معنى الإيمان

الكاتب:موسى الصدر

* محاضرة للإمام موسى الصدر، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
بسم الله الرحمن الرحيم

إخواني الأعزاء،
السلام عليكم ورحمة الله،
هذه الحلقة الممتازة من حفلاتنا التي تجمع بين وداعة الطقس ودفء السهرة والقلوب المتآلفة المتآخية، أحببت أن أربطها بسلسلتين من الحلقات: السلسلة التي نعيشها في هذا الأسبوع، واستمرار حلقاتها.
كما أحبُّ أن أربطها بسلسلةٍ أخرى حينما كان سيادة الأخ الجليل المطران عبد (1) (حفظه الله) كان بينكم في هذه المنطقة، فقد وضع في نفوسكم من البركات وأعطى لهذا البيت الكريم من العواطف ما نشعر بها بعد مرور أشهرٍ عديدة، فنحن نجد في ليلتنا هذه روحه العطوف، التي تغمرني حينما أسافر إلى طرابلس في لبنان، أجد في ليلتنا هذه تلك الروح متجلّية، وهكذا أجد نفسي مستمعة إلى الكلمات الطيّبات التي ألقاها سيادة الحِبر الجليل المطران يوسف الخوري (2) في هذا البيت وفي هذه الكنيسة، والتي عبّر فيها عن شعوره الأخوي واطمئنانه الكلّي، وقد جعل هذا الجو الذي هو يسميه الوحدة الإنسانية دون الوحدة الوطنية، لأن سيادة المطران يوسف دائمًا يقول يجب أن نترفّع عن هذه الكلمة ونقول نحن نعيش في دور الوحدة الإنسانية. أسمع كلماته، ولا شكّ أنّي في خطابي هذا أوجّه حديثي وشكري وتقديري إليكم وإلى صاحب الدعوة وإلى السيّدين الجليلين الغائبين وفّقنا الله جميعًا لخدمة دينه.
وأمّا كلمتي في هذه الليلة، هي تعبيرٌ وتحديدٌ لِمَا يجيشُ في قلبِ كل واحد منّا، فنحن في الوطن وفي المهجر نشعرُ برغبةٍ صادقة للتآلف وللاجتماع وللحضور حول مائدةٍ واحدة. نحبُّ أن تستمِر هذه الاجتماعات، وأن يتركّز هذا التعاون والتفاعل الذي هو ضروريٌّ لوجود المجتمعات، كلُّنا نرغب إلى هذا، ولكن عوامل خارجية عن الإنسان -هذه العوامل- تُحدِث بعض الشكّ في نفس كلّ واحدٍ منّا. هذه الشكوك تجعل كلُّ نفسٍ غير مُطمئنَّة مئة بالمئة ولكن النفس تعيشُ في تناقض. فرغبة [الإنسان] النفسية الصادقة تميل وتشجّعه إلى التعاون الأخوي، مهما كانت الظروف وتفاوت الآراء والعقائد، ولكن أمام هذا الشعور الصادق تقف شكوك، فما أحوجنا إلى تحديد مواقفنا وفلسفة تعاوننا حتى نكون على بيّنة من أمرنا، فنتعاون بملء حرّيتنا ورغبتنا، ونشعر في تعاوننا هذا أننا نرضي الرغبة الصادقة في قلوبنا ونؤدّي واجبنا الديني في نفس الوقت.
ولهذا أحبُّ أن أتجاوز عن رغباتي ورغباتكم، ونستمع إلى كلام الله الذي يحدد مفهوم هذا التعاون الأخوي بيننا جميعًا، فنجد في القرآن الكريم غير الآيات التي تُشيد بذكر المودة الكريمة التي تجيش في نفوس المسيحيين أمام النبي الكريم وأمام المسلمين في قوله: ﴿ولتجدنّ أقربهم مودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون﴾ [المائدة، 82] إلى آخر الآية. غير هذه الآيات العاطفية، هناك آيات منطقية، ولا عاطفة مجرّدة عن المنطق بالكلام الإلهي. تحديد وفلسفة هذا التعاون يتلخّص في الآية الكريمة حينما يدعو الله سبحانه وتعالى نبيّه قائلًا: ﴿قُل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم﴾ [آل عمران، 64]. يحاول القرآن الكريم أن يضع قاعدةً أساسيةً مُحكَمة بالتعاون الصادق الأخوي المخلص، التعاون الذي نتمكّن أن نُدين به في سرِّنا وفي علانيتنا، عندما نجتمع وعندما نفترق، عندما نتصادق وحتى عندما نتخالف. يجب أن نقف على هذه القاعدة، وننطلق من هذه القاعدة، حتى لا نلوم أنفسنا في كثير من الأحيان. اسمحوا لي أن أكون صريحًا في ليلتي هذه، الليلة التي أخي السيّد ريمون وإخوانيَ الحاضرين يحاولون أن يؤكّدوا فيها بلسانهم ووجوههم وكرمهم واجتماعهم وجلوسهم إلى الوقت المتأخر من الليل، يريدون أن يؤكّدوا أنهم مخلصين في هذه العواطف النبيلة، كما أننا نشعر بهذا شعورًا صادقًا.
