الوجوه الثلاثة للثقافة العربية

calendar icon 02 كانون الأول 2005 الكاتب:السيد يسين

* مؤتمر “كلمة سواء” العاشر "التنمية الانسانية ابعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"






مقدمة:

الأسئلة التى تطرحها الثقافة العربية فى الوقت الراهن متعددة ومعقدة ومتشابكة. وليس هذا غريباً فى الواقع فتلك سمة أساسية من سمات الثقافة العربية صحبتها منذ النهضة العربية الأولى التى أعقبت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون وما أحدثته فيها من آثار بالغة العمق، امتد نطاقها ليشمل أجزاء متعددة من الوطن العربى الكبير.

ولعلنا نجد تفسير ذلك فى أن الثقافة العربية كانت متخلفة بحكم تخلف المجتمع العربى الذى واجه الحملة الفرنسية بكل ما تمثله من قوة عسكرية وتقدم علمى وتكنولوجى.

ليس ذلك فقط ولكن بما تمثله الحضارة الغربية ممثلة فى الثقافة الفرنسية آنذاك من قيم تقدمية فى مجال الحرية والإخاء والمساواة. وذلك كله بالإضافة إلى النظم والمؤسسات العصرية  مثل النظام الجمهورى والدستور والبرلمان.

ومن هنا واجهت الثقافة العربية تحديات شتى أخطرها السؤال المحورى الذى ما برح يطرح نفسه طوال القرون الماضية: لماذا تقدموا وتخلفنا نحن؟ وكيف نحقق التقدم؟ هل بتحديث الإسلام لكى يصبح عصريا كما نادى بذلك الشيخ محمد عبده، أم ترك التراث كله واحتذاء النموذج الغربى بالكامل سياسة واقتصادا وثقافة كما نادى بذلك المفكر المصرى المعروف أحمد لطفى السيد الذى كان رئيساً لجامعة القاهرة، أم بالتركيز على التصنيع والتكنولوجيا كما نادى بذلك المفكر الاشتراكى المصرى سلامة موسى؟

هذه الاستجابات الثلاث حددها المؤرخ المغربى المعروف عبد الله العروى فى كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" باعتبارها ثلاثة أنماط مثالية للوعى، أطلق عليها وعى الشيخ (محمد عبده) ووعى الليبرالى (أحمد لطفى السيد) ووعى داعية التقنية (سلامة موستى)

وعلى هذا الأساس يمكننا القول أن أسئلة الثقافة العربية فى بداية النهضة العربية الأولى كانت: أى نموذج حضارى نحتذيه؟

ثم جاءت النهضة العربية الثانية فى الخمسينيات، بعد أن استقلت أغلب البلاد العربية وتحررت من الاستعمار، وكان السؤال الجوهرى الذى طرحته الثقافة العربية: أى نظام سياسى نطبق؟ هل نطبق الديمقراطية الليبرالية، أم نطبق الاشتراكية؟ أم ننطلق أساساً من مسلمات التيار القومى وندعو للوحدة العربية؟

وها نحن الآن فى عصر العولمة وفى مستهل القرن الحادى والعشرين، حيث تطرح الثقافة العربية على نفسها أسئلة متعددة، لعل أهمها كيف يمكن الحفاظ على الخصوصية الثقافية فى عصر العولمة؟ وكيف يمكن حل العلاقات المتشابكة من الدين والسياسة؟ وكيف يمكن صياغة سياسات ثقافية فعالة لمواجهة الفكر المتطرف الذى سمم المناخ الثقافى العربى فى العقود الأخيرة، وأدى إلى الإرهاب فى الدول العربية ذاتها أولاً، ثم فى الدول الأجنبية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية فى أحداث 11 سبتمبر الشهيرة؟

هذه مجرد عينة من الأسئلة المتعددة المطروحة اليوم على الثقافة العربية.

ولكى نجيب على السؤال المطروح علينا وهو أسئلة الثقافة العربية، لابد لنا أولاً من طرح نظريتنا التى صغناها من قبل لتفسير التغيرات التى لحقت ببنية المجتمع العالمى، قبل أن نقيم ما جرى للثقافة العربية فى الخمسين عاماً الماضية حتى وصلنا للوضع الراهن، الذى تختبر فيه الثقافة العربية اختباراً عنيفاً فى ضوء ثلاثية الماضى والحاضر والمستقبل.

أولاً: تغيير العالم

لم يشأ القرن العشرون أن ينتهى ليسلم زمام البشرية إلى القرن الحادى والعشرين، قبل أن يحسم حسماً نهائياً المناظرة الكبرى التى دارت فى جنباته بين الرأسمالية والماركسية. وليس هناك من شك فى أن ثورة اكتوبر التى وقعت أحداثها عام 1917 فى الاتحاد السوفيتى، والتى ترتب عليها نشوء نظام سياسى جديد لم يشهده العالم من قبل، كانت من أهم أحداث القرن فلأول مرة فى التاريخ تترجم إيديولوجية سياسية صاغها فى صورتها النهائية مفكر واحد هو كارل ماركس إلى نظام سياسى عالمى، لم يقنع بالتطبيق فى بلد واحد هو الاتحاد السوفيتى، ولكنه امتد إلى قارات متعددة. فشهدنا تطبيقاً له فى آسيا حيث تبرز التجربة الصينية وفى أفريقيا وفى أمريكا اللاتينية.

ومنذ نشأ هذا النظام، شنت ضده الحملات العسكرية والسياسية والدعائية والإعلامية، وكرّس مفكرون غربيون عديدون حياتهم العلمية للهجوم عليه، وتفنيد أسسه الفلسفية ودعائمه الاجتماعية والاقتصادية. وفى مقابل ذلك قام المعسكر الاشتراكى بحملة مضادة على الرأسمالية والإمبريالية والديمقراطية الغربية، وهكذا هيمن على مناخ القرن العشرين هذا الصراع الضارى بين الماركسية والرأسمالية، والذى اتخذ أبعاداً بالغة الخطورة، تمثلت فى سباق التسلح النووى، الذى وضع البشرية كلها على حافة الخطر.

ودارت المناظرة – المعركة، وكل فريق يتوعد الآخر بقرب هزيمته الكاملة. غير أن الرأسمالية أثبتت – بما لا يدع مجالاً لأى شك – قدرتها على تجديد نفسها، واستفادتها من النقد الماركسى فى تطوير مشروعها، فى الوقت الذى جمدت فيه الماركسية جموداً شديداً، بالرغم من المحاولات الجسورة لإنقاذ المشروع الاشتراكى من الفشل، سواء من خلال الممارسات النظرية النقدية التى أرادت أن تقدم قراءة جديدة للماركسية، ربما كان من أبرز صورها محاولة الفيلسوف الفرنسى لويس التوسير، أو من خلال الممارسة السياسية. وخصوصاً محاولة الشيوعية الأوروبية التخلى عن بعض المسلمات فى سبيل التكيف مع النظام البرلمانى الأوروبى، وقبول فكرة الوصول إلى الاشتراكية من خلال الانتخابات.

غير أن المحاولات نظرية كانت أو سياسية فشلت فشلاً ذريعاً، لأسباب متعددة ليس هنا مجال الخوض فيها. غير أنه من قبيل التسرع الزعم أن المناظرة بين الماركسية والرأسمالية قد حسمت نهائياً لصالح الرأسمالية. ذلك أنه – على سبيل اليقين – سقطت الشمولية كنظام سياسى، غير أن الخلط بين الشمولية والماركسية باعتبارها إيديولوجية تنطوى على عديد من القيم والأفكار، الخاصة بالعدالة الاجتماعية ومنع الاستغلال وحرية الإنسان، والعمل على تنمية كل قدراته الإبداعية، يعد خلطاً للأوراق، فكثير من هذه القيم الإيجابية وجد طريقة إلى النظرية الغربية ذاتها، لأنها تعبر عن قيم إنسانية عامة، أثبتت الخبرة التاريخية أنها جديرة بأن تتبع.

ومن هنا يمكن القول أن فهم ما حدث فى العالم، لا يمكن أن يتم بشكل موضوعى لو بنى على أساس "المنهج الاستقطابى" – إن صح التعبير – والذى يميز تمييزاً فاصلاً بين الماركسية والرأسمالية، كما يتم التمييز بين الأبيض والأسود، ذلك أنه عبر مرحلة تاريخية طويلة، تمت فيها عملية التأثر والتأثير، ومن خلالها انتقلت الأفكار والتجارب إلى آخر، فى صمت وبغير إعلان رسمى.

وهذه العملية البطيئة المعقدة، لا يغنى فى فهمها سوى مدخل التحليل الثقافى الذى يركز على أنظمة الأفكار فى نشوئها وتحولها وتغيرها. ومن هنا فإن تتبع الرحلة الطويلة التى قطعها العقل الغربى بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن، سواء فى شقة الماركسى أو الرأسمالى، هو الذى يسمح لنا بفهم ما حدث من انقلابات سياسية وتغيرات اقتصادية. فما السياسة فى النهاية سوى مشروع ثقافى، ونفس الملاحظة تسرى على الانساق الاقتصادية التى تنهض فى العادة على أساس مجموعة متماسكة من القيم الثقافية.

ولو تتبعنا ما حدث فى العالم فى الفترة الأخيرة، لوجدنا أن مقولات المنهج الجدلى تنطبق بشدة عليها. فإذا كان سقوط الماركسية يمثل الفكرة، فإن صعود الرأسمالية والزعم بأنها ستكون هى الإيديولوجية الكونية المقبلة تمثل فى الواقع نقيض الفكرة. غير أننا نرى  – من خلال قراءة دقيقة للتحولات العالمية – أن المحصلة النهائية ستتمثل فى عملية تأليف خلاقة بين الماركسية والرأسمالية، من خلال صياغة نموذج عالمى جديد يتسم بالتوفيقية بين عناصر فلسفية وثقافية واقتصادية وسياسية كان يرى من قبل أنها متناقضة.

ومن هنا يأتى منهجنا فى قراءة تغيير العالم، والذى يتمثل فى التأكيد على سقوط الشمولية، والتحليل النقدى لصعود الرأسمالية، وأهم من ذلك كله تصورنا عن النموذج العالمى الجديد.

نحو حضارة عالمية جديدة

لا يمكن تحديد أثر المتغيرات العالمية المعاصرة على مستقبل الوطن العربى، بغير قراءة تحليلية ونقدية لهذه المتغيرات. وهذه القراءة تحتاج بالضرورة إلى منهج، ومنهجنا الذى نعتمد عليه هو ما يمكن أن نسميه المنهج التاريخى النقدى المقارن، مع تركيز خاص على ما يطلق عليه منظور التحليل الثقافى.

ولعل السؤال الرئيسى الذى يفرض نفسه:

ما الذى جرى فى العالم؟ وما هو تفسيره، وما هى صورة النظام العالمى الجديد الآخذ فى التشكل الآن ببطء ولكن بثبات؟

ما الذى جرى فى العالم؟

يمكن القول بأن أهم تغير حدث هو سقوط الأنظمة الشمولية التى كانت تقوم على احتكار الحزب الواحد للسلطة، وصعود موجة الليبرالية والتعددية السياسية من خلال حركة الجماهير السلمية الإيجابية، التى خرجت- مستفيدة من تيار البروسترويكا الذى أطلقه جورباتشوف- لكى تقضى على الاغتراب السياسى والاقتصادى والثقافى الذى عانت منه طويلاً.

ومعنى ذلك سقوط الأنساق السياسية المغلقة، والتى كانت تحتكر الحقيقة السياسية، وظهور أنساق سياسية مفتوحة، تتعدد فيها الأصوات، وتبرز المعارضة وتتنافس الأحزاب والجماعات السياسية.

وقد ترتب على سقوط الأنظمة الشمولية صعود موجة القومية التى كانت مكبوتة تحت غطاء الإتفاق الشكلى والرضا بالوضع القائم، وبروز الصراعات الإثنية، وكأن الصراع الطبقى قد أخلى سبيله للصراع الاثنى والقومى، والسؤال هنا: هل كان يمكن لهذه التغييرات العميقة أن تحدث فجأة، أم أنه كانت لها مقدمات منذ أمد بعيد؟

لو راجعنا بدقة الأدبيات الخاصة بمشكلات التطور فى كل من المجتمعات الرأسمالية المتقدمة والمجتمعات الاشتراكية فى العقود الماضية، لوجدنا مفهوماً مسيطراً ، هو مفهوم الأزمة التى تمر بها كل من الرأسمالية والاشتراكية.

غير أن الفرق الجوهرى هو أن التصدى للأزمة فى المجتمعات الرأسمالية بكل جوانبها الاقتصادية والسياسية والثقافية كان متاحاً للمفكرين من كافة الاتجاهات بما فيها الاتجاه الماركسى، فذلك يعد من قبيل النقد الاجتماعى المشروع، الذى يتيح الفرصة للنخبة السياسية أن ترى البدائل المتاحة أمامها من ناحية، ويرفع مستوى الرأى العام من ناحية أخرى.

فى حين أن التعرض للأزمة فى المجتمعات الاشتراكية الشمولية فى أوروبا الشرقية، كان يعد من قبيل الانشقاق والمعارضة غير المشروعة، والتى يلاحق من يمارسها بكل صور الملاحقة، وهكذا فى الوقت الذى كان فيه جيل كامل من المفكرين الغربيين المختلفين فى مشاربهم السياسية، يمارسون النقد العلنى للنظام الرأسمالى ويشخّصون أزمته الاقتصادية والسياسية والثقافية، كان جيل كامل من المفكرين الماركسيين يضطهدون اضطهاداً شديداً من قبل السلطات الرسمية.

