* مؤتمر “كلمة سواء” العاشر "التنمية الانسانية ابعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"
السؤال عن علاقة المعتقد الديني والتنمية يبدو انه يصاغ هكذا بما يستفيد المجتمع من الدين لينمو نموا بشريا شاملا فيما هو التقدم الحديث اعني العولمة التي هي الاسم الحديث لنمو واعني ايضا حقوق الانسان والديمقراطية والحريات والبيئة والفنون والثقافة. وما يتضمنه السؤال هو اي دين فإن ما يفيد منه اهل الاديان الأسيوية لا يفيد منه اهل التوحيد بسبب تباين الإلهام .ففي التوحيد نفسه نمو الانسان في جزيرة العرب مثلا يتكون من نفحات الاسلام ونموه في اوربا يأتيه من الالهامات المسيحية . تبقى الشعوب المتعددة الدين. انها تأخذ من هذا المعتقد نموا ومن ذاك وهذا حسب القوى الفاعلة فيها. فقد تؤثر اقلية بمقدار كبير حسب فاعليتها الروحية والفكرية.
هنا في لبنان ما من شك اننا نتلقى تأثير الديانتين القائمتين عندنا فعند كل مسيحي من بلدنا شيء من الاسلام اقله الاسلام الحضاري وعند كل مسلم نفحة عيسوية وهذا يتجلى في اللغة والمعاملات والاعياد وتناضح العادات وما الى ذلك.
ولكن قبل ان أهمل الكلام عن الاديان الاسيوية لا بد ان الحظ ان المسيحية اذا لعبت دورا في نشوء الحضارة الاوربية فقد ادركت اليابان التطور نفسه القائم في الغرب بلا مسيحية. لعلها لم تدرك مكونات اخلاقية مرتبطة بالانجيل ثم كان الكثيرون على البوذية التي لا اله يعبد فيها وهي اقرب الى الفلسفة منها الى الدين كما نعرفه. تتطور اليابان تطورا عظيما بلا نفحات التوحيد وفي الزمن نفسه اي القرن التاسع عشر لا يتطور العرب. النمو يتكون اذا من عناصر غير الدين. هل احد اسباب التطور في اليابان يعود الى ان البوذية والشنتوية والطاوية لا تتدخل في شؤون الفرد الباطنية ولا شأن لها سياسة الحياة المجتمعية.
ان صعوبة المعالجة لموضوعنا ان العناصر المكونة لحياة الجماعة كثيرة والدين واحد منها ولو كان في قوته وازدهاره عنصرا اساسيا او صار في انغلاقه عنصرا اساسيا ايضا . ان ترسم خطا مستقيما بين العقيدة في زمان ممارستها والتطور الكبير بحيث تراها منتجة لهذا التطور وحدها فهذا يخرجك من التحليل المجتمعي المعقد. بكلام آخر ان تتلو آيات من الكتب المقدسة وان تزعم انها نحتت وحدها المسلم في عصور الاسلام المختلفة ففي هذا غلو او تجاهل لتماسك العناصر التي تؤلف التاريخ وكذلك ان ترى المحبة الانجيلية وحدها ناحتة المجتمعات المسيحية ففي هذا غلو ايضا.
فحتى في الحياة الشخصية لا تنزل كلمة الله وحدها الى الانسان بل تأتيه متصلة بيومياته التي تجعله تنساب انسيابا لينا او تجد امامها عقبات . وتأتيه متصلة بعشرائه واهله وقراءاته. هناك قلوب منفتحة كثيرا وهناك قلوب لها علائقها بما يحيط بها بحيث تفرض عليك الجدية العلمية ان تتبين كل العوامل السيكولوجية والنفسية التي تآزرت لتخرج معا واقعا تاريخيا . الدين عندما ينزل الى المجتمع يصير ظاهرة لا تنحصر في النصوص فالنصوص لا تفسر كل شيء في الفعل التاريخي الى هذا العادات والتقاليد واستسلامك لها. فلئن انبثقت في البدء من نص الهي فأنت لن ترثه بالضرورة مباشرة ولكنك ترثها. فاذا كان الله يحيي ويميت او جعلته الحضارات السامية سببا للخير والشر وطبعت المجتمع بميل الى الجبرية تكون الجبرية الموروثة طابع المجتمعات ليس حصرا او بالضرورة بسبب من موروث الهي ولكن بسبب من الفقر او المقهورية . والسلوكيات المنقولة من جيل الى جيل القائمة على الظلم هي الظاهرة ولا يكون النص هو الظاهرة الفعالة وحدها.
