مثله سيادة المطران بولس
* مؤتمر "كلمة سواء" التاسع: موقع الحرية في الاصلاح والتجديد
أيها الاحباء،
إنه لشرف كبير لي ان ينتدبني صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس صفير بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكلّي الطوبى لأمثّله في "مؤتمر كلمة سواء التاسع" هذا، الذي ينظّمه مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات والذي يحمل لهذا العام عنوانا طيّباً عزيزاً على قلوبنا جميعاً، وبالأخصّ على قلب الإمام المغيّب نفسه أعاده الله، ألا وهو "موقع الحريّة في الإصلاح والتجديد".
وقد لفتنا أولاً أن هذا العنوان لم يذكر الأرض ولا الأوطان التي تجري فيها عملية الإصلاح والتجديد هذه، يقيناً من المنظّمين أنّها ومن دون أي شك حاجة ماسة ومستمرة في كل وطن وفي كل أرض. فتأتي قاعدة الأقربين الذين هم الأولى بالمعروف لتشير إلى مواجهة هذه الحاجة في لبنان، على أن لا ينحصر الاهتمام بهذا الوطن وحده بل يتعدّاه إلى ما حوله من دول ومن أقطار، وكم بالحريّ إذا كانت هذه لنا دولاً وأقطاراً شقيقة نتفاعل معها ضمن واقع واحد ومصير واحد.
ولا بد أيضاً من أن يكون واضعو هذا العنوان بصورة المطلق يرغبون في أن يقودنا الفكر جميعاً إلى آفاق تشمل العالم بأسره والحضارة الإنسانية بمجملها، فندرك أننا في هذه الأرض العربية جزء من هذا العالم الواسع، نأخذ منه ونعطيه في مجال اختبار الحرية وكنه دورها، لا في عملية الإصلاح والتجديد وحسب بل في فعل الوجود الإنساني نفسه وفي مسار التاريخ نحو اكتمال أبعاده ومعانيه.
يقول مفكّر ألماني من أوائل الأزمنة المعاصرة، أي لمئتي سنة خلت، أن تاريخ الشعوب في علاقاتها مع الحرية يمر بمراحل ثلاث، أولاها تتصف بحرية الجماعة قبل الأفراد وفوقهم. إنه عهد العصور القديمة، حيث الأفراد لم يصلوا بعد إلى مستوى الثقافة الواسع وحيث الشعوب تتعاطى بعضها مع بعض عبر القوة وفرض الذات على الآخرين أو الحذر منهم والاحتماء وراء حدود مسوّرة بالحديد والنار.
أما المرحلة الثانية من مسار الشعوب في علاقتها مع الحرية فهي مرحلة صعود الحرية الفردية التي تلهمها ديانات كالمسيحية والإسلام، لأنها تؤكد مسؤولية كل إنسان عن ذاته وعن مصيره. إنها مرحلة الإقرار بقيمة الشخص البشري كائناً من كان ومهما كان انتماؤه لأنه أخ لسواه بالإنسانية، ومرحلة حقوق هذا الإنسان في داخل شعبه وأمته بالذات. وقد تطورت هذه الحرية فعلاً في مجتمعات عديدة، إلا أنها جنحت نحو الوقوف في وجه المؤسسات العامة التي يفترض فيها أن تعبر عن إرادة الجميع وحقوق الجميع. إن هذه الحرية هي بوجه من وجوهها أثمن ما وصلت إليه الإنسانية عبر تطورها الاجتماعي الحديث. إلا أنها تبقى ناقصة بفعل تهديدها للجماعة التي تنتمي إليها، وكأنّ الإنسان الحر فرد منعزل لا انتماء له يجمعه بالآخرين أو يقوده إلى تحقيق ذاته الجماعية مع ذاته الفردية. وخير دليل على نقص هذه الحرية الفرديه نجده في الاقتصاد الحر المتفلت من كل قيد حتى من القيد الأخلاقي نفسه في بعض الأحيان.
لذلك فإنّ التاريخ راح يتقدّم في مرحلة ثالثة من مراحل اكتمال الحرية بغرض التوفيق في نطاقها بين حرية الجماعة وحرية الفرد معاً. إنه تطور يقيم الوزن لهاتين الحريتين على السواء ولا يقيم بينهما أي نقيض. بل على العكس فإن الحرية في هذه الحقبة تنضج لتصير حرية شخصية مسؤولة ضمن الجماعة وعن الجماعة وتصير الجماعة ضامنة للحرية والأحرار في كامل حياتهم؛ إذ ذاك تقوى بحامليها لأنهم يحملونها بوعي في إرادتهم فلا تنكسر، وفي عقولهم فلا يؤثر عليها أي مؤثر سلبي وأي توجيه معلّب يضرب على وتر واحد.
فإنْ كانت هذه مراحل الحرية في ترقّيها منذ العصور القديمة والقرون الوسطى إلى اليوم، فأين نجد نفوسنا في لبنان وفي المنطقة؟ وأين يجد كل شعب نفسه بالنسبة إلى مسيرة الحرية؟ هكذا ندخل في البحث عن موقع الحرية عندنا وعند سوانا في كل عملية إصلاح وتجديد نقوم بها أو يقومون؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى تفرض علينا البحث عن موقعنا وعن موقع سوانا من تطور الحرية فنرى إن كنا ما زلنا بعد في غياهب العصور الغابرة والقرون الوسطى نحيا حرية الجماعة وحدها دون قبول لحرية الفرد وحرية الأشخاص؟ إن التحرير واجب على الشعوب كلها وهو حق من دونه لا كرامة ولا مكان لحرية. لكن التحرير لا يستكمل أبداً من دون تحقيق حرية الأشخاص وتكريس هذه الحرية وثقافتها بالفكر وبالممارسة. إنها قدر الأحرار يدعون شعوبهم وإخوانهم فرداً فرداً إلى كنه حريتهم وممارستها فيصير الإنسان فيهم ساعياً إلى اكتمال.
وإن كنا قد وصلنا في بلادنا إلى مستوى عيش الحرية الفردية عيشاً حقيقياً فإن هذه الحرية لا تستكمل بدورها ولا تصير أساساً للتجدد والإصلاح ما لم تحترم حرية الجماعة أيضاً وما لم تلتزم بالتوفيق بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة في آن. ومن الضروري القول في هذا المجال أن الجماعة قد تكون جماعة صغرى، عائلية أو طائفية، إلا أن ضمانة المصير الواحد تتحقق في تكوين الجماعة الوطنية الكبرى وفي ما هو أكبر منها أيضاً من جماعات إقليمية وكونية.
إننا نكبر عملكم أيها القيّمون على هذا المؤتمر الحضاري الثمين. ونكبر فيكم أيضاً التزامكم بفكر السيّد موسى الصدر وبتوجيهه الريادي الباقي في دنيا العرب وفي هذا الوطن الذي ما زال يفتّش عن أسس سليمة لانطلاقته حراً سليم الأوضاع بين أمم الأرض. فلقد دوى صوت الإمام عالياً في إحدى محاضراته في الجامعة الأميركية بعنوان "الإسلام وكرامة الإنسان" مذكراً أن الإنسان في رأي الإسلام "خليفة الله" على الأرض، هذا الإنسان الذي تقول عنه المسيحية أيضاً أن الله قد رفعه بالرحمة والحبّ إلى مرتبة التبنّي ليصبح مخزن القيم والكرامات. كما نقرأ للسيد الإمام في بداية الستينات وفي تصريح إلى جريدة القبس الكويتية تأكيداً: "بأن مسألة الحرية في لبنان شرط أساسي لبقاء صيغة التعايش فيه، وبالتالي لترسيخ وحدته"، ثم يتابع فيقول: "نحن متمسكون بقوة بالتعايش ونعتبره أمانة الله والإنسان بيدنا"؛ ويزيد أيضاً: "إن لبنان كبير بالحرية وصغير بدونها، مع العلم أن هذه الحرية لا يمكن أن تكون كما كانت أي حرية فوضى، أي إنها كما ذكرنا سابقاً في الموضوع عينه ستصبح حرية مسؤولة متصالحة مع حقوق المجتمع ومتآلفة والمصلحة العليا للجماعة بكليتها"، وينهي الإمام قوله الذي نتبناه: "بأن الحرية يجب أن تبقى صافية وللجميع، بعيدة عن التواطؤ والاعتداء مع غطاء الحرية". انتهى كلام الإمام.
فتعالوا يا أهل لبنان نتوّج فرح التحرير بفرح الحرية ونثبّت ثمار التحرير بعبقرية الحرية، محوّلين الحرية فينا إلى قوة عقلانية في سبيل لبنان أفضل وعروبة أفضل وعالم أفضل، على صورة أحلام الإمام الصدر بإنسانية مملوءة إنسانية، أي غير فارغة منها ولا خارجة عليها.
