طرح المشاركون في مؤتمر "كلمة سواء" العاشر الذي ينظمه مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات بعنوان "التنمية الإنسانية وأبعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"، إشكاليات الدين وعلاقته بالحضارة، وأجمعوا على افتقاد فكر الإمام الصدر الذي إذا ساد فسوف يؤدي إلى تغيير الواقع الطائفي المتجذر ويعزز التعايش والحوار، وأدانوا التآمر على الشخصيات التي تمنح الأمة عناصر قوتها، مكررين هجومهم على النظام الليبي. وقد طالب نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان في كلمة له ب"إنشاء محكمة دولية لمحاكمة القذافي على تغييبه الإمام الصدر ورفيقيه" ، ولم يستبعد أن يكون القذافي شريكا في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
افتتح المؤتمر في قصر الاونيسكو، بحضور رئيس الجمهورية الإيرانية السابق محمد خاتمي ووزير الطاقة والمياه محمد فنيش ممثلا رئيس الجمهورية العماد إميل لحود والنائب أيوب حميد ممثلا رئيس المجلس النيابي نبيه بري (حضر بري لاحقا بعد ان بدأت الجلسة) ووزير الخارجية فوزي صلوخ ممثلا رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. كما حضر الرئيسان حسين الحسيني ورشيد الصلح ورئيس أساقفة أبرشية بيروت المارونية المطران بولس مطر ممثلا البطريرك نصر الله بطرس صفير والشيخ محمد دالي بلطه ممثلا مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني والمفتي قبلان وممثل السيد محمد حسين فضل الله والشيخ نعيم قاسم ممثلا الأمين العام ل<<حزب الله>> السيد حسن نصر الله، والسفير الإيراني مسعود الإدريسي وعدد من الوزراء والنواب وأعضاء السلك الدبلوماسي وشخصيات.
الصدر
كلمة مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات ألقاها نجل الإمام السيد صدر الدين، وذكر فيها بتحميل الصدر الدولة مسؤولية غياب التنمية ولا مبالاتها حيال الاعتداءات الإسرائيلية وتنامي البنية الطائفية وسط جو من الحرمان والإهمال.
وتطرق الصدر الى موضوع لبنان الجديد <<الذي يجب أن يبني مجتمعا ينسجم مع عبقرية المواطن وطموحه لأننا في عصر العولمة>>. وتساءل عن التغيير المرتجى في ظل أنظمة شمولية انتخب رؤساؤها، من دون منافسة حيث لا قدسية إلا للزعيم الواحد الملهم وحيث الاستبداد والمقابر الجماعية والفقر والفساد، ولا شيء حر لا لجنة ولا هيئة ولا مجلس. وشدد على أن الواقع العربي يضعنا أمام خيارين، إما الاستعمار المقنع وإما المباشر، وسأل: هل هناك أبلغ من <<الدكتاتور عميد الزعماء العرب الذي لم يبق أخضر في ليبيا إلا تجديفاته، والعراق المحتل اليوم كأمثلة على الواقع>>.
الزعني
وفي كلمته أشار د. جورج الزعني (صاحب فكرة معرض موسى الصدر الرؤيوي) الى تجسيد الإمام أرقى وأسمى حلم يصبو إليه كل وطني حر، لافتا إلى محطاته الإنسانية والحضارية فكرا وواقعا وأساسها حب الله والوطن. ودعا إلى استذكار ما حث عليه الصدر من إلغاء النزعة الطائفية، وحمل هموم الوطن والمواطن والمحرومين والابتعاد عن المصالح الفئوية، ورأى أن المعرض يشكل عربون وفاء لصديق أحبه وقد وسعت محبته الجميع وهي التي جمعتنا اليوم وكل يوم، مشددا على أهمية أن يصب الجميع في هدف واحد ورؤية واحدة في بلدهم لبنان.
دالي بلطه
وألقى الشيخ دالي بلطه كلمة المفتي قباني، معتبرا أن موضوع التنمية الانسانية أكثر الموضوعات حيوية في هذا العصر بالنسبة لأمتنا التي تأسست على عقيدة مسلمة لا على ابتداع.