غير ان التحليل الاجتماعي وحده خطر لانه قد لا يفرض كل الحقيقة في تشعباتها . فاذا قلت مثلا ان الثورة الفرنسية مستندة فكرا الى مونتسكيو وروسو ولفلاسفة الموسوعية وعصر التنوير بعامة فهذا صحيح ولكن هذا لا يكفي لانها مستندة الى المسيحية ايضا وان لم يعترف الثوار بانهم يوالون الله. ذلك ان الشعار :"الحرية، المساواة ، الاخوة" ليس له فقط جذور مسيحية بعيدة ولكنه مسيحي بوضوح . الواقع الثوري كردة فعل على ملوك فرنسا لا يؤكد وحده الشعار، ذلك لان الحضارة اليونانية التي استندت اليها اوربا جزئيا ليس فيها اي اساس للحرية والمساواة والاخوة وكذلك روما. هناك شعور مسيحي احتجب بسبب مخاصمة الثوار للكنيسة الكاثوليكية ولكن الثورة ضمت المعاني المسيحية اليها ولم تعترف بالمصدر المسيحي بسبب من الدم المراق والتمرد على الكنيسة كمؤسسة او كقيادة اكليروسية.
كذلك اذا اتخذنا العولمة وظاهرها سؤد اميركي على الحياة الاقتصادية وسيطرة اللغة الاميركية ومحاولة ايجاد ثقافة عالمية الا ان العولمة هي ترجمة علمانية لفكرة الكنيسة الجامعة التي تجعل الناس جميعا واحدا في المسيح يسوع . فغاية العولمة كما غاية الكنيسة هي الحب. واللحمة التي تنشئها العولمة انما هي تعبير عن انهاء العداوات بين الشعوب واهل الاديان والثقافات المختلفة والوان البشرة.
على طريق هذه الوحدة المبتغاة قد يتعثر الناس وتتحول الوحدة الى استعباد واستثمار. ولكن الكلمة الالهية معرضة دائما الى ان تتشوه في البدعة . غير ان الابداع شيءآخر وهو ان تقول الحقيقة وجمالها بكلمات جديدة او تعابير جديدة حتى لا تصبح الكلمة مجمدة في قالبها ولا تصل فلا شيء يصل الم تحدث وحدة التبليغ بين الملقي والمتلقي.
من هنا انه لا ينبغي ان نخشى الجديد فقد يكون في جوهره اقرب الى الابدي الذي نزل علينا في اوان الرضاء والرحمة وقد يكون ترداد الكلمات القديمة غير الطاعة الحقيقية التي هي تأوين لما نزل علينا دفعة واحدة بحيث نجعله من هذا الآن لنقله بصدق واحياء.
اعرف ان هذا على شيء من الخطر ولكن لا نجاح الا في المغامرات وكل مغامرة خطرة. ولكن هذا آت من حبك للشخص الذي تبغي ايضا ان تكشف له الحق .
دونكم متلا آخر وهو الديمقراطية. لا يهمني ان يقال انها حكم الشعب لنفسه. في التطبيق ترى انها حكم الفئات والكتل ولكنها التعهد الا يقتل-اذا اجتمعنا- احدنا الآخر وان نقبل الاختلاف الممكن ربطه بالوحدة. ما من شك ان هذا مرتبط بحضارة اثينا ولكن الاستبداد ساد فيما بعد ولم تعمر الديمقراطية في القرون الوسطى . اجل كان هذا ردة فعل على تسلط الملك ولكن هذا جاء من حب العدالة واحترام الآخر ومساواة الغني والفقير كما ظهرت هذه القيم من الانجيل في بيئة متدينة جدا. هذه الديمقراطية قوت حب الحرية وجعلتنا نحدد مع فولتير شبه الملحد اني ضد فلان ولكني ادافع عن حريته.
المفارقة ان روح التكفير وروح الحرية آتيان معا من المسيحية التاريخية ولا يصح الموقف الدفاعي او الاعتذاري الذي نتخذه عندما نتكلم عن ديانتنا في تقادم الزمان عليها لان الدين ليس صافيا في الفعل التاريخي. هو ينسكب دائما في النفوس فتتعالى وتسمو او تسقط وتتشوه. في النظرة العقلية لك ان ترى الدين صافيا ولكن في النظرة التاريخية هو جزء كبير او صغير من واقع مجتمعي وتسخره احيانا من غاية ليست منه. لذلك تأتي الحماسة الدينية سبيلا للعطاء او تأتي سبيلا للقتل والابادة ولا ينفع ان تقول ان المسيحية براء من محاكم التفتيش . لقد كتب لاهوت يبرر محاكم التفتيش كما لا ينفع قولك ان الاسلام براء من المسلمين اذا قتلوا . هناك تفسير قادهم الى ذلك فلا بد ان نتوب اليوم عن محاكم التفتيش ولا بد ان نحكم على الاصولية اذا ذبحت مسلمين آخرين . الانكفاء الى النصوص وبهائها لا يحل المشكلة .
اذا اتينا الآن الى شرعة حقوق الانسان وما تفرع عنها من اتفاقات فالظاهر انها من التراث الانسانوي اي من العقلانية الغربية الاصل الا اني لست متشددا لو قلت ان كل هذا مصدره الانجيل . مشكلة الانجيل انه مرمي بين الناس وانه امكن حجبه في التاريخ. ثم يأتي ظرف يساعد على الكشف. لقد كُتبت في التاريخ المسيحي اشياء ضد المرأة وكانت المجتمعات المسيحية ذكورية ولا يزال بعضها كذلك الا ان المرأة لا تؤتى كرامتها لا من بعض الآيات وحسب ولكن من كونها واحدة في المسيح مع الرجل وفوق هذا من كون كلمة الله والمسيح اسمه قد سكن فيها وصار ابنها . واذا الانسان اعطى الناس المسيح فهو مريم جديدة.