وكلنا نذكر مصير المفكر جيلاس اليوغوسلافى الذى مارس النقد للنظام الاشتراكى مبكراً بكتابه "الطبقة الجديدة"، وسجن بسببه، والمؤرخ السوفيتى الشهير روى ميد فيديف الذى اضطهد بسبب تزعمه للتيار المعادى للشمولية، والذى أصبح الآن من أبرز نجوم العهد الجديد.

مفهوم الأزمة إذن كان هو المفهوم المسيطر فى تحليل مشكلات المجتمعات المعاصرة. وبالرغم من أن الأزمة والتغير فى نظر بعض الباحثين هى عمليات أساسية دائمة تصاحب أى وجود إنسانى، غير أنه مع ذلك لابد فى مجال تعريف الأزمة من التفرقة بين الأزمات الظرفية، والأزمات الهيكلية. الأولى يمكن مواجهتها بتعديل بعض السياسات القائمة، والثانية أخطر لأنها تتعلق بصميم بنية النظام، الذى قد يحتاج إلى جراحة شاملة، تؤدى إلى تغيير نسق القيم الذى يقوم عليه.

إن ما حدث فى الاتحاد السوفيتى وبولندا والمجر وغيرها من بلاد أوروبا الشرقية لم يكن أزمة ظرفية، ولكنه كان رد فعل لأزمة هيكلية بالغة العمق.

وتختلف النظم السياسية والمجتمعات فى طريقة مواجهتها للأزمات. وهناك – كما أشرنا- أنظمة مفتوحة، تعتبر الأزمات وسيلة فعالة لإحداث التغيير فى النظام، وهى لأسباب متعددة قادرة على احتوائها والانطلاق من جديد، وهناك أنظمة مغلقة، تعتبر الأزمات معوقات تواجه إما بالقمع السياسى، أو بإجراءات إدارية عقيمة، مما يجعلها فى النهاية تدور فى دائرة مغلقة تؤدى إلى الجمود.

وأيا ما كان الأمر، فإن الحديث عن أزمة النظم الرأسمالية المعاصرة، توارى تحت تأثير سقوط النظم الشمولية وما أدى إليه من تغيرات عميقة، على الصعيد الثقافى والأيديولوجى.

على الصعيد الثقافى:

ومن أبرز هذه التغييرات إعادة صياغة صورة الآخر فى الخطابات السياسية المعاصرة.

وهكذا ذلك يمكننا التأكيد على أن موضوع الآخر فى العلاقات الدولية سيكون أحد الموضوعات الكبرى التى سيشتد بصددها الصراع الثقافى والسياسى والاقتصادى فى مرحلة تشكل النظام الدولى الجديد، وتبلور ملامح الحضارة العالمية المقبلة، حقاً لقد كانت صورة الآخر وراء النظام العالمى منذ بداية تشكله وحتى الآن، كما يؤكد ذلك الباحث المرموق فى الدراسات الأفريقية "على مزروعى"، وهو يردها إلى الازدواجية فى الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، والتى تقوم على التفرقة بين "نحن وهم" أو بعبارة أخرى بين اليهود والأغيار، والمسيحيين وغير المسيحيين. والمسلمين وغير المسلمين، وبين كيف انتقلت التفرقة بين الأنا والآخر من الإطار الدينى إلى الإطار السياسى وإطار العلاقات الدولية.

وإذا كان المسرح الدولى يسيطر عليه ثلاث قوى: المدنية الغربية الرأسمالية والنظم الماركسية، والإسلام، وإذا كانت المدنية الغربية الرأسمالية أصبحت علمانية وتخلصت إلى   - حد كبير- من الإطار الدينى الذى كان يحكم إدراكها للعالم، فلم يبق كمتحد لها سوى الإسلام الذى يقوم على الوحدانية، والنظم الماركسية التى تقوم فى عقيدتها على الإلحاد. والآن وبعد سقوط النظم الماركسية، لم يبق فى الساحة سوى المدنية الغربية والإسلام. هل معنى ذلك ضرورة حدوث مواجهة بينهما؟

وهل يفسر ذلك بروز مشكلة الآخر بشدة فى الفترة الأخيرة فى العلاقات الأوروبية العربية بشكل خاص، وفى العلاقات الغربية بشكل عام؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على ضرورة إجراء عملية نقد ذاتى أساسية مضمونها كيف يقدم المسلمون أنفسهم كدين وثقافة وسلوك للعالم؟ بعبارة أخرى: دراسة التأثيرات السلبية للسلوك الإسلامى كدول ومجتمعات وجماعات على تشكيل صور نمطية للإسلام والمسلمين قد لا تكون تعبيراً صادقاً وأميناً عن روح الإسلام الحقيقية.

لو تأملنا الأحداث حولنا لأدركنا أنه تدور حول الآخر معركة ثقافية وسياسية كبرى، تعكس اتجاهين متصارعين:

الاتجاه الأول والذى يتمثل فى عنصرية صريحة فى النظرية والممارسة.

والاتجاه الثانى والذى يتبنى منظور التسامح الثقافى فى النظرية والتطبيق.

الاتجاه العنصرى يظهر على المستوى النظرى فى الكتب والكتابات الحديثة التى تقوم على تشويه صورة الآخر "العربى"، ومن أبرزها كتاب صدر عام 1989 وألفه دافيد برايس جونز بعنوان "الدائرة المغلقة: تأويل للعرب". ويركز الكتاب على سلبيات الشخصية العربية، ويتنبأ بأن العرب لن يستطيعوا الخروج من دائرة التخلف أبداً.

أما فى الممارسة، فيكفى أن نشير إلى تصاعد موجات العنصرية فى فرنسا ضد العرب المهاجرين وصعود اليمين العنصرى بقيادة لوبن.

والاتجاه الثانى هو اتجاه التسامح الثقافى، وهو يأخذ فى النظرية شكل إعادة النظر إلى الآخر فى ضوء مواجهات النسبية الثقافية، كما يظهر فى كتب غربية حديثة وهامة ومن أبرزها كتاب الباحث الفرنسى المعروف تودوروف "نحن والآخرون"، وكتاب الباحثة الفرنسية البارزة جوليا وكريستيفا فى نفس الموضوع.

ويأخذ فى الممارسة شكل المظاهرات المعادية للعنصرية ضد العرب  المهاجرين، ورفض مشروع القانون الخاص بقواعد اكتساب الجنسية فى القانون الفرنسى، تحت ضغط القوى التقدمية الفرنسية، وكذلك الانتصار فى قضية الحجاب فى فرنسا لصالح الحرية الشخصية.

بعبارة موجزة هناك صراع حاد فى مجال إعادة صياغة صورة الآخرين.  وسيتوقف على حسم الصراع بروز ملمح هام من ملامح الحضارة العالمية الجديدة. بعبارة أخرى هل سينتصر التيار العنصرى، أم سيسود تيار التسامح الثقافى، الأكثر اتفاقاً مع السمة العالمية للنظام الدولى، والتى ستكون أبرز ملامح القرن الحادى والعشرين؟

التوفيقية أساس النظام العالمى‍

بالإضافة إلى ذلك بدأت تظهر – نتيجة للتغيرات الكبرى فى أوروبا الشرقية- صراعات فكرية حادة فى الفكر الغربى دارت حول موضوعين: الموضوع الأول: هل هزمت الماركسية هزيمة ساحقة مما سيجعل الرأسمالية والليبرالية تحل محلها؟

الموضوع الثانى: هل يمكن صياغة نظرية صورية محكمة (على غرار الماركسية) للرأسمالية تدشن سقوط الشمولية وتعلن بداية السيطرة الشاملة للرأسمالية؟

الموضوع الأول دار فيه الصراع بين فوكوياما وجالبرث، والموضوع الثانى دار فيه الصراع بين بيتر برجر وجاك بارزن.

بالنسبة للموضوع الأول، نشر فوكوياما اليابانى الأصل والأمريكى الجنسية ورئيس دائرة التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية مقالة أثارت كثيراً من الجدل عنوانها "نهاية التاريخ "فى مجلة" المصلحة القومية"، استعار فيها بعض أفكار هيجل عن حركة التاريخ، ليؤكد أن التاريخ قد وصل لنهايته. بعد انتصار الليبرالية انتصاراً ساحقاً على الشمولية، وهيمنة النموذج الرأسمالى. وهذه الأفكار هى بذاتها التى يصفها الاقتصادى الأمريكى الشهير جالبرث بالأيديولوجية التبسيطية، وذلك فى محاضرة ألقاها  بجامعة ادنبرة بالمملكة المتحدة بعنوان: اليمين مخطئ.. لماذا".

ووجهة نظره أن هذه الإيديولوجية تصور عالما ثنائى القطبية بنحو صارم، حيث تقوم الشيوعية فى جانب، والرأسمالية على الجانب الثانى، وتوجد كلتاهما فى صورتها الخالصة. والتصور الذى تقدمه هذه الإيديولوجية أنه بعد سقوط الشيوعية فى أوروبا الشرقية ستشق هذه البلاد طريقها إلى الرأسمالية، تصور بعيد عن الواقع لأن المسألة أعقد من هذا بكثير.

أما الموضوع الثانى فقد دار فيه الصراع. -وإن كان بشكل غير مباشر- بين عالم الاجتماع الأمريكى بيتر برجر الذى صاغ لأول مرة فى تاريخ الفكر الغربى نظرية صورية شاملة للرأسمالية فى كتابه "الثورة الرأسمالية" الصادر عام 1978، والذى يرى فيه أن الرأسمالية أصبحت نظرية كونية قابلة للتطبيق فى كل مكان بغض النظر عن الفروق الثقافية بين أمم العالم، لأنها هى التى تضمن الحرية والعدالة والرخاء، وبين المؤرخ الأمريكى جاك بارزن والذى نشر مقالة بالغة الأهمية بعنوان "مقولة الديمقراطية" نفى فيها نفياً قاطعاً وجود نظرية موحدة للديمقراطية التى  يربطها نسق فكرى واحد. وذهب أبعد من ذلك حين أكد أن الديمقراطية الأمريكية – مثلها فى ذلك مثل الديمقراطية الإنجليزية -لا يمكن تصديرها للخارج، لأن أهم ما فى الديمقراطية ليس مقولاتها التى تقوم عليها أيا كانت، ولكن فى طريقة تطبيقها وفى المؤسسات التى ستقوم على آلية التطبيق، وهذه مسألة لصيقة بالتاريخ الاجتماعى الفريد لكل مجتمع، وهى الحاسمة فى موضوع الممارسة الديمقراطية.

هذا هو ميدان الصراع الثانى فى مرحلة تشكيل النظام العالمى الجديد، بين الاطلاقية الإيديولوجية والنسبية الفكرية.

ولو حاولنا القراءة المتأملة لمؤشرات التغيرات الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية يمكن لنا أن نقرر أنه سيظهر نمط سياسى اقتصادى ثقافى توفيقى جديد، سيحاول أن يؤلف تآلفاً خلاقاً بين متغيرات تبدو فى الظاهر متناقضة، وستمر هذه المحاولة فى مرحلة تتسم بالصراع الحاد العنيف والذى قد يأخذ أحياناً شكل المجابهة العسكرية المحدودة فى هوامش النظام وليس فى مركزه.

ستكون هناك محاولات للتوفيق بين:

-الفردية والجماعية، على الصعيد الإيديولوجى والاقتصادى والسياسى. وينبغى أن نضع فى الاعتبار هنا بعض الكتابات الفرنسية والإنجليزية الهامة حول إعادة النظر فى مفهوم الفردية، من أبرزها كتاب حرره عالم السياسة الفرنسى جان لوكا بعنوان "عن الفردية" صدر عام 1986.

-بين العلمانية والدين. (ويلفت النظر هنا كتابات بيتر برجر والتى ذكر فيها أن الإغراق فى العلمانية فى الحضارة الغربية الحديثة كان غلطة استراتيجية، دفعت الآن ثمنها الثقافة المعاصرة فى صورة العودة العنيفة إلى الدين، والتى تأخذ أحياناً شكل الجماعات المتطرفة).

-بين عمومية مقولة الديمقراطية وخصوصية التطبيق فى ضوء التاريخ الاجتماعى الفريد فى كل قطر.

-بين القطاع العام والقطاع الخاص، وظهور صور مستحدثة من الملكية لم تكن معروفة من قبل. فى دراسة نشرت حديثاً عرضت خمس صور من الملكية يراد الاختيار بينها فى أوروبا الشرقية وهى: تمليك العاملين، الملكية الإدارية، الملكية المختلطة، الملكية المدنية، الملكية المهنية.

-بين الاستقلال الوطنى والاعتماد المتبادل.

-بين المصلحة القطرية والمصلحة الإقليمية (صيغة التجمعات الاقتصادية الإقليمية).

-بين الآنا والآخر على الصعيد الحضارى.

-بين الدولة الكبيرة المركزية فى مواجهة التجمعات المحلية والتجمعات الصغيرة التى تسودها اللا مركزية.

-بين تحديث الإنتاج (وزيادة الاستهلاك وتنويعه)، والبحث عن معنى الحياة فى نفس الوقت فى ضوء العودة إلى مفهوم التقدم بدلاً من مفهوم التنمية.

-بين زيادة معدلات التنمية فى البلاد المتقدمة ومساعدة دول العالم الثالث على اللحاق، وفقاً لمقولة ويلى برانت مستشار ألمانيا السابق نحن جميعاً، ويقصد الإنسانية فى قارب واحد.

-بين الإعلام القطرى والإعلام العالمى الذى ستكون له السيادة فى الحقبة القادمة بفضل تكنولوجيا الاتصال العالمية.

بعبارة موجزة:

سيتسم النموذج التوفيقى العالمى الجديد بسمات أربع، لو استطاعت قوى التقدم أن تنتصر على قوى الرجعية.

1-التسامح الثقافى المبنى على مبدأ النسبية الثقافية فى مواجهة العنصرية والمركزية الأوروبية والغربية.

2-النسبية الفكرية بعد أن تنتصر على الإطلاقية الإيديولوجية.

3-إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان فى سياقات ديمقراطية على كافة المستويات. بعد الانتصار على نظريات التشريط السيكولوجى والتى تقوم على أساس محاولة صب الإنسان فى قوالب جامدة باستخدام العلم والتكنولوجيا.

4-العودة إلى إحياء المجتمعات المحلية، وتقليص مركزية الدولة.

5-إحياء المجتمع المدنى فى مواجهة الدولة التى غزت المجال العام ولم تترك إلا مساحة ضئيلة للمجال الخاص.

6-التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية.

إننا نشهد – فيما نرى – المرحلة الأخيرة من حضارة عالمية منهارة كانت لها رموزها وقيمها التى سقطت، وبداية تشكل حضارة عالمية جديدة شعارها "وحدة الجنس البشرى".

وقد عبر عن هذه الرؤية بوضوح "ياسوهيروناكاسونى" رئيس وزراء اليابان السابق فى مقال هام له نشر فى مجلة سيرفايفل فى ديسمبر 1988 ذكر فيه أنه "عندما يمر المجتمع الدولى والمجتمعات المحلية بتحولات سريعة فإن الأفراد والشركات والأمم لن يمكنها الاستمرار فى تأكيد وجودها ودعم بقائها إلا إذا أزاحوا الحواجز التى تفصل بينهم ويحترم كل طرف وجود الآخر، إننا مقبلون على عصر سيكون فيه "التجانس والتضامن" المستمدان من اسمى تطلعات الروح البشرية، هما المطلب العاجل والملح للبشرية".

وسيساعد على تخليق هذه الحضارة الجديدة، ليس فقط تحول النظم السياسية والاقتصادية ولكن التحول من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات.

هذه هى العناصر الأساسية للنموذج التوفيقى العالمى الجديد الذى يتشكل الآن ببطء.

ولعل السؤال الذى يطرح نفسه الآن: أين الوطن العربى من كل هذه التغييرات الجوهرية فى النظام العالمى؟ مما له دلالة كبرى فى هذا الصدد، أن بعض النظم العربية اهتمت اهتماماً حقيقياً بدراسة هذه المتغيرات العالمية، من خلال تكليف مراكز الأبحاث بإعداد دراسات عنها، أو عن طريق عقد الندوات. غير أن القضية ليست هى فهم ما حدث – على أهميته القصوى – ولكن هى مدى استعداد هذه النظم لكى تغير من أدائها. لكى تتكيف مع حقائق العالم الجديد.

بغير أن ندخل فى صميم الإجابة على هذا السؤال المعقد، يمكن القول أننا درجنا – فى الوطن العربى – على نسبة كل جوانب قصورنا وتخلفنا إلى العوامل الخارجية. وتلعب نظرية المؤامرة الدولية فعلها فى الخطاب السياسى العربى. وكلما أخفق نظام سياسى فى أدائه فى مجال السياسة الخارجية أو السياسة الداخلية، قدم تفسيراً مستندا إلى هذه النظرية الشهيرة.

غير أن الخطاب النقدى العربى قد تجاوز الآن – فى تقديرنا – نظرية المؤامرة الدولية ضد العرب. وبالرغم من أن الحقيقة مؤداها أن الدول الغربية الكبرى – فى مجال سعيها الدائم  لتأييد المشروع الصهيونى الذى أقامته دولة إسرائيل- غالباً ما تتخذ مواقف معادية للعرب عموماً، إلا أنه ليس معنى ذلك أن نخلى مسئولية النخب السياسية العربية الحاكمة، عن الإخفاقات التى تحققت. وعن العجز فى مجال صياغة السياسات الرشيدة، القادرة على التصدى لكل ما يفد إلينا من عدوان اقتصادى وسياسى وعسكرى من النظام الدولى الاستعمارى.

وهكذا يمكن القول، أنه بعد كل هذه التغيرات العالمية التى أحدثت ثورة حقيقية غير مسبوقة، أهم ملامحها سعى الشعوب الناجح لإسقاط الانساق السياسية المغلقة، والتعبير الديمقراطى عن مطالبها ومصالحها، وتحرير الاقتصاد من ربقة البيروقراطية المركزية، وانعدام الكفاءة وإحياء المجتمع المدنى بكل مؤسساته لكى يلعب دوراً فعالاً فى اتخاذ القرار، والقضاء على كل عمليات الاحتكار السياسى كل هذه التطورات لابد لنا – إن كنا عقلانيين – إن تدفع بالنخب السياسية العربية الحاكمة إلى إعادة النظر فى مسيرتها، تمهيداً لإجراء التغييرات المطلوبة.

وهناك علامات على هذه الصحوة، غير أن الممارسة، ونعنى ممارسة التغيير مازالت بطيئة ومتعثرة ومترددة.

ولعل التتبع الدقيق للأحداث التى تنفجر كل يوم، بعد انهيار قلاع الشمولية، يدفع أعضاء هذه النخب الحاكمة، إلى الإسراع بعملية النقد الذاتى، والمضى بجسارة فى طريق الإصلاح الديمقراطى والاجتماعى. غير أن ذلك يقضى أولاً ثقة فى الجماهير.

ترى هل أن الآوان لتجسير الفجوة بين الحكام العرب والجماهير العربية.

ثانياً: تقييم لما جرى

مقدمة:

لا يمكن الإحاطة الشاملة بالمسار العربى فى القرن العشرين فى دراسة وجيزة. فهذا المسار حافل بالمعارك الحضارية والسياسية والاقتصادية بين العرب وأطراف دولية شتى، حاولت فيه القوى الأجنبية إجهاض النهضة العربية منذ بداياتها فى القرن التاسع عشر حتى الآن.

كيف يمكن للباحث أن يخوض فى هذا المعترك الضخم؟ حين فكرت فى الإجابة وجدت أنه قد يكون من الأنسب – والعرب على مشارف القرن الواحد والعشرين – أن أتأمل حصاد المسار العربى فى القرن العشرين فى السياسة والاقتصاد والثقافة، من خلال التحليل النقدى للسلبيات العربية الراهنة.

ولن تستطيع بطبيعة الأحوال تشخيص وتحليل كافة السلبيات، لذلك نطبق منهجاً انتقائياً يركز أكثر ما يركز على الفشل العربى فى اختبار الحداثة السياسية، وعجز الثقافة العربية عن تحقيق المعاصرة، بل وارتدادها إلى ذهنية التحريم – بتعبيرات المفكر السورى صادق جلال العظم – والتى كانت أحد أسباب التخلف العربى.

(1)

اختبار الحداثة السياسية

حين جابه الوطن العربى مشكلة التخلف، وخصوصاً بعد ارتفاع الوعى الثقافى نتيجة الاحتكاك بالغرب، وسعى إلى التقدم، كان لابد من المرور أولاً من بوابة الحداثة السياسية. ونعنى بذلك الإدراك أن النظم السياسية العربية التقليدية، لم تعد تصلح لمواجهة تحديات العالم الحديث. ومن هنا دعت مجموعة من المفكرين لعل أبرزهم أحمد لطفى السيد، ممن خرجوا من عباءة الشيخ محمد عبده المصلح الإسلامى الكبير، إلى تبنى الليبرالية الغربية مذهباً سياسياً، باعتبار أن من شأنه أن يحدث النظام السياسى العربى، ويكون القاطرة التى ستدفع بالمجتمع العربى إلى التقدم.

ولعل الإسهام البارز لممثلى هذا التيار الليبرالى العربى البازغ، أنهم غيروا صيغة السؤال التقليدى والذى كان مبناه: ما هى الشروط الكامنة وراء ازدهار أو تحلل المجتمع الإسلامى، ليصبح ما هى الشروط الكامنة وراء ازدهار أو تحلل أى مجتمع إنسانى؟ ومعنى ذلك أن الحل الدينى للتحدى الغربى قد طرح جانباً، لمواجهة مشكلة التخلف والتقدم مواجهة شاملة، لا تقتصر فقط على المجتمع العربى.

وهكذا لم يجد هؤلاء المفكرون العرب الإجابة على سؤالهم إلا فى الفكر الأوروبى الحديث، الذى تصدى لموضوعات التقدم وشروط المجتمع المثالى. وقد وقع هؤلاء المفكرون تحت تأثير تيارين بارزين فى الفكر الغربى، التيار الأول هو التيار الوضعى الذى مثله بطرق مختلفة، أوجست كونت ورينان وجون استيورات ميل، وهربرت سبنسر وإميل دوركايم. وقد ركزت الوضعية تركيزاً شديداً على أهمية الاستعانة بالمنهج العلمى لحل قضايا المجتمع، كما شددت على ضرورة الفصل بين القيم والوقائع. بعبارة أخرى تمثل التوجيه الفكرى الأساسى لهذا التيار،  فى أن الظواهر الاجتماعية ينبغى أن تدرس كما هى، أو كما لو كانت أشياء مادية، بعيداً عن قيم الباحث وأهوائه وتحيزاته.

أما التيار الثانى فهو الذى مثله جوستاف لوبون، وركز على فكرة "الشخصية القومية"، والتى مبناها أن لكل شعب تركيباً عقلياً لا يقل ثباتاً عن التركيب العرقى، وهذا التركيب العقلى لا يتغير إلا ببطء شديد وفى حدود ضيقة.

ولعل تحديد هذه التأثيرات على الليبراليين العرب يسمح لنا الآن بإثارة سؤالين: الأول هل نجح هؤلاء من خلال نشر التعليم وتدعيم مناهج البحث العلمى فى الجامعات وغيرها من المؤسسات الأكاديمية فى نشر الفكر الوضعى، أم أن هذه المحاولات جابهتها عقبات شديدة نتيجة جمود تقاليد المجتمع العربى ومقاومتها لكل محاولات التجديد الفكرى؟

ترد على خاطرنا مباشرة المعركة الشرسة التى أديرت ضد طه حسين، حين أصدر كتابه الشهير "الشعر الجاهلى" محاولا فيه أن يطبق المناهج الوضعية فى دراسة التراث، مما أدى إلى إخراجه من كلية الآداب. ومغزى هذه الحادثة البارزة أن معاقل الفكر العربى التقليدى فى الثلاثينات. كانت عنيفة فى مقاومتها تطبيق المنهج الوضعى الحديث فى مجال الدراسات الأدبية والاجتماعية والإنسانية، وخصوصاً إذا ما مست التراث فى أحد جوانبه، أو حاولت أن تدرسه بشكل علمى. ولعل ما شهدناه من معارك فكرية عنيفة على طول الوطن العربى فى العقود الأخيرة بين أنصار الأصالة ودعاة المعاصرة، لشاهد على أن المعركة مازالت مستمرة، وأن النصر النهائى لم يكتب لأى من الفريقين.

أما السؤال الثانى الخاص بالاهتمام "بالشخصية القومية" وتحديد ملامحها وقسماتها، فقد كانت له آثار إيجابية وسلبية على السواء. ومن آثاره الإيجابية البارزة تشكيل هوية وطنية لكل بلد عربى، وخصوصاً بعد الخروج من إطار الهوية العثمانية الإسلامية. ومن هنا بذل أحمد لطفى السيد جهوداً بارزة لبلورة ملامح الشخصية المصرية، وفتح الباب بذلك لاجتهادات فكرية شتى فى هذا السبيل، مازالت تدور حولها الخلافات، بين من يركزون على شخصية مصر الفرعونية، أو القبطية أو العربية الإسلامية، وأدى ذلك أيضاً إلى محاولات شتى فى بلاد عربية أخرى للحديث عن ملامح شخصيات قطرية متعددة، كالشخصية التونسية أو اللبنانية أو العراقية على سبيل المثال. غير أن الإغراق فى الحديث عن ملامح محددة للشخصيات القطرية أدى فى بعض الأحيان إلى تدعيم المشاعر الوطنية المتطرفة التى تنظر إلى البلد المحدد، بغير اعتبار للرابطة العربية التى تربطه بمحيطه العربى.

من هنا نشأت ما يسميه الخطاب العربى التقليدى النزعة "القطرية" والتى هى فى نظره العقبة الحقيقية أمام تحقيق الوحدة العربية.

غير أن هذا الحديث عن الشخصيات القومية قد فتح الباب أيضاً لبحث ملامح الشخصية القومية العربية ذاتها. ولعل هذا الاهتمام الفكرى هو الذى كان وراء الدعوة السياسية للقومية العربية، على أساس أن من بين هذه الملامح البارزة وحدة اللغة، ووحدة التراث، والتاريخ المشترك. وقد دارت حول ملامح الشخصية القومية العربية معارك سياسية شتى، فهل نحن عرب أم نحن مسلمون؟ هذا سؤال استراتيجى كان مثاراً لخلافات متعددة. ومن ناحية أخرى أثيرت تساؤلات شتى مثل: هل المرجعية فى موضوع القومية يمكن أن تكون وضعية – احتذاء بالنموذج الغربى – أم أن المرجعية يمكن أن تكون دينية على أساس الهوية الإسلامية، والتى هى الهوية الغالبة فى المجتمع العربى المعاصر؟

ومن ناحية أخرى أصبحت الشخصية العربية  - التى اختلف الباحثون العرب والمستشرقون الأجانب فى تحديد سماتها – محل اهتمام الدوائر الفكرية والسياسية الغربية. وقد حاول بعض المستشرقين أن يقدموا صورة مشوهة للشخصية العربية لخدمة الأهداف السياسية لدولهم، كذريعة لاتخاذ مواقف عدائية ضد بعض الدول العربية. كما أنه فى الوقت الراهن، وبحكم اشتعال الصراع العربى الإسرائيلى طوال الخمسين عاماً الماضية، فإنه قد بذلت محاولات غربية شتى فكرية وسياسية، لوصم الإسلام باعتباره ديناً عدوانياً، ولوصف العرب بأنهم إرهابيون، باعتبار أن العداء إزاء الآخر هو أحد ملامح الشخصية العربية.

