* مؤتمر “كلمة سواء” العاشر "التنمية الانسانية ابعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"
تمهيد
ثمة علاقة جدلية بين مفهومي المعرفة والتنمية على نحو العموم, إذ لابد من ارتكاز التنمية على قاعدة معرفية, توفر الامكانية للارتقاء بالواقع الانساني لبلوغ غاياته السامية. وقد برزت هذه الثنائية لدى الامام الصدر على نحو من الخصوصية والفرادة, لكونها بدت متمايزة عمن تقدمه من رجالات الدين ان لجهة الدور الذي يضطلع به رجل الدين, أو لجهة الأسلوب لبلوغ الغايات والاهداف.
ولا بد في هذا المجال من القول, أن ثنائية المعرفة والتنمية الانسانية لدى الامام الصدر قد انفتحت على مداها الانساني الأوسع, فبدت غير محتجبة أو ملتبسة بالتباسات الحاضر وأبعاده المصلحية التي تحيل الى كل ما يضج به هذا الواقع من غوغاء الايديولوجيا وإقصاءاتها في آن معاً.
غني عن القول, أنه بالرغم من هذا الانفتاح الإنساني الشمولي لدى الإمام الصدر, الذي هو بطبيعة الحال صنو دوره ورسالته, إلا أنه يبرز في أحد تجلياته انطواءات خاصة لدى شريحة ثقافية هي الطائفة الشيعية في لبنان, دون ان يجد ذلك من شمولية الدور التنموي الذي اضطلع به والذي تخطى حدود الجغرافيا والانتماءات الأولية الى فضاءات أوسع ليستدمج حوارات الأديان والطوائف وكل تنوعات المجتمع الانساني في أبعاده الحضارية والثقافية .
إن تلك الانطواءات الخاصة المنفتحة على التنوع والتشارك, كان لا بد لها من أن تصبح ذاتاً جماعية متشكلة من عناصر متجانسة, وهي مهمة تنكب لها الامام الصدر عبر قراءة واقع الطائفة في لبنان، حيث رزحت تحت وطأة التذرر والانكفاء، للعبور بها نحو بناء الذات عبر الانفتاح على تاريخها وتراثها ورسم ملامح حاضرها ومستقبلها المنشود, دون أن تصبح ذاتاً عصبوية وإنما ذاتاً متواصلة ومتشاركة تنشد بناء الوطن على أسس ومرتكزات من الحق والعدالة والعيش الكريم, وفي اطار ما يعبر عنه بالتنوع داخل الوحدة الجماعية المتناغمة حقوقياً وثقافياً ضمن كيان اعتباري ومادي مسند الى حدود الجغرافيا ومؤسسة الدولة.
انطلاقاً من ذلك يمكن الاطلالة على دور الامام الصدر في أحد جوانبه المتصلة ببناء الذات الجماعية وكيفية تمفصله مع الواقع اللبناني مع الاخذ بعين الاعتبار عدم اتساع المقالة لتبيان مجمل تجربته في سياقاتها الشمولية لافتراضنا تناولها من باحثين اخرين من المؤتمرين الاجلاء.
مطلب التنمية
قبل بروز الإمام الصدر، لم يكن للطائفة الشيعية خطاب تنموي خاص في لبنان. فرغم أن تبوُّء مواقع النفوذ والسلطة التي استندت غداة نشأة الدستور عام 1926، وترسيخه بميثاق عام 1943،إلى توزيع السلطة بين الطوائف، فإن حصة الطائفة الشيعية في مقاعد المجلس النيابي، ثم موقع رئاسة المجلس فيما بعد، لم يؤديا إلى تبلور خطاب خاص بالطائفة الشيعية. فممثلو الطائفة كانوا من العائلات التي تعاقبت على هذه المناصب انطلاقاً من مواقعها العائلية، ومن منطلق التحالف والنزاع فيما بينها للاستحواذ عليها. ومع بروز أولى بوادر تأطير الطائفة مع الإمام الصدر عبر تأسيسه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كمرجعية لأبناء الطائفة في إدارة شؤونهم الدينية والاجتماعية، برزت ملامح الخطاب الخاص لما تضمنه من مبادئ راحت ترسم الصيغة النهائية لمطالب الطائفة وغاياتها في العمل السياسي، كان الخطاب قد أخذ طريقه نحو الاكتمال التدريجي.