قد يعبر عن هذه الكرامة الواحدة للذكر والانثى بتعابير علمانية مختلفة وتعطى ابعادا تطبيقية مختلفة ولكننا لسنا من هذا .
ان التشابك الذي اشرنا اليه بين المكونات المختلفة لا يحول دون رؤية المسيحية فاعلة بصورة اكثر جلاء في هذا المضمار ام ذاك. تشديد المسيحية الاولى على اللاعنف وتحريمها الحرب قبل ظهور اوغسطين في القرن الخامس الذي شرع الحرب العادلة هو وراء الحركات اللاعنفية في العالم الحديث بما في ذلك حركة غاندي الذي اعترف ان ما رآه من ذلك في تراث الهند انما لتقي بما ورد على لسان السيد في الموعظة على الجبل وهواللاعنف الكامل . هذا قاد الى الشهادة التي تقضي بالايمان بالقلب والاعتراف باللسان حتى الدم والكف عن الدفاع عن الكنيسة بالسيف وعن تجاوز اباحة" العين بالعين والسن بالسن" التي هي وصية العهد القديم. هذا الانجيل انشأ حضارة الشهادة التي بذل الملايين انفسهم في غفران للاعداء والتعالي عن الانفعال.
في مضمار الفنون نلحظ ان 85?من الرسم الاوربي مواضيعه مسيحية هذا اذا اهملنا الموسيقى الكلاسيكية. ولكن لا يسعنا ان نهمل عمارة الكنائس التي الهمتها تقوى شعوب بأكملها فقامت بها وعاشت من جمالها وصلت متكئة على الجمال.هذا تعدى النطاق الفردي الى مساحات اجتماعية واسعة. واذا صح اتقان الجماليات في البناء والفنون جميعا وذلك في كل البلدان المسيحية والتي وجد فيها مسيحيون فهذا يعني تأثيرا للإيمان مباشرا على حياة جماعات بكاملها.
غير ان ما يسمو كل هذا سطوع فضائل الانجيل هنا وثمة. المسيحيون يرتكبون المعاصي ككل الناس وليسوا افضل من احد. ولكن ما من شك ان دوستويفسكي عندما وضع قصة سماها " الاذلة والمسحوقون" وجدت قصته صدى كبيرًا عند الشعب الروسي. كيف يقف الانسان الروسي على الاقل في القداس ولا تلين له ركبة ويصبح هذا ظاهرة شاملة اي نموا اجتماعيا لو لم يكن هذا الانسان آتيا من ينابيع ايمانه.
هذا لا يعني اننا مدعوون ان نوظف الدين توظيفا اجتماعيا .ولكن الواقع يدل على ان الله هو في وسط الشعوب ويحركها وهذا يعني ايضا اننا في حاجة الى تعايش محب حتى نلتفت الى القيم الجامعة لتأتي بلادنا مكونة من الرافدين الروحيين اللذين يحيا بهما قومنا اعني المسيحية والاسلام . غير ان هذا يفترض تلاقي قلوب نقية كثيرة . اذ يبقى الواجب كيف نريد ان يلتقي اهل الاديان لتنمية الانسان . ما من دين ينصهر بدين آخر اذ يبطل ان يكون اياه ويكون هذا من باب التلفيق او الذوبان المصطنع . كن انت نفسك ولكن على اعلى مستوى بشري ممكن اي في غاية الوداعة واللطف والسماحة بحيث لا تتصدق على الآخرين بالتسامح المذل . انها سماحة الذي يرى في ديانة الآخر اشياء عظيمة اذا كان قادرا على البحث والتأمل . انها بالدرجة الاولى سماحة القادر ان يحب الاخر ويعترف بحريته الكاملة في اداء ديانته والتعبير عنها .
مبتغاي ان احافظ عليك وتحافظ علي بكل مودة كما انا وكما انت لاننا ، اذ ذاك ، نحفظ الله . ان اكون انا وانت في معية مقدسة مباركة يقودنا الى ان اكون انا واياك قائمين بتنمية مجتمعاتنا لاحقاق حق الله على الناس .
حقه الاخير ان تنمو كل البلدان معا فلا يبقى بؤس ولا تبقى تخمة وان تقبل الشعوب على المعرفة حتى لا يُترك احد للجهالة او الضياع الروحي. ترجمة ذلك ان يتحد من هم الى شمال المتوسط ومن هم الى جنوبه في نمو لا ينقطع فيندفع المسيحيون الى رفع شأن المسلمين والمسلمون الى تعزيز المسيحيين في كل مجال من مجالات الكيان البشري حتى يلتمسوا معا وجه الله ويعلو البشر وهم في ارضهم الى ان يُعطوا ويُعطوا.
تلك هي المحبة التي هي الاسم الاعظم للنمو.