فكرة الحرية الغربية:

وإذا عبرنا الآن مجال التأثيرات الثقافية الغربية على فكر الجيل الأول من الليبراليين العرب، وخصوصاً فى مجال تطبيق المنهج الوضعى، والاهتمام بالشخصية القومية وما أدت إليه من نتائج ومشكلات ثقافية وسياسية، فإنه ينبغى أن نناقش صلب مشكلة الحداثة السياسية التى حاول المجتمع العربى الوصول إليها، وهى مشكلة الحرية.

ويمكن القول بأن الفكرة المحورية التى استقاها أحمد لطفى السيد ومدرسته من الفكر الغربى هى فكرة الحرية. وقد اعتبرها ليس فقط محكاً للعمل السياسى بل ضرورة من ضرورات الحياة، وشرطاً أساسياً من شروط الوجود الإنسانى. وقد استقى مفهومه عن الحرية من الفكر الليبرالى السائد فى القرن التاسع عشر. إن الحرية عنده – مقتفياً فى فى ذلك آثار المفكرين الأوروبيين – هى أساساً غياب القيود غير الضرورية التى تضعها الدولة على ممارسة النشاط الإنسانى. فالدولة عليها فقط أن تحفظ الأمن والعدالة وتحمى المجتمع من أى هجوم محتمل. وفى هذه المجالات فقط يمكن أن تقيد من حريات الأفراد. أما فيما عدا ذلك فليس لها أن تتدخل إطلاقاً فى نشاطهم. فالأفراد لهم أن يتمتعوا بحقوق الكتابة والكلام والنشر والاجتماع. ومما لاشك فيه أن الترويج لهذه الأفكار وعرضها على الرأى العام، قد أضاف إلى الوعى العربى أبعاداً جديدة. فقد لفتت هذه الأفكار الأنظار إلى أهمية بناء نظام سياسى حديث، يقوم على أساس انتخاب ممثلين، ينتمون إلى أحزاب سياسية متعددة، ويستطيع المواطن أن يختار اختياراً حراً من يمثله من بين مرشحى هذه الأحزاب. وكذلك أضافت هذه الأفكار إلى الرصيد الديمقراطى بتركيزها على أهمية حرية الكلام والنشر والاجتماع، من خلال التأكيد على ضرورة تقييد نشاط الدولة وقصره على الميادين الرئيسية فى الأمن والدفاع.

إن أهمية هذا التيار الليبرالى فى إطار تطور العالم العربى الحديث، لا تكمن فقط فى انتشار أفكاره عبر الكتب والجرائد والمجلات والمؤسسات التعليمية، ولكن لكون أنصاره نجحوا فى تولى السلطة فى عديد من البلاد العربية، مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق وتونس والمغرب، وحاولوا أن يحكموا – سواء فى صورة ملكيات دستورية أو جمهوريات – مطبقين فى تلك النموذج الليبرالى الغربى.

غير أن الممارسة التاريخية أثبتت فشل هذه التجربة الليبرالية العربية الأولى فى تحقيق أهدافها الكاملة. ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب، لعل أهمها أنها تمت فى ظل وجود قوات احتلال أجنبية فى عديد من هذه البلاد، وتدخلها فى السياسة. مما أدى إلى إفشال التجربة فى النهاية، إضافة إلى فشل الأحزاب السياسية العربية فى تحقيق هدف العدالة الاجتماعية بين مختلف الطبقات، فأصبحت ممارسة الديمقراطية وكأنها ممارسة شكلية الهدف منها حماية مصالح الطبقات المستغلة. وقد أدى وقوع عدد من الانقلابات العسكرية، لعل أهمها انقلاب يوليو 1952 فى مصر والذى سرعان ما تحول إلى ثورة، إلى إسقاط النموذج الليبرالى وخصوصاً فى دول المشرق العربى، فى مصر وسوريا والعراق، وظهور أنظمة عقائدية وعسكرية حاولت أن تحقق  - بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل – هدف العدالة الاجتماعية ولكن على حساب الحرية السياسية. فقد سادت فى هذه البلاد نزعات القهر السياسى، وقضى على الحريات التقليدية التى يعرفها النموذج الغربى السياسى، وهى حريات التعبير والتفكير والاجتماع والتنظيم. وساد الفكر السياسى الأحادى، سواء اتخذ شكل الناصرية أو البعثية، وانتقلنا إلى حقبة تاريخية سادت فيها صور شتى من الاتجاهات الاشتراكية والشعبوية.

غير أن هزيمة حزيران يونيو سنة 1967 كانت خاتمة لهذه الحقبة التاريخية، وبداية لتطورات جديدة، وانعطافاً إلى تيار الليبرالية مرة أخرى، وإن كان ذلك يتم فى الواقع بخطى بطيئة ومتعثرة، نتيجة لرسوخ القيم الشمولية والسلطوية التى سادت فى الخمسينيات والستينيات فى عدد من البلاد العربية.

ومن هنا يمكن القول أن التجربة الليبرالية العربية الأولى بالرغم من العديد من إيجابياتها، وأهمها على الإطلاق فى تقديرنا اختبار النموذج الليبرالى الغربى على أرض الواقع، وبروز إيجابياته وسلبياته، قد سقطت تاريخياً، ثم قامت على أنقاضها – فى الوقت الراهن – تجربة ليبرالية أخرى وليدة تستحق أن نتأمل ملامحها فى ضوء تطورات النظام العالمى، وتغيرات المجتمع العربى على السواء.

(2)

ثقافة تحت الحصار !

نحن نتبنى مفهوماً للتنمية الشاملة، يرى أن هناك امتزاجاً عضوياً بين الأنساق الاقتصادية والسياسية والثقافية، بل إن تقدم المجتمعات لا يمكن أن يتم إلا من خلال تبنى رؤية بصيرة للعالم، تنطلق من التوازن الدقيقة بين هذه الأنساق جميعاً.

وفى ضوء ذلك نتساءل: هل يمكن للمجتمع العربى المعاصر – مهما بلغت إنجازاته الاقتصادية المتواضعة – أن يتقدم فى ظل سيادة ثقافة الاستبداد؟ وهل يمكن إطلاق المبادرات الخلاقة للأفراد والجماعات والتنظيمات السياسية والمؤسسات الاجتماعية، والسلطة الدينية تمسك بسيف التحريم تشهره فى وجه كل مجدد، وتهدد به من يحاولون تحرير المجتمع من رقبة التفسير الجامد للنصوص الدينية، وهل ونحن فى عصر الثورة العلمية والتكنولوجية – حيث تنتقل البلاد المتقدمة من نموذج مجتمع المعلومات إلى نموذج مجتمع المعرفة بالمعنى الشامل للكلمة- يمكن للمجتمع العربى أن يرسف نصف عدد سكانه تقريباً فى جهالة الأمية، والذى تسوده غيبوبة الفكر الخرافى أن ينهض بين العالمين؟

ثقافة الاستبداد:

ولنتفق منذ البداية على أن ملمحاً أساسياً من ملامح الثقافة العربية المعاصرة، هو أنها ثقافة تقدم على أساس استبداد الحكام وخضوع المحكومين!

وظاهرة الاستبداد فى المجتمع العربى قديمة ولها جذور فى التاريخ البعيد، ولعل المجتمع الإسلامى فى مراحله الأولى والذى اختلطت فيه السلطة الدينية بالسلطة الزمنية، هو الذى أسس لثقافة الاستبداد وأفسح لها لكى تهيمن على مجمل الفضاء الاجتماعى، وأصبحت من ثم عموداً رئيسياً من أعمدة الثقافة السياسية للمجتمع.

والاستبداد السياسى العربى المعاصر استبداد مراوغ، فليس بالضرورة أن يرتدى ثياب الاستبداد الفج القديم، حيث كان يستطيع الحاكم أن يأمر بقطع رقاب خصومه بغير جرم ثابت، وبدون محاكمة عادلة، ولكنه اليوم يلبس أقنعة شتى، منها شرعية الثورة المزعومة التى تسمح للنظام الثورى أن يهدر قاعدة سيادة القانون، ومنها شرعية التقاليد التى تبيح للجماعة الحاكمة استناداً إلى شرعية تاريخية تقوم على الاستمرار والوراثة، أن تتحكم فى مقاليد الاقتصاد والاجتماع والسياسة وفقاً لإرادتها المنفردة، ومنها شرعية التعددية السياسية المحكومة بإرادة الحاكم الذى يدير العملية السياسية وكأنها مسرحية عبثية مستمرة يقوم هو بإخراجها بنفسه، باعتباره الزعيم الملهم، حيث يختفى الأبطال، ويكون كل الممثلين السياسيين مجرد كومبارس، يؤدون الأدوار التى يرسم خطوطها الزعيم، بل وينطقون بالحوار الذى يضعه على ألسنتهم.

ولو تأملنا فى أنظمة الشرعية السياسية السائدة فى الوطن العربى اليوم، لوجدناها لا تخرج عن هذه الأنماط الثلاثة: التقاليد والثورة والتعددية والسياسية المحكومة. وكل نمط من هذه الأنماط يثير مشكلات متعددة نظرية وتطبيقية، كما ظهر من خلال الممارسة طوال القرن العربى الماضى.

والشرعية السياسية التى تقوم على التقاليد لها فى علم الاجتماع السياسى مبرر وسند، ذلك أن الباحثين فى هذا العلم يقررون أن الحكم الذى تمارسه عائلة مالكة ما، استمر أعضاؤها فى حكم البلاد، أحياناً لمئات السنوات، يكتسب عبر الزمن شرعية تاريخية، لأنه يكشف – وإن كان بشكل ضمنى – عن رضاء المحكومين بهذا الحكم، حتى لو كانت فى مرحلة أو أخرى برزت ظواهر احتجاج أو معارضة مارستها جماعة من الجماعات، أو قادها أفراد من هنا وهنا، غير أن ذلك لا يعنى أن هذا النمط من أنماط الشرعية السياسية العربية قد جمد على حالة عبر السنين، بل إنه – تحت ضغط ضرورة التطور للتكيف مع تغير مفهوم السياسة فى العالم – قد حاول أصحابه أن يطوروه، ويكسبوه – ما أمكنهم ذلك – سمات عصرية. ولو تأملنا هذه المحاولات بطريقة نقدية، لقلنا أنها فى الواقع محاولات متقطعة الأنفاس، ومحدودة للغاية من زاوية الأفق الديموقراطى المعاصر. وبعض هذه المحاولات لم تخرج عن محاولة تطبيق نظام صورى للشورى، يقوم على أساس تعيين بعض أعضاء المجتمع من الموالين للحكم فى مجلس يعرض عليه ما تختاره العائلة المالكة من أمور. وفى بعض المحاولات التى اعتبرت فى حد ذاتها جسورة، تقرر أن تكون عضوية مجلس الشورى فى جزء منها تقوم على الانتخاب وليس على التعيين! ويا لها من مغامرة كبرى تقوم بها هذه النظم فى مجال توسيع دائرة المشاركة السياسية!

وهناك دول ممن تنتمى إلى نموذج التقاليد، صاغت نظاماً سياسياً يقوم على التعددية السياسية المحكومة، وعلى وجود برلمان، يتم التحكم فيه بصورة صريحة أو خفية، حتى لا يتجاسر على القيام بوظائفه فى التشريع والرقابة التى يقوم بها أى برلمان معاصر فى أى نظام ديمقراطى.

وعادة إذا ما اشتد عود الممارسة الديمقراطية، تحدث مواجهات قد تتسم بالحدة فى بعض الأحيان بين البرلمان والحركة الديمقراطية والعائلة المالكة، وقد أدت فى حالات متعددة إلى حل البرلمان، وإعادة تشكيله حتى يتحلى أعضاءه بالخنوع المطلوب، ويرضخون للتوجيهات العليا فى البلاد.

أما عن شرعية الثورة فى الوطن العربى فحدث عنها ولا حرج! ذلك أن أغلب النظم السياسية العربية التى أقيمت على أساس شرعية الثورة لم تكن فى حقيقة أمرها سوى نظم انقلابية صريحة، قامت بها مجموعة من المغامرين السياسيين سواء ارتدوا الثياب العسكرية أو المدنية، باسم إيديولوجية معلنة، أو بدعوى إصلاح الأوضاع والقيام بالتنمية الشاملة للبلاد. وتثبت الخبرة التاريخية العربية أن هذه النظم الثورية المزعومة، التى سحقت مبدأ سيادة القانون، وقضت على الحريات السياسية، ومارست التصفية الجسدية الهمجية ضد خصومها السياسيين، أدت فى الواقع إلى تخلف مجتمعاتها، وتجميد تطورها السياسى، والقضاء المطلق على حيويتها الاجتماعية. ولسنا فى حاجة إلى الإشارة إلى هذه النظم العربية، فهى معروفة، وما زال بعضها يمارس الحكم المطلق، بكل ما فى ممارسات الاستبداد السياسى من وحشية، ومن الانفراد باتخاذ القرار فى حالات السلم والحرب على السواء.

ونأتى أخيراً إلى الشرعية السياسية العربية التى تقوم على أساس التعددية السياسية المقيدة المحكومة، وهذه النظم لها نماذج مختلفة حقاً فبعضها فيه تقليد قديم للتعددية السياسية وإن كان يهيمن على المسرح السيايسى حزب حاكم قوى، ولعل تونس تعد مثالاً بارزاً على ذلك، وبعضها عاد مرة أخرى إلى التعددية السياسية بعد تجميدها فى مرحلة ثورية، ولعل مصر تعد نموذجاً لذلك، ونوع ثالث يعكس الإبداع السياسى العربى فى مجال تجميل النظام الاستبدادى، ويتمثل فى دعوة المعارضة لكى تتولى الحكم بنفسها، فى ظل شعار جديد هو التوالى السياسى، ولعل المغرب هى النموذج الأمثل.

