الوعي وحركة التاريخ

calendar icon 02 كانون الأول 2005 الكاتب:جلول صديقي

* مؤتمر “كلمة سواء” العاشر "التنمية الانسانية ابعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"






الذي نعرفه أن حركة التاريخ، لا تستقر على حالة واحدة، فما من أمة شهدت أمجاداً متلاحقة إلا وانعرجت بها مسيرة التاريخ لتشهد تجربة جديدة لتحظى ببعض هذه الأمجاد أمة أخرى، وهذا ما يفسر حتمية الصراع البشري. وما التاريخ في جوهره إلا تسجيل ينبغي أن يكون دقيقاً عند تدوينه للصراع الدائر في حركة مستمرة بين البشر. وبهذا تصبح الانتصارات والهزائم والنكسات في تاريخ الشعوب عبارة عن أماكن تتبادلها حسب القوة التي تستطيع التغلب  على الأخرى، وحسب حالات الضعف التي تحل بالقوى، فتجعل ميزان قوته ينخفض من مستواه المطلوب. والمرجو منه أصلاً أن يحافظ عما بين يديه من أمجاد إن لم يكن في المستطاع زيادتها.

والذي ينبغي التنبيه إليه هنا، أن الخروج من دوائر الهزيمة والضعف لا يأتي عرضاً، وإنما لا بد من أن يتزامن ويتلازم مع حالة من الوعي تكون كافية لمراجعة ما حدث بعين فاحصة تستوعب كل جزئيات الماضي، وتصنع في الوقت نفسه- أمام النظر- ما يجب فعله وما يتوقع أن يحدث، وأما في الحالات التي تستلم فيه الشعوب المقهورة للعين المغمضة عن جوهر الأحداث، فلا يمكن هنا أن يتواجد الوعي الكفيل بتخليصها مما هي فيه.

لم تقم أية شريعة في التاريخ الإنساني تنظم وتهيمن على حياة الإنسان وسلوكه وتفكيره كالشريعة التي أقاماها القرآن الكريم، بمعنى أن الإسلام جاء مقيماً وضابطاً للحياة البشرية، وما في ذلك من شك، حيث اتفقت النصوص النقلية القرآنية بصراحتها ووضوحها في هذا الشأن مع الأدلة العقلية التي ساهم مختلف العلماء على إقامتها لإثبات أن القرآن وضع أمثل الطرق التي يستطيع الإنسان- أين كان على مراحله الزمنية- أن يسلكها، فلا يضل ولا يشقى، بل يهتدي بالنور الساطع الذي يسهل على الأبصار أن تستنير به ما دامت البصيرة تتمتع بوافر من الوعي ومستعدة لاستيعاب المزيد من التنوير والإرشاد، وكذلك كان من الطبيعي أن يقال أن القرآن الكريم كتاب للبشرية جمعاء على مختلف أشكالها، حيث يجد كل إنسان ما يطلبه فيه.

ولأن القرآن يخاطب العقل والقلب معاً، ويتسجيب للعواطف الإنسانية السامية والصادقة.

ومن خلال الدراسات البلاغية واللغوية التي تمركزت حول أسلوب القرآن الكريم، تبين لكل عاقل أنه احتل الصدارة في أسلوبه المعجز على كل ما أنتج العرب وأبدعوا في فنون الأدب، ولهذا فعندما يجتمع الإعجاز البياني والإعجاز في المعالجة، فإن ذلك يدفع إلى المزيد من الإعجاب والتمتع بكل روعة تجتمع إلى الأخرى، ومن هنا اتجهت أذهان المسلمين أولاً_ وقبل كل شيء من الناحية العلمية- إلى العناية بالنص القرآني ليشرح ألفاظه وتفسر آياته وتفصل معانيه حتى يصبح في متناول جميع المسلمين من الفهم والإدراك، وحتى يتسنى أن يفهموا حياتهم على هدى القرآن.

نقول إذا اجتمعت هذه الأركان لكتاب، فمن الطبيعي أن يصبح محوراً لأهداف الفكر والتأليف في الأمة، ويضحى ينبوعاً للكثير من جداول ثقافتها، وحافزاً على العناية بفروع العلم التي يمكن أن تعين على فهم هذا الكتاب وإدراك أسراره، فتجتمع العوامل على إقامة حضارة، وقد قامت الحضارة الإسلامية على هذا الأساس.

