البيان الختامي لمؤتمر كلمة سواء التاسع موقع الحرية في الاصلاح والتجديد صادر عن  مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات

calendar icon 06 كانون الأول 2004

نظّم مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات مؤتمر كلمة سواء التاسع بعنوان موقع الحرية في الاصلاح والتجديد، والذي انعقد في قصر الأونيسكو ببيروت يومي الخميس والجمعة 2 و3 كانون الأول 2004 بحضور ممثلي الرؤساء الثلاثة في لبنان، ورؤساء الطوائف الروحية أو ممثليهم، وحشد من الوزراء والنواب ورجال الدين والإعلاميين والباحثين وغيرهم من المهتمين.

استمع المؤتمرون في الجلسة الافتتاحية إلى كلمات العائلات الروحية، وإلى كلمة السيد صدر الدين الصدر عن مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، تلاها في اليوم التالي جلسات حول:

الحرية والاصلاح بين ضغوط الخارج وضرورات الداخل، تناولت الفرص والمعوقات في مشاريع الاصلاح في العالمين العربي والإسلامي، الحرية والتغيير السياسي، ثم الاصلاح من خلال مناهج التعليم؛

الحرية في مواجهة الآخر، تناولت الآخر المسلم في المنظور الغربي، الغرب في منظور المسلمين، ثم الحرية والغرب في رؤية الإمام الصدر؛

الحرية والتجديد، تناولت الحرية في الاجتهاد الفقهي، ملامح التجديد في الخطاب الديني، ثم ملامح التجديد عند الإمام الصدر.

تقع هذه العناوين في صلب اهتمامات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، وهو الحريص على توفير فرص حوارية تساهم في إيجاد الحلول لهموم الإنسان المعاصر، كما تشكّل استمرارية لمشاغل الإمام الصدر ولما تصدّى له من قضايا. لا سيّما وأن الأحداث والتطورات الراهنة تثبت الواحدة تلو الأخرى مصداقية ما استشرفه الإمام المغيّب وما حذر منه، إن لناحية تدهور أحوال الأمة إذا توانت عن تبنّي مشروع حضاري متكامل ومتماسك، أو لناحية ارتدادات العولمة ومضاعفاتها على الأمم والشعوب. وإذ يتشرّف المركز ويعتزّ بإسهامات شركائه من الباحثين والأصدقاء ومن المراكز البحثية التي تشاطره اهتماماته، يلفت النظر إلى توصيات مؤتمراته السابقة والتي تناولت في بعض محاورها جوانب من موضوع مؤتمره هذا. وهو يذكر تحديدا بالمؤتمرين الرابع(1999) حول الهوية الثقافية، والسادس(2001) حول حوار الحضارات. فقد عكست مداولات هذين المؤتمرين وما خلصا إليه من توصيات جملة عناوين ودعوات كانت بمجملها صرخة تحذير ونداءاً عاجلاً للتحرك في مواجهة الآتي من الأمور. ويجيء القرن الواحد والعشرون حاملاً إلينا الكارثة تلو الكارثة، وحامِلَنا من السيء إلى الأسوأ.

يكرّر المركز قلقه البالغ من تداعيات الوضع الراهن بكلّ مستوياته. بدءاً من التحدي الأكبر ذي الشقّين-الآن؟- الفلسطيني والعراقي، مروراً بتفاقم البطالة والعوز على مساحة الأوطان، وصولاً إلى تردّي الأوضاع السياسية والأمنية من ضفاف المحيط إلى ضفاف الخليج وعمق أفريقيا. والمقلق أن المخاطر تتعدّى الآن ضياع جزء من الأرض أو تدمير مدينة أو حفنة قرى، وتضرب في عمق المشروع الحضاري الإسلامي- العربي، الذي سيكون ضياعه –لا سمح الله- تبديداً جسيماً ليس فقط لمكوّن ركيزي من الحضارة الإنسانية وتاريخها، بل والأخطر أنه سيكون إهداراً مجنوناً لفرصة البشرية في صياغة مستقبل واعد تضمن تعدديته تجدده، وتغذي روحانيته حيويته ووجوده.

