كلمة مفتي الجمهورية اللبنانية سماحة الشيخ الدكتور محمد رشيد قباني

calendar icon 02 كانون الأول 2004 الكاتب:محمد رشيد قباني

(مثله سماحة القاضي الشيخ محمد دالي بلطه)
* مؤتمر "كلمة سواء" التاسع: موقع الحرية في الاصلاح والتجديد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين أحمده على كل شيء والصلاة والسلام على سيدنا محمد وإخوانه الأنبياء والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين والصحابة والأخيار أجمعين وبعد...

أيها الحفل الكريم

تتوالى الأيام ونعود لنلتقي مرة بعد مرة تلبية لهذه الدعوة الكريمة من مركز الإمام موسى الصدر كي تتلاقح الأفكار حول موضوع من الموضوعات الإنسانية التي عاش الإمام مدافعاً عنها في كل مواقفه حتى غدا اسمه اسماً كبيراً تتسع عباءته لأي عنوان يمكن ان نختاره ونطرحه للنقاش فلا نرى إلا تجانساً تاماً بين الاسم والموضوع فهو رجل الحوار والقرار ورجل الكتاب والخطاب ورجل المسالمة والمقاومة ورجل الثوار والأحرار فعدد ما شئت من العناوين والمواضيع فلا بد من مكان له تحت تلك العباءة الجليلة.

سادتي.

اليوم يضع مركز الإمام الصدر بين أنظارنا موضوعاً من أدق المواضيع وأكثرها حساسية ألا وهو "موقع الحرية في الإصلاح والتجديد" وللحرية مكانة راقية في حياة الإنسان دوماً فهو لا يكون إنساناً إلا بها ولا يمكن له أن يمارس دوره في الحياة إلا من خلالها فهي مفتاح التقدم وطريق تعبئة الطاقات والإمكانات ومشاركتها جميعاً في البناء والعمران فالمجتمع لا يتطور ولا يتكامل إلا مع نسبة تعدد خياراته وقدراته في التفكير والإبداع حيث تنضج القدرات العقلية والنفسية. وغياب الحرية عن الممارسة الإنسانية يمكن ان يعتبره بحق مقدمة طبيعية للغة الإرهاب والعنف والبطش حيث يسود الصوت الواحد ويتجه الأمر إلى إلغاء الآخر وتشيع مخدرات التسليم والتصديق ومسكنات الإذعان والاستسلام فيتوقف العقل عن التفكير وتنعدم إنتاجية المجتمع وحيويته. ويصبح التنفس بالاختناق أمراً طبيعياً وعندها الويل والثبور. ولو ان الله سبحانه وتعالى أكره هذا الإنسان وحجر عليه لجاز لأي مخلوق أن يتذرع بهذه السنة الإلهية ويفرضها سلوكاً في الحياة فإنه سبحانه وتعالى الذي بيده كل شيء وأمره نافذ في كل الكون طرح قضية الإيمان بين الناس وهي أهم قضية عندهم فكان طرحا أمام حرية الإنسان في الاختيار أو الإعراض فقال الله سبحانه وتعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً  أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" وقال "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" وقال: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليفكر" إلى كثير من الآيات الكريمة التي تحدثت عن هذا النقطة الجوهرية، فالإيمان القائم على الإكراه ليس بإيمان والدين القائم على القهر ليس بدين بل الإيمان يقوم على مطلق الحرية والتفكير والتعقل "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ويعقلون ولأولي الألباب" كما كثر ترداد ذلك في القرآن الكريم، وليس معنى ذلك أن كلا الاختبارين سواء بل معنى ذلك أن يتحمل كلٌّ مسؤوليته في كلا الأمرين.