ولأن المسلمين أدركوا في باكورة حياتهم تأثير القرآن الإيجابي والفاعل على حياتهم، فإنهم اتجهوا إلى دراسة علومه، وعرفنا من التاريخ الإسلامي أن القرآن شهد المحاولات الجادة في التفسير والشرح، بعد النصف الثاني من القرن الثاني، وأول محاولة علمية منهجية جادة في تفسير القرآن على أساس استنباط الأحكام على هديه قام بها الشافعي في رسالة ألفها حول تفسير القرآن.

ومن حيث أن القرآن الكريم كتاب عام للبشرية جمعاء، على اعتبار أنه المعجزة الخالدة، كان تناوله للحياة تناولاً جذرياً قائماً على الإصلاح الشامل والبناء القوي الذي يصمد أمام الهزات وعوامل الهدم، ولأنه نفذ إلى جوهر الحياة، «فإنه استطاع أن ينفذ عن هذا الطريق البيئي إلى خلق منهج للحياة بأوسع معانيها في كل ظروفها التاريخية والحضارية، فنحن نستطيع أن نحس روح العربية في القرآن، كما نحس روح الإنسانية وفطرتها الأصلية حين نتأمل الجانب الاجتماعي والتشريعي في القرآن الذي يسعد البشرية كافة، ذلك أن خصوص لغة القرآن لا ينافي عموم دين الإسلام، فالمخاطبون في هذه المعجزة هم البشر جميعاً في كل زمان ومكان».

وهذا يدل بصورة واضحة على أن القرآن الكريم استوعب العديد من الدراسات وما زال يستوعب غيرها من الدراسات التي تصب في مجرى الحياة الإنسانية، فأتيحت بذلك فرصة كبيرة ومجال رحب أمام العقل العربي، حيث يظهر إبداعه، وتفهمه لجوانب الحياة المختلفة.

وهناك شيء مهم في هذا المجال ألا وهو قراءة القرآن، ونحن مطالبون بالفعل أن نفهم معانيه، لذا كانت القراءة الواعية المتبصرة في كتاب الله هي السبيل إلى الاهتداء، والاتصال بالخالق اتصالاً روحياً سامياً، تستشعر النفس فيه راحتها وطمأنينتها، وتثبت الأقدام بذلك على طريق الحق والخير، وبما أن الإنسان هو من حمل الأمانة راضٍ لأنه تجمل بالعقل وأخذ بالتكليف، فإن عليه أن يتلقى كلمات الله بقراءة فيها الأناة والاستيعاب، حتى يستطيع أن يقف بقراءته على دلائل القدرة الإلهية فيؤمن بالله حق الإيمان، ويقوم على خلافته في الأرض، فيقيم موازين العدل فيها، وعلى المسلم أن يدرك أن عليه واجباً مقدساً في فهم القرآن وتفهيمه للناس، وإلا كان حديثنا عن حياتنا في الإسلام مجرداً من التطبيق العملي، وليس هناك شيء أدل على أن الإسلام للحياة والآخرة من أن نقوم جميعاً على الأخذ بتعاليمه حتى يحس كل الناس ويعلموا حقائق الدين، ولدينا في أصولنا الحضارية والثقافية ما يعيننا على هذا الوصول المنظور إليه بعين الأمل والرجاء، «فالثقافة الإسلامية منبعُ للحركة والنشاط والفاعلية أكثر منها موضوع للنظر المجرد، وحتى المعرفة العقلية النظرية إنما ينظر إليها على ضوء الثقافة العربية على أنها فاعلية أريدت، فالإرادة لها الأولوية المنطقية، عنها تتفرع سائر الجوانب، ويكفي أن نقول أن القرآن الكريم هو كتابنا الذي نهتدي به، لنقول بالتالي إنه مصدر التشريع أي مصدر القوانين والأوامر والنواهي، وهي كلها من قبيل الفعل لا من قبيل الفكر المجرد».

