* مؤتمر “كلمة سواء” العاشر "التنمية الانسانية ابعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"
بسم الله الرحمن الرحيم
في حفلٍ مهيبٍ كهذا يقام باسم عالمٍ دينيًّ كبيرٍ متبصرٍ عارفٍ لزمانه، أي سماحة الامام موسى الصدر، لا بدّ من الحديث عن الدين؛ ذلك الدين الذي يحرر الانسان من الجهل و العنف و الظلم، و هو بالذّات ما نذر الامام موسى الصدر حياته من أجله. فرغم كون الامام الصدر زعيماً للشيعة في لبنان، إلّا أنّه الأب الرؤوف و المعلم المشفق لأتباع كافّة الأديان و الطوائف. إذ كان ينشد الاستقرار و الحريّة و الاستقلال و التقدّم للبنان العزيز و يصبو إلى العيش المشترك للمسلم و المسيحي و الدرزي و الشيعي و السني جنباً إلى جنب، ينعمون بكل ما منّ الله تعالى به على عباده، و معتبراً الجميع جديرين بتلك النعم. و إذ ترفّع فكره السامي و روحه اللطيفة عن الحدود المصطنعة و التقسيمات و التكتّلات السياسيّة و القوميّة المفتعلة، فإنّه أراد، و باسم الاسلام النبراس، الحريّة و العزّة للبشريّة جمعاء.
و اليوم إذ نفتقد حضور الامام موسى الصدر و تواجده بين ظهرانينا، فانّ فكره و مبتغاه يشكلان حافزاً لكل لبنانيًّ أبيّ و يرفدان المقاومة اللبنانيّة البطلة و يسريان دفقاً و عطاءاً في نفوس اولئك الذين ينشدون الرفعة للبنان العزيز و يتصدّون للمؤامرات التي تستهدف استقلال لبنان و كرامته. إنّنا لانزال نترقّب عودة هذا العزيز المغيّب؛ ذلك انّنا بأمس الحاجة إليه في هذا الزّمن الصعب.
الدين قديم قدم وجود الانسان، و هذا بالذات يدلّ على انّه فطريّ و متجذّر في الذّات الانسانيّه. فالدين هو الذي أوجد الحضارات و الثّقافات. و حتى في عصرنا الحالي فانّ الحضارة الجديدة و إن نشأت منفصمةً عن التّراث، فهي مدينة للغاية للثقافة الدينيّة. فيا ترى من يسعه أن يغضّ الطّرف عن تراث المسيحيّة الباهر في كل جانبٍ من جوانب الحضارة الجديدة هذه، رغم انّ من وضعوا لبنة هذه الحضارة و نظّروا لها يعتبرونها لادينيّة و لايقرّون هم بنزعتهم الدينيّة. و ربّما كان الفارق الأساس بين العالم الحديث و ما سبقه هو انّ الحضارات و الثّقافات الغابرة كانت برمّتها دينيّة و لاتتنكّر لطابعها الديني.
لقد واجه الدين في كلّ مكان و عبر كلّ الحقب معارضين شرسين. و لمحاربة الدين، كالدين نفسه، ماضٍ سحيق. لكنّ معاداة الدين في الماضي كانت تنطلق من موقفٍ دينيّ، إذ كان دينٌ ما يناهض ديناً آخر، فيما كان المستهدفون من أتباع الدين ينبرون للدفاع عن دينهم. و فضلاً عن الحروب الدينيّة التي شهدها التاريخ، فانّ الفكر الانسانيّ يدين في رقيه و تطوّره أكثر ما يدين للنزاعات الفكريّة الدينيّة.
و لكن مثلما اختلف شكل الحياة و مضمونها مقارنةً بالماضي، فانّ محاربة الدين أيضاً قد اختلفت شكلاً. فلقد خلقت الحروب التي نشهدها اليوم، و حيث تتحوّل الأفكار و التصوّرات إلى أيديولوجيا يقارع بعضها البعض بسلاح التعصّب، عالماً يختلف عن الماضي. إذ أدّت مناجزات المعترك الفكري إلى ظهور نوعٍ جديدٍ من علم الكلام و اللّاهوت Theology يختلف عن اللّاهوت القديم موضوعاً و قضايا و منهجاً و حتى في العديد من الحالات هدفاً و غايةً.