أقول إذا صادقت وصدقت القول، وأخبرت أن كثيرين منّا حينما يجتمعون فيتكلّمون بكلمات المحبّة والوداد، ثم حينما يفترقون كثيرًا ما لا يشعرون بهذا النوع من الشعور. هذا الإنسان الصادق، الإنسان السليم، الإنسان الإنسان يلومُ نفسه، لأنه لماذا يجب عليَّ ويُفرض عليَّ أن أتكلّم شكلين وأن أفكّر بصورتين؟ هذا التناقض ناتج من أنه نحن لا نبني تعاوننا على النقطة المنطقية، ولا ننبثق من القاعدة الأساسية التي أمرنا بالانطلاق منها ديننا الذي نُدين به ونتحمّس له ونتعصّب له ونؤيّده. هذا القرآن الذي جاء بالإسلام، والذي هو كل الإسلام، أول الإسلام وآخر الإسلام، هذا القرآن بالذات الذي يأمر المسلمين بواجباتهم ومحرماتهم وشريعتهم وعقيدتهم وأخلاقهم، نفس القرآن يضع قاعدة أساسية لهذا التعاون، كما أن الإنجيل المقدّس يؤيّد هذه القاعدة بصورةٍ صريحة في كثيرٍ من الآيات في الإنجيل وفي رسائل بولس الرسول. فإذا بدأنا من هذه القاعدة بالذات، نتمكّن أن نتعاون مئة بالمئة، ونحبّ مئة بالمئة ونصادق من دون تردد، ونتكلّم من دون تحفّظ، ونعيش بكل ارتياح واتفاق وإيمان وإخلاص. هذه القاعدة هي الإيمان بالله، هذه القاعدة التي يجعلها القرآن حدّ وميزان التعاون الأخويّ الصادق بين أهل الكتاب كلّهم.
نرجع إلى هذه القاعدة حتى نفكّر في معنى الإيمان بالله. كثيرون منّا يعتقدون أنّهم مؤمنين بالله؛ نحن مؤمنون بالله، ولكن هل إيماننا بالله إيمانٌ حيّ؟ إيمانٌ نابض؟ إيمانٌ محرِّك؟ أو إيماننا بالله إيمانٌ شكليّ؟ قد يُكتَب في هويّتنا وتذكرة نفوسنا، ديننا: مسلم أو مسيحي؛ وقد يُكتَب في قلبنا كلمة مسلم أو مسيحي، يُكتَب... هذا شكل الإيمان. الإيمان الحيّ هو الإيمان المحرِّك، هو الإيمان الواعي، هو الإيمان الذي يشعُر الإنسان بأنّه موجود في صداقته، في عداوته، في حياته، في معاملته، في بيته، في خارج بيته، يجب أن نشعر بهذا الإيمان؛ فلنبحث في معنى الإيمان بالله، هل للإيمان بالله هذا المفعول السحري حتى يجمع بيننا جميعًا من دون تردد، ومن دون تخوّف، ومن دون نفاق ومن دون دَجَل، هل هذا الإيمان له هذا الأثر الكبير؟ نعم، الإيمان بالله.
أولًا، لماذا يبدأ الدين من هذه النقطة بالذات؟ لماذا لا يبدأ بإيماننا بالإنسان؟ بشعورنا المشترك في كل شيء، في آلامنا، في أعمالنا، في مصالحنا، في رأفة قلوبنا أمام الضعيف، أمام المظلوم، أمام الفقير، هذه نقاط أيضًا مشتركة؛ لماذا يبدأ الدين بنقطة الإيمان بالله؟ لأنه يريد أن يستند على أخلص صفات الإنسان، على أجمل صفةٍ يُؤمن بها الإنسان، وهي الوفاء، لأن الإنسان إذا تجرّد عن كل شيء لا يمكن أن يتجرّد عن الوفاء؛ من لا وفاء له لا دين له، ولا إنسانية له. الوفاء هو النقطة الأولى في بناء صفات الإنسان وإنسانيّة الإنسان، ولا شكّ أن الإنسان الوفي لا يتمكن أن ينسى نِعَمَ الله عليه، تلك النِعَمْ التي هي كلّ وجود الإنسان، فأيّ شيءٍ نملكهُ نحنُ من دون الله؟ هل نعيش على أرضٍ غير أرض الله؟ هل نأتي إلى الدنيا بغير إرادة الله؟ هل نأكل إلّا من رزقِ الله؟ هل نسعى إلّا بقوّة الله؟ أبدًا. كلّ ما نملك وكلّ ما نحبّ وكلّ ما نجِد من نِعَمِ الله سبحانه وتعالى، فنحنُ غريقون بنِعَمِ الله.
اسمحوا لي حتى أعمّق هذه الكلمة في نفسي وفي نفس الإخوان، نحن أوفياء لصديقنا، لأنه خدَمَنا مرّة، لأنه أنقذنا من مصيبةٍ مرّة، لأنه أنقذنا من الموت مرّة. فإذًا، لماذا لا نكون أوفياء لله وهو الخالق، وهو المنقذ، وهو المُنعِم، وهو المتفضِّل في جميع الأحوال! أيّ ساعة وأيّ وقت، لا نشعُر بنِعَمِ الله وحياتنا ونِعَمِنا وصحّتنا ووعينا وسلامة عقولنا، كلّها نِعَمِ من الله سبحانه وتعالى.
الإنسان الوفي يحتفظ بوفائه لأبويه، وأنتم تعلمون شعور كلِّ واحدٍ منّا تجاه أبينا وأمّنا. دور الأب والأم في حياتنا هل يُقاس بدور الله؟ أبدًا. فلنبحث عن دور الله في تكويننا وعن دور الأبوين في تكويننا.