فهل آن لنا إذاً أن نعي ونفهم حقيقة حياتنا في القرآن، لننهض بالأعباء التي علينا أن نقوم بها خدمة للإسلام حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وحتى نستطيع أن نثبت للجميع أن حياتنا المنبثقة من فهمنا للقرآن الكريم هي الحياة المثلى؟

ولقد جاء في كلمة سماحة الإمام السيد موسى الصدر المغيب حين حظيت الجزائر وبتلمسان باستقباله- بمناسبة انعقاد الملتقى التاسع للفكر الإسلامي سنة 1975 وما زالت تلك الكلمات ترن في ضميرنا الجمعي بمثابة الناقوس الناقد لما كنا وما نحن عليه- حفظ الله الإمام ورعاه من كل شر وقاه ودام في رعايته الأزلية.

قال: «إن العدالة في الإسلام في كافة المجالات وفي الحقل الاجتماعي والاقتصادي بوجه خاص، تعتمد على الأيديولوجية الإسلامية، بل إنها أي العدالة ركن من أركانها، وذات تأثير كبير على الأركان الأخرى.

فالعدالة في جميع مجالات حياة الإنسان، الفرد والجماعة، تبدو في القرآن الكريم كنتيجة للعدالة الكونية.

إن الكون في الرؤية الإسلامية قائم على أساس العدل والحق، ومن نتائج هذه الرؤية، في منطق القرآن الكريم، إن الإنسان الذي يشعر بالرسالة ويرغب في النجاح، عليه أن يكون عادلاً في سلوكه، منسجماً مع الكون، وإلا فهو جسم غريب في هذا الوجود مرفوض وفاشل يطوى في النسيان والإهمال. وهذا المبدأ ينطبق على الفرد وعلى المجتمع على السواء.

ولعل أبرز الآيات التي تؤكد هذا الرابط في القرآن الكريم هي ما ورد في سورة الرحمن «والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان» (الرحمن /79).

ثم إن العدالة من أبرز الصفات الثبوتية الإلهية، وهي بالتالي تنعكس على الكون كله، لأن العلة في رأي الفلاسفة، حد تام للمعلول، والمعلول حد ناقص للعلة.

هذا مضافاً إلى أن الوصف القرآني لله هو: القائم بالقسط، وهذا يعني أن العدل الكوني هو مفهوم القيام الإلهي بالقسط، من دون حاجة إلى استنتاج فلسفي أو تحليل علمي.

والحقيقة أن هذا الأسلوب هو الطريق الشائع المعتمد في القرآن الكريم. حيث أنه يطرح النتائج التربوية للحقائق وللوقائع، من دون الوقوف أمام تحديد الحقائق وتحليل أبعادها، ومن دون الدخول في تاريخ الوقائع وتفاصيلها.

وخلاصة القول، إن العدالة الكونية التي هي رؤية إسلامية، وهي أيضاً نتيجة الإيمان بعدالة الخالق، هذه العدالة الكونية تضع القاعدة الثابتة للعدالة في حياة الإنسان الفردية والجماعية، اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وغيرها.

ومن جهة ثانية، فإن الباحث في أصول الدين الإسلامي وفي أسس العقيدة، يشاهد بوضوح إن المدخل الأصلي لإثبات ضرورة إرسال الرسل للاستدلال على ثبوت الميعاد والحساب، إن المدخل الأصلي هو العدل الإلهي مما يوضح مدى أهمية العدل في أسس العقيدة الإسلامية، ومدى تأثير هذا المبدأ، حسب التوجيه التربوي، في سلوك الإنسان عامة، وفي عدله الاجتماعي والاقتصادي عند فرده ولدى مجتمعه، بصورة خاصة.