وسأل عن مصير فكر الصدر المتنور الذي تجسّد في حضوره لتمتد اليد الآثمة لإسكاته، موضحا أنه لم يكن الاول والأخير في هذه المسيرة، <<فبالأمس القريب افتقدنا الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أطل علينا من باب التنمية الانسانية وفتح باب العلم وأنشأ مراكز التنمية الاجتماعية وأسعف المرضى>>.
ورأى أن الإساءة إلى الأمة لحرمانها من عناصر القوة إنما هي مؤامرة تستهدفها لكي تبقى أمة مستهلكة وسوقا تجاريا لبضائعهم واستعمارها سياسيا واقتصاديا وتلك الحالة تستدعي مواجهة شاملة من أجل الخروج من العجز الذي نعيش فيه، متمنيا أن يكون المؤتمر نقطة انطلاق يدرك الجميع أهميتها وأن يكون صوتا تصحو فيه الضمائر وتثوب العقول إلى رشدها.
مطر
وحذر المطران بولس مطر الذي ألقى كلمة البطريرك صفير من خطر ضياع التنمية ما لم تقترن بروح دينية توجه مسيرتها نحو الغايات التي يجب أن ترسم لها، وقال إن العولمة اليوم تطلق العنان، على مستوى الأرض كلها، للقوى المادية الغاشمة لتفرض على التنمية خدمة القادرين والأغنياء من أجل ضمان مصالحهم على حساب المستضعفين والفقراء غير تاركة لهؤلاء أي فرصة للتقدم أو الازدهار، وسأل: من يقوّم ذلك الاعوجاج ما لم تكسر حلقته الجهنمية كوكبة من القيم السامية التي تدعو إلى العدل في الأرض والتضامن الحق وكبت جماح الأهواء على أنواعها.
وأضاف مطر: لهذا قيل إن القرن الحادي والعشرين إما أن يكون متدينا وإما ألا يكون، مشيرا إلى أنه بهذه الروح السمحة أيضا ذكر الإمام في خطبته لعيد الأضحى أن السماء عندما أمرت إبراهيم بذبح شاة لها بدلا من ابنه، إنما هي أمرت بتقديم المال قربانا في سبيل الله، الأمر الذي يعني أن المال إذا صرف في سبيل مصلحة الناس يصبح نعمة عظيمة على الإنسان، أما إذا صان الإنسان المال وقدّسه فيصبح طاغيا على كل شيء ووسيلة لنزع الرحمة من القلوب.
وخلص الى أن البعد الإيماني للتنمية يضمن لها بعدها الاجتماعي المطلوب، داعيا للعودة إلى روح الدين لإنقاذ الحضارات من العبث بعضها ببعض، ولفت إلى انتفاضة المحرومين التي أطلقها الصدر وثورة المستضعفين كما أرادها الإمام الخميني من أجل أن يكون لكل شعب حقه.
قبلان
وفي كلمته طالب المفتي قبلان ب"إنشاء محكمة دولية لمحاكمة القذافي على تغييبه الإمام الصدر ورفيقيه"، وهاجم "النظام المتسلط الظالم عدو الإنسانية المناهض لأي فكر تنويري"، ولم يستبعد أن يكون القذافي شريكا في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وتطرق الى صعوبة التنمية في ظل الأنظمة الفاسدة قائلا إن الذي بنى قصورا شاهقة في العراق لا يمكن ان يكون عنده تنمية، والذي يغيّب الامام الصدر في ليبيا لا يعرف معنى التنمية، وإنما يعرف الوحشية والقبلية والهمجية. وأكد الاستمرار في خط الإمام الصدر، خط المقاومة. مضيفا: لقد جاء الصدر ونفض الغبار ووحد الصفوف وعمل على بناء المؤسسات، لذلك أتعبنا في حياته وأهلكنا بعد غيابه، لأنه كان شعلة ونورا وعملا مستمرا وإنسانا صاحب طاقة جبارة. واقترح على الرئيس خاتمي جعل مدينة أصفهان الإيرانية عاصمة للثقافة وإنشاء مدينة جامعية فيها، وأعرب عن أمله أن يكون المؤتمر في مستوى التحدي الذي تواجهه الأمة بما يضمن الفكاك عن طوق التخلف، واسترداد دورها الثقافي والحضاري الذي يتراجع أمام التسلط، ودعا إلى التركيز على التنمية الإنسانية وإعطائها الاهتمام اللازم لتكون انطلاقتها علمية، مبديا طموحه أن يتحول الشباب من ناقل للمعرفة الى صانع لها ومن مستورد الى مبدع.