نحن حينما وُلِدنا كان مبدأ حياتنا النُطفة المكوّنة من الأب والأم؛ بدأت النُطفة تتغذى بغذاء الأم، ثم كبُرت ووُلد الطفل صغيرًا، فبدأ يتغذّى بالأغذية حتى صار إنسانًا كاملًا. كيف ينمو الطفل، وكيف تنمو النُطفة؟ النُطفة الصغيرة، التي لا تُرى بالعين المجرّدة، تكبُر حتى تتحوّل إلى الطفل، والطفل الصغير يكبر حتى يتحوّل إلى إنسانٍ كبير؛ هل هذا النمو من غير الغذاء؟ ما هو الغذاء الذي يوجب نموّ الطفل ونموّ النُطفة؟ الغذاء كما بحثنا في الليالي الماضية يتكوّن من مجموعة هذه الفواكه والخبز والرزّ والسكّر واللحم وأمثال ذلك. هذه المواد كلّها إذا درسناها نجد أنها قِطَع من هذه الأرض؛ القمح الذي يشكّل الخبز والغذاء الرئيسي، القمح عبارة عن كمّية من التراب، لأنك تزرع في الأرض بذرة، قمحة واحدة، حبّة قمح، هذه الحبّة سرعان ما تَنْحلّ في الأرض، فتبدأ العروق المنتشرة من الحبّة تمُصّ المواد الغذائية الموجودة في التراب، فتنمو النبتة وتُعطي السنابل وحبّات قمح. فإذًا، إذا لاحظت تجد خمسين أو ستّين أو سبعين حبّة في كلّ نبتة وفي سنابل هذه النبتة، هذه الكمّية من القمح ما هي إلّا كمّية من التراب دخلت في مصنعٍ إلهيٍّ صغير، هذا المصنع الذي نسميه نبتة، تحوّل إلى حبّات قمح، أليس كذلك؟ كمّية من التراب تحوّلت إلى كمّية من القمح، هذا المصنع الإلهيّ الصغير.
هذا المصنع يصنع من التراب، القمح. طيّب! هذا المصنع من صنع الله، وهذه الأرض من خلق الله؛ فإذًا، الله سبحانه وتعالى هو الخالق: ﴿خَلَقَ فسوّى * والذي قدَّرَ فهدى﴾ [الأعلى، 2-3]. نِعمة من الله، تأكلها الأم فتتحوّل إلى المواد الغذائية فتتغذّى بها النطفة، فتكبُر. الطفل من الحليب، ثم من المواد الغذائية، يتغذى؛ الرزّ نفس الشيء، اللحم نفس الشيء، اللحم الذي نأكله جزءٌ من جسد خروف، والخروف جسده يتكوّن من العلَف، والعلَف من الأرض أيضًا. فإذًا، هذه المواد هي التي تكمّل نموّ الإنسان ونموّ الطفل. فإذا وضعت يدك على جسدك، تجد أن مجموع هذا الجسد من المواد الغذائية، من أرض الله، التي دخلت في المصانع الإلهيّة فقُدِّمَت لك؛ أبوك اشتغل صحيح، ولكن بأيّ قوّة؟ بالقوّة التي منحها الله، بالتفكير الذي أعطاهُ الله، باللسان الذي جعله الله له، باليد التي وهبها الله إليه، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطاني جميع وجودي، بينما دور الأم والأب -مع أن الدور ليس لهما-، إعطاء النُطفة التي لا تُرى بالعين المجرّدة؛ حتى هذه النُطفة أعطوها من صُنعِ الله ومن قوّة الله، فما أكثر الناس الذين لا يجدون بالرغم من المحاولات الكثيرة هذه المادة الحيّة لتكوين الطفل. فإذًا، كلّ وجودنا من أرض الله وفي مصانع الله وبواسطة قوّة الله التي منحها للوالدين.
هذا الجسد، ثمّ اللِّبس؛ لبسُنا من أين؟ نحن نلبس القطن أو الصوف أو الحرير، وكلّها من أرض الله، تتحوّل إلى القطن، تتحوّل إلى الصوف، تتحوّل إلى دود القزّ والحرير، هذه الملابس كلّها من أرض الله. ثم تدخل في المصانع، والمصانع حديد الله، وتفكير الله الذي أعطى للمفكّر والمبتكِر والصانِع، وقوّة الله التي أعطاها للعامل وهكذا... حتى تتحوّل إلى المصانع، والمصانع أعطت الملابس، والخيّاط بالقوّة التي ليست له، وبالتفكير الذي ليس له، وبالتجارب التي ليست له، كل هذه الله سبحانه وتعالى يحيط بكل هذه الأشياء، لا أحد يملك شيئًا. فأنا جسدي ولبسي وصحّتي ووعيي وتفكيري وقوّتي وكلّ ما أملكه، ولا يتمكّن أحد أن يحصي نِعَمَ الله، كل هذه من الله. فَلَو كنت وفيًّا مع أبي وأمي، كيف لا أكون مع ربّي الذي هو أعطى كلّ شيء، وكان واسطةً في إعطاء أبي وأمي الأشياء التي أعطياني، وأعطاني مباشرة الأشياء الكثيرة.
فالوفاء للنعمة، والشعور بهذا الوفاء يستند الدين عليه لكي يبدأ نقطة الانطلاق: الإيمان بالله. حينما آمنّا بالله، -ونحن كلّنا مؤمنون بالله- نتمكّن أن ننطلق من هذه النقطة لكي نحدّد صِلاتِنا وتعاوننا واستمرارنا في الحياة استمرارًا سليمًا بعيدًا عن النفاق. كيف يكون هذا؟ نحن نؤمن بالله؛ ما معنى الله؟ الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون. ما هو تعريف الله؟ هل نتمكّن أن نعرف حقيقة الله؟ لا، لأنه ما فوق تصوّرنا وعقولنا، ولكن نتمكّن أن نعرف صفات الله، بكلّ سهولة.
الآن حضرتك إذا دخلت في بيت، رأيت أن هندسة البيت هندسة رائعة، أمَا تعرف أن صانع البيت ومهندس البيت رجلٌ عميق، رجلٌ فهمان، رجلٌ فنّي؟ أمامك الأزهار الاصطناعية، كلما كانت دقّة الصنع في الأزهار الاصطناعية أكثر، تفهم خبرة الشخص الذي صنع هذه الأزهار، أليس واضحًا هذا المثل؟ أنت تدخل في بيت فتأكل المآكل الطّيبة اللذيذة، مثل الليلة، أمَا تعرف من قوّة الصنع خبرة الستّ، أمَا تعرف من كمّية [...]. وهكذا نحن ندخل في مصنع، نجد أن الصناعة دقيقة جدًا، نعترف فورًا لصانع المصنع أنه رجلٌ دقيق، رجلٌ عميق، رجلٌ خبير؛ هذا الشيء واضح. الإنسان يتمكن من ميزات الأثر، يعرف حقيقة الصفات: المؤثّر والباعث. نحن في العالم نعيش، نجد أن العالم منظّم، تنظيمًا دقيقًا، ليس في العالم تفريط ولا انحراف أبدًا، العالم قائمٌ على دقة: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾ [الرحمن، 7]. وبالفعل إذا فتّشنا في الكون نجد أن هناك ميزانًا دقيقًا جدًا للموجودات في الحياة؛ بكل دقّة الموجودات تنظّمت.
خُذْ ورقة من الشجرة، تجد في هذه الورقة من العجائب ومن الإمكانات ومن الخبرة العلمية ما يُدهشُ الإنسان. هل نعرف نحن أن هذه الورقة التي تمُصّ اللون الأخضر من الشمس وتأخذ الكلوروفيل Chlorophylle بكل سهولة من نور الشمس الذي نحن نجده أبيض، ولكن مخلوطٌ ومركّبٌ من عدّة ألوان، الورقة تأخذ هذا النور بكل سهولة، لكن البشر حينما أراد أن يعمل الكلوروفيل بحاجة إلى أن يؤسس مصانع عريضة طويلة، المصانع الدقيقة التي تفوق المصانع العادية، حتى تكوّن الكلوروفيل، ولكن هذه الورقة الصغيرة تأخذ بكلّ سهولة هذا الكلوروفيل من نور الشمس، فتركّب بالنور الأخضر والمواد التي تأخذها من الأرض تركّب الكلوروفيل.
فإذًا، هذا الدقة في الصنع، أما تخبرنا عن دقة خبرة الله وعلمه؟ التنظيم الموجود في الكون؟ أذكر مثلًا شائعًا واضحًا، نحن البشر حينما نتنفّس نأخذ من الطقس الأوكسيجين Oxygène من أجل التنفّس، حينما نأخذ الأوكسيجين، يرجع النفس يتحوّل الأوكسيجين إلى ثاني أوكسيد الكربون Dioxide de carbone. كلّهم يأخذون ويلتهمون الأوكسيجين [من] الجوّ ويقذفون ثاني أوكسيد الكربون، والحيوانات نفس الشيء، والطيور نفس الشيء، والأسماك نفس الشيء، والحشرات نفس الشيء، مليارات من الموجودات الحيّة دائمًا تأخذ الأوكسيجين وتقذف ثاني أوكسيد الكربون. لماذا أوكسيجين الجو لا ينتهي؟ لأن مقابل الإنسان هناك أشجار، الأشجار تعمل عكس العملية تمامًا، يعني تأخذ ثاني أوكسيد الكربون فتتغذى منها وتقذف الأوكسيجين، هذه المقابلة بصورة موجزة أمرٌ معروف، لكن المهم في العملية، أن نسبة البشر وكميّات ثاني أوكسيد الكربون ونسبة الأشجار وكمّيات الأوكسيجين الصادرة منها متعادلة دائمًا. يعني البشر قبل مئة سنة، حينما كان يأخذ كمية من الهواء فيُقاس في المختبرات كان يجد كمية الأوكسيجين في الجو مثلًا 22.5 بالمئة من مجموع الجوّ. اليوم بعد مئة سنة يجد نفس الكمّية، هذا دليل على ماذا؟
لو افترضنا أن لنا بركة من الماء، يدخل الماء في حنفيّة ويخرج الماء من ناحيةٍ ثانية، لو دخل الماء بحنفيّة خمسة إنشات مثلًا، وخرج بأنبوب يكون أربعة إنشات، ما النتيجة؟ النتيجة أن الماء يطفو ويطفح ويكون أكثر من كمية [ماء] البركة هذا أمر آخر، أليس كذلك؟ لو كانت العملية بالعكس ودخل الماء في حنفية خمسة إنشات وخرج بأنبوب ستة إنشات، ما النتيجة؟ الماء ينتهي في البركة ولا يبقى، أليس كذلك؟ فإذًا، لو كانت الحنفية التي تصب الماء في البركة خمسة إنشات والحنفية التي تأخذ الماء من البركة خمسة إنشات، فورًا، تبقى كمية الماء في البركة متساوية، أليس كذلك؟ صح!