الثانية إن المعادلة القرآنية العامة التي تؤكد مساواة الإنسان لعمله في الآية الكريمة «وإن ليس للإنسان إلا ما سعى» (النجم/39). إن هذه المعادلة قائمة في موضوع العدالة أيضاً، بحيث أن العدل يساوي وجوده وجود الإيمان، وإن الإيمان لا وجود له من دون سلوك الإنسان لتحقيق العدالة.(انتهى)

وأما الذين يجندون أقلامهم في حملات عدوانية حاقدة يهاجمون هدم أصول الفكر العربي الإسلامي، فإنهم تجاوزوا حقائق كان عليهم أن يدركوها، ومنها أن أصول نهضة العالم الإسلامي الذي شهد التاريخ بها أجيالاً بعد أجيال إنما استقت جوهر حياتنا من القرآن الكريم، الكتاب الخالد الباقي، والذي لم يستطع أحد أن ينال منه ولو بحرف إذاً، ما دام الأمر كذلك فلنشد الرحال إلى رحلة روحية سامية لنرى الاهتمام القرآني بالتفكير الإنساني.

إن الذي نعلمه جيداً هو دور اهتمام القرآن اللامحدود بالتفكير، وتقديمه على كل عمل يقوم به المسلم، ومن خصائص التفكير الإدراك وتحكيم العقل على أساس النضج والتمام والتمييز، «وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها، فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك، والعقل الحكيم والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضاً مقتضباً بل يذكره مقصوداً مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان».

وأمامنا آيات كثيرة تذكر العقل عند التدبر في ملكوت الله، يقول تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) البقرة 164.

وفي آية أخرى: (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون) المؤمنون 81.

كما أن ذكر العقل في القرآن الكريم اقترن بالحديث عن أهل العلم والعلماء، لأنهم أقرب الناس إلى تسخير عقولهم في التفكير الصحيح، ولهذا استحقوا أن ينسبوا إلى العلم، ومن ذلك قول الله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولوا الألباب) آل عمران 7. (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) الزمـر 18.

والذي يستخلص من هذا أن أصحاب العقول خُصّوا بالخطاب، لأنهم أوسع مدارك وأقدر على التمييز بين الخطأ والصواب وبين الخبيث والطيب، وهذه المواقف الرائعة من الإنسان تعطي الدليل على أن القيم الإنسانية لها الصدارة في الاهتمام بالتفكير الإنساني في القرآن، على أساس أنه الرمز الكلي الذي يعبر أصدق تعبير عن قيمة الحياة بالنسبة للإنسان، ومن هنا جاء التعبير القرآني عن هذا الموقف غاية في الروعة والإبداع، تتجلى من خلال أهمية التواجد الإنساني، فقال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسـراء 70.

وهذا يعتبر ارتقاء بالإنسان من أدنى مرتبة يمكن أن يصل إليها إلى أسمى المنازل التي تكون محط الطموحات التي يتمنى الإنسان تحقيقها، لهذا نجد أن القرآن الكريم يفسح المجال رحباً أمام التواصل بين ما يتمناه الإنسان البشري السوي وبين العوامل الخارجية التي يمكن من خلالها أن يحقق ما يصبوا إليه.

وتكريماً من الله سبحانه وتعالى لما يطرأ على حياة الإنسان من تغير وتطور، وما يتطلبه ذلك من تعديل يواكب المتطلبات الطارئة ويستجيب لما يحمله الزمن في خفاياه.

أما فيما هو متفق عليه عند علماء الاجتماع بمفهوم الحضارة...

تقوم دراسة الحضارة الإسلامية على أساس التغيير الهائل الذي أحدثته في نظام الحياة، وعلى الثورة الجذرية التي أعادت تقييم الأمور أمام الإنسان، وأوجدت توازنات جديدة في إطار المعايير العقلية والثقافية المختلفة، وذلك لأن الحضارة من حيث مفهومها العام هي النظام الحيوي الذي ينظم السلوك الإنساني والتصرف البشري وفقاً للحياة العقلية الجديدة التي تنبع من حقيقة الحضارة، وتتمثل فيه المواقف الإنسانية في التعامل الاجتماعي في الإطار الداخلي للمجتمع، وفي العلاقات الخارجية مع بلدان العالم.

لذا فإن منهج البحث في موضوع الحضارة يتعلق بها من حيث كونها أسلوباً متكاملاً يتعامل بحركة متنامية مع الحياة.