وكل حالة من هذه الحالات تحتاج إلى مناقشات مستفيضة لمعرفة هل هذا النظام، ونعنى التعددية السياسية المقيدة والمحكومة، يحقق فعلاً قيم الديمقراطية والتعددية، أم أنه مجرد تنويع على لحن الاستبداد العربى الأصيل والراسخ؟

الحالة التونسية تحتاج إلى تأمل، ذلك أن قادة النظام السياسى أحسوا بالحاجة إلى التكيف مع شعارات العولمة السياسية المرفوعة فى الوقت الراهن، وهى الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. ومن هنا عمدوا إلى تجميل النظام السياسى الذى يقوم أساساً على الهيمنة المطلقة للحزب الدستورى الحاكم. وهذه الهيمنة فى الواقع لم تأت من فراغ، وإنما لها أصول تاريخية تتمثل أساساً فى الدور الإيجابى الذى لعبه هذا الحزب إلى الحصول إلى الاستقلال فى البلاد، وفى البدء بمسيرة التنمية وبغض النظر عن نجاحاتها إو إخفاقاتها عبر الزمن.

واقتصرت محاولات التجميل السياسى على أمرين: الأول إدخال تعديلات دستورية وانتخابية تضمن تمثيل أحزاب المعارضة بنسب معينة، والثانى يتعلق بالسماح بالترشيح لمنصب رئيس الجمهورية، حتى تتحقق تعددية المرشحين ومن ثم يتاح للشعب أن يختار الأصلح من بينهم.

أما الحالة المصرية فهى أكثر تعقيداً، نظراً لوجود إرث تاريخى فى التعددية السياسية من أيام العصر الليبرالى الذى قطعت مسيرته ثورة يوليو 1952، وكذلك نتيجة لتعدد التجارب السياسية التى مر بها المجتمع المصرى منذ الثورة حتى الوقت الراهن.

ولعل نقطة الانقطاع الحاسمة تتمثل فى إلغاء النظام الذى يقوم على أساس الحزب الواحد، وهو هنا الاتحاد الاشتراكى، وفتح باب ضيق أمام التعددية السياسية، استطاع عدد محدود من الأحزاب أن ينفذ منه. غير أنه يمكن القول أن ألوان الطيف السياسى كلها ليست ممثلة، فليس هناك تمثيل لتيار الإسلام السياسى وليس هناك أيضاً تمثيل للشيوعيين.

والتجربة المصرية حافلة بالعبر والدروس، لأنه تبين من الممارسة العملية أن الحزب الحاكم وهو الحزب الوطنى لا يتسم بالفعالية السياسية المطلوبة، لأن أنصاره لا ينطلقون من إيديولوجية واحدة تمت صياغتها من خلال حوار ديموقراطى تم داخل الحزب. كما أن أحزاب المعارضة تتسم بالترهل والجمود والضعف الشديد، نتيجة تحكم التقاليد الاستبدادية والتى تتجلى فى انفراد زعامات تقليدية باتخاذ القرار، وإلغاء الحوار الحقيقى داخل الأحزاب، وعدم جماهيرية هذه الأحزاب وهامشية دورها السياسى.

غير أن الأمانة تلزمنا أن نقرر أن هناك، إضافة إلى الضعف الداخلى للأحزاب، قيوداً سياسية وأمنية متعددة تحد من حرية حركتها فى الشارع السياسى.

وتبقى أخيراً الحالة المغربية الفريدة، والتى تتمثل فى أن النظام ألقى بعبء التخلف على عاتق المعارضة، وقيد حركتها فى نفس الوقت بالانفراد بتعيين الوزراء فى الوزارات السيادية. وهكذا أصبح على عاتق المعارضة واجب النجاح المستحيل فى تحقيق التنمية، واحتمال الفشل الذريع فى القيام بالمهمة.

وهكذا إن شئنا أن نصدر حكماً نهائياً على المحاولات المبذولة من قبل النظم السياسية العربية المعاصرة للخروج من إسار ثقافة الاستبداد، لقلنا إنها فى الواقع لا تكذب ولكنها فقط تتجمل!

(3)

عقلية التحريم!

هل يمكن لنا كعرب أن ندخل القرن الحادى والعشرين بأقدام ثابتة وأعين مفتوحة وبفكر جسور يقتحم سائر المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية التى تواجهنا، بغير ممارسة كاملة لحرية التفكير وحرية التعبير؟

إن الثقافة العربية المعاصرة المحاصرة بالاستبداد السياسى، تضع قيوداً متعددة على حرية التفكير. ولو تأملنا تاريخ التقدم فى مختلف الحضارات لأدركنا أنه كان محصلة لممارسة حرية التفكير بغير قيود ولا حدود. فلننظر لتاريخ التقدم الغربى، وسنجد أن أوروبا لم تستطع أن تخرج من عباءة القرون الوسطى بكل تخلفها وأثقالها، إلا بعد ما حطمت المؤسسات التى كانت تحجر على الفكر، وتضع قيوداً لا حدود لها على العقل الإنسانى، بل وتمارس البطش الشديد والقمع بمختلف صوره على كل مفكر أو مثقف أو باحث جرؤ على تحدى المسلمات العلمية أو الفكرية أو السياسية أو الدينية السائدة. لم تستطع أوروبا أن تنفذ من أبواب التقدم إلا بعد أن حققت ثورتها الثقافية الكبرى، من خلال تحطيم استبداد الكنيسة، التى أرادت بسيف الإرهاب الدينى الباطش أن تختم على عقول الناس، وأن تجبرهم على التسليم بمذاهبها المتهافتة، والتى تعكس رؤيتها المتدهورة للعالم. وبذلك فتحت أوروبا الناهضة من خلال ركام القرون الوسطى الباب واسعاً وعريضاً أمام العقل لكى يجوب الآفاق، ويستطلع أسرار الكون ويحاول استكشاف المجهول، من خلال بلورة منهج عقلى متكامل يحاول بالمنطق بحث مختلف المشكلات، ويسعى بالمنهج العلمى إلى دراسة مختلف الظواهر الطبيعية والاجتماعية. ومن هنا نستطيع أن نفهم الدلالة الكبرى لكتاب الفيلسوف ديكارت الشهير "مقال فى المنهج" الذى كان فتحاً فى بابه وقت صدوره، لأنه رسم طريقاً جديداً للتفكير المنهجى، ووضع دليلاً للعقل الإنسانى الناهض لكى يتفحص أى مشكلة، ويدرس مختلف جوانبها، ويصل فى النهاية إلى نتائج محددة، بعضها يتسم بصفة اليقين، وبعضها يتحول إلى فروض علمية قابلة للدحض والإثبات.

ويمكن القول بغير مبالغة إن كتاب ديكارت كان يمثل إحدى علامات التقدم البارزة، التى دفعت بالعقل الأوروبى إلى الأمام، وجعلته يؤسس من بعد للعلوم الاجتماعية الحديثة، وفى مقدمتها علم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الاقتصاد. ولو طالعنا كتاب ديكارت اليوم كما فعلت منذ سنوات بعيدة وأنا فى مطالع الصبا حين قرأته فى ترجمته الإنجليزية فى عطلة صيفية، لاندهشنا من القيمة العالية التى اكتسبها فى تاريخ الفكر الأوروبى. وذلك لسبب بسيط مؤداه أنه يضع قواعد التفكير المنهجى كما يمارسه ملايين الناس فى عالم اليوم. وفق قواعد تبدو لنا اليوم فى غابة البساطة، بل وتكاد أن تكون بديهية! فهل هناك اليوم من يعتقد أن قاعدة تقسيم المشكلة- أى مشكلة تخضع للبحث- إلى أجزاء محددة قبل التعرض لبحثها كانت حين وضعها ديكارت تمثل هى وغيرها من القواعد المنهجية ثورة فكرية فى زمانها؟

لقد سمحت حرية التفكير للعقل الأوروبى أن يستطلع آفاق ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد من خلال بلورة علوم متكاملة تدرسها، ولكنها دفعت به أيضاً إلى تنمية المنهج العلمى المنضبط لدراسة الظواهر الطبيعية بمختلف تجلياتها. وفى هذا المجال لم يتردد العقل الأوروبى إطلاقاً فى أن يبنى على القواعد الراسخة التى وضعها المسلمون فى مجال البحث العلمى بمختلف فروعه، فى الطبيعة والكيمياء والفلك والطب. لم يزعم بعض الأوروبيين أن الفكر العلمى الإسلامى فكر وافد لا ينبغى الاستعانة به، ولم ترتفع أصوات غيره ترفع شعارات الغزو الثقافى أو تندد بالتبعية الثقافية، كما يحدث اليوم فى مواجهة الفكر الإنسانى المتقدم. بل إن الأوروبيين أرسلوا بعثات منظمة إلى الأندلس لدراسة الفكر العلمى الإسلامى، ولتعلم اللغة العربية، لكى يترجموا النصوص الأساسية المكونة لهذا الفكر. ومن هنا يمكن القول أن الحضارة الغربية الراهنة حضارة إنسانية، بغض النظر عن بعض جوانبها السلبية، والتى توجد على كل حال فى أى حضارة، لأنها أخذت من الحضارة الإسلامية، كما أخذت من غيرها من الحضارات، بالرغم من إنكار سجلات الحضارة الأوروبية ذلك، فى محاولة للزعم بأن الحضارة الغربية الراهنة هى امتداد للحضارة اليونانية القديمة. وأياً ما كان الأمر فقد تكفل المؤرخ الأمريكى مارتن برنال فى تفنيد هذه المزاعم فى كتابة الشهير "أثينا السوداء" والذى حدد فيه الأصول الآسيوية والأفريقية للحضارة اليونانية.

حرية التعبير

لم تكن حرية التفكير هى فقط مدخل أوروبا للدخول فى عالم الحداثة، ولكن رافقتها حرية التعبير. ولا يجوز لنا الظن أن حرية التفكير التى حصل عليها العقل الأوروبى قد تبلورت بسهولة، ذلك أن المفكرين والباحثين والمثقفين عموماً خاضوا فى سبيل امتلاكها معارك ضارية مع السلطة بل إن بعضهم وقعت عليه عقوبات بدنية بالغة القسوة، وبعضهم سيقوا للموت جزاء وفاقاً لممارستهم حرية التفكير. وخاض هؤلاء الرواد معارك أخرى للحصول على حق حرية التعبير. ذلك أن قيود النشر كانت ثقيلة، لأن السلطة السياسية والدينية عمدت إلى فرض رقابة محكمة على ما ينشر، حتى لا تتهدد مصالحها بتأثير قوة الكلمة المكتوبة. وهكذا يمكن القول أن أوروبا حلقت فى فضاء التقدم مستخدمة جناحى حرية التفكير وحرية التعبير.

وإذا ولينا وجوهنا الآن إلى الوضع فى العالم العربى، لأدركنا أننا حققنا منذ بداية النهضة العربية الأولى خطوات متواضعة فى مجال حرية التفكير وحرية التعبير. ذلك أنه إذا كنا قد شهدنا بناء المدارس والجامعات الحديثة فى مختلف ربوع الوطن العربى، حيث يدرس المنهج العلمى ويستخدم فى بحث مختلف الظواهر الطبيعية، فإنه يجابه صعوبات جمة فى التطبيق فى ميادين السياسية والاجتماع والاقتصاد.

فى مجال السياسة يضيق إلى كبير هامش حرية التفكير وحرية التعبير نظراً لسيادة ثقافة الاستبداد، وممارسة القهر المنظم على فئة المثقفين والباحثين، والتى تمنعهم من طرح الأسئلة الصحيحة عن طبيعة النظم السياسية السائدة، وعن شرعيتها، وعن مظاهر استبدادها، وعن كيفية الخلاص من ربقتها، من خلال تبديد الوعى الزائف الذى تنشره هذه النظم من خلال التحكم فى الإعلام وفى منابر الثقافة المتعددة، ونشر الوعى الاجتماعى الصحيح. وهناك حالات متعددة لاحقت فيها السلطة المفكرين ووضعتهم فى السجون، صفتهم تصفية جسدية جزاء لجسارتهم الفكرية، وطرحهم لمشكلة استبداد النظام أو تحكم السلطة، بل إن بعض المجتمعات العربية أفسحت للمواطنين العاديين الذين ينتمون لأكثر التيارات الفكرية محافظة ورجعية أن يرفعوا دعاوى قضائية ضد المفكرين الذين يرون أنهم قد تخطوا بإبداعهم- سواء كان ذلك بحثاً علمياً أو دراسة تحليلية أو رواية أو حتى أغنية- الخطوط الحمراء للحرام كما يحددونها هم. ولعل الأحداث التى برزت فى السنين الأخيرة فى بعض البلاد العربية، صدور حكم بتطليق أحد المفكرين من زوجته بتهمة الردة. وصدرت أحكام أخرى بسجن مبدعات عربيات بزعم أن إبداعهن فيه تطاول على الذات الإلهية، كل هذه الأحداث تبين أننا- فى الوطن العربى- مازلنا نعيش أجواء القرون الوسطى التى تجاوزتها أوروبا خصوصاً، والبلاد المتقدمة عموماً منذ قرون طويلة. وفى تقديرنا أن المشكلات التى تواجه العرب ونحن فى بداية القرن الحادى والعشرين، والتى يرد جانب كبير منها إلى الفجوة الواسعة بين تخلفنا وتقدم الآخرين، يقف وراءها بشكل أساسى ما يمكن أن نطلق عليه "عقلية التحريم". فما دام العقل العربى المعاصر ممنوعاً من التحليق فى آفاق حرية التفكير، باسم كثير من الموانع، فلن يتاح لنا أن نستطلع الآفاق المجهولة، ولا حتى أن نسير فى الدروب المطروقة التى سلكتها مثلنا الشعوب المعاصرة التى استطاعت تحقيق التقدم.