الكون يدخل فيه ثاني أوكسيد الكربون عن طريق الموجودات الحية: الإنسان والحيوانات والطيور والأسماك والحشرات، ويُسحب منه ثاني أوكسيد الكربون عن طريق الأشجار، لو كان عدد الأشجار أكثر من نسبة [البشر] أو عدد البشر أكثر من نسبة الأشجار، ما النتيجة؟ كانت نسبة الأوكسجين تتغير، إما تصير أكثر أو تصير أقل، هذا دليل على ماذا؟ دليل على أنه كل ورقة في العالم، كل حشرة في العالم، كل نبت صغير، هذه النباتات التي نسحقها ونمر عليها، هذه الأشجار التي نجدها بكثرة وافرة في أفريقيا، في الغابات، هذه الحشرات التي نجدها بالألوف والآلاف، بالملايين والمليارات، كل هذه الأشياء لها ميزان دقيق أدق ما يكون، كله له حساب، ولهذا النسبة متعادلة لا تتغير لا بثاني أوكسيد الكربون تزداد ولا بالأوكسجين. أليس مدهشًا هذا الحساب؟ أي مصنع في العالم، أي ميزانية في العالم، أي حساب الخرج والدخل في العالم، أي حساب المدخول والمصروف في العالم يتمكن أن يكون بهذه الدقة: ﴿والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيءٍ موزون* وجعلنا لكم فيها معايش﴾ [الحجر، 19-20]. اليوم نفهم من هذه الآية أن عيشنا من النباتات لا أن نأكل الفواكه والثمرات فحسب، عيشنا يعني حتى نفَسنا من النباتات: ﴿وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدرٍ معلوم﴾ [الحجر، 20-21]، ليست فوضى. الله يقدر أن يخلق أشجارًا أكثر من هذا، أو بشرًا أكثر من هذا، ولكن هناك حساب، هناك نسبة دقيقة: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾ [الرحمن، 7]. ماذا تكتشف من هذا التنظيم؟ هلّا تكتشف قدرة الله وخبرة الله وعلم الله! [هذا] طبيعي.
وهكذا نجد في حياتنا الشخصية مظاهر من رحمة الله ومن نعمته ومن بركاته؛ نجد في حياتنا، في أطفالنا، في مشاكلنا، في أسفارنا، في مصائبنا، نجد مظاهر من عدل الله وفضله ورحمته ورضوانه، من مجموع هذه الأمور نحن نكتشف أن الله ليس فقط كما كان يعتقد اليهود خالق وجبار فحسب؛ لا، الله رازق، رحيم، عادل، عالم، رؤوف، ودود، ألا نعرف هذه الأوصاف في الله؟ بإمكاننا بكل سهولة ومن دون الاستناد إلى الأدلة الفلسفية والكلامية أن نعرف هذه الصفات في الله ربنا جلَّ وعلا.
فإذا آمنا به، ما معنى إيماننا بالله؟ إيماننا بالله صاحب هذه الصفات، مجمع الأسماء الحسنى والأمثال العليا، معنى إيماننا بالله أننا نؤمن بأن هذه الصفات كلها تنعكس على الخلق، على الكون، على الإنسان.
ذكرت لكم [...] صفات مدير المؤسسة تنعكس على المؤسسة، مدير المدرسة إذا كان رجلًا منظمًا نظامه ينعكس على الطلاب، على الدراسة؛ إذا كان رجلًا فوضويًا صفاته تنعكس على الطلاب؛ المعلم، ست البيت على البيت، صاحب المؤسسة على المؤسسة، مدير المدرسة على المدرسة، صفات الحاكم حتى قالوا: "الناس على دين مليكهم" من كثرة ما تنعكس صفات الحكام على الناس.
في كتاب للمؤرخ الكبير اليعقوبي طُبع أخيرًا "مشاكلة الناس لزمانهم"، يذكر بالأسماء التاريخية بأن أي حاكم كان له صفات الشعب فورًا كان يتطبع بطابع هذه الصفات، بالنسبة للمؤسسات، بالنسبة للأمور، بالنسبة للبيت، بالنسبة لجميع الأشياء هذا الشيء واضح، هذا التأثير ظاهر.
فإذًا، الله صاحب هذا الكون وخالق هذا الكون ومدبر هذا الكون لأنه عادل، لأنه قائم بالقسط، فالكون كله قائم بالقسط، لأن الله عالم الكون كله قائم على أساس من العلم، لأن حكيم الكون كله قائم على أساس من الحكمة، لأنه حق: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق﴾ [الدخان، 38-39]، لأنه رحيم ودود رحمن، هذه الصفات تنعكس على [...].
فإذًا، الإيمان بالله معناه الإيمان بأن العالم الذي نعيش فيه عالم قائم على أساس الحق والعدل والحكمة والرأفة والعلم والرحمة والرحمانية وأمثال ذلك. أليس هذا معنى الإيمان بالله!
