الآخر في حوار الحضارات

calendar icon 08 تشرين الثاني 2001 الكاتب:حسين كنعان

* مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات"
(كلمات الجلسة الثانية)

سيداتي سادتي، لا بد لي أن أبدأ كلمتي من مدرسة الإمام الصدر الذي انطلق في حركته ليخاطب الآخرين من خلال انسانيته ويحاورهم كي يلتقي معهم على القيم الانسانية التي تنادي بها كل الأديان السماوية بقوله:
" كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة الى الله وخدمة للانسان وهما وجهان لحقيقة واحدة، ثم اختلفت عندما اتجهت لخدمة نفسها أيضاً ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تنسى الغاية فتعاظم الخلاف واشتدت وازدادت محنة الانسان وآلامه".
دعوة الى الله من الناحية الايمانية وخدمة للانسان من الناحية العملية فالدين ايمان ومعاملة ومحبة، وهذا ما كان يعمل من أجله الامام الصدر. كان يرى بأن الآخر هو أخ له في الايمان واخ له في الانسانية والعيش المشترك. وما دام الأنا والآخر يحترمان حقوق بعضهما البعض ولا يسيئان الى معتقدات بعضهما بعضاً فهما يتحاوران بالحكمة والروية والكلمة الحسنة كما أوصت الآية الكريمة: ?ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتيهي أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين?. [النحل،125].