السؤال الأساس هو: هل صحيحٌ ما كان يزعمه روّاد الفكر المناهض أو المجافي للدين من أبناء الحضارة الجديدة في القرن الثامن عشر، و قبل ذلك أو بعده، بشأن زوال عهد الدين؟ و هل انّ تصنيف اوغست كونت August Comte الشهير، و الذي قسّم حياة البشريّة إلى ثلاثة عهودٍ، هي الدينيّ و الفلسفيّ و العلميّ، و يعتبر أهمّ سمةٍ للعصر الحديث سمته العلميّة، صحيحٌ و لا غبار عليه؟
بقطع النّظر عن الموضوعات المستجدّة في فلسفة العلم، و التي تعتبر وجهة نظر أوغست كونت و أضرابه حول العلم سطحيّةً، فانّه بالاضافة إلى الأبحاث الفلسفيّة الموسّعة بشأن هذا التقسيم و آراء فلاسفة الغرب و دحضها و نقدها، هناك عالم الواقع القائم الذي يلهمنا أعظم الدروس و العبر.
لقد كان من المفروض أن يوفّر العلم الحديث حلولاً ناجعةً لكلّ معضلات البشرية دون الاستعانة بالوحي و العقل الميتافيزيقي. كان من المفترض أن يقيم الانسان المنفعيّ النّزعة utilitarian الظاهريّ التوجّه فردوس الأديان الموعود على الأرض. و كان فرضاً كذلك حلّ أكثر عقد الحياة إيلاماً بمقاليد العلم. بالطبع، ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا انّ تطوّراتٍ مذهلةً قد حصلت بفضل الحضارة الجديدة. و لكن، ألا تواجه البشريّة اليوم مشاكل مستعصيةً أكثر بكثيرٍ من معضلات الماضي؟ و هل يمكن مقارنة الحروب في العصر الحديث و الدّمار المادّي و المعنوي الناجم عنها بما كان يحصل من صراعاتٍ في العهود السالفة؟ أليس الخوف و القلق الذي يساور الانسان اليوم، و كذلك إنعدام الأمن الذي يتهدّد الحياة في كافّة أرجاء المعمورة شرقاً و غرباً و شمالاً و جنوباً، أكثر دماراً ممّا عانته البشريّة من اضطراباتٍ و انعدامٍ للأمن في غابر الأيّام؟
لايسعنا و لاينبغي أن ننبهر من خلال نظرةٍ سطحيّةٍ بالتطوّرات المذهلة في حقل العلوم التجريبيّة و بالتقنية الهائلة التي ينفرد بها عصرنا، و نغضّ الطّرف عن المحن التي تخلف آثاراً مريرةً و قاسيةً في عالم اليوم المتلاحم.
فالعنف و انعدام الأمن و التّذمّر لم يكن في أي حقبةٍ من التاريخ مكشوفاً و رهيباً مثلما هو عليه الآن.
إسمحوا لي أن أستعرض أحد جوانب الحياة البارزة في العهد الحديث نقلاً عمّن يعتبر الحجة و الدليل الوجيه على عقلانيّة الغرب؛ انّه الفيلسوف الألمانيّ الشهير نيتشه.
ففي كتابه «العلم الجذل» (Die Frohliche Wissen- Schaft أو
The Joyous of the Gay Science ) يتحدّث نيتشه عن مجنونٍ يحمل سراجاً في وضح النّهار و يعدو في الأسواق صارخاً: «أبحث عن الله». و حين يسخر منه الناس سائلين: «هل غاب الله أو رحل؟» يردّ رافعاً صوته:«تسألون أين صار الله. سأقول لكم. لقد قتلناه... أنا وأنتم. فكيف يمكننا نحن القتلة، أسياد كلّ القتلة، أن نلتمس العزاء لأنفسنا؟ لقد تكالبنا بخناجرنا على من لم يشهد العالم حتى الآن أقدس و أقوى منه. فمن ذا يطهر ذاته؟ و بأي ماءٍ نغتسل؟ فلا حدث بهذه الخطورة إطلاقا.ً»
و رغم انّه يتعذّر الحكم نهائياً على نيتشه، هذا العبقري المتردد الذي لا يقرّ له قرار، فانّ هذا الجانب من فكره يصور في الحقيقة العالم المتطور الذي استلب من الانسان إيمانه بالله و أضحت اللّاألوهية فيه روح الحضارة الجديدة. و ر بّما كان أبناء الحضارة مؤمنين على المستوى الفرديّ، حيث لازالت الكنائس و المعابد عامرةً في الغرب، إلّا أنّ وهج الايمان بالغيب و التّشرّب بفيض روح القدس قد خفت و خبا في خضم الحضارة الحديثه.
و مهما كان يقصد هذا الفيلسوف؛ فانّه أوّلاً لايمكن التّغاضي عن الحقيقة الكامنة في ذلك التمثيل الذي ينطوي على تعريفٍ بارع بالحضارة الجديده. و ثانياً انّ سبيل العلاج الذي يرتأيه للدّاء، داء غياب الله عن صميم الحضارة الحديثة، هو بدوره سقيمٌ و ينتهي إلى طريقٍ مسدودٍ و مؤسفٍ للغاية.