تناولت مداخلات الحاضرين الأبعاد المختلفة لأزمة الإنسان المعاصر عموماً، وأزمات المنطقة العربية والإسلامية تحديداً، لا سيّما وأنّها الأكثر تعرضاً والأكثر تخبطاً في محاولاتها لصياغة الحلول المناسبة، وفي مشاريعها الإصلاحية والتجديدية وموقع الحرّية منها. وقد تقاطعت معظم المداخلات عند التحذير من مغبّة الثنائيات وخطورة التبسيط والتعميم في مقاربة أي شأن كان: الغرب والشرق، وكلّ منهما تفكك إلى أكثر من دولة واتجاه؛ الأصالة والحداثة، وهذه وتلك تنطوي على مفاهيم ملتبسة ومدلولات متفاوتة؛ العلم والدين، وتصوير أحدهما كأنما هو نقيض للآخر؛ الجماعة والفرد، وتصوّر الحرية أسهماً قابلة للتوزيع بينهما؛ الحكومة والمجتمع المدني، وما يكتنف ترابطهما الوظيفي من مطبّات؛ معسكر الخير ومعسكر الشر، مع وضد.. وصولاً إلى آخر سلسلة المفردات التي تفعل فعلها في أذهان الناس انفصاماً وتطرفاً وضياعاً. ويتلاشى استخدامها على أنها مجرّد أدوات ووسائل لفهم الوجود والأحداث، لتستحيل غايات وقضايا قائمة بذاتها، لها محازبوها وأنصارها، ويضيع في سبيلها أفراد وشعوب وأمم. بينما تضيع القضايا الحقيقية والحقيقة، وهي المنتشرة عموماً في مساحة "الرماديات"، أي في ترابط العلاقات وفي مناطق الاعتماد المتبادل والتأثر والتأثير، وليس في ماهيات هذا القطب أو ذاك من المتضادات.

استعاد المؤتمرون طروحات الإمام الصدر ورؤيته للحرية والإصلاح، بصفته إمام التواصل بين حقبتين معرفيتين، وبين مخاضات زاخرة في إيران والعراق ولبنان، وإمام التواصل في دعواته إلى حوار الحضارات والتقارب بين المذاهب، وتحديداً مقارباته للآخر وللاختلاف وللحوار. ومنها تأكيده أن الإنسان هو مبدأ المجتمع والغاية منه، فهو مجتمع إنساني لا فردي ولا جماعي. ومنها أن الحرّية هي أفضل وسيلة لتجنيد طاقات الإنسان، وهي اعتراف بكرامة الإنسان وصيانة لها، وقتلها يتجاوز إلغاء محرّك التجدد إلى إلغاء الكرامة الإنسانية نفسها، مما يؤدي إلى تقزّم الفرد وبالتالي تقزّم الجماعة. كما استعادوا مفهومه للاختلاف وتوصيفه له بالنعمة التي تساعد الناس على الاجتهاد والتعاون والاتساق. وأكدوا على الأخذ بمنهجه الموضوعي في مقاربة الحضارة الغربية بماهياتها وبما ينتج عنها، وبضرورة تفحص كل تجربة على حدة والنظر في مدى ملاءمتها وفي كيفية مواءمتها مع حاجاتنا وتطلعاتنا. وخلصوا إلى نموذجه لفهم علاقات الإنسان بالدين والكون، وإلى أن عملية التجديد في الخطاب تقوم على العقل والمعرفة وعلى إدراك الارتباطات المؤسسية والشبكات الاجتماعية والسياسية، ومواقعها ووظائفها في كل مسعى للتجديد أو للاصلاح.

استناداً إلى ما جاء في أوراق الباحثين، وإلى مناقشات المؤتمر ومداولاته، واستمراراً لتوصيات المؤتمرات السابقة، يتوجّه مؤتمر كلمة سواء التاسع بالدعوات التالية:

يدعو الناس عموماً والعاملون في حقول الإعلام والمعرفة والتربية تحديداً، إلى التدقيق في المصطلحات والمفاهيم المتداولة، وتوضيحها ووضعها في سياقاتها. وذلك توخياً للفهم الصحيح، وإسهاماً في صياغة حوارات بناءة تؤول إلى مشاريع ومناهج متوافق عليها وقابلة للتنفيذ؛ وللمساهمة أيضاً في تشكّل صورة تحاكي الأصل سواءً كان "الأنا" أو "الآخر"، بكل الدرجات والاختلافات التي ينطوي عليها هذا وذاك؛

يدعو الوحدات الاجتماعية بدءاً من العائلة وصولاً إلى هيئات المجتمع المدني بأحزابه ونقاباته ومنظماته، إلى إطلاق عمليات التغيير والإصلاح عند المستويات القاعدية، إذ لن يغيّر الله ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم. بمعنى أن ثقافة الحرّية والديمقراطية والعدالة يتغذى عليها الطفل منذ الرضاعة، وتتبلور في ما ينطبع عليه من مسلكيات الأم والأب وعلاقاتهما، وتتجذر في المدرسة وأدائها وفلسفتها المرجو قيامها على الاستنباط والتحليل والتعليل، وتجد تطبيقاتها البديهية في صندوقة الاقتراع وطابور الانتظار واحترام البيئة؛