جاء هذا الخطاب, بعدما رأى الإمام الصدر أن المجلس الشيعي بمطالبه المرفوعة, أخفق في تحقيق الأهداف الإنمائية نتيجة عدم استجابة الدولة لمطالبه(1). وإزاء هذا الاخفاق، سعى الصدر إلى إنشاء إطار تنظيمي خاص بالطائفة تحت اسم حركة المحرومين, مستلهماً دوره الجديد الذي يقوم على إحقاق الحق, من خلال الاقتداء بالرسول والأئمة(2).
وإذا كان استلهام تجربة الإمام الحسين للعمل في الواقع السياسي يعبر عن خصوصية الطائفة في منطلقاتها لرسم ملامح الخطاب، فإن عدم اشتماله على نفي شرعية الدولة التي لا تقوم على مبدأ الإمامة، لا يدحض هذه الخصوصية أو ينفيها، وإنما يسعى إلى استثمار جوانبها المتعلقة بالعمل على محاربة الظلم وإقامة العدل، وضرورة العمل من أجل إلغاء الطائفية السياسية، ومحاربة الاحتكار، والدعوة إلى تبني مبدأ العدالة في الإنماء، والحفاظ على حرية الفرد، وتفعيل قيمة الشهادة والاستشهاد لرد العدوان الصهيوني. إن كل ذلك يشكل فهماً جديداً لكيفية تنظيم الطائفة، وتحديد غاياتها على ضوء الواقع اللبناني بطوائفه المتنوعة. فتنوع الطوائف يستوجب الدعوة للانفتاح والتعايش فيما بينها، كنوافذ حضارية تسعى إلى تقديم تجربتها على ضوء قيمها الروحية والإيمانية. والطائفة الشيعية، هي إحدى هذه الطوائف التي تعبر عن خصوصيتها في هذا التفاعل، بالانطلاق من التمسك بالسيادة الوطنية والحفاظ عليها(1).
وعليه، فكل ما تريده الطائفة وفق هذا الخطاب، هو إلغاء العزلة والفاقة والغبن الذي لحق بها على مدى أحقاب تاريخية مريرة، وتحصيل مستوى من الحقوق والواجبات الاجتماعية والسياسية ، ليصبح لبنان أكثر عدلاً في توزيع إمكاناته بين الطوائف. وكل ذلك يأتي في سياق تحصين البنية الداخلية وتحقيق المشاركة الفاعلة في المواطنية.
الزعامة ومستلزمات الدور
إذا كان النص الفقهي الخاص الذي انطلق منه الإمام الصدر لتجاوز تناقضات الواقع وعثراته والارتقاء به نحو ممارسة العمل السياسي على ضوء الفهم الجديد لهذا النص، فإن هذا النص لا بد أن يتلازم في وجوده، مع دعامته الأساسية التي أدت إلى إنتاجه أي إلى زعامة الطائفة. فهذه الزعامة ترتكز في وجودها إلى مدى قدرتها على التأطير وبث الوعي السياسي بين الأفراد انطلاقاً من فهمها للنص الفقهي. ولكن من جهة أخرى، لابد لنا من الإطلالة على مفهوم زعامة الطائفة كما ساد لدى الشيعة، للكشف عن كيفية استلهام الإمام الصدر لهذا الدور وفقاً لما كان سائداً من انقسام الآراء في التعاطي بشؤون السياسة.