حسنًا! إذا كان هذا شكل العالم وطبيعته، فما هو موقف الإنسان الذي يريد أن يعيش في هذا العالم وأن يهدأ ويهنأ بالحياة في هذا العالم؟ حين يكون العالم قائمًا على أساس الحق والعدل، الإنسان الذي يريد أن ينجح، يجب أن تكون سيرته قائمة على أساس الحق والعدل حتى يكون منسجمًا مع هذا الكون، ولهذا يقولون الظلم لا يدوم والعدل ينتصر، الجهل لا يدوم والعلم ينتصر، الحق يستمر والباطل له جولة والحق له دولة، لماذا هذه المفاهيم التي نقولها كلها منبثقة من هذا الواقع؟
الإنسان حينما يعيش في مدرسة منظمة، إذا كان غير منظم فهو غير منسجم مع هذه المدرسة؛ التلميذ الذي لا يكون منظمًا ونشيطًا لا يتمكن أن يعيش في المدرسة النشيطة المنظمة؛ المواطن الذي يعيش في بلد فيه قوانين صارمة فيه أنظمة دقيقة إذا كان منحرفًا لا يرتاح في هذا المجتمع. الإنسان عندما يسكن في مجلس وكل أهل المجلس صالحون وطيبون وخلوقون، إذا كان سيء الخلق، غير منسجم مع هذا المجلس، سرعان ما يشمئز وأهل المجلس يشمئزون منه، هذا شيء طبيعي. الإنسان في البيئة التي يعيش فيها إذا يريد أن يستمر، [عليه أن] ينسجم مع هذه البيئة، حتى هذا قانون من القوانين، الطبيعية المعروفة في الزراعة وفي الصناعة اليوم.
فإذًا، إيماننا بالله يستلزم إيماننا بأن صفات الله متجلية في الكون متجلية في الحياة، وإيماننا بأن العالم قائم على أساس الحق والعدل والخير والجمال والرحمة والرأفة؛ يسلتزم إيماننا بأننا إذا أحببنا أنفسنا وإذا أردنا لأنفسنا الخير، يجب أن نكون منسجمين مع عالمنا يعني أن نسلك سبيل الحق والخير والجمال والعدل والرأفة.
فإذًا، الإيمان بالله يستلزم العمل الصالح، يستلزم الإيمان بالحق، بالعدل، بالخير في حياتنا، يستلزم اعترافنا بأن الانحراف، الشذوذ، النفاق، الظلم... لا تستمر، لا تبقى، تفشل. الذي يحب نفسه ويريد أن يخلُد في هذا الكون وأن يهنأ من طبيعة هذا الكون ومن ثمار هذا الكون يجب أن يكون مستقيمًا مثل الكون، وإلا فهو فاشل وهو باطل وهو زاهق، هذا شيء طبيعي. فالإيمان بالله يجرُّنا إلى الإيمان بالحق، إلى الإيمان بالعدل، إلى الإيمان بالصفات الطيبة في سيرتنا وفي حياتنا.
وهكذا الإيمان بالله يجرُّنا إلى الإيمان بالحساب والمعاد والقيامة، كيف ذلك؟ قلنا أن إيماننا بعدل الله وإيماننا بعدل الكون، حين نشعر بهذه الحقيقة وهذا النظام العجيب في الكون وهذه الدقة في الصنع التي أحبُّ أن أذكر نقطة ثانية منها قبل أن أنتقل إلى ناحية [أخرى].
يقولون إن نطفة الإنسان طبعًا تتكون مثل جميع الخلايا من قشرة ونواة Protoplasme، يعني مثل البيضة: نواة وبياض وقشرة، نفس الشيء کل خلية في الإنسان، نفس الشيء هذه النطفة. النطفة في حد ذاتها لا تُرى، ولكن هذه النطفة تتكون من ثلاثة أجزاء: الجزء الوسط يعني هذه المادة التي نسميها بياضًا Protoplasme، في داخلها نقاط صغيرة مثل الشعرة يسمونها بالـGène . الـ  Gèneصغير جدًا، لماذا؟ لأن النطفة هي بحد ذاتها صغيرة لا تُرى بالعين المجردة، لو كبّرنا النطفة 500 مرة تطلع بمقدار رأس إبرة، هذه النطفة يكون بمليون مرة أصغر منها الـGène  (الشعرة الصغيرة الموجودة في داخل الـ Protoplasme من النطفة). الـ Gène صغير إلى درجة أننا إذا جمعنا جميع الجينات الموجودة في العالم ومن جميع النطف الموجودة في كل الحيوانات والبشر، الجينات لا يمكن أن تكون أكثر من سنتيمتر مكعب يعني يعادل كشتبانًا تقريبًا... جميع الجينات في العالم، اُنظر كم هو صغير كل Gène! هذا الجزء الصغير الذي نسميه Gène يحمل الصفات الموروثة بين الأب والأم وبين الطفل، يعني تجد أن الابن شبيه بأبيه:
- أولًا في جنسه، ابن الإنسان إنسان، والبقرة بقرة وهكذا... طفل كل حيوان طفل جنسه.
- ثم الشبه بين الطفل وبين والديه بالشكل، بلون الشعر غالبًا هذا الأمر.
- ثم الشبه برنين الصوت، بكيفية النظر.
- ثم الشبه بالأوصاف: بالكرم، بالأخلاق، بالفضيلة.
كل هذه المتشابهات تتجمع ويحملها الـ Gène هذه القطعة الصغيرة. يعني الله سبحانه وتعالى، أودع في هذا الجزء الصغير الذي ينتقل من الأب والأم إلى الطفل، أودع جميع هذه الصفات في هذه القطعة الصغيرة، اُنظر الدقة في الصنع!