ولعل الظاهرة الملفتة للنظر حقاً فى الحياة السياسية المعاصرة، هى تواطؤ المؤسسة السياسية – أيا كانت طبيعتها واتجاهاتها ومدى انغلاقها أو انفتاحها – مع المؤسسة الدينية لممارسة حظ حرية التفكير وحرية التعبير. ولعل هذا أحد أهم أسباب التخلف فى الوطن العربى.

لقد وصلنا إلى نهاية القرن العشرين وبدأنا قرناً جديداً، ومن واجبنا أن نتأمل حصاد هذا القرن عربياً، لكى نشخص السلبيات البارزة، ونضع أيدينا على جوانب القصور، ولكى نحدد أيضاً الميادين القليلة التى استطعنا فيها أن نحقق نوعاً من التقدم النسبى.

ولا ينبغى لنا أن نتطور تحت تأثير تهديدات العولمة، بل إنه من الضرورى لنا ممارسة النقد الذاتى بصورة بصيرة، فى تشخيص مشكلاتنا ووضع الحلول التى تتفق مع تاريخنا الاجتماعى، والتى لا تحاول القفز فوق الواقع العربى بكل تناقضاته وأوضاعه. العولمة السياسية ترفع شعارات الديموقراطية والتعددية، واحترام حقوق الإنسان، والعولمة الاقتصادية تدعو لتحرير الاقتصاد وفتح السوق. والعولمة الثقافية تركز على الانفتاح الثقافى وحوار الحضارات، والعولمة الاتصالية فتحت باب الاتصال غير المحدود بين بنى البشر من خلال الإنترنت.

هذه كلها دعوات صريحة لمختلف بلاد العالم، خصوصاً تلك التى تسودها الأنظمة الاستبدادية، والفكر المنغلق، على أن تتحرر من رقبة الماضى، وتدخل العالم الجديد.

ومعنى ذلك أننا نحتاج إلى عملية إحياء ثقافى كاملة، تتكفل بالقضاء على ثقافة الاستبداد، وتؤسس لثقافة الديموقراطية، وتغرس مبادئها فى الأسرة والمدرسة والجامعة وفى فضاء المجتمع كله. ومن ناحية أخرى ينبغى توسيع دائرة حرية التفكير وحرية التعبير إلى غير ما مدى، وتحكيم العقل فى صنع السياسات وصنع القرار، والاستفادة من التجارب المقارنة الناجحة. ولابد من إعادة صياغة العلاقة بين الدول العربية ومواطنيها، حتى يتحولوا من وضع الرعايا إلى مكانة المواطنين ذوى الأهلية السياسية والثقافية.

ثالثا: الوجوه الثلاثة للثقافة العربية المعاصرة

للثقافة العربية المعاصرة ثلاثة وجوه: وجه يتعلق بالماضى ووجه يتعلق بالحاضر ووجه أخير يتعلق بالمستقبل.

1 – وجه الماضى: إعادة اختراع التقاليد!

إعادة اختراع التقاليد هو أدق وصف للمناخ الثقافى العربى الراهن. ذلك لأنه  – نتيجة لتفاعلات شتى دولية وسياسية واقتصادية وثقافية – تسود المجتمع العربى فى الوقت الراهن موجة عارمة من العودة للدين والذى يتمثل فى انتشار مظاهر التدين الشعبى بين مختلف الطبقات، وانتشار الفكر الخرافى الذى يستند زورا وبهتانا لأسانيد دينية، وشيوع الفكر المتطرف الذى يلوى عنق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تعبيراً عن رؤية مغلقة للعالم تقوم أساساً على التحريم والتكفير، وبروز الإرهاب ضد المسلمين وغيرهم ترجمة لهذا الفكر المتطرف.

نحن لا نتحدث هنا عن بعض المؤشرات الشكلية مثل شيوع الحجاب حتى فى بلد مثل مصر شهد تحرر المرأة منذ العشرينات، ولكن فى اعتبار الحجاب بذاته هو رمز الإسلام، بالرغم من غياب آيات ملزمة بذلك. ولعل مما يكشف عن عملية إعادة اختراع التقاليد التى تقوم أساسا على اعتبار الماضى هو المرجعية التى ينبغى أن تحكم سياسات الدول وسلوك البشر، أن الحجاب أصبح هو المعركة الأساسية فى فرنسا بعد صدور القانون الفرنسى الذى يحرم ارتداء شارات دينية فى المدارس العمومية سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية.

تصاعدت صيحات الغضب من البلاد العربية حتى وصلت حدود فرنسا، وكأن معركة الإسلام المعاصر هى الحجاب وليست السلوك المتخلف لجماعات شتى من المسلمين الذين يرفضون الانفتاح على العالم، ويصرون على تقليد السلف تقليداً أعمى فى الملبس والمأكل والسلوك، مع أن الزمان غير الزمان والمجتمع غير المجتمع.

ولو أجرينا عملية تحليل مضمون للأسئلة التى تطرح  من قبل الرجال والنساء المتعلمين منهم والجهلة، والجامعيين منهم وغيرهم على من يقومون بالإفتاء لأدركنا أننا أمام كارثة ثقافية كبرى. والواقع أنه لا يعدل تفاهمه الأسئلة وهامشية ما تطرحه من موضوعات سوى جهالة الإجابات التى يقدمها الغالبية العظمى ممن يقومون بالإفتاء، والتى تكشف بوضوح أنهم لا يعيشون عصرهم، بل إنهم – وهذا هو الأخطر – لا يفهمون المقاصد العليا للإسلام حق الفهم. ويتزمتون حيث لا مجال للتزمت، ويحرمون حيث لا مجال للتحريم، ويقدمون على الإجمال صورة كئيبة للحياة التى ينبغى أن يمارسها المسلمون فى زعمهم حتى يكتسبوا مرضاة الله.

لا يمكن للمجتمع العربى أن يتقدم إذا تحكمت فيه هذه الرؤية الماضوية، المصممة على أن يتحكم الموتى فى الأحياء. ومن المؤشرات الدالة على سيادة عملية إعادة اختراع التقاليد تراجع الفكر العلمانى الذى يفصل بين الدين والدولة فى ظل التشويه المتعمد من قبل أنصار الفكر الإسلامى المتطرف، والذى يصف العلمانية بأنها كفر. وهذا التراجع الفكرى العلمانى تم لحساب الفكر المتطرف الذى يدعو لإنشاء دولة إسلامية أى دولة دينية، تصبح الآلية الأساسية فى مجال إصدار القرارات فيها هى الفتوى وليس التشريع، الذى تقوم به المجالس النيابية المنتخبة تحت رقابة الرأى العام.

وإذا أضفنا إلى ذلك الدعوات التى تنادى بأسلمة المعرفة، بمعنى أخذ المعرفة الغربية ثم أسلمتها، لأدركنا أن هذه الدعوى الزائفة من وجهة النظر الإبستمولوجية، لن تؤدى- إذا تمت وهذا مستحيل- إلا إلى عزل العرب عن التيار المتدفق للمعرفة العلمية العالمية فى مجال العلوم الطبيعية كما هو الحال فى مجال العلوم الاجتماعية.

وفى نفس الاتجاه تصب الكتابات التى تكاثرت فى الحقبة الأخيرة عن "الإعجاز العلمى فى القرآن" والتى لا تفعل إلا الفخر بسبق القرآن للعلم الحديث، مع أنه ليس – كما هو معروف- كتاب فى العلوم. بالإضافة إلى أن هذه الدعوات يمكن أن تضع النصوص الدينية فى حرج لأن العلم متغير. لذلك دعونا منذ سنوات إلى شعار مؤداه أن "العلم يقوم على الشك فى حين أن الدين يقوم على اليقين".

وبالإضافة إلى ذلك ما هو فضل الذين يرددون شعار الإعجاز العالمى للقرآن من المسلمين فى حين أن الغربيين هم الذين ينتجون العلم، وهم الذى يبتكرون التكنولوجيا، وهم الذين يعلنون كل يوم عن اختراعاتهم النافعة للبشرية جمعاء.

أليس فى هذه الدعاوى العريضة غير المؤسسة على الحقائق تعبير فج عن الإحساس بالدونية إزاء الغريبين من العلماء والمبتكرين والمبدعين؟

وإذا كانت مرجعية الحياة ستصبح هى الماضى فماذا سيفعل المسلمون فى الحاضر، وما هى رؤية العالم التى سيمارسون حياتهم فى ضوئها وخصوصاً ونحن نعيش فى عصر العولمة، حيث لا تغنى المقاطعة الثقافية، ولا العزلة الدولية.

2- وجه الحاضر: العرب فى مواجهة العاصفة!

يطرح على الثقافة العربية فى الوقت الراهن سؤال خاص بعاصفة القرن الحادى والعشرين: كيف ستتفاعل مع العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية؟

ولابد أن نبدأ بتساؤل: هل يمكن إصدار حكم قاطع فيما يتعلق بقبول أو رفض العولمة؟ إن إصدار حكم نهائى على العولمة ينص على رفضها رفضاً مطلقاً، يكشف عن تعجل فى إصدار الأحكام بغير تأمل فى منطق التطور التاريخى. وإذا كان صحيحاً أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالى العالمى، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة، وسيكشف فى المستقبل المنظور أن العولمة – بغض النظر عن نشأتها الرأسمالية – ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها – على اختلاف ثراء وفقر الأمم – إلى آفاق عليا من التطور الفكرى والعلمى والتكنولوجى والسياسى والاجتماعى.

وبعبارة أخرى ستحدث آثار إيجابية لم تكن متصورة لدى من هندسوا عملية العولمة، بل وستتجاوز هذه الآثار مخططاتهم التى كانت تهدف للهيمنة والسيطرة على النظام العالمى، وسيثبت التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى لمجموعة من الدول الكبرى أن تهمين هيمنة كامل على العالم اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجيا وعلمياً، وإلا حكمنا على شعوب الأرض جميعاً بالعقم وعدم الفاعلية.

وفى هذا الإطار، فثمة حاجة ملحة إلى منهج صحيح للتعامل مع ظاهرة العولمة بكل أبعادها. فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد. وبذلك يعد منطقاً متهافتاً ما يدعو إليه بعض أعدائها من ضرورة محاربتها، لأنك لا تستطيع الوقوف أمام نهر يتدفق، هى عبارة عن حصاد تقدم إنسانى تم عبر القرون الماضية، وأسهمت فيه شعوب وحضارات شتى. هل يمكن مثلاً محاربة الإنترنت، من خلال إصدار قرار بالامتناع عن التعامل معها، كما تفعل الآن بعض الأنظمة السياسية العربية وهل يمكن الامتناع عن التعامل مع منظمة التجارة العالمية، مع الاعتراف بسلبيات متعددة فى نصوصها، وهل يمكن مواصلة خرق حقوق الإنسان وقمع الشعوب، فى إطار من العولمة السياسية يدعو لضرورة تطبيق الديمقراطية، ونشر آفاق التعددية السياسية والفكرية؟ وهل يمكن مقاومة بزوغ وانتشار ثقافة فكرية كونية تحمل فى طياتها تبلور الوعى الكونى بأخطار البيئة على سلامة الكوكب ذاته، وأهمية صياغة معايير أخلاقية كونية تضع قواعد المنهج فى التعامل بين الشعوب والحوار بين الحضارات، وتحارب العنصرية والتطهير العرقى والتعصب الدينى، والاستقلال الاقتصادى؟

إن المعركة الحقيقية لا تكمن فى مواجهة العولمة كعملية تاريخية، وإنما ينبغى أن تكون ضد نسق القيم السائد الذى هو فى الواقع إعادة إنتاج لنظام الهيمنة القديم. وهنا على وجه التحديد ينبغى تحديد طبيعة المعركة فى النضال – على المستوى الدولى – للقضاء على ازدواجية المعايير فى تطبيق حقوق الإنسان، وعدم فرض نموذج الديمقراطية الغربية كنموذج أوحد للديمقراطية، وإتاحة الفرصة للشعوب، لكى تمارس إبداعها السياسى. وهناك ضرورة عاجلة لتقنين حق التدخل حتى لا يشهر كسلاح ضد الشعب العربى وغيره من شعوب الجنوب. كما أن قضية حل الصراعات بأسلوب سلمى، وتحقيق السلام العالمى، وإعادة النظر فى مفهوم التنمية على المستوى العالمى، كل هذه ميادين تحتاج إلى نضالات متواصلة لضمان صياغة نسق قيم عالمى يحترم حرية الشعوب، ويسهم فى تقدمها فى ظل حضارة إنسانية جديرة بالتحقق فى القرن الحادى والعشرين، وفى إطار هذا التقييم العام للعولمة، يظل السؤال الجوهرى: ما هى تأثيرات العولمة على الوطن العربى؟

يخطئ صناع القرار العرب لو ظنوا أن تحديات عصر المنافسة العالمية هى تحديات اقتصادية بحتة، تتصل بزيادة الصادرات، أو رفع معدلات الإنتاج، أو الارتقاء بمستوى الجودة، ذلك أن أخطر التحديات جميعاً، فى هذا المجال بالذات، تحديات ثقافية. وهنا تتم الإشارة على وجه الخصوص إلى الارتفاع الخطر فى معدلات الأمية فى الوطن العربى، والتى تكاد تصل فى بعض التقديرات إلى 60%، ومعنى ذلك أن 60% من الشعب العربى لن يكونوا قادرين على التعامل بكفاءة مع عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع حقبة ثورة الاتصالات الكبرى، ونشوء مجتمع المعلومات العالمى، والتى قد تكون شبكة "الإنترنت" رمزاً دالاً عليها. وهكذا يمكن القول إن الوطن العربى يحتاج إلى ثورة تعليمية كاملة لا تقضى على الأمية فقط، وإنما تعيد تأسيس مؤسسات التعليم العام من حيث الشكل والمضمون، وترفع مستوى الأداء فى المؤسسة الجامعية، وفى المراكز البحثية.