خاتمي
ركز خاتمي في كلمته على معاني الدين قائلا إن الإمام الصدر نذر حياته لأجله، بوصفه يحرر الإنسان من الجهل والعنف والظلم. وأضاف ان الإمام كان المعلم لأتباع كل الأديان والطوائف، مذكرا بدعوته الى العيش المشترك بين المسلم والمسيحي والدرزي، وأشار إلى ترفع فكر الإمام عن الحدود المصطنعة والتقسيمات والتكتلات السياسية والقومية المفتعلة، معتبرا أن فكره يشكل حافزا لكل لبناني يتصدى للمؤامرات التي تستهدف استقلال لبنان ويرفد المقاومة اللبنانية البطلة. وأوجز خاتمي مراحل تطور الدين وعلاقته بالإنسان وقال "لقد واجه الدين عبر كل الحقب، معارضين شرسين" وتساءل عن تقسيم كونت، الحياة البشرية الى ثلاثة عهود، الديني والفلسفي والعلمي، مؤكدا أن السمة العلمية هي من أهم سمات العصر، لكنه تحدث عن المشاكل المستعصية التي تواجه البشرية اليوم في ظل تطور الحضارة لافتا إلى انعدام الأمن وتنامي العنف. كما استعرض من كتاب نيتشه "العلم الجذل" الجانب الذي يصور العالم المتطور وكيف استلب من الإنسان إيمانه بالله، معتبرا أن نيتشه سقط في الفخ نفسه الذي وقع فيه أسلافه ممن لم يبادروا الى تعريف العلم كوسيلة لكشف الحقيقة بل كأداة للقوة والمقدرة، ولم يستخدموه لتفسير الكون بل لتغييره، وأراد أن يعوّض عن غياب الله في النظام الدنيوي، بالإنسان، فإذا بالجبار يظهر في بلده ألمانيا في صورة هتلر. واعتبر أن القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بدلا من أن تضع حدا للقوى النازية والفاشية حولتها إلى الساحة الدولية فكانت المأساة الكبرى على شعوب الشرق الأوسط وفي مقدمها الشعب الفلسطيني، وذكر باستمرار العيش المشترك بين الديانات في فلسطين الى أن تدخلت حكومات فاسدة في عيشهم، ورأى أن حق المعارضة الدينية في الغرب خلق المتاعب وهو حق يرتبط أساسا بتخليص الإيمان الديني من تجاوزات الديمقراطية العلمانية، وأعلن خاتمي أنه بعد حوالى قرن على رحيل نيتشه انبرى المفكرون إلى الحديث عن ثأر الإله المتمثل في انتفاضة المؤمنين الذين ذاقوا الذل والهوان.. وخلص إلى أن ما حصل كان نتيجة للإعراض عن الله وليس أمام البشرية سوى العودة إليه، محذرا من إحياء النظم اللاإنسانية تحت ستار الدين.. فالدين لم يحل أبدا بديلا للعقل البشري في تصريف شؤون الحياة، بل يؤكد على أهمية التدبر والتعقل وينشد الحرية والحكمة والعزة للإنسان.
تجدر الإشارة إلى أن المؤتمر يستكمل أعماله ابتداءً من التاسعة والنصف من صباح اليوم في الاونيسكو ويستمر حتى يوم غد.