هذا هو الهدف وهذه هي الغاية ولكن للأسف هناك بعض المحللين والأكاديميين في عصرنا الحاضر لم يهتدوا بعد ويحملون في عقولهم نوايا سياسية هادفة ومغرضة من وراء كتاباتهم، يرمون بها الى التفرقة والعنصرية الدينية ليخدموا من جراء ذلك أغراضاً سياسية معينة تنسجم مع رغباتهم وعواطفهم .
انهم يوظفون الدين في خدمة السياسة حتى ولو كانت هذه السياسة غير عادلة وغير حكيمة. انهم يسعون لايجاد الهوة والفوارق بين الأديان والحضارات وبالتحديد الاسلام والحضارة الاسلامية بغير حق .
لقد نظروا في أبحاثهم ودراساتهم إلى صراع الحضارات بدل تلاقي وانصهار هذه الحضارات ببعضها بعضاً، وتخطوا بذلك أمانتهم العلمية وغاب عن ذهنهم بأننا عندما نتكلم عن الحضارة فإننا نتكلم عن حضارة انسانية واحدة تحوي في طيّاتها تراثاً عالمياً عظيماً وتراكماً ثقافياً هائلاً متواصلاً عبر التاريخ حققه الانسان وطعمته الأديان السماوية بالايمان والدعوة الى المدنية والعمران والتربية الصحيحة وهنا يقول الامام الصدر:
"فالسياسة والادارة والسوق والعمران، لأنها لم تكن مبنية على القاعدة الايمانية، بدأت تنمو بصورة غير منسقة، فتحولت الى الاستعمار والى الحروب والى التفتيش عن الأسواق الجديدة".
وندرك من هذا القول بأن أي تقدم لا يرتكز على قاعدة ايمانية وأخلاقية لا يمكن أن يصنع حضارة بل ربما باستطاعته أن يحقق حالة حداثة أو عصرنة أو مدنية أو تطور تكنولوجي وليس إلاَّ.
عندما تحدث صاموئيل هانتغتن عن صراع الحضارات كان بمنأى عن هذا المنحى الحضاري وهو يعتقد بأن الحركة الصناعية "مادية بحت" هي حضارة القرن ويريد من خلال ذلك أن يصور لامريكا وللغرب بأن الحضارة الاسلامية هي العدو الآتي من بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ويجب التهيؤ والتربص لهذا العدو المنتظر.
هذه ليست وجهة نظره وحده، فقد سبقه الكثير من الاكاديميين الذين ينتمون الى ما يسمى بالمدرسة الواقعية في علم السياسة أمثال هانز مورغانثو، ستانلي هوفمان، روجر فيشر وهنري كيسنجر وغيرهم فعندما تقول لهم بأن اسرائيل احتلت أراضي العرب بغير حق ويجب أن تنسحب بلا قيد ولا شرط يقولون لك دعنا نواجه الواقع فاسرائيل الآن على هذه الأرض والقوي والمنتصر يملي شروطه في اللعبة السياسية ويستحق "جائزة ما". وعندما طالب اللبناني استناداً إلى قرارات هيئة الامم بانسحاب اسرائيل من الجنوب اللبناني والبقاع الغربي كنا نسمع ذات الجواب وبسبب ذلك ترى بأن هذه المدرسة لا تشجع على حل المشاكل بالوسائل السلمية ولا على قواعد ومبادئ القانون الدولي وقرارات هيئة الأمم المتحدة بل تتركها عبئاً على المتقاتلين وعلى المجتمع الدولي.
أحد أقطاب هذه المدرسة الاكاديمي ريمون آرون يقول بأن ليس هنالك من حضارة الآن سوى الحضارة الغربية ويجب القضاء كلياً على كل من يفكر بمس هذه الحضارة الغربية ويجب القضاء كلياً على كل من يفكر بمس هذه الحضارة بسوء لأنها من تراث وأخلاقيات الدين اليهودي والمسيحي وهي الحضارة الاوروبية اليونانية الاغريقية التي يجب أن يقبل بها العالم لأنها متفوقة عن غيرها هذا ليستخلص بأن اسرائيل هي امتداد لهذه الحضارة ويجب الدفاع عنها من قبل أميركا والغرب بكل ما لديهما من قوة، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على اغلاق باب الحوار الحضاري وعدم الاعتراف بالآخر.
ولهذه الأسباب وغيرها يقول أمثال هؤلاء بأن الغرب والشرق لا يلتقيان، والاسلام من هذا الشرق، ولكن أصحاب المدرسة العقلانية والانسانية في الغرب يخالفونهم الرأي ويقولون لهم: افتحوا ابوابكم نحو الشرق واتجهوا نحو الشرق فإن النور لا يأتي الاَّ من الشرق فمن الشرق أتى الانبياء ومن الشرق أتى موسى وعيسى ومحمد. هذا الشرق العظيم لا يمكن إلاَّ أن يلتقي مع الغرب ولا يمكن أن تصب أخلاقياته إلاَّ في مجمع الحضارة العالمية والانسانية. ولا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يتحمل المسلمون والشرق معهم أوزار فئة موتورة متطرفة متهورة كتلك الفئة التي قامت بالأعمال البشعة والمشينة في الحادي عشر من أيلول.
فلا الاسلام بمبادئه ولا المسلمون يقرون بذلك الاجرام لا من قريب ولا من بعيد، فبأي ذنب قتل هؤلاء الابرياء في نيويورك وواشنطن.
إن التطرف لا يولد الاَّ التطرف، والتعصب لا يمكن أن يولد إلاّ العنف، بينما الأديان السماوية لا تدعو الاَّ للمحبة والرحمة والسلام. السيد المسيح "لا يجتمع حب الله مع كره الانسان" ولكن إذا كان هناك من يستعملون الدين لأغراض سياسية فيجب صدهم من أي جهة أتوا ولأي جهة انتموا، لان هؤلاء يركزون على التفرقة والعنف لتحقيق أهداف يصبون إليها، فلا علاقة لهم لا بالاسلام ولا بالمسلمين.

يقول البعض لو لم تستعمل المسيحية العنف لما انتصرت على روما ونيرون. انهم مخطئون لقد انتصرت على روما ونيرون بالمحبة وتعاليم السيد المسيح. ومن الطرف الآخر يقول البعض بأنه لولا القوة لما تحققت الغاية المرجوة بانتصار الاسلام على الكفار. انهم مخطئون فلولا الرحمة وكتاب الله وسنة رسوله لما انتصروا على أحد.
مهما يكن الأمر فبعد أن أرست الديانات السماوية المرساة واستقرت على ما هي عليه فإن هذه الديانات تطالبنا اليوم بالحوار الحضاري و "بكلمة سواء" والابتعاد عن لغة الحرب والسلاح والدمار خدمة للبشرية جمعاء. ويجب ألاَّ نوافق الذين يرون بأن الامن والنظام والقوة فوق الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وبأن الدبلوماسية يجب أن ترتكز على القوة وأن القانون الدولي ومفرداته أداة بيد الