* مثله سيادة المطران بولس مطر
* مؤتمر “كلمة سواء” العاشر "التنمية الانسانية ابعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"
أيها الأحبّاء،
لقد شرّفني صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى وانتدبني مجدداً لأمثّله في مؤتمر «كلمة سواء» العاشر الذي تحيونه وفاء لما أطلقه سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، في وطنه وفي أمّته، من طاقات روحيّة وإنسانيّة خيّرة، كان لها ويبقى الأثر الفعّال في صياغة المستقبل المرتجى للبنان وللعرب والمسلمين في كلّ مكان.
وإننا لنحيّي معكم جميعاً بكامل الفخر والاعتزاز حضور فخامة رئيس الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة السابق محمد خاتمي فيما بيننا ومشاركته السِّنية في هذا المؤتمر الكبير، لما يمثله فخامته في عالم اليوم من جمع طيّب وإنقاذي للأصالة الدينية والحداثة الفكرية، يضمن لشعوب الأرض قاطبة أفضل فرص النجاح في وجه التحديات العديدة التي تجبهها والأخطار المتنوعة التي تحدق بها.
ولقد رأيتم أن تدور الأبحاث في خلال هذا المؤتمر حول موضوع التنمية الإنسانية، مع التركيز على أبعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية، بعد أن وقع اختياركم في العام الماضي على استشراف موقع الحرية في كل عملية منشودة للإصلاح والتجديد. وما من شكّ في أنكم رمتم في هذين الخيارين قصداً ومقصداً. ذلك أن العلاقة القائمة بين الحرية والتنمية لشبيهة بما يعرف من وشائج بين الروح والجسد في الكيان الإنساني أو المجتمعي الواحد. فلا حرية مبدعة وخلاقة في جسم مفتقد إلى القوة والحيل، ولا تجميع طاقات تأتي بفائدة في كيانات لا تدرك وجهها ولا تعرف اتجاهها.
ولعل في هذه المقاربة بين التنمية والحرية ما يشير فعلاً إلى أهمية البعد الديني في إدراك المفهوم الصحيح للتنمية وفي تحقيقها على أرض الواقع. فنحن عندما نبغي تنمية الإنسان في إنسانيته إنما نتعاطى مع اكتمال هذا الإنسان في دعوته الأساسية مع توفير الظروف المادية والمعنوية الملائمة لتحقيق هذه الدعوة. ومن المعروف في هذا المجال أن القرن التاسع عشر الميلادي منذ أواسطه والقرن العشرين حتى أواخره، أي منذ إطلاق الثورة الصناعية في العالم الحديث، قد شهدا نوعاً من الفكر الاجتماعي راح يناقض بين النمو وبين الدين، إلى حدود تخيّل الواحد بديلاً من الآخر او مُعطِّلاً له كاملاً ونهائياً. إنه الفكر الماركسي الذي أبى وتجبّر والذي صوّر المادة أساساً للروح قالباً جوهر الوجود رأساً على عقب. وهو الفكر الذي سقط بما جاء نظرياً وعملياً، والذي كان سقوطه عظيماً. وفي المقابل، فإن لنا عند أهل الإيمان وبخاصة عند من نتطلع اليوم إلى فيض عطاءاته، أي سماحة الإمام موسى الصدر بالذات، مما يقوّم إعوجاج تلك الأفكار القاصرة عن الحق، إذا ما سمعنا وعلى سبيل المثال، كلامه في خطبة له يوم عيد الأضحى للعام 1974 في أحد مساجد صور حيث قال: «إنّ تجاهل آلام الناس وحاجاتهم نوع من الكفر وصور أخرى عن الإلحاد». أفليس في هذا الإدراك النير برهاناً على ان الدين هو سند للتنمية وينبوع لها في الأفكار وفي القلوب؟
أما في سياق العصر الحديث فيبرز أمامنا واضحاً خطر ضياع التنمية ما لم تقترن بروح دينية تُوجَّهُ مسيرتها نحو الغايات التي يجب ان ترسم لها. فها هي العولمة اليوم تطلق العنان، على مستوى الأرض كلها، للقوى المادية الغاشمة لتفرض على التنمية ان تخدم القادرين والأغنياء وأن تضمن لهم مصالحهم على حساب المستضعفين والفقراء غير تاركة لهؤلاء أية فرصة للتقدم أو الازدهار، ما يقود العالم من جراء هذا المنحى إلى عجز قاتل عن فرض المساواة بين أفرقاء التنمية وطالبيها. فمن يقوّم الإعوجاج ما لم تكسر حلقته الجهنمية كوكبة من القيم السامية التي تدعو إلى العدل في الأرض وإلى التضامن الحق وإلى كبت جماح الأهواء على أنواعها؟ لهذا قيل أن القرن الحادي والعشرين إما أن يكون متديناً وإما ألا يكون. بهذه الروح السمحة أيضاً ذكّر سماحة الإمام في خطبته إياها لعيد الأضحى أن السماء عندما أمرت إبراهيم بذبح شاة لها بدلاً من ابنه، إنما هي أمرت بتقديم المال قرباناً في سبيل الله؛ ما يعني أنّ المال إذا صرف في سبيل مصلحة الناس يصبح نعمة عظيمة على الإنسان، أما إذا صان الإنسان المال وقدسه فيصبح طاغياً على كل شيء ووسيلة لنزع الرحمة من القلوب».
2- لا تنمية إذاً خارجاً عن الدين ولا سبيل إلى تحقيقها إذا ما فقدت بعدها الديني لأنها تفقد إذ ذاك جوهرها الإنساني برمّته. على أن هذا البعد الإيماني للتنمية يضمن لها أيضاً بعدها الاجتماعي المطلوب ويؤسس لهذا البعد الثاني فكراً وعملاً. لكن البعد الاجتماعي للتنمية يواجه اليوم مشكلات شديدة التعقيد نتيجة لما بات يسمى بحضارة الاستهلاك ولنوع من الاقتصاد مبني على التنعم الفردي بخيرات الأرض وطاقاتها. فأنت إذا ما رحت تستهلك الأشياء استهلاكاً لن تسأل عن قدرة غيرك ولا عن طول يده إلى ما تطال يداك. ولعلّ قدرة غيرك في هذا السبيل تهدد مصالحك في التنعم بالكون والتصرف به على هواك. فحضارة الاستهلاك تبنى على فردية شرسة وهي نقيض للعيش المجتمعي السليم حيث الشراكة في الرزق وفي الحب وفي العطاء. وإن لغطاً كبيراً يحصل اليوم بين الحرية وكرامة الإنسان وحقوقه من جهة وبين الفردية في حياته والتفرد في معاطاته من جهة أخرى. فالإنسان الحر هو في الوقت عينه إنسان مجتمعي هو عنصر من عناصر تكوينه كما اللغة والتعاطي والحاجة إلى الآخر عطفاً وتعاطفاً. وهذا ما يدعنا نقابل في مجال التنمية تلك النزعة الاستهلاكية للاقتصاد بتوجه معاكس تضامني سواء على مستوى الجماعات المحلية أم على مستوى الأمم والشعوب. فتسود في الأرض بهذا المنحى روح من الأخوّة تحول سكناها إلى نعيم وتمكنها من التفلت من براثن التنازع المميت.
3- ومن هذا المنطلق يبرز البعد الثالث والأخير للتنمية وهو ما تدعونه بحق البعد المعرفي. فالمعرفة المطلوبة لفعل التنمية لا تكتفي بتفحص قوانين الطبيعة لتسخيرها. بل هي تسبر أيضاً غور حقيقة الإنسان في ذاته الشخصية والمجتمعية والكلية على حد سواء. وهي تتطرق أيضاً للتوازنات المطلوبة بين الفرد والمجتمع، وبين الوطن والمواطنين وبين الحضارات المتنوعة والشعوب في أمانيها المشروعة لذاتها وفي الأماني المشروعة للكون برمّته. إنها معرفة تبدأ ولا تنتهي وهي اعتراف بالذات وبالآخر وبالتناغم المبدع بين كليهما.
في كل هذه الجهود نعود أيضاً غلى روح الدين لإنقاذ الحضارات من العبث بعضها ببعض ولخلاص المجتمعات من التجاهل الذي تقع عرضة له في علاقاتها المتبادلة. فالناس لم يقبلوا جميعاً دعوتهم إلى أن يتعارفوا أمماً وقبائل كما أنهم لم يقبلوا المشاركة بخيرات الأرض الواحدة استعداداً للمشاركة بنعيم السماء التي هي واحدة أيضاً. وهل من مناص في مثل تلك الحالات الشاذة من انتفاضة للمحرومين كما أطلقها سماحة الإمام الصدر أو من ثورة للمستضعفين كما أرادها الإمام الخميني من أجل أن يكون لكل شعب حقه إلى مائدة التنمية البشرية الكبرى. لقد كانت للغرب ثوراته أيضاً على المظالم ونزعاته المشهورة من أجل الإنسانية المتصالحة والأخوة المتكاملة. أفلا يعود الناس إلى ربّهم شرقاً وغرباً فينتقلوا من خضمّ الثورات إلى فردوس التلاقي والحوار والمحبة التي باسمها جاؤوا جميعاً إلى الوجود. ونحن على يقين بأنّ تلبية هذه الدعوة من قبل الجميع ستكون في الخلق قمّة التنمية وآية في الإنسانية الكريمة الصافية والسلام عليكم.