إن هؤلاء ما قتلوا المسيح، نحن نعتقد بأن الرضا بعمل قوم مشاركة معهم.
نحن نقول إذا أنت رأيت المنكر فعليك أن تنهى بيدك، وإلا فبلسانك، وإلا فبقلبك وهذا أضعف الإيمان. الذي يرى المنكر ويرضى به عنه فهو مشارك به، هذا مبدأ ديني ومبدأ علمي، لماذا مبدأ علمي؟ لأن الإنسان يسمو ويكبر ويعرج ويتقدم بأعماله، لا بواقع أعماله لأن واقع الأعمال لا يؤثر في سمو الإنسان؛ الجانب المتصل بين العمل وبين الإنسان هذا الذي يجعل الإنسان ساميًا وهذا يعود إلى النية، أنت ربما تقوم بعمل صغير بنية سامية فتسمو، وربما تقوم بعمل كبير كبير جدًا وما عندك نية لا تسمو، لماذا؟ لأن تأثير الفعل على سموك من خلال نيتك، ولهذا قالوا: إنما الأعمال بالنيات. المشاركة بالنية، وهكذا نفهم نحن التعاليم الدينية، ولا تفسير للخطيئة الأزلية والغفران والفداء إلا على هذا الأساس.
أما اليهود في الوقت الحاضر، أما الصهيونية ماذا تقول في هذا اليوم؟ هل ترى لو ظهر المسيح في هذا اليوم، وذهب إلى القدس وقال كما قال في المرة الأولى، ماذا قال أول مرة دخل يسوع الهيكل (متى، الإصحاح 21): ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وقال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.
هل يا ترى لو دخل المسيح في هذا اليوم إلى القدس ووجد أنه مركز للسياسة العنصرية والمؤامرات على سلامة الشعوب وتشريد الناس وفساد الأخلاق، إذا وجدها مركزًا للاحتكارات العالمية، إذا وجدها مركزًا للتآمر على حياة الناس وسلامة الناس، ماذا يقول لهم؟ أيعمل معهم مثلما عمل مع أجدادهم؟
وحنيئذ ماذا يقول اليهود للمسيح إذا حضر في هذا اليوم؟ إما يقولون يجب قتله وإما يقولون إنه كاذب؟ إما يقولون في جواب بيلاطس، إذا وجد في هذا اليوم، أخذ بيلاطس... وغسل يديه على مشهد من الجمع (هذا متى 27) قائلًا: أنا بريء من هذا الدم فأنتم وما ترون. فأجاب الشعب كلّه قائلًا: دمه علينا وعلى أولادنا. هذا الدم اليوم قائم يعني اليوم اليهودية الصهيونية -هذا رأيهم- تقول لو كان المسيح دخل في هذا اليوم وتصرف هذا التصرف، لكانت تصرفت معه نفس التصرف، وإلا لماذا ما آمنوا به؟ هذا التصرف دليل على أنهم مشاركون في هذا الدم بكلّ معنى الكلمة.
فإذًا، القرآن الكريم ومن قبله الإنجيل المقدس، ومن قبلهما البشر الواعي المطلع على أفكار اليهود وعلى نزعاتهم وفلسفتهم وآرائهم، كان يعرف هذا الخطر وكان يحاول أن يحول دون استفحال هذا الخطر، أما وإن الخطر قد استفحل، والمصيبة قد وقعت، وقد وجد القوم كيانًا يرتكزون عليه ويقومون فيه، ويحاولون أن ينفذوا مآربهم ويطبقوا كونهم شعب الله المختار فما الحيلة، وما الواجب؟
الخطر علينا، على الدين، على الإسلام، على المسيحية، على الأرض، على الكرامات، على الأولاد... الخطر على كلّ شيء. خطر أنذرونا السابقون ونحن نلمسه بأيدينا، ماذا نعمل أيها الإخوان؟ سمعتم في هذه الأبحاث القيّمة الشيء الكثير منه، نحن حينما نشعر وحينما نلمس بأن الخطر اليهودي هو الخطر الأول في حياتنا قبل كلّ شيء علينا أن ننتظر أمرًا بالجهاد؟ ليس هذا هو الجهاد هذا هو الدفاع.