هذا العالم المنظم الدقيق الذي هو من صنع الله العادل المنظم الدقيق، مع ذلك نحن نجد في حياتنا الاجتماعية بعض النقاط يُلفت نظرنا إلى ناحية ثانية، نجد في مجتمعاتنا أن هناك أناس ظالمون جبارون يظلمون، يغتصبون حقوق الناس، يهتكون أعراض الناس، يزهقون أنفس الناس، ثم لا يُلاقون مجازاتهم في الدنيا، نسأل: هل هذا الكون المنظم، هذا العالم المنظم، يترك شخصًا يعمل كما يحلو له من دون مجازاة؟ هذا لا ينسجم مع عدل الله ومع عدالة الكون؟
من ناحية ثانية، نجد أن هناك أناس مظلومون، مظلومون إلى آخر حياتهم، ويموتون من دون أن يُقدَّم لهم تعويضهم أو يُنتقم من ظالميهم، نجد كل واحد منا في حياته... نتساءل: كيف الله العادل، الكون القائم على أساس العدل، يترك هذا الرجل المظلوم من دون انتقام من ظالمه؟
من ناحية ثالثة، نجد أن هناك بين الناس، أناس كالشمعة يذوبون في بيوتهم، في مختبراتهم، في جهادهم، في حياتهم فيقدِّمون كل ما يملكون للناس ولخدمة الناس، ولا يأخذون التعويض الكافي اللازم... كيف يمكن أن يتركهم الله بلا تعويض، والكون القائم على أساس الحق والعدل يتركهم بلا تعويض؟ يأتي هذا السؤال.
ما أكثر العلماء الذين جربوا في المختبرات الميكروبات على أنفسهم، فماتوا لكي يجدوا علاجًا للمرضى! حسنًا! هؤلاء من يعوّض عليهم؟
هذه التساؤلات تفرض علينا بأننا نؤمن بأن العالم لا ينتهي عند القبر، لا ينتهي عند الموت وإلا هناك تناقض في الكون، الله العادل -والكون القائم على أساس العدل- كيف لا يعوّض على هذا الشخص المضحّي؟ كيف لا ينتقم من الظالم للمظلوم؟
فإذًا، يجب أن يكون لكوننا هذا ولدنيانا هذه تتمة ما نسميه معادًا، نسميه قيامة، نسميه حسابًا. في ذلك اليوم يُنتقم من الظالم للمظلوم ويُعوَّض على الشخص الذي ضحى بوجوده وبحياته وبطاقاته.
فإذًا، الإيمان بالله العادل يفرض علينا أن نؤمن بوجود يومٍ آخر، بوجود حساب، بوجود تتمة لهذا الكون الذي نعيش فيه، حتى لا يكون فوضى. هناك أناس كُثُر مظلومون مضحون، حقوقهم غير واصلة، تعويضاتهم غير واصلة، مجازاتهم غير واصلة... وهكذا.
حتى ينتهي كل شيء بدقة وعمق ويوضع كل شيء... نحتاج إلى يوم: ﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفسٌ شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين﴾ [الأنبياء، 47]، نحتاج إلى ذلك اليوم حتى نطمئن حتى يكون هناك انسجام بين الكون الذي نعيش، وفي الكون الذي نعيش.
هنا الخط صار واضحًا، الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالعمل الصالح ويستلزم الإيمان باليوم الآخر، ويُصرّح القرآن الكريم بأن هذه النقاط الثلاث هي نقاط التلاقي في صلاح الدنيا وفي دخول الجنة: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [البقرة، 62].
فإذًا، تلاقِينا في كل شيء إذا كان تلاقِينا في الإيمان بالله، إذا آمنا بالله؛ ليس إيمانًا شكليًا مسجلًا في قلبنا، هذا لا يكفي... الإيمان الفعلي النابض. الإيمان بالله يؤدي إلى الإيمان بالعمل الصالح والأعمال الصالحة وإلى الإيمان بالحساب. على هذه النقاط نحن نتمكن أن نلتقي دائمًا، على هذا الخط الواضح الذي نؤمن به كلنا ونعيش كلنا فيه، هل هناك زوايا وخبايا أكثر من هذا؟ العمل الصالح، نقدر أن نلتقي دائمًا على العمل الصالح، كل ما تسميه العمل الصالح، كل ما تسميه الشعور بالمحاسبة يوم القيامة، كل ما تسميه صفة من صفات الله، خُلْق من أخلاق الله، بإمكاننا أن نلتقي فيه من دون مواربة؛ كلنا مؤمنون بهذا الشيء، كلنا نتعاون على هذا الصعيد، وكلنا ننصح بعضنا بعضًا في هذا الصعيد ونتعاون بعضنا مع بعض على هذا الصعيد.
بهذه الطريقة نتمكن أن نكون معًا في ظاهرنا وفي باطننا، وعلى غير هذا الصعيد نشعر بأنه أنا إذا حكيت كلمة غير صحيحة هذا ليس من العمل الصالح، هذا خلاف التيار الكوني، هذا ذهب باطلًا، روَّحت طاقتي فيه، أليس كذلك؟ أنا اليوم إذا أردت أن أمشي من هنا إلى البيت الفلاني أو من هنا إلى لاغوس أو من هنا إلى أي بلد ثانٍ، ما دام أمشي في الخط كل ساعة أقترب من الغاية، لكن إذا مشيت إلى الوراء أعرف أنه بعد ساعة ساعتين سأرجع، روَّحت طاقتي، هل بإمكان العاقل المشي من هنا حينما يقصد أن يذهب إلى لاغوس؟ غير معقول، هذا ليس عاقلًا.