أما بالنسبة للتجليات السياسية للعولمة، فإنه يمكن القول أنها تتركز فى رفع شعارات الديمقراطية أو التعددية الفكرية والسياسية. واحترام حقوق الإنسان، وفى مواجهة كل شعار من هذه الشعارات الثلاث، تجابه الدول العربية جميعاً تحديات خطيرة، فقد قطعت بعض الدول العربية خطوات لا بأس بها فى طريق الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أن هذه التعدية السياسية لا زالت مقيدة، كما أن عدداً لا بأس به من الدول العربية لم يخط الخطوة الأولى فى طريق الديمقراطية. ومن المشكلات المثارة فى هذا المجال ما يطرح حول: أى نظرية ديمقراطية يمكن تطبيقها فى الوطن العربى، فهناك أنصار الديمقراطية الغربية الذين يرون ضرورة تطبيقها بحذافيرها، وهناك معارضون لهذا التوجه يدافعون عن الخصوصية الثقافية فى هذا المجال، ويرفعون شعار الشورى فى مواجهة الديمقراطية الغربية، أو يطالبون بتأسيس ديمقراطية عربية تتفق مع الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية فى المجتمع العربى

غير أنه ينبغى أن يوضع فى الاعتبار أن هناك اعترافاً عالمياً بالقسمات المتميزة للديمقراطية فى أى مكان.

أما حقوق الإنسان، فهى تمثل تحدياً للممارسات السياسية فى كثير من بلاد العالم العربى، لأن بعض الدول العربية لا تريد أن تطبق المعايير الدولية لحقوق الإنسان زعما بأنها تتعارض مع بعض سمات الخصوصية الثقافية. وعلى الدول العربية أن تستعد لخوض حرب شرسة فى هذا المجال مع الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية التى تضغط لتطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان.

ويمكن القول أن من أخطر تحديات العولمة السياسية ما برز فى ميدان العلاقات الدولية، حيث أصبح حق التدخل، سواء لأسباب سياسية أو لأسباب إنسانية يفرض فرضاً على بعض الدول، أساساً من خلال تحكم الولايات المتحدة، وسيطرتها على مجلس الأمن الدولى، وهكذا، وإعمالاً لهذا الحق الذى يستند – كما يقال- إلى الشرعية الدولية تم الغزو الأمريكى العسكرى للعراق وتم التدخل السياسى بطرق شتى فى السودان ويعتبر حق التدخل – من وجهة نظرنا- من أخطر التحديات الجديدة التى تواجه العالم العربى، وهو ما يدعو دولة بذلك جهد متصل فى مجالين.

1 – تعديل الأوضاع التى أدت إلى الغزو العسكرى الأمريكى للعراق والتدخل السياسى فى السودان، بحيث تنتهى العوامل المرتبطة باستمرار الاحتلال والتدخل.

2 – جهد سياسى وفكرى يقع على عاتق رجال الدبلوماسية والقانون الدولى، والمفكرين، فى تقديم مبادرات دولية تناقش على المستوى العالمى لتقنين حق التدخل، ومنع الازدواجية فى تطبيقه، خاصة ما يتعلق بإخلاء ساحة إسرائيل فى هذا المجال، وعدم تطبيق أى عقوبات عليها رغم جرائمها اليومية ضد الشعب الفلسطينى.

وأخيراً، فإن القضية المطروحة، فى إطار تحليل التجليات الثقافية للعولمة، هى الدعوة لبناء ثقافة كونية تتضمن نسقاً متكاملاً من القيم والمعايير لفرضها على كافة الشعوب، مما قد يؤثر على الخصوصية الثقافية للشعب العربى، وهكذا يمكن القول أن تحديات العولمة للوطن العربى متعددة، ومعقدة، وهى – كما تممت الإشارة- ذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية تحتاج إلى جهد كبير من قبل صناع القرار العربى، والجامعات العربية، ومراكز الدراسات العربية، للتعامل معها، لأن الطريق الوحيد أمامنا هو التفاعل الإيجابى الخلاق مع المتغيرات العالمية الجديدة.

3 – وجه المستقبل: غياب الرؤية الاستراتيجية العربية:

الرؤية الاستراتيجية أصبحت مفهوما محورياً يشيع استخدامه فى أدبيات التنمية المعاصرة، ويعنى لها مجموع السياسات الاقتصادية والسياسية والثقافية التى يتبناها نظام سياسى للتطبيق خلال عقدين قادمين.

وهذه الرؤية ينبعى أن تنطلق من مفهوم التنمية المستديمة وهى تقوم على دعائم ثلاثة: الحرية السياسية والعدل الاجتماعى والانفتاح الثقافى على العالم.

ولو أردنا أن نصوغ تعريفا دقيقا للرؤية الاستراتيجية لقلنا – كما ورد ذلك فى أحد المراجع العلمية الموثوقة .

صورة ذهنية لما ينبغى أن يكون عالم المستقبل. وبلورة الرؤية الاستراتيجية ينبغى أن يسبقها التنبؤ بتطورات الواقع الحالى، لتقدير الصورة التى سيتشكل عليها المستقبل. والمفكر الاستراتيجى الذى سيناط به صياغة الرؤية لابد أن يتأمل التاريخ، ويشخص الموقف الراهن، ويفحص الاتجاهات السائدة. والاستراتيجية ليست سوى آلية العبور للتحرك من العالم الذى تنبأنا بتطوراته المستقبلية إذا ظل الحال على ما هو عليه، إلى العالم الذى صغنا ملامحه فى رؤيتنا الاستراتيجية، ومن المهم التركيز على أن الرؤية الاستراتيجية تساعد فى توجيه صياغة الاستراتيجية وفى تنفيذها على السواء. إنها تجعل الاستراتيجية تتسم بالمبادرة بدلا من أن تكون مجرد رد فعل عن المستقبل".

وفى تقديرنا أن هذا التعريف من أشمل وأدق التعريفات التى اعطيت للرؤية الاستراتيجية فى التراث النظرى المعاصر.

ولعل العنصر الأول من تعريف الرؤية الاستراتيجية بكونها صورة ذهنية لما ينبغى أن يكون عليه عالم المستقبل، يدفع إلى إثارة السؤال الأول فى عملية الإصلاح العربى وهو: ما هى الصورة التى نريد للمجتمع العربى أن يكون عليها بعد ربع قرن من الآن، وضعاً فى الاعتبار إعطاء مساحة زمنية كافية للإصلاحات الشاملة أن تؤتى ثمارها، بما تتضمنه من تفاعلات اجتماعية معقدة، تتضمن من بين ما تتضمنه القبول الاجتماعى للتغيير، أو مقاومته من قبل بعض المؤسسات أو جماعات المصالح، ومدى النجاح فى مواجهة هذه المقاومة.

غير أن العنصر الثانى يعد حاسماً، وهو ضرورة التشخيص الدقيق للحالة الواقعية الراهنة فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتشخيص الواقع ليس مهمة سهلة كما يظن عديد من الناس. ذلك أن الواقع ليس مجرد معطى ملقى أمام الناس، ويمكن لهم أن يتفقوا على توصيفه! ذلك أنك لو طرحت السؤال عن الواقع العربى فلن تعدم من أصحاب المصالح من يقول لك ليس هناك أبدع من ذلك! ولكنك –على الطرف المقابل- ستجد أصواتاً متعددة يشوبها اليأس والقنوط تؤكد أن الواقع مرير وأن السلبيات تغمر كل شئ وأن الفساد دب فى كل المواقع وكالعادة سنجد أصحاب الرؤية المتوازنة الذين لا يهونون والذين يمارسون ما نسميه النقد الاجتماعى المسئول، فينقدون السلبيات بجسارة ولكنهم أيضاً –سعياً وراء موضوعية الحكم- يبرزون الإيجابيات بقوة. وفى تقديرنا أننا فى حاجة – فى المقام الأول- لأصحاب الرؤية المتوازنة حتى لا تضيع الحقيقة بين أوهام الإنجازات الخارقة، وتضاعيف سحابات اليأس الخانقة!

غير أن ذلك التوجه لا يكفى بذاته، فنحن فى حاجة إلى منهج علمى صارم تقوم على أساسه طريقة موضوعية للتقييم، لا تنهض على أساس الانطباعات العابرة، أو التعميمات الجارفة و الخارقة، وتضاعيف سحابات اليأس الخانقة!

غير أن ذلك التوجه لا يكفى بذاته، فنحن فى حاجة إلى منهج علمى صارم تقوم على أساسه طريقة موضوعية للتقييم، لا تنهض على أساس الانطباعات العابرة، أو التعميمات الجارفة وإنما ضوء مؤشرات كمية وكيفية، ينبغى إتقان صنعها حتى لا تميل الكفة هنا أو هناك، وتكون قادرة على القياس الموضوعى.

غير أن دراسة الواقع وفقاً لمنهج علمى دقيق ليس سوى الخطوة الأولى لصياغة الرؤية الاستراتيجية.

وأيا ما كان الأمر فإن الفرضية التى تنطلق فيها أنه ليست هناك رؤية استراتيجية عربية متماسكة ولعل هذا أحد أسباب الاضطراب الشديد فى علاقة العرب والعالم، كما تكشف عن ذلك مؤشرات ثقافية شتى فى مجال الحوار الحضارى الدائر الآن، والذى يتضمن اتهامات شتى للعرب والمسلمين وخصوصاً بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر بأنهم إرهابيون، وأن ثقافتهم تسودها تيارات الفكر الدينى المتطرف والذى تتبناه جماعات أصولية شتى.

فى ضوء مكونات الرؤية الاستراتيجية الثلاث وهى الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والانفتاح الثقافى على العالم نريد أن نركز على المكون الأخير. وهو كيف يمكن لنا أن نصوغ استراتيجية ثقافية إعلامية للتعامل مع العالم؟

فى ضوء ما سبق يمكن أن نقترح عناصر لاستراتيجية عربية مقترحة تتكون من عدة عناصر.

أولاً: ضرورة رسم خرائط معرفية للاتجاهات الإيديولوجية فى الوطن العربى

لا يمكن وضع استراتيجية إعلامية عربية لتفعيل دور الإعلام فى بناء واقع عربى جديد بغير رسم خرائط معرفية دقيقة تحيط بكل ألوان الطيف من الاتجاهات الإيديولوجية الفاعلة فى الوطن العربى. وهذه الخرائط المعرفية لابد لها أن تقيم الوزن النسبى لكل تيار واتجاه. وأهمية هذه الخرائط المعرفية أنها ستساعدنا على معرفة الواقع العربى الذى نريد تغييره، وكذلك على تحديد ملامح التغيير واتجاهاته. ومن ناحية أخرى من شأن هذه الخرائط المعرفية أن تقضى على التعميمات الجارفة عن العرب والمسلمين التى تصوغها الدوائر الغربية السياسية والثقافية والإعلامية.

فهل صحيح – على سبيل المثال – أن إيديولوجية الجماعات الإسلامية المتشددة والمتطرفة هى السائدة فى الوطن العربى؟ وأليس هناك مجال واسع للتيارات الليبرالية التى تنادى بالديموقراطية وبحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم وحرية الصحافة والنشر؟

وأليس هناك فى الوطن العربى تيارات كبيرة تدعو لتحسين دور المرأة فى المجتمع وإلغاء كافة صفوف التمييز ضدها؟

وهكذا نستطيع أن نقدم صورة موضوعية للتفاعلات السياسية بين أنصار الإيديولوجيات العربية المختلفة مما يسمح للإعلام العربى أن يتناول بشكل نقدى وموضوعى بعض منطلقاتها التى يمكن أن ترسخ التخلف العربى بدلاً من الوصول بنا إلى أعتاب التقدم.

ثانياً: تبنى موقف رشيد من ثلاثية الماضى والحاضر والمستقبل

لو راجعنا الخطاب الإعلامى العربى طوال الخمسين عاماً الماضية لوجدناه مشغولاً بثلاثية الماضى والحاضر والمستقبل، مع وجود اختلافات عميقة بين أصحاب هذا الخطاب حسب الإيديولوجيات التى يعبرون عنها.

وفى تقديرنا أن الإعلام العربى يمكن أن يلعب دوراً هاماً فى الدعوة إلى الدراسة العلمية لتراث الماضى بأنماطه المتنوعة، من خلال التأكيد على ضرورة ممارسة التأويل بمناهجه المتعددة حتى يتواءم النص التراثى – حتى لو كان نصاً دينياً – مع متغيرات العصر.

ومن ناحية أخرى لابد من اصطناع منهج علمى ونقدى فى دراسة الحاضر العربى. وهذا المنهج لابد أن يكون تكاملياً لا يفصل بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة – ليس ذلك فقط - بل لابد أن يكون منهجاً نقدياً، يركز على السلبيات، ويسمى الظواهر بأسمائها.

ويبقى ضرورة استشراف المستقبل العربى فى ضوء قراءة دقيقة لتغيرات بنية المجتمع العالمى كما أشرنا فى المقدمة. وفى هذا المجال لابد من ترشيد الخطاب الثقافى العربى إزاء ظاهرة العولمة، والتى هى أبرز الظواهر ونحن فى بداية الألفية الثالثة.