لا نريد أن نجاهد، نريد أن ندافع، ألسنا في خطر؟ أليس ديننا وبلدنا وأرضنا في خطر؟ الخطر داهم وواقع. علينا أن نستعد وأن نعمل، علينا أن نجند كافة طاقاتنا، علينا أن نستعمل لساننا ويدنا وقلبنا وفكرنا، علينا أن نستعين بالطاقات الموجودة في العالم، علينا أن نجند الطاقات الإسلامية في العالم والطاقات المسيحية في العالم والطاقات الإنسانية ذوات النوايا الحسنة، الإنسان الحر في العالم يجب أن نجنده؛ يجب أن لا نوفر شيئًا.
نحن أيها الإخوان كلمات نقولها ونسمعها دائمًا، ولكن حينما لمسنا كما لمسنا في هذا اليوم هذا الخطر وهذا المستقبل السيئ المظلم، يجب قبل كلّ شيء من دون ما ننتظر رأي أحد أو فكر أحد أو تقدير أحد، نحاسب أنفسنا في كلّ ساعة في كلّ يوم في كلّ أسبوع في كلّ شهر في كلّ سنة، ماذا قدمنا لحل قضية فلسطين؟ ماذا قمنا من الواجبات تجاه هذه المشكلة التي تهدد مصيرنا وأولادنا وأبناءنا؟ نتساءل في أنفسنا لا يمكن أيها الإخوان أن ننجو من هذا الخطر، ونحن نبقى نترك المسؤوليات من كاهل إلى كاهل قد نطلب من القادة، وقد نحبذ بالمقاومة الفلسطينية ماذا نحن نعمل؟
لا يكفي أن ندفع، لا يكفي أن نشجع. ماذا نقدم؟ هل هذه كافة طاقاتنا؟ علينا أيها الإخوان الكثير الكثير وكما سمعتم الطرق الوحيدة لتغيير هذا الإنسان وتحويله إلى الإنسان السليم، الإيمان وتقوية الإيمان، حتى تتجند هذه الطاقات في سبيل الحل وفي سبيل التحرير. نطالب نحن في هذا المكان، وبعد هذا البحث وبعدما استمعنا نطالب... أشياء واضحة هي من أوضح واجباتنا ومن أولى مسؤولياتنا في هذا اليوم العصيب، نطالب القادة ونطالب المنظمات والأحزاب والأفراد والمجموعات، نطالبهم بأن يتجندوا في سبيل خدمة هذه القضية، نطالبهم بأن لا يتركوا بأسهم في سبيل ضرب الآخرين.
أيها الإخوان لا شك أن في مجتمع، في أمة، في بلاد تجد ألوانًا من التفكير، وتجد التصدع كما سمعتم في مجتمعنا. ولكن يجب أن ننظر إلى الخطر الأول والأهم والأشد نعالجه ثم نأتي إلى الأخطار الثانية التي تأتي أقل خطورة من الخطر الأول، ماذا يكون لو كان القادة والمنظمات والجمعيات والأحزاب والطاقات تتنسق وتتجمع وتوجه كلّ طاقاتها في سبيل حل هذه المشكلة والقضاء وعلاج هذه المصيبة. يقولون لا يمكن أن يكون هناك تنسيق بين عمل المقاومة الفلسطينية والسياسات التي تتبناها الدول العربية. أقول هذا خطأ من السهل جدًا خلق هذا التنسيق إذا أرادوا، بعدما قالوا إن القضية الفلسطينية تُتْرَك للفلسطينيين، بعدما لا يتحمل الحكام مسؤولية هذه القضية مباشرة فكلّ يتمكن أن يؤدي دوره، أما شاهدنا المقاومة الجزائرية التي كانت تتجند وتتخذ مركزًا من تونس ومن المغرب ومن الصحراء؟ أما كانت المقاومة التحررية في بلاد أوروبا في أيام النازيين تتكون في البلدان المجاورة؟ فما المانع أن تتكون هذه المقاومة كجوار وكحق وكدفاع؟ لا مانع ونحن نطالب بإصرار، ونرجو ونتمنى أن يكون لصوتنا هذا أثر في قلبهم أن ينسقوا عملهم وأن يكونوا عند هذا المستوى من المسؤوليات في هذه الظروف العصيبة.