فأنا حينما أدركت أن حياتي الخالدة هي الحياة التي تقوم على العمل الصالح، على صدق اللسان، على حُسن النية، على الإتقان في العمل، على المحبة، على المودة، على الخير، على كل شيء اسمه من صفات الله، إذا عملت هكذا لماذا أكون منافقًا؟ لماذا لا أتعاون؟ لماذا أُخرِّب شغل الآخرين؟ لماذا أهدم وضع الآخرين؟ كل عملٍ سلبي معناه الرجوع إلى الوراء، معناه التلف، معناه هدر الطاقات، يعني روَّحت طاقاتي، روَّحت ساعة ساعتين من عمري، هذه الساعة التي جلست وحكيت ضدك روَّحتها على نفسي، روَّحت على نفسي ساعتين، بينما لو كنت في العمل الصالح تقدمتُ، خلَقْتُ، نجحتُ، استفدتُ. بهذه الطريقة الإنسان يقدر يطمئن ويتعاون ويشعر بأنه نفَّذ هذه الرغبة الصادقة التي تجيش في قلبه من الشعور بالتعاون مع أخيه المواطن، مع أخيه الإنسان تعاونًا صادقًا وثيقًا، لأن على هذا الصعيد صعيد الخلود، صعيد الانسجام مع الكون، صعيد التجاوب مع الله، صعيد التنفيذ لأوامر الله ولأوامر ضمير الإنسان ورغبات ضمير الإنسان.
فلنكنْ هكذا إخواني، نحن من فضل الله، أنتم من فضل الله تعيشون في أجواء واسعة، الدس بعيد عنكم، الاستغلال السياسي الذي يكون فيه أبناء السياسة أو حتى عند بعض رجال الدين مع الأسف، هذا الاستغلال بعيد عنكم، أنتم تعيشون في أجواء العالم، بإمكانكم أن تترفعوا عن تلك الدسائس، وأن تحددوا صِلاتكم مع بعض على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأن تعيشوا كإخوة بجد في الحضور وفي الغياب، في السر وفي العلن، في المجتمعات وعند المفترقات... بإمكانكم أن تكونوا [كذلك] لمَ لا؟!
هذا هو الطريق وهذا هو سبيل التعاون ولا شك أني أظن تتمة لكلامي وألفت نظركم للأبحاث الماضية، لكي نتمكن أن نعيش إيماننا بالله [...]، ولكي نجعل من إيماننا بالله القوة المحركة في حياتنا يجب أن نعمل، أن نغذي هذا الإيمان بالعمل الصالح، بالعبادات، بالواجبات، وإلا إذا أهملنا مقتضيات إيماننا تمامًا مثل الشجرة التي ما سقيناها ولا كان في الجو رطوبة أو في الأرض رطوبة حتى تسقيها، الشجرة تنشف وتجفّ وتموت.
الإيمان صفة من صفات النفس تحتاج إلى تغذية، تغذيته بالعمل وإلا إذا تجاهلنا مقتضيات إيماننا... إيماننا يأمر بشيء عملناه يقوى، لكن إذا إيماننا أمر بشيء ما عملناه يضعف ويذبل، إذا إيماننا يمنعنا من كذب أو فسق وعملناه إيماننا يذبل. إيماننا بالله وإيماننا بالحق يمنعنا من أن نُتلف أوقاتنا باللعب والباطل، إذا عملناه وتجاهلنا مقتضى الإيمان وجلسنا ولعبنا وخسرنا وروّحنا أوقاتنا وحياتنا وكسبنا عداوات وكثيرًا ما روَّحنا طاقاتنا الهائلة وأموالنا الكثيرة، إذا عملناه معنى هذا أنه خالفنا إيماننا نشّفناه: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله﴾ [الروم، 10]، طبيعة العصيان. لا تقل أنا في وقت التسلي ألعب، لا بأس... لكن إيماني بالله مرتبط... هذا غير ممكن يا أخي، صاحب الدعوة يقول لك هذا غير ممكن أنت تظن أن هذا ممكن، تتخيل أنك تقدر أن تجمع بين الإيمان وبين المعصية وبين اللعب لكن غير ممكن، هو صاحب المصلحة، الطبيب المختص يقول لك، يقول لك: ﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله﴾ [الروم، 10]. المعصية تجرك إلى التكذيب بالله، المعصية تكفرك بالله، المعصية تجرُّك إلى فقدان الإيمان، صورة الإيمان، لوحة الإيمان في قلبك لكن ليس حقيقة الإيمان، فإذا تريد أن تقوي إيمانك بجد يجب أن تعمل بمقتضيات الإيمان.
أظن أنني قد أطلت، ولكن كنت منسجمًا مع هذه الوجوه الطيبة وهذه القلوب المقبلة الخاشعة، فنسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم جميعًا التوفيق، وأنكم صادقين في الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة وأن يبارك لكم جميعًا، وللأخ الجليل السيد ريمون -حفظه الله- ولعائلته الكريمة.
وفقكم الله، والسلام عليكم.
_______________________________
1- 
المطران أنطوان عبد: راعي أبرشية طرابلس للموارنة (؟-1975).
2- 
المطران يوسف الخوري (1919-1992): راعي مطرانية صور للموارنة.

source