فبالاستناد إلى آراء الشيعة الإثني عشرية، ثمة ما يشبه الإجماع، بأن المجتمع البشري بعد وفاة النبي محمد(ص)، يحظى برعاية إلهية لا تنقطع لمجرد وفاة النبي(ص). وهي تتواصل عن طريق الإمام المعصوم، الذي يمارس دوره بالاستناد إلى النص الإلهي على إمامته التي انتقلت بين الأئمة(ع) حتى الإمام المهدي المنتظر(عج). وأثناء غيابه ثمة من ينوب عنه في الإفتاء، فنائبه هو المجتهد أو المرجع أو الفقيه الذي يرجع إليه الشيعة في معرفة أحكام الدين، والمجتهد هو الذي بلغ درجة من المعرفة تمكنه من النظر في النص واستخراج الأحكام الفقهية منه(). وهو يبلغ رتبة الاجتهاد من خلال عملية الدرس، ومن خلال تحليه بالقدرة على استنباط الأحكام من مصادرها في النصوص القرآنية وأحاديث الأئمة(ع).
وبإزاء المجتهد، ثمة فئة أخرى هي عامة الناس أو المقلدون للمجتهد في أحكامه الفقهية. ويصبح آنذاك أن ثمة فئتين من الناحية النظرية معترفاً بهما في الفقه الشيعي: المجتهدون والمقلدون.
فالمقلد هو العامي المفتقر إلى مثل هذه المعرفة والقدرة، والملزم بنتيجة ذلك باتباع ما يراه المجتهد ويفتي به.
وللمقلد الحرية التامة في انتقاء المرجع الذي يقلده، وبإمكانه اختيار هذا المرجع خارج النطاق الجغرافي الذي يعيش فيه المقلد، والوصول إلى تقليد علماء مجتهدين بعيدين عنه ولا يعرفهم إلا من خلال سمعتهم وذيوع صيتهم. ولذلك غالباً ما كان يوجد على سبيل المثال في لبنان, عدد من الشيعة يجهرون بتقليد مجتهد عراقي أو إيراني().
وبالانطلاق من هذه الرؤية للمرجعية والتقليد، يستطيع المجتهد اكتساب شبكة من المقلدين لأنه أصبح مرجعهم الشرعي والروحي ().
إلا أن ذلك، سوف يفتح النقاش لدى الفقهاء الشيعة حول المدى الذي يمكن فيه للمجتهد المرجع ممارسة مهامه كزعيم ديني للطائفة.
فالرأي التقليدي الذي كان شائعاً لدى الفقهاء، هوانحصار عمل المجتهد في الإفتاء في الأمور العبادية المتعلقة بأفعال الصوم، والصلاة، والخمس، والزكاة، وغيرها من المسائل التي لا ترقى إلى المجال السياسي، باعتبار أن هذه المهام موكلة إلى الإمام الغائب لحين ظهوره. أما الرأي الآخر، فهو الذي يحدد دور الفقيه أو المرجع الفقهي بالإفتاء في الأمور العبادية والسياسية معاً.
أ- مقدمات الزعامة
بعد تفحصنا لمفهوم الزعامة الدينية لدى الطائفة الشيعية، يمكننا الوقوف على رأي الإمام الصدر إزاء وجهتي النظر السائدتين لدى الشيعة، لأجل الإحاطة بطبيعة الدور التغييري الذي رسمه لنفسه في قيادة الطائفة.
ففي إحدى حواراته التي أطلقها عام 1970، أي بعد مرور حوالي سنتين من تحركه العملي عبر تأسيسه للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، نجد أن الإمام الصدر، يرى في المجتهد العادل المرجع الصالح للاطلاع بمهمات الإمامة في الأمور الدينية، إذ له الحق في الإفتاء والقضاء في الأحكام المتعلقة بالخمس والزكاة والمسائل الحسبية حسب الإمكان. وحيث أن هناك اختلافاً بين المجتهدين في الرأي، يتعين اختيار المرجع الأعلى للمذهب الشيعي في العالم والذي يعتبر أفقه المجتهدين.
وعلى هذا الأساس, كان الإمام الصدر يرى أن السيد محسن الحكيم هو المرجع الأعلى للشيعة في العالم. يعيش في النجف، ويمارس أعماله الجسام في مجال المذهب الشيعي، ويقوم باستقبال وتثقيف المراجعين بشؤونهم الدينية. ومع إقرار الصدر بوجود زعامة مرجعية للشيعة()، إلا أنه لم يطرح نفسه كبديل عن الزعامة الدينية للمرجع في الافتاء في الأمور العبادية. ولكن سعى إلى اتخاذ دور لنفسه، ينطلق من قيادة الطائفة فيما يتعلق بتسيير وإدارة شؤونها السياسية دون عزلها عن مراجع التقليد.
