* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات (د.ت.)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد وآله الطاهرين.
في الأسبوع الماضي تحدثنا عن شهر صفر وعن المفهوم الإسلامي لنحوسة هذا الشهر، وتفسيرًا لما يُنسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما قال: من بشّرني بخروج صفر بشّرته بالجنة. وقلنا إن الإسلام لأجل التوحيد ولأجل التعاليم الأخرى التي وردت على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي سيرته وسيرة أهل بيته ما ينفي الاعتراف بنحوسة الشهر أو الشخص أو المكان، وإنّما سبب رغبة الرسول (عليه الصلاة والسلام) حينما يرتاح لنهاية صفر، السبب في ذلك يعود إلى مضايقة الرسول في مكة، وانتظاره انقضاء شهر صفر حتى يهاجر وحتى ينطلق الإسلام في المدينة.
وهناك ما يؤدي إلى جعل هذا الشهر وشهر محرم شهرين لأحزان آل محمد (عليه وعليهم السلام). ففي شهر محرم كما نعرف استشهاد الإمام الحسين ومأساة كربلاء بمضاعفاتها وملابساتها ونتائجها، وأيام انتقال آل البيت، وأسرته الطاهرة من كربلاء إلى الكوفة ثم انتقالهم بين عواصم العالم العربي في ذلك الزمن، إلى أن وصلوا إلى الشام.
فهذان الشهران كانا في الحقيقة شهري أحزانهم. وفي شهر محرم أيضًا كما بحثنا وفاة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وفي شهر صفر وفاة الإمام الحسن السبط الأكبر (عليه سلام الله)، وفي أواخر هذا الشهر أيضًا وفاة الإمام الرضا عليّ بن موسى (عليه سلام الله). وحسب الروايات الواردة في طُرق الشيعة في الثامن والعشرين من شهر صفر أيضًا وفاة الرسول الأعظم، أعظم يوم حزن على المسلمين عامة وقد وقع يوم الاثنين، وتشير إلى هذه الحادثة زينب (سلام الله عليها) حينما ترفع يوم عاشوراء الشعار المعروف: الله يا يوم الاثنين، يوم وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مصدر أحزان آل محمد ومصائبهم ومآسيهم.
ونحن في هذه الأيام قبل يوم أو يومين يعني في السابع من شهر صفر الرواية المشهورة عن وفاة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام). والإمام الحسن كما نبحث دائمًا ونتحدث في احتفالات المعهد بعيده السنوي، يوم مولد الإمام الحسن في الخامس عشر من شهر رمضان تحدثنا ونتحدث دائمًا عن الإمام الحسن، وأن هذا الإمام العظيم كان مظلومًا في حياته وبعد وفاته، وإلى يومنا هذا هو مظلوم.
أما في حياته فقد عانى من غدر عدوه معاوية ومن نكثه بالعهد، ومن التشويش والاضطراب والمصائب والهجمات التي كان يشنّها ضد الإمام الحسن في مختلف الأوساط ما يجعل هذا الإمام مظلومًا في حياته. فما أكثر ما سمع بأذنه أو نُقِل له من موقف خطباء الجمعة من أنهم يلعنون الإمام أمير المؤمنين سيد المسلمين والأوصياء على المنابر، وهكذا كان يشاهد ما يجري على المسلمين وعلى النخبة الطاهرة من المسلمين من الاضطهاد والقتل والتشريد والغدر، حياته مليئة بالأحزان.
وآلم من هذا على قلبه أيضًا ما كان يراه من بعض أصحابه الجاهلين أو المنافقين، فكثيرٌ منهم، وقد ورد في السيرة، البعض كان يخاطب الإمام الحسن بقوله: السلام عليك يا مذلّ المسلمين.