العالم الإسلامي... إلى أين؟

وعلى سبيل المثال، تعرُّض الأمم للمآزق التاريخية شيء من طبيعة الحياة البشرية، فحتمية الصراع في الحياة تفرض أولاً وجود العوامل الإيجابية والسلبية التي ما تفتأ وتتصارع لتحدث في النهاية الغلبة لطرف منها، وحديثنا على هذا يتمحور حول القضايا التي تتعرض لها الشعوب وتؤثر في حياتها وتحدث فيها كثيراً من الانكسارات والتعاريج وتختم بها صفحات من التاريخ لتفتح أخرى وتسجل الأحداث الجديدة الناجمة عن عوامل الصراع.

وإذا أرادت أية أمة أن تتخلص مما تورطت فيه من مشاكل وأحداث تضغط بأشكالها السلبية على حيويتها ومسيرتها، فإن عليها أن تبحث عن طريق للخروج بكيفية يتم بها بناء الطريق الصحيحة الواضحة للخروج، شريطة ألا تنكسر الطريق أثناء المسيرة، والذي جعلنا نتحدث عن هذا الموضوع، هو ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم ومنذ زمن ليس بالقصير من مآزق تلتف به، ويتعرض له من مشاكل معقدة متراكمة لا يكاد يتخلص من واحدة حتى تحل عليه أخرى أو أخريات.

نلتفت إلى الماضي- مع علمنا وتقديرنا- لما يسببه هذا الالتفاف من اشمئزاز في بعض النفوس، ولكن نحب أن نطمئن هؤلاء وأولئك أيضاً ممن لا يشمئزون أو ينفرون، من أن التفاتتنا، لن يكون صاحبها في حال الباكي المتظلم، لأن البكاء والتظلم لا يجديان شيئاً في عالم اليوم.

نجد في تاريخنا أمة قوية شقت طريقها بين الأمم الأخرى وأثبتت أنها تستحق الحياة، وقامت – بالفعل- شعوب العالم تطلب ودها وصداقتها- وتبعث إليها بالوفود من أبنائها بغية طلب العلم والتزود منه، والذي يجب أن يفهم هنا أن هذه الأمجاد لم تنزل عليهم مع أمطار السماء ولم تنبت مع حشائش الأرض، وإنما قاموا هم أنفسهم بالعمل في كل ميادين الحياة وبنوا حضارتهم بأيديهم، ووضعوا كل ما من شأنه أن يعينهم على عملية البناء.

فتسنى لهم أن يفرحوا بما تعبت فيه أيديهم وما فكرت به عقولهم، وتم لهم ذلك لأنهم- قبل كل شيء- أحسنوا الاستفادة من تعاليم الإسلام، وعرفوا أن حياتهم مرهونة بمدى استجابتهم لأمر الدين، وجندوا أنفسهم لما أمرهم به القرآن الكريم من العمل والسعي وطلب العلم والاجتهاد في الحياة، فلم يكن غريباً أن تصبح حضارة العالم الإسلامي على هذا النهج العلمي محط اهتمام العالم كله، وموضوع دراسات متعددة ومتلاحقة، لأنها كانت ثمرة جهود صادقة، وإن كان قد ضاع منها مع الأيام مع ضاع، وبقي منها ما نجده الآن أمامنا، ومنه ما زال بعيداً عن عيوننا ينتظر بحوثنا ودراساتنا.

ما الذي حدث إذن؟ ولماذا لم تتواصل هذه الأمجاد؟ لماذا انقطعت الطريق، وضلت بنا السبيل؟ وأين هو العالم الإسلامي الآن في الموازين العالمية علوماً وثقافة وحضارة؟ وإلى أين يتجه بنا المسار نحن المسلمين اليوم؟!

هي أسئلة نطرحها أو تطرح نفسها لا فرق، ولكن لن يكون حل الإشكال في التوقف أو إتمام الإجابة عنها في حدودها النظرية، وإنما في إمكانية الوصول إلى الحقائق التي تتكشف عن منهج عملي يكون الطريق للخلاص، ولن يكن ذلك إلا إذا اعتبرنا الحقيقة التي نتوصل إليها مهمة في رصيدنا الفعال مع الحياة، أما أن تتوارد الحقائق والحلول دون الأخذ ولو بالقليل منها، فهذا ما يجعل كثيراً من الدراسات والبحوث في هذا المجال تفقد قيمتها، مع وجود قيمتها أصلاً. وليكن الحوار واقعياً ومنطقياً مع ما يعيشه ويعانيه العالم الإسلامي اليوم.