فالحاجة إلى لعب دور سياسي لسد الفراغ الذي أحدثه غياب المرجعية الدينية عن إدارة الشؤون السياسية للطائفة في بلدان الانتشار الشيعي، يستوجب التصدي لملء هذا الفراغ.
كما أن انعزال رجال الدين في لبنان، واستنكافهم عن ممارسة دور يلبي حاجة أفراد الطائفة في إدارة شؤونها، كان يشير بوضوح إلى أن الناس، خصوصاً المسنين والشباب، كانوا يشتكون دوماً رجال الدين الذين اتخذوا لأنفسهم العزلة، وتفرغوا للعبادة دون القيام بواجباتهم الاجتماعية تجاه المؤمنين().
فرجل الدين كان يعيش حياة جامدة،مختلفاً عن غيره وقد حشا عقله بالأوهام والأساطير والعجائب().
وبطبيعة الحال، أدى هذا الفراغ، إلى محاولة الإمام الصدر استحداث رؤية ريادية وتنموية جديدة لدور عالم الدين تنطلق من المزاوجة بين الديني والسياسي.
فالدور الذي رسمه الصدر لنفسه, بدا مغايراً عما درج عليه أسلافه من علماء الدين, وبدت معالم هذا التمايز واضحة من خلال تصديه للعمل السياسي, ليس على نحو الاحتراف الذي يتصل بتفاصيل الوصول الى السلطة وإنما خلال تشخيص ورسم معالم الضعف والخلل والتوجيه نحو تعزيز المواطنية القائمة على أساس الحقوق والواجبات.
فمنذ وصوله إلى لبنان، بدأت ملامح رؤيته لدور زعامة الطائفة، تتجلى مع بداية عمله من خلال البرامج الاجتماعية والخدماتية والتربوية واستقطاب المثقفين ورجال الدين, فبرز كقائد ديني يسعى إلى فهم قضايا الناس وحاجاتهم. لقد تخطى مهام أئمة المساجد التقليدية في التربية الأخلاقية، وفي الوعظ والإرشاد الديني، منطلقاً في العمل نحو تربية الإنسان المؤمن بدينه ووطنه()، ثم بناء المؤسسات التي جعلت الطائفة الشيعية تتميز بموقع في التركيبة اللبنانية.
وليس من شك، أن الدور الذي رسمه الصدر لنفسه، كزعامة جديدة دخلت العمل السياسي بخلفية دينية قوامها الفهم الجديد للنص الفقهي للطائفة الشيعية، جعل من زعامته حقلاً جديداً مفتوحاً على النقاش والنقد الشديد، بعدما بدا هذا الدور منافساً للزعامة العائلية والحزبية، وكذلك لدور المبلغين وعلماء الدين الذين وجد بعضهم غرابة في تحول مهام رجل الدين إلى أحضان السياسة، مع ما يشوب العمل فيها من أساليب تبعد من يمارسها عن الورع والتزام جادة الصواب.
فرجال الدين سيما ممن فضل منهم الابتعاد عن كل ما يتعلق بالشأن السياسي، لم يجدوا بداً من اتهامه بالانحراف وتشويه صورة رجل الدين.
وإزاء حالة الانتقاد الشديد لهذا الدور، كان لا بد للإمام الصدر من السعي لتوضيح فهمه لدور رجل الدين ولمفهومه للعمل السياسي, حيث أوضح أن عمله السياسي هو جزء من دوره الديني، وأن هذا الدور لا يحدده أحد، وإنما هو محدد من الله.
وفي مواجهة خصومه يقول السيد الصدر: إنني رجل دين ملتزم، والالتزام الديني ليس صفة تجريدية تنفصل عن الممارسات المعيشية، بل إن الإيمان غيبي يحدد موقع الإنسان من الكون ويصنع الإرادة والأمل والثقة والطموح والعزوف عن الاهتمام بشؤون الناس غير ممكن، بل إن القرآن الكريم وصف الذي يدّعُّ اليتيم ولا يحضُّ على طعام المسكين بأنه مكّذب بالدين().