هذا اللوم وهذا العتاب وهذا الجَرح والذي كان في بعض الأحيان بصورة الجُرح والضرب بالطعنة ومحاولة التسميم للإمام جرت مرات ومرات نتيجة من نفاق بعض أصحابه ونتيجة لجهلهم بما وقع، وأسباب صلح الحسن (سلام الله عليه). وإن كانوا هم أصحاب الحسن وراء خذلانه... ووراء سكوته عن الحرب، يكفيك أن تعرف أن أصحاب الحسن (عليه السلام) أكثرهم هم الذين اشتركوا في قتل الحسين (عليه السلام): فالشمر بن ذي الجوشن وسنان بن أنس وأمثال ذلك من مجرمي كربلاء كانوا في أصحاب الإمام الحسن، كيف يحارب معهم وهم في أصحابه؟ هؤلاء وأمثالهم، بعدما نكثوا... وتخاذلوا عن الحرب بدأوا ينتقمون من الإمام الحسن بكلماتهم وجرحهم له.
وقد بلغ الألم ذروته حينما قُتل الإمام الحسن وتسمم على يد أقرب الناس إليه، على يد زوجته، وهذه في الحقيقة مصائب لا تطيقها الجبال. تسمَّم الإمام الحسن وتنفس معاوية الصعداء، فشُيِّع الإمام الحسن وقد منعته مَنْ منعته من الدفن بجوار رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحجة أن هذا البيت بيتي، ثم احتجّت بأن بيت رسول الله لأزواجه من بعده مع أن المنطق يقتضي خلاف ذلك.
الرسول الأكرم (عليه الصلاة والسلام) دفن في بيته، وبيته ملكه حسب القانون الشرعي، الميراث لمن؟ لأولاد الرسول الأكرم. من هم أولاد الرسول؟ فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ولأزواجه الثمانية أو التسعة اللاتي كن باقيات وفي نكاح الرسول الأكرم في هذه الفترة كن ثمانٍ أو تسعًا لجميعهن الثُمن كما نعرف، الثُمن للزوجة أو للزوجات فإذا كانت الأرض تورَث من قِبل المرأة وهذا أيضًا أول الكلام، لأن المرأة لا ترث الأرض وترث البناء وقيمة البناء يكون لزوجات النبي مجتمعات ثُمن البيت ويكون لإحدى أزواجه تسع الثُمن يعني واحد على سبعين من هذا البيت الصغير، أما ما عدا الثُمن سبعة على ثمانية -مثلما يسميه الرياضيون- فلابنته فاطمة الزهراء. وفاطمة الزهراء تسمح طبعًا لابنها الحسن أن يدفن خاصة بعد وفاة الزهراء ينتقل الملك إلى الإمام الحسن. وعلى كلّ حال من أَولى بسيد شباب أهل الجنة وبمن يسميه الرسول الأكرم ريحانتي من الدنيا، وبمن يعَّبر عنه بـ: هذان ابناي، الحسن والحسين ابناي إمامان قاما أو قعدا؟ من أولى منه بأن يدفن في بيت جده وبجوار جده... أولى من غيره؟
وعلى هذا الأساس منعوه ومنعوا الحسين من أن يدفن الحسن (عليه السلام) بجوار رسول الله ورموا جنازته بالنبال. هذا موت الإمام الحسن واستشهاده ودفنه... حين دُفِن في البقيع.
أما بعد حياته فهو مظلوم أيضًا، فقد حاول معاوية بعدما وجد موقفه أمام المسلمين حرجًا في نكث العهد وفي قتل الحسن، بدأ يشتري المحدثين من أبي هريرة وغير أبي هريرة حتى يزوّروا أحاديث وينقلوا قصصًا ويذكروا تواريخًا يشوهون بها الإمام الحسن في الأمة. فصوروه بأنه رجل يحب الراحة والعيش واللذة، ويتزوج كثيرًا ويطلق كثيرًا، وأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عبَّر عنه بأن ابنه مطلاق... أحاديث مزورة.
الإمام الحسن نعرفه في أيام أبيه كان بطلًا من الأبطال، وقائدًا من قادة الجهاد الإسلامي. الإمام الحسن اشترك في فتح مازندران والمناطق الشمالية في إيران أصعب النقاط، المناطق الجبلية الحرشية هو كان قائد الفتح الإسلامي، وهو اشترك أيضًا في فتح أفريقيا الشمالية في أيام الخليفة عثمان، وهو أيضًا استلم أحرج مواقع حرب الجمل، يعني كان مكلفًا بصيانة الجمل، وما أدراك ما الجمل؟ كان مصانًا بأربعة آلاف بطل مستميتين من بني ضبة وكانوا يقولون: الموت أحلى عندنا من العسل، ويتفانون في الدفاع عن الجمل.