في الوقت الذي كان المسلمون يعيشون عصرهم الحضاري المزدهر، كانت أوروبا تعيش ظلمات الجهل والعبودية، وهنا نستسمح خاطر المستمع الكريم أن يتمهل علينا ونحن نورد بعض هذه الحقائق التي يمكن أن تصيبه بالملل لكثرة ما يسمعها أو سمع بها، ولكننا سنتجاوزها لنورد ما نود الوصول إليه، وهذه الحقيقة لم تكن خافية على الغرب، لأنه ينظر لشرق على إنه ظل له، وهي نظرة فوقية تسير طبيعة العلاقات بين الشرق والغرب. فلاستعلاء في النفس الغربية هو الذي يحكمها دائماً وخاصة في عصور القوة كما تراها ماثلة أمامنا في التاريخ المعاصر، وليس أدل على ذلك من رفضه المتكرر للحوار والجلوس المتكافئ مع الغير، ولجوئه إلى القوة كلما رأى أن الظروف- حسب ما يرى- تستدعي ذلك.

كما يقول الشاعر:

القوم ينكرون المعجـــزات لنا                         ونحن نفتن في إطراء ما ابتكـروا

فهل ترى الشرق قد أدى رسالتـه                                 وهل ترى أنبياء الغرب قد ظهروا

كان الهدف المنظور أن يضرب الشرق (العالم الإسلامي)، فالغرب يخفي وراءه ما يستعمله من مصطلح الشرق دائرة العالم الإسلامي، وليكن ذلك واضحاً أمام المستمع وهو يطالع ما يكتبه مفكرو الغرب وعلمائهم، فهم إذا ذكروا الشرقيين فإنهم يعنون بالدرجة الأولى المسلمين، وكانوا يهدفون بضربتهم أن تكون النهاية التي لا يستطيع المسلمون أن ينهضوا بعدها، وهذا هو المبدأ الذي يلازم النفس الاستعمارية ويختبئ في داخلها، وليس عليه من حرج أن يظهر في كل وقت يلزمه الظهور فيه، وقد ظهر جلياً في الجموع العسكرية حالياً.

وعندما يوجه الاستعمار ضربته إلى منطقة معينة، لا يحدد في جزئية يسخر لها قوته الضاربة، حتى إذا انتهى منها، انتهت معه مرحلة الغزو، بل هو يضرب لذات الهدم والتخريب... وللقضاء أيضاً على كل معطيات الحياة والحركة في المنطقة الواقعة في طريق الغزو.

كما يقول الشاعر: (إن الإعداء لم يستللوا من حدودنا** وإنما تسربوا من عيوبنا).

والاستعمار الغربي- وإن كان قد كشف عن حقيقته هذه في غزوه للمنطقة العربية في العصور الوسطى- فإنه كشف بصورة أشد وحشية في العصر الحديث مدفوعاً بغرور ما وصل إليه من مخترعات جعل هدفها الأول القضاء على الحياة البشرية.

ونقول أن الغزو الأخير للمنطقة العربية الإسلامية لم يكن لتأديب أهل المنطقة، فالمسلمون لم يسيئوا قط  إلى الغرب ولم ينهبوا منهم شيئاً ولم يقطعوا عليهم طريقهم البحرية أو البرية، وما كان ذلك الغزو بهدف تقليص النفوذ والاتساع الإسلامي فقط، وإنما للقضاء قضاء تاماً على المسلمين ولمحو الشخصية الإسلامية التي شكلت كابوساً مرعباً على النفس الغربية المتخلفة في ذلك الوقت، ويصبح من ثم بعد تحقيق هذه الأهداف المجال مفتوحاً أمام الأطماع الاستعمارية دون أن توجد هناك قوة تقف أمامه.

وها نحن اليوم نعيش تجربة أخرى قد تكون أمرّ فقوتنا تكمن في وحدتنا ونرجو أن تكون لبنان تلك القلعة الشامخة التي لا تقهر بإذن الله والسلام عليكم.

source