والدين برأيه لا يفصل الإيمان بالله عن خدمة الناس. وتلك الرؤية جعلت منه قائداً وزعيماً يتمتع بصلاحيات وسلطات استمدها من فهمه للتراث الديني، فانطلق منه لاحتضان تنوعات المجتمع اللبناني، وتزويده المؤمنين بآراء تشبه الفتاوى التي تُلزم التقيد.
ب _ الزعامة وانتزاع الدور
إنطلاقاً من فهم الإمام الصدر لدور رجل الدين، كان لابد له من الشروع لتجسيد هذا الدور في الميدان العملي. فاستدعى ذلك تشخيص المشكلات التي يعاني منهاالواقع اللبناني وطائفة الشيعة بالخصوص، والتمهيد لإزاحة ما علق لدى أفرادها من تراكمات، تكرّست فأنتجت وعياً تقليدياً ومشوهاً، سواء لجهة العلاقة مع رجل الدين ومع الزعامات التقليدية، أو في التعامل مع مشكلات الواقع الاجتماعي الذي ترزح تحته هذه الطائفة.
وهذا يعني أن دوره القيادي, سيدخل في عملية تغييرية لا تتم إلا في وسط الناس، حيث سيترتب عليه الاتصال المباشر معهم()، كما الأنبياء والرسل والأئمة(ع).
مقدمات الدور
شكلت الدعوة للمشاركة في الاحتفال الذي أقامه الإمام الصدر في بعلبك عام 1974، بداية لعلاقة إيجابية مع الناس، إرتسمت ملامحها من خلال الحضور الكثيف، كتأكيد لإعلان الولاء لهذه الزعامة. لقد نجح الإمام الصدر في ترسيخ أولى دعائم هذه العلاقة، حيث تضافرت عوامل موضوعية في إنجاحها، تجلت ببروز الحاجة لدى الأفراد إلى زعامة لإزاحة ما رزحت تحته من شعور بالغبن والحرمان من جهة, ومن وطأة التهديد الاسرائيلي المترافق مع عجز الدولة عن القيام بواجب الدفاع والتصدي لردع العدوان
تضافرت هذه المعطيات, مع انتهاج الإمام الصدر أسلوباً جديداً في التعاطي مع أفراد الطائفة ,قوامه الاعتماد على المكونات المختزنة في وعي أفرادها. فتمازجت عناصرها بين حب التحدي والعنفوان وتأكيد الرجولة، وبين النظرة التصالحية مع رجل الدين المستندة أساساً إلى قاعدة الاحترام والتقدير، وإن لم يسبق لها أن رأت رجال الدين يخوضون معترك الحياة السياسية بكل تفصيلاتها وتشعباتها.
لقد تجلى أسلوب التحدي الذي سلكه الإمام الصدر، من خلال توجيه الدعوة قبل الاحتفال، للقائه على مروج رأس العين في بعلبك، وبأنه سوف يخاطبهم مباشرة لإعلان التحدي للدولة وإعلان العصيان حتى نيل المطالب ().
خطاب الاستنهاض والمبايعة
شكلّت الدعوة إلى المهرجان بما آل إليه من استجابة كبيرة، أولى المقدمات التي استطاع فيها الإمام الصدر ردم الهوة بين الديني والسياسي، ومهدّت السبيل لتأطير الطائفة في مشروع سياسي تحت قيادته.
إلا أن تلك الدعوة بحد ذاتها، لا تكتمل غاياتها دون الخوض في تفاصيل هذا المشروع الذي يفترض توفير مستلزمات نجاحاته في المستقبل.
فتفاصيل المشروع جاءت من خلال أسلوب التعبئة التي بثها في الخطاب، حيث تم فيه توظيف البنية الثقافية الشيعية باستعادتها من الذاكرة ومن تقليديتها إلى حيز الواقع، فعبّرت عن إدراكه بأن المواءمة في الخطاب بين الاعتقاد والغايات السياسية، هو السبيل الأفضل للوصول إلى عملية توحيد الجهود باتجاه عملية التغيير.