كيف يحطمهم ويبعدهم؟ وكيف يحافظ على راكبة الجمل حتى لا تصاب وحتى لا تتعرض للخطر؟ هذا الموقف الصعب الذي بحاجة إلى منتهى الجرأة ومنتهى الشجاعة ومنتهى العقل والذكاء ما سلّمه أمير المؤمنين (عليه السلام) لأحد إلّا للحسن. فالحسن بطل من الأبطال، كيف لا، ويقول عنه الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه): إني وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي. عليّ بن أبي طالب يعترف بأن الحسن مثله... مثل عليّ بن أبي طالب. إنما أمامه المصلحة الإسلامية الكبرى ماذا يصنع؟
أليس الإمام أمير المؤمنين صبر وصبر وتحمّل وتحمَّل بعد رسول الله ما تحمَّل؟ أمامه ضربوا زوجته فاطمة الزهراء أمانة رسول الله في الأمة. لماذا سكت عليّ بن أبي طالب؟ خوفًا؟ أو جبنًا؟ أو ضعفًا؟ المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك، فصبر وسكت. والحسن صبر وسكت وصالح وتوقف ولكن قلبه مليء بالدم.
هذا الإمام الحسن البطل صوروه كتَّاب السوء ورواة السوء، صوروه موجودًا انتهازيًا يحب الراحة والعيش وهو بعيد عن ذلك. ثم أصبح الخبر ينتشر في أوساط شيعته وشيعة أبيه. فكثيرون من الشيعة ومن كتَّاب الشيعة يتصورون صورة غير حقيقية عن الإمام الحسن (عليه السلام). وآخر المطاف جاء من يجهل القرآن والإسلام، جاء من يجهل التوحيد وآثار التوحيد فهدم قبره ومزاره وجعل مقامه عرضة لعدم التكريم في البقيع. الحكام الذين كان من الأفضل أن يحكموا في الصحراء، نفّذوا أحكامًا جافة وهدموا قبر الإمام الحسن (عليه السلام) وقبر الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقبري الإمام الباقر والإمام الصادق، وهدموا أيضًا القبر المنسوب إلى فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) والذي كان إلى القرن الرابع الهجري في أيام المسعودي عليه لوحة قبر فاطمة الزهراء.
الروايات الواردة عندنا تفضل أن يكون قبر فاطمة الزهراء في بيتها ملتصق بقبر الرسول الأكرم، يعني حينما ندخل من باب جبرائيل في مسجد الرسول (عليه الصلاة والسلام) على اليسار فقط هنا منسوب إلى فاطمة الزهراء، أحد أماكن الصلاة.
فإذًا، الإمام الحسن كان مظلومًا في حياته وفي موته وبعد وفاته وفي أمته.
ونحن نذكره بإعجاب وباحترام وبأنه ريحانة رسول الله وبأنه سيد شباب أهل الجنة، وبأنه العالم الكبير الذي يشهد على علمه أبوه، وبأنه المجاهد الكبير في أيام الفتح الإسلامي، وبأنه الصابر الكبير يعني المجاهد الأكبر الذي يجاهد مع نفسه في أيام محنة الإسلام، وبأنه الذي هيأ ومهَّد الأمة لقيام الحسين (عليه السلام) حينما اكتمل الجهاد بخروجه فـ (سلام الله عليه)، وجعلنا من التابعين له، نجاهد حينما يجب أن نجاهد، ونصبر حينما يجب علينا أن نصبر، ونعرف مصلحة الإسلام ومصلحة الله التي هي فوق مصالحنا الشخصية ومصالحنا العائلية.
وسلام الله عليه حيًا وميتًا وعلى أتباعه وعلينا جميعًا.
والسلام عليكم ورحمة الله.