وهذه حقيقة يغفل عنها كثير من المجادلين عندما يخوضون في موضوع الحرية بمختلف جوانبها فيتصورونها حرية تنطلق من جميع القيودِ، ويغيب عنه أن حرية إنسان واحد تنطلق بغير قيد هي قيد لكل إنسان سواه أو للمجتمع بل قضاء عليهما جميعاً فالحرية لا تعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية بل هي امتلاك القدرة على التعرف والاختيار. فهل من الحرية أن يصدع الإنسان بالباطل وهل منها أن يقول الإنسان الكذب والافتراءات وهل منها أن يمارس الإنسان الظلم وهل منها أن يدعو إلى الفساد فما بالك إذاً بموضوع الإيمان والكفر؟

إن الإيمان عندما يطرح من زاوية الفكر والحرية فإنه طرح ثابت وواثق أنهما نقطتان ترتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً لا بد لنا أن نشير ونحن نتكلم عن هذا الموضوع إلى أن الحرية لا تجعل الإيمان حالة سائبة مستباحة لا ضوابط لها فكما لكل موضوع إنساني ضوابطه فكذلك للإيمان ضوابطه ومبادئه.

من هنا علينا ان نعلم أن الاختلاف ليس رذيلة ولا إثماً وإنما هو ناموس كوني وطبيعة إنسانية. هو الوجه الآخر لضرورة الاجتهاد وإكمال العقل والفكر فلا يمكن مقاربة مفهوم الحرية بمعزل عن مفهوم الاختلاف وحق الإنسان الطبيعي فيه لأنه النتيجة الحتمية لواقع التعدد وإختلاف التجارب والثقافات ومستوى التفكير قال الله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم..." ولا بد أن نشير إلى ان الحرية ترتكز بشكل رئيسي على الحوار فهو حجر الأساس لها وبذلك لا ينتهي مفهوم الحرية عند حق الإنسان في التعبير عن رأيه بل عليه أن يحترم رأي الآخرين وإلا عدنا عندها إلى الاستبداد بل أن احترام رأي الآخرين أهم من حق الإنسان في التعبير لأنك قد تجد إنساناً بلا رأي ولا فكر ويسيء إلى ما لا يعجبه من الأفكار فاحترام رأي الآخر هو الشق الذي ينبني به صرح الحرية بناء محكماً لا تصدع به، ولا شك بأن هذه حالة تحتاج إلى ضوابط أخلاقية ومناقبية إنسانية تعجز عنها القوانين في ضبط ممارسة الحرية وإننا عندما نقول ذلك لا نود أن يفهم الحضور الكريم إلى أننا نجعل من الحرية حالة مثالية لا يمكن تحققها بل نتطلع إلى تربية فاضلة ممكنة وليست بمستحيلة مطلوبة من الحاكم قبل المحكوم ومن المسؤول قبل الرعية فكم وجدنا من قوانين تنتهك ودساتير تخرق وتعدل وفقاً للمصالح الخاصة والمنافع الضيقة وكم نرى من مصادرة لإرادة الناس وتوجهاتهم وكم نسمع من تصنيف للناس بناء على موقف أو رأي يملى على أنه الخيار الأوحد الذي لا ثاني له فأهل القانون قد يبيعون القانون لأنه من وضع أيديهم أما أهل الأخلاق فإنهم لا يبيعون الأخلاق لأنها دمهم وروحهم وهواؤهم بهذه المناقبية ضبط عمر بن الخطاب المسيرة عندما قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" ورسخها أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه عندما قال: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً".

أيها الحفل الكريم

إننا عندما نجتمع ونجاهد من أجل إعطاء الإنسان حقه في الحرية نجد أن عجلة الأيام تسبقنا عندما نرى الدول تفقد حريتها وتُرْغم على ممارسة سياسة معينة وإلا فإنها ستتعرض لأقسى العقوبات أو ستكون محلاً للاحتلال العسكري والدمار حيث نستعيد صورة الإنسان الهمجي الذي عاش ما قبل التاريخ.