فما جاء في مفردات الخطاب، يعكس هذه القدرة على التوظيف. فحيث قال: "نحن اليوم نرفع صوتنا في وجه الأخطاء المرتكبة بحقنا، وفي وجه الظلم الذي لحق بنا منذ بداية تاريخنا، وبدأً من اليوم لن نحتج، ولن نصرخ، يقولون أننا متاولة، إسمنا الرافضون، المخالفون، الثائرون، الخارجون على كل طغيان من أي جهة أتى، ولو كلفنا روحنا ودمنا، ومن اليوم فصاعداً لن أبقى صامتاً، وإن التزمتم الصمت فأنا لن أفعل. إننا نطالب بحقوقنا ليس فقط بالوظائف بل بالمدارس، إن مدينة بعلبك بدون مدرسة ثانوية ومدرستها هي من مخلفات الحكم الفرنسي، إن مياه بعلبك تهدر والحكومة لا تريد معرفة لماذا نحن يائسون"(1).
لقد جاءت مفردات الخطاب، لتعكس هذه القدرة على توظيف ما يرتسم في الوجدان الشيعي وفي مخيلته، باستدعاء المكنونات المختزنه في اللاوعي جرّاء الإهمال التاريخي، والتذكير بتاريخ الرفض الشيعي وتحدي الطغيان وبذل الدم, وإعادة ترسيمه من جديد مع اللائحة المطلبية في إطار من الحماس الثوري، الذي شكل خروجاً عما كان سائداً آنذاك.
ولكي تبقى ارتدادات المفردات الاستنهاضية وأصداؤها حاضرة في الوجدان، عمد الإمام الصدر في نهاية خطابه, إلى إعلان القسم على استمرار العمل حول هذه الأهداف حتى لا يبقى محروم واحد، فكان بمثابة إعلان البيعة لقيادته وللأهداف التي حددها للتحرك. وليس من شك, أن الحماس الذي رافق هذا الترديد سوف يجد صداه في الالتزام به فيما بعد، لأن هذه البيعة صدرت عن زعامة دينية، وقد مارسها من قبل النبي محمد عندما أخذ البيعة من المسلمين على الطاعة والنصرة. ولأنها تمارس بطريقة مباشرة، حيث لا يمكن أن تتحقق لقيادة سرية أو مجهولة، وإنما عبر قيادة معروفة، تعلن أهدافها بوضوح، وحيث لا يمكن لأي أمة مهما كانت، أن تبايع على شيء مجهول وغير واضح(1).
(1) عادل رضا، مع الاعتذار للإمام الصدر، دار الحوراء، بيروت (د.ت)، ص 25.
(2) ميثاق حركة أمل، منشور صادر عن مكتب العقيدة والثقافة (د.ت).
(1) المصدر السابق.
() شبلي الملاط، تجديد الفقه، محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ترجمة أحمد غصن، دار النهار، بيروت 1998، ص 64.
() المرجع نفسه, ص 64.
() سامي زبيدة، انتربولوجيا الإسلام، مناقشة ونقد لأفكار ارنست غلنردار الساقي، بيروت 1997، ص 64.
() مجلة روز اليوسف، الشيعة والتشيع، حوار مع الإمام الصدر، الملحق الإسلامي 8/6/1980.
() محمد جواد مغنية، إلى علماء الشرع، العرفان، العدد 47 أيلول 1959، ص 77.
() نجيب جمال الدين، الشيعة على المفترق، (د ـ ط) بيروت 1967، ص 100.
() أ.ر. نور ثون، أمل والشيعة، مرجع سابق، ص 81.
() الإمام موسى الصدر، الرجل الموقف، القضية، مكتبة صادر، بيروت 1993، ص 146.
(1) الإمام الصدر، حوارات، تأسيساً لمجتمع مقاوم، مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، بيروت 2000، ص 398.
(2) جريدة النهار 18/3/1974.
(1) أ. ر. نور ثون، أمل والشيعة، مرجع سابق، ص 91.
(1) محمد الحيدري، معالم النظرية الإسلامية في التحرك السياسي، نداء الرافدين (د.ط) (د.ت)، ص30.