وهذا الترشيد يقتضى عدم تبنى المواقف المتطرفة من العولمة، ونعنى القبول المطلق بغير تحفظات، أو الرفض الشامل بغير تحليل.

نحتاج كعرب إلى نظرة متوازنة تكفل تعظم المكاسب وتقليل الخسائر.

ولابد من التركيز على الآثار المترتبة على تحول الاقتصاد العالمى إلى اقتصاد المعرفة، وتحول المجتمع المعلوماتى العالمى إلى مجتمع المعرفة.

ثالثاً: حصر لمشكلات التواصل الثقافى مع الغرب

لابد من حصر دقيق للمشكلات التى تعوق التواصل الثقافى الإيجابى بين العرب والغرب. ونستطيع فى هذا المجال أن نعدد بعض المشكلات الهامة وفى مقدمتها:

1 - مشكلة العلاقة بين الإسلام والغرب.

2 - مشكلة التطرف الفكرى فى العالم العربى.

3 - المشكلات الناجمة عن الإرهاب.

4 - الهجرات العربية إلى أوروبا ومشكلاتها وخاصة قضية اندماج المهاجرين فى المجتمعات الأوروبية.

5 - التفرقة بين المقاومة المشروعة للاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية والإرهاب.

6 - العنصرية الجديدة فى أوروبا.

رابعاً: الدعوة للإسهام العربى فى مناقشة المشكلات الإنسانية العالمية

نحن نعيش فى عصر عولمة المشكلات الإنسانية. حيث ضاقت المسافات بين المشكلات المحلية والعالمية. فتلوث البيئة مشكلة محلية وعالمية، والفقر كذلك، والفجوة بين الموارد والسكان وهكذا يمكن القول أن الإعلام العربى يمكن أن يلعب دوراً فاعلاً فى حوار الحضارات الذى ينبغى أن يدور بين العرب والعالم.

وهذا الحوار لا ينبغى أن يقتصر على مناقشة مشكلات العرب مع العالم، ولكن أن يثبت أننا كعرب لدينا كفاءة معرفية تسمح لنا بالإسهام فى مواجهة الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية التى تواجه الإنسانية فى القرن الجديد.

(1)

الإشكاليات المعرفية

أدت التطورات العالمية التى أشرنا إليها فى مقدمة هذا البحث إلى بروز إشكاليات معرفية جديدة ومشكلات واقعية عالمية. ويمكن رد سبب بروز هذه الإشكاليات والمشكلات إلى عوامل متعددة. وربما كان أول عامل من هذه العوامل هو الخبرة التاريخية الثمينة التى تحصلت من الممارسات الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية فى القرن العشرين.

لقد كان القرن العشرون حافلا بالأحداث الكبرى، فقد اكتملت فيه الثورة الصناعية بكل أبعادها، ثم برزت من بعد الثورة العلمية والتكنولوجية، حيث أصبح العلم الأول مرة فى تاريخ البشرية عنصرا أساسيا من عوامل الإنتاج، وتحولت التكنولوجيا لتصبح هى الأداة الأساسية لإشباع الحاجات الأساسية لملايين البشر فى مختلف أنحاء المعمورة.

وجاءت مؤخرا الثورة الاتصالية الكبرى والتى أصبحت شبكة الإنترنت هى رمزها البارز، وهذه الثورة بإجماع العلماء الاجتماعيين هى أخطر ثورة فى تاريخ البشرية، بحكم أنها أتاحت للناس فى كل مكان إمكانية الاتصال المباشر، والتفاعل الإيجابى بين مختلف الثقافات الإنسانية بكل ما تحفل به من رؤى متنوعة للعالم.

وليست خبرة القرن العشرين فقط هى التى أدت إلى بروز إشكاليات معرفية ومشكلات واقعية جديدة، بل إن بروز الوعى الكونى بمشكلات الإنسانية الحادة، وأبرزها موضوع البيئة ومخاطر تلوث الكوكب، قد أدى إلى ظهور أنماط مستحدثة من التفكير، وممارسة مؤسسات قديمة مثل اليونسكو ومؤسسات حديثة مثل جامعة الأمم المتحدة فى طوكيو للبحث بطرق جديدة تعتمد فى المقام الأول على التفكير الجماعى، من خلال استطلاع آراء أبرز العقول الإنسانية فى مختلف التخصصات العلمية وحقول المعرفة، حول تشخيص الوضع الإنسانى الراهن، والتماس أكثر الحلول فعالية لمواجهة كل من الإشكاليات المعرفية المشكلات الواقعية.

ويمكننا التأكيد على أن ابرز المؤسسات العالمية التى انشغلت فى السنوات الأخيرة بموضوع تحديد وبلورة الإشكاليات المعرفية ونحن على مشارف الألفية الثالثة هى هيئة اليونسكو.

وفى هذا المجال نظم العالم الاجتماعى الفرنسى جيروم بانديه رئيس وحدة البحوث المستقبلية فى اليونسكو مؤتمرا عالميا عنوانه "حوارات القرن الحادى والعشرين" جمع فيه ابرز العقول لمناقشة الإشكاليات التى ستواجه الإنسانية فى العقود القادمة.

وقد جمع بانديه خلاصة هذه الحوارات فى كتاب نشره اليونسكو فى أبريل عام 2000 بعنوان "مفاتيح القرن الحادى والعشرين". ولو استعرضنا أقسام الكتاب الخمسة، لاستطعنا أن نضع أيدينا على الإشكاليات المعرفية الأساسية، التى تصلح لأن تكون موضوعات بحثية، تؤلف عنها الأبحاث والكتب، أو تكون موضوعات لورش عمل وندوات ومؤتمرات.

وفيما يلى بيان بهذه الموضوعات الهامة:

القسم الأول : استشراف المستقبل وعدم اليقين. أى مستقبل للبحوث المستقبلية؟

موضوعات هذا القسم تتعلق كلها بفكرة استشراف المستقبل من زاوية إمكانياتها وحدوها وآفاقها وعلاقتها بالفعل السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى.

ومن أمثلة الموضوعات المبحوثة:

1 – مستقبل واحد أو تعددية المستقبلات؟

2 – طبيعة المستقبل

3 – أصول المستقبل

القسم الثانى: نحو عقد طبيعى: مستقبل النوع الإنسانى ومستقبل الكوكب

ومن أمثلة الموضوعات المبحوثة:

1 – أى مستقبل للنوع الإنسانى؟

2 – السكان: أى مستقبل للسكان والهجرة – القرن الواحد والعشرون؟

القسم الثالث: نحو عقد ثقافى جديد؟

آفاق جديدة للثقافة التعددية والتعليم

وفيما يلى نماذج من الموضوعات المبحوثة:

1 – نحو صدام للحضارات أم تجاه التهجين الثقافى؟

2 – الآفاق الجديدة للثقافة: العولمة وعدم اليقين الثقافى والعنف

3 – نحو ثقافات مهجنة

القسم الرابع: نحو عقد اجتماعى جديد؟

تعلم العيش المشترك

وفيما يلى نماذج من البحوث:

1 – أى ديموقراطية فى المستقبل؟

2 – أى مستقبل لحقوق الإنسان؟

3 – ما هو مستقبل وضع المرأة فى العالم؟

4 – ما هو مستقبل الطفولة فى القرن الحادى والعشرين؟

5 – ما هو مستقبل العمل وما هو مستقبل الوقت؟

القسم الخامس: نحو عقد أخلاقى جديد؟

العالم والعولمة

وفيما يلى نماذج من البحوث:

1 – الثورة الصناعية الثالثة والعولمة.

2 – هل تمثل العولمة فخا؟

3 – عقد اجتماعى جديد لمرحلة جديدة من مراحل العولمة.

4 – نحو نمط جديد من التنمية ونهاية الفقر.

ويمكن القول أن كل إشكالية معرفية من هذه الإشكاليات تنطوى على موضوعات بحثية متعددة. وهذه الموضوعات صدر بصددها كتاب بالغ الأهمية نشرته اليونسكو من تأليف فردريك مايور السكرتير السابق لليونسكو وأسهم إسهاما واضحا فى تأليفه جيروم بانديه.

والكتاب عنوانه "عالم جديد".

F. Mayor، J. Binde’ ،Un monde nouveau، Paris; Editions Odile Jacob، 1999.

ويتسم الكتاب باحتوائه على مؤشرات كمية وكيفية لكل مشكلة من المشكلات المبحوثة.

(2)

المشكلات الواقعية

فى تقديرنا أن المؤسسة العالمية التى تخصصت فى الفترة الأخيرة فى حصر وتحديد المشكلات الواقعية التى ستجابه الإنسانية فى القرن الحادى والعشرين هى جامعة الأمم المتحدة فى طوكيو باليابان. وقد أسست هذه الجامعة مشروعا رائدا اسمه "المشروع الألفى" The Millennium  أصبح يصدر تقريرا سنويا بعنوان: "حالة المستقبل" State of the future  وقد حرر التقرير الأخير الصادر عام 2002. Jerome C. Glenn & Theodore J. Gordon

ومما هو جدير بالذكر أن مركز الدراسات المستقبلية التابع لجامعة القاهرة أصبح مشاركا فى وضع تقرير "حالة المستقبل" الجديد، وباعتبارى أحد مستشارى هذا المركز فأنا مع مجموعة من الخبراء شاركنا بعرض رؤيتنا للمستقبل حتى يتضمنها التقرير الجديد.

وقد استطاع تقرير حالة المستقبل أن يضع يده على خمس عشرة مشكلة عالمية، بيانها كما يلى:

1 – كيف يمكن تحقيق التنمية المستدامة لكل الناس؟

2 – كيف يمكن إتاحة الفرصة لكل فرد نصيبه من المياه النظيفة بغير صراع؟

3 – كيف يمكن إقامة التوازن بين التزايد السكانى والموارد؟

4 – كيف يمكن لديموقراطية أصيلة أن تنبع من النظم السلطوية السائدة؟

5 – كيف يمكن لعملية صنع القرار أن تكون أكثر التفاتا لمنظور الأجل الطويل؟

6 – كيف يمكن للعولمة وشيوع المعلوماتية والاتصالات أن تعمل لخير كل إنسان؟

7 – كيف يمكن تدعيم البعد الأخلاقى للأسواق لسد الفجوة بين الغنى والفقير؟

8 – كيف يمكن تقليل مخاطر الأمراض الجديدة والأمراض القديمة التى عادت للظهور؟

9 – كيف يمكن تدعيم القدرة على الحسم واتخاذ القرار فى ضوء تغير طبيعة العمل والمؤسسات؟

10 – كيف يمكن للقيم المشتركة واستراتيجيات الأمن الجديدة التقليل من الصراعات الإثنية والإرهاب واستخدام الدمار الشامل؟

11 – كيف يمكن تحسين وضع المرأة والرقى بالوضع الإنسانى؟

12 – كيف يمكن وقف آثار الجريمة المنظمة؟

13 – كيف يمكن سد الاحتياج المتزايد للطاقة؟

14 – كيف يمكن تدعيم الفتوحات العلمية والتكنولوجية؟

15 – كيف يمكن تضمين القرارات الكونية الاعتبارات الأخلاقية؟

(3)

نحو نظام عالمى جديد

إذا كانت الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية التى ستواجه الإنسانية فى القرن الواحد والعشرين هى ما نقترحه لتكونا المحور الأول والثانى من محاور حوار الحضارات، فإن المحور الثالث والهام هو ضرورة صياغة نظام عالمى جديد يحل محل النظام العالمى الراهن.

وقد التفتت الأمم المتحدة إلى أهمية هذا الموضوع، فقد شكل كوفى أنان سكرتير عام الأمم المتحدة لجنة من 40 شخصية تمثل ثقافات العالم المتعددة، باعتبارهم مجموعة من الحكماء لكتابة تقرير عن حوار الحضارات والمشكلات التى تواجهه، وكيفية إدارته. وكان من بين هذه الشخصيات الدكتور أحمد كمال أبو المجد وزير الإعلام والأسبق والأمير الحسن بن طلال. وقد أعدت اللجنة تقريرا مبدئيا قبل الحادى عشر من سبتمبر عنوانه "الحد الفاصل rossing the divide . وقبل إقرار التقرير فى شكله النهائى جرت أحداث الحادى عشر من سبتمبر، فأعيد النظر فى التقرير المبدئى وخرج فى صورته النهائية.

والتقرير فى الواقع ينقسم إلى قسمين أساسيين: القسم الأول وفيه نقد عنيف للنظام العالمى الراهن، باعتباره يتسم بعدم العدالة ويقوم على التحيز لصالح الدول العظمى، والقسم الثانى يسر بنظام عالمى جديد سماته بدقة، على أساس ضرورة إلغاء احتكار الدول العظمى لسلطة اتخاذ القرار فى الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية وقبول التعددية السياسية، واحترام الخصوصيات الثقافية.

خاتمة

حاولنا فى هذه الدراسة عن أسئلة الثقاقة العربية أن تطبق منهجنا الذى بلورناه من قبل فى دراساتنا المختلفة وهو المنهج التاريخى النقدى المقارن. غير أننا أولينا أهمية خاصة لتطبيق منهجية التحليل الثقافى التى أصبحت لها الصدارة اليوم فى تحليلات العلم الاجتماعى المعاصر كما يقرر عالم الاجتماع الفرنسى المعروف آلان تورين فى أحدث كتبه "نموذج جديد".

هذا المنهج هو الذى فرض علينا تقسيم البحث إلى ثلاثة أقسام رئيسية: تغيير العالم، وتقييم لما جرى، والوجوة الثلاثة للثقافة العربية فى ضوء ثلاثية الماضى والحاضر والمستقبل".

source