ومن الذي يمارس هذه السياسة اليوم؟

إنها الولايات المتحدة الأميركية التي تدعي أنها حامية الحرية والحضارة والتي تدعي أنها تصون قدسية الإنسان. التي تسفك الدماء في العراق ليل نهار التي قتلت من الأبرياء في سنة وبوحشية أكثر مما تدعى أن النظام المستبد قد قتله هنالك خلال عقود وكل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل أنها تريد أن تقيم نموذجاً ديمقراطياً في منطقة الشرق الأوسط تحتذي به دول المنطقة فيا لسخريات الدهر أميركا تلك التي تمارس سياسة الاستبداد في أحط صورها وأقذرها فتصادر حريات الدول وليس الأفراد وآخر ذلك وليس آخرها القرار رقم 1559 الصادر عن مجلس الأمن الذي يحرمنا مع سوريا أن ننظم علاقتنا السياسية والأمنية في ظل أزمة الشرق الأوسط والسياسة الصهيونية التوسعية الاستعمارية التي قامت على الاغتصاب وتشريد أصحاب الأرض من أرضهم هذا القرار المتباكي على الحرية والديمقراطية في بلدنا وأعتقد أن من واجب الأمم المتحدة أن تبحث عن موضوع أكثر إلحاحاً على هذه الكرة الأرضية لتحلهُ بعد أن أصدرت القرار تلو القرار بحقه وكله دون جدوى بدل التدخل في القضايا الداخلية للدول القائمة على الاتفاقات التي تجيزها الشرعية الدولية عليها أن تجد حلاً لقضية أهلنا من فلسطين وفي فلسطين من فلسطين الذين شردهم الاغتصاب في أرجاء الأرض ويُمنعون من العودة إلى ديارهم وفي فلسطين حيث يقتلون بالعشرات لأنهم يرفضون شروط الاستسلام والإذعان لأنهم أحرار ويريدون أن يعيشوا الحرية بحق عليها أن تحاسب الولايات المتحدة الأميركية التي خرجت عن الشرعية الدولية في حربها على العراق دون مسوغ قانوني أو أخلاقي.

عن أية حرية يتكلمون وهم يصادرون حرية الدول ويفرضون المشاريع والسياسات.

فبإسم الحرية يتدخلون لتغيير المناهج وبرامج التعليم ويسلبون ثروات البلاد كرها عن طريق الاحتلال المباشر كما حدث في العراق أو التهديد بالتدخل الأجنبي تحت ستار الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة كما هو الحال الآن في تهديد السودان وسوريا وإيران.

أيها الحفل الكريم

إن التجديد والإصلاح والحرية نجدها عناوين يطالبنا بها الأميركي ولا نعير نحن لها اعتباراً قبل وبعد إن مطالبة الأميركي بها يفقدها مصداقيتها لأنه أول من سيتضرر بها فهو مرفوض من أمتنا لذلك نجده يساعد على تثبيت الأنظمة المستبدة في منطقتنا لحماية مصالحة فأصبحت هذه المفاهيم لغة العدوان الخارجي على الشعوب إننا نريد حرية تنبع من أخلاقنا وتراثنا وقيمنا لأن الاستبداد السياسي وفساد الحكم من أهم أسباب التخلف في عالمنا إننا ندعو إلى تأمين الحرية الطبيعية والمدنية والسياسية في المجتمع وندعو الحكومات إلى أخذ ذلك بعين الاعتبار واحتواء حالة الجفاء مع الشعوب وإشاعة المفاهيم الإنسانية الطبيعية بين المواطنين عن معاني الدول والأمم وتجذير ذلك في الثقافات فالأمم هي التي تسيطر على الدول وليس العكس والحكومات هي في خدمة الشعب وليس العكس وعليهم تطوير وظيفة الدولة كأداة شرعية ومنظمة للإرادة الجماعية ومنع الاحتكار للسلطة وتكريس تداول السلطة لماذا لا ننظر إلى ما فعل نلسون مانديلا ذلك الرجل التاريخي الذي ثار من أجل الحرية حتى أصبح رجلاً مطاعاً يقدر أن يبقى في الحكم ما يريد إلا أنه آثر أن يعود إلى بيته بعد انتهاء ولايته حتى لا يكرس هذه السنة السيئة إننا نستطيع أن تختصر المعاناة وأن ننطلق إلى الأمام بثبات قبل قدوم الطوفان.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

source