وفيما يعود إلينا وهذا ما نتمكن أن نبحث نحن بحاجة إلى أمور خاصة بنا كتقوية الإيمان، كتقوية صِلاتنا مع الله حتى نتقوى ونتشبت، ولكن نعيش في مجتمع يجب أن يكون المجتمع منسجمًا مع هذا الوضع وهذا الشعور. ولهذا نحن بحاجة إلى بعض التدابير الأساسية من هذه التدابير أن ندعو الحكومة وفيما بيننا أحد ممثليها الكرام الأعزاء، ندعوها وندعو مجلس النواب إلى تصويب قانون خدمة العلم والتجنيد، ولا نتهرب ولا نهرب من هذا الشيء إلا الخنّع المائعون منا، وسوف يكون كلّ من يدعي الجهاد والسعي، كلّ من يدعي العز والكرامة من السنين القليلة إلى السنين المتأخرة من العمر، كلنا مستعدون أن ندخل ونتجند ونتهيأ وبهذا نتمكن أن نعالج إلى حد ما بعض مشاكلنا الخلقية وخاصة عند شبابنا.
أيها الإخوة، الشباب حركة ورغبة في التغيير، الشباب من ميزته أنه يحب التغيير لأنه ليس مرتبطًا ارتباطًا عضويًا وارتباطًا عقليًا بالمجتمع الذي يعيش فيه. يحب أن يطور ويخرج عليه؛ هذه ثروة، يجب أن نستفيد من هذه الثروة يجب ألا نطلق شبابنا في بحر من الفساد والمجون، يجب ألا نترك المجال ولا نهيىء في أجوائنا إلى هذه الموجه العارمة من الفساد التي تقضي على قوة شبابنا وصلابتهم ومواقفهم. يجب أن نوجه بشكل فكري وبشكل خارجي الجو حتى يتوجه الشباب إلى هذا الطموح العظيم؛ يجب أن نوصيهم ونقول لهم نحن نضع الأسس ونرجو أنتم معنا أو أنتم بعدنا تصلون إلى النتائج من القضاء على هذه المصيبة.
ولهذا أيضًا نطالب بإصلاح هذا الوضع والتخفيف ووضع حد لهذا الفساد الذي يأتي من أبواب مختلفة من المجلات ومن البرامج التلفزيونية ومن الأفلام ومن اللهو والمجالس والبيوت الليلية الكثيرة لا يمكن لحكومة ولا لشعب يعيش في هذا الوضع أن يشعر باللامسؤولية المطلقة؛ وقد لخصها أخي العزيز الكريم كلّ هذا في هذه الكلمة، يجب أن نعيش مجتمع الحرب من دون مبالغة، نحن غير مصدقين أيها الإخوان، لماذا لا نصدق؟ هل هناك شيء بعيد؟ وقد شاهدنا ما حصل وسمعنا ما سيحصل، وسمعنا المخططات.
لماذا نشك أو لا نتحرك؟ هل تحولنا؟ هل تغيرنا؟ هل فقدنا طموحنا وأملنا وكراماتنا؟ كيف يمكن لمجتمع أن يعيش في حالة من اللامسؤولية وهو ينشد الرخاء الشخصي الفردي، وينسى أنه على أبواب الحرب ويعيش بين فكي التنين؟ علينا أن نعيش هذا المجتمع بكلّ ما عندنا من القوة لكي نوفر هذه الطاقات لعلاج هذه المصيبة التي هي الأولى. بعد هذا اليوم أيها الإخوان علينا كلّ يوم حينما ننام أن نسأل أنفسنا، هل نحن قمنا في هذا اليوم بخطوة لأجل هذه المشكلة أو ما قمنا؟ فإذا كان الجواب سلبيًا، نخاطب أنفسنا مع القرآن الكريم ومع الإنجيل بعد أن نعلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وبعد أن سمعنا ما سمعنا من التعاليم، يجب أن نوجه اللوم كلّ ليلة لأنفسنا بأننا ما قدمنا في هذا اليوم شيئًا؛ نحاسب أنفسنا، هذا معنى العيد، ولا عيد لأننا لا نعيش هذا المعنى. نعيش في ذكرياته وننظر إلى الأفق وإلى السنة القادمة حتى نعيش هذه المعاني حينئذٍ يكون العيد مباركًا لنا جميعًا.
والسلام عليكم.

source
عدد مرات التشغيل : 5