يقول نيتشه: يتعيّن على الانسان اليائس المحبط في عالمٍ يخلو من الألوهيّة أن يقيم مجدّداً كلّ القيم و يبدعها ثانيةً. يجب أن يجرؤ و يجازف و يغامر و يحيا مفعماً بعنفوان الحياة. و ينبغي أن يزيح كلّ ما يعترض سبيل الحيويّة و النّشاط في الحياة من عقبات. يجب أن يصبح ما هو كائنٌ حقيقةً.
فهو يعتبر الحياة جوهرة الانسان الأهمّ. لكنّ حياةً بمثل هذه القيمة ليست هي الغاية، و إنّما هي وسيلةٌ تتحكّم بها إرادة القّوة:
The will to power أو Derwille zur macht
و على المرء أن يصبح «جبّاراً» بايلائه الأهمّيّة للحياة و تعزيزه لارادة القوّة.
إنّ نيتشه الذي انطلق من صميم الحضارة الجديدة قد سقط في ذات الفخّ الذي وقع فيه أسلافه ممّن لم يبادروا الى تعريف العلم كوسيلةٍ لكشف الحقيقة بل كأداةٍ للقوّة و المقدرة، و لم يستخدموه لتفسير الكون بل لتغييره. و هو بدوره اعتبر إرادة الحقيقة وهماً و تخرّصاً و استخلف إرادة القوّة بدلاً لها و أراد أن يعوض عن غياب الله في النظام الدّنيوي ّ بالانسان. فاذا بالجبّار في بلده- ألمانيا- يظهر في صورة هتلرو إذا بارادة القوّة تتبلور في النّازيّة و تقود العالم إلى الخراب و الدّمار لتنعم بفسحةٍ من «الحياة». و الغريب أنّ اليهود تعرّضوا أكثر من غيرهم للإذلال و الاضطهاد في ظل ّ النظام القومي الاشتراكي في ألمانيا. و حينما سرت إرادة القوّة من هتلر إلى القوى المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية، و بدلاً من أن تضع هذه القوى حدّاً للنّازيّة و الفاشيّة، حوّلتها من صعيد حياتها القوميّة إلى السّاحة الدوليّة و كرّست عزمها و إرادتها لمأساةٍ كبرى كان على شعوب الشرق الأوسط المضطهدة و في مقدّمها الشعب الفلسطينيّ العزيز أن تدفع من خلالها ضريبة «اللّاساميّة» و العداء لليهود في الغرب. في حين انّنا لم نشهد منذ ظهور الاسلام و حتى يومنا هذا في المجتمعات الاسلاميّة أيّ عداءٍ لأتباع الديانات الأخري. فلقد خبر اليهود و المسيحيّون و المسلمون في فلسطين و على مدى قرونٍ التعايش السلميّ و تحسّسوا المصير المشترك. وإن بادرت بعض الحكومات المستبدّة الفاسدة إلى تضييق الخناق أحياناً على الآخرين و بدافعٍ لادينيًّ أو بسبب إيحاء تصوّراتٍ خاطئةٍ من قبل غلاة المتعصبين فانّ المسلمين براءٌ من العداء للديانات الأخري. و إذا ما أخلي السّبيل اليوم للشعب الفلسطيني، فإنّه يمكن للمسلمين و المسيحيين واليهود ان يعيشوا أحراراً في فلسطين و جنباً إلى جنب.
و رغم أنّ الحضارة الغربيّة قد أدارت نوعاً ما ظهرها للغيب، إلّا أنّ تاريخ العصر الحديث لم ينأ تماماً عن الصّراعات و النّزاعات المتأثرة بالحوافز الدينيّة. فبغضّ النّظر عمّا واجهه المستعمرون و دعاة الهيمنة في المستعمرات و البلدان التي تعرّضت لغزوهم من مقاومةٍ مستمدّةٍ من منهل الايمان الدينيّ للشعوب، فانّنا لاحظنا في مناطق عدّة و في فتراتٍ غير بعيدةٍ من عهد الهيمنة الاستعماريّة نزاعاتٍ دمويّةً مدمرةً جابه فيها كلٌّ من طرفي الصّراع الطرف الآخر بدافعٍ ديني.
فلقد عانت الجزائر و طوال سنواتٍ من كابوسٍ دامٍ تناحر فيه الأصوليّون من أدعياء الدين من جهة و الجيش و القوى السياسيّة و الاقتصاديّة العلمانيّة من جهةٍ أخري. و بمقياسٍ مصغّر نلاحظ الظاهرة ذاتها في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا و مناطق عديدةٍ أخرى و حتى في تركيا التي جرت العادة على اعتبارها بيئةً آمنةً للتمثّل بالغرب و للعلمنه.
لكنّ هذه الظاهرة لم تقتصر على العالم الاسلامي و الدول غيرالغربيّة. ففي الغرب كذلك خلق حق المعارضة الدينيّة المتاعب. و هو حقٌ يرتبط أساساً بتخليص الايمان التقليدي من تجاوزات الديمقراطيّة العلمانيّه.
بناءاً على هذا و بعد حوالي قرنٍ من رحيل نيتشه الذي أعلن أنّ الايمان الدينيّ قد ولّى في الغرب، إنبرى المفكّرون و المحلّلون للحديث عن «ثأر» الإله المتمتّل في انتفاضة المؤمنين الذين ذاقوا الذّلّ و الهوان و تملّكتهم العصبيّة، في حين انّ الحقيقة شيءٌ آخر.
من هذا البحث المستفيض أريد أن أخلص إلى القول بأنّ ما حصل كان نتيجةً للاعراض عن الله. فحين يغيب الله عن البال و الحسبان، يزول الحبّ و تتلاشى العدالة. وللخلاص من هذه المحنة ليس للبشريّة سوى العودة إلى الله و إذكاء نور الايمان في القلوب و في صميم مجتمعاتها. لكنّ هذا لايعني الدعوة للعودة إلى الماضي و إحياء الأساليب و النّظم اللّاانسانيّة تحت ستار الدين. فلا يغيبنّ عن بالنا أنّ أحد أهم أسباب إزورار الانسان المتحضّر عن الدين يكمن في الانحرافات و التّجنّيات المفروضة قسراً على البشريّة باسم الدين. فالعلمانيّة الخاصة بتاريخ الغرب هي نتاجٌ طبيعيّ و حصيلةٌ أفرزها التشاؤم و سوء التّصرّف الجامح الذي تمّ باسم الدين في حقبة ما قبل الحداثه.
عندما أتحدّث هنا عن الدين لا يتواءم حديثي إطلاقاً مع أولئك الرّجعيين من ذوي العقليّة المنحرفة ممّن يحصرون الدين في الظّواهر، و هو ما يعود في جانبٍ أساسي منه إلى الانطباعات الخاطئة عن الدين أو العادات الموروثة من الماضي و التي تطبّعت بطابع القدسيّة و الخلود. فلا أعني بالدين السلوكيّات القاسية و اللّاحضاريّة التي تعارض متشدقةً بالدين كلّ ما هو حديثٌ و رائد، و تعتبر القتل و الارهاب جهاداً و إطفاء جذوة العقل إيماناً و حرمان المرأة من كافّة حقوقها تقوىً و التّصدّي للعلم و التطوّر زهداً.
إنّ البشريّة بحاجةٍ إلى الدين. و رسالة الدين هي هداية الانسان. فالدين لم يحلّ أبداً بديلاً للعقل البشري في تصريف شوؤن الحياة، بل يؤكّد على أهمّيّة التدبّر و التعقّل و ينشد الحريّة و الحكمة و العزّة للانسان. و الدين الحقّ يوجه الحياة التي ينبغي أن تسري في صميم هذه الطبيعة، لكنّه يعدّ الانسان أعظم من الطبيعة بأسرها و الطبيعة رهن تصرّف الانسان. غير ان هذا التصرّف يعني التّناغم مع عالمٍ يسبح على الدّوام لله، ولا يعني العبث فيه و الذي تعاني البشريّة اليوم من مضاعفاته السيئة. والانسان أسمى من الطبيعة، لا من حيث تميّزه بالعقل و حسب، بل بموهبة الحب التي حرم منها حتى الملائكه.
فالايمان الذي أقصده هو ذلك الايمان الذي من شأنه أن يحرر الإنسان من رهبة الإرتماء في خضم الوجود اللّامتناهي و يزيل عنه آفة الحزن و الهلع الفتّاكة. إنّه الايمان الذي يصل مدينة الله التي دعا إليها القديس أوغسطينس بمدينة العالم الحديث، ليتقاسم أهاليهما سلطة الشعب و المعنويّة و العدالة و النّعيم.
و لكي يتحرّر عصرنا فهو بحاجة إلى الدين، إلى دينٍ يؤمن فضلاً عن الله بالعدالة و الحريّة و حقوق الانسان، و يكفر بالفقر و الجهل و الحرب و الإرهاب و إذلال الانسان.