يدعو المكتفين بالحديث عن المعرفة ومستعملي أدواتها إلى مغادرة مواقع الدهشة والارتباك، وإلى التنبّه إلى كون الوسائل المعرفية وتكنولوجيات الاتصال والترفيه والانتاج تحمل فلسفتها في ذاتها. والدعوة إلى الاكتفاء باستخدام المنتجات الغربية وإلى نبذ سياقها الملازم وما فيه من جهد ونظم عمل وأفكار ومفاهيم، هي دعوة مفتقرة إلى مقومات الثبات والمصداقية والمنطق والعدالة وإمكانية التطبيق. وبما أن رفض المنتجات الغربية بالمطلق وقبولها بالمطلق هما أمران متطرفان وفي غير موقعهما لا بالقوّة ولا بالفعل، فإن البديل هو في التفاعل الإيجابي وفي التأثر والتأثير وفي الإسهام الفاعل إنتاجاً وتطويراً وابتكارا. وقد سبقنا إلى ذلك أمماً كثيرة شرقاً وغرباً عرفت كيف تنفتح بشجاعة وثقة، وحافظت على خصوصياتها وثقافاتها، كما فتحت للبشرية فرص التنوع والتجدد والاستدامة؛

يدعو الحكومات على امتداد بلدان الأمة، إلى استلحاق الرمق المتبقي والانكشاف على شعوبها ومكاشفتها في ورشة حوار داخلي جسور، وهادف إلى إبرام عقد اجتماعي جديد تتراجع معه سلطة الدولة لمصلحة هيبتها، ويرتقي فيه الأفراد من حمَلَة جنسيات إلى رتبة مواطنين؛

يدعو الأمم المتحدة والمجتمع الدولي واللاعبون الدوليون الكبار إلى كبح اندفاع الآلة الهائجة في كل اتجاه، آلة اجتياح الأفكار والعقائد والتقاليد والشعوب والأراضي. وإلى إعادة برمجتها وضبط نظامها بحيث يتم توجيه التركيز على الأسباب لمعالجتها في كلّ مكان وبالمعيار الموضوعي ذاته. ينطبق ذلك على ظواهر الإرهاب والاحتلال والإكراه والفقر والإيدز والمخدرات والتسطيح الثقافي والتدهور البيئي وغيره. إنّ مجرّد إعلان للنوايا الإيجابية حيال مقاربة هذه القضايا على أنها مترابطة تبادلياً كفيلٌ بكشف الغلاة والمتطرفين، وبإطلاق حوارات هادئة وناشطة تعيد للكرة الأرضية رونقها واتساقها.

يدعو الأحرار حيثما كانوا ويذكرّهم بأن الحرية مبدأ. وكأي حق من حقوق الإنسان، حق الحرية غير قابل للتجزئة أو للتصرّف أو للانتقائية. وإذا كانت الحريات الفردية إلى تراجع في كل أصقاع الأرض تقريباً ولاعتبارات ظاهرها مبرّر أو ممكن تمريره، فلقد أدّى غياب الحرّية بأبسط تجلّياتها في غير مكان وطوال العقود المنصرمة، أدّى إلى تمكن أنظمة الصوت الواحد وإلى إلغاء كل مختلف وإلى شيوع مخدرات التسليم ومسكنات الإذعان والاستسلام. كما اغتالت الأنظمة الشمولية روح المبادرة والإبداع على مذبح الرأي الواحد والقائد الواحد، وأبدعت في فنون الاستبداد والقهر والتهميش والإقصاء، الأمر الذي أنتج سجوناً ومعتقلات ومقابر جماعية وهزائم واستسلام، واستدرج احتلالاً وتورطاً وتطرفاً ومعضلة كونية مستعصية. لم تكن هذه الحصيلة المؤسفة بلا مقدّمات. ولا تشير ظواهر المستجدات إلى أنّ العبر جرى استخلاصها. إنّ جولة تصفية الحسابات التي أبرمتها أبرز الحكومات الغربية مع النظام الليبي تنذر بإمكانية عقد صفقات تقايض المصالح بالأموال على حساب المبادئ وشرعة حقوق الإنسان. والأخيرة لها صفات الإطلاق والثبات، وإذا كان ذلك النظام قد أفلح في تجميل صورته فإن معدنه ما انفكّ ينضح بروائح الاستبداد والتنكيل والخطف. والدليل المتوافر لدينا هو إمعانه في طمس قضية تجاوزت أشخاص الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وتجاوزت مشاعر طائفتهم وبلدهم وأمتهم. إنه المبدأ على مذبح الصمت المريب. إنه امتحان التثبت من العزم على تفادي إعادة إنتاج لوكيربي. إنّه المحكّ لتوحيد المعايير وشمولية المعالجة. إنّها الحرّية.

-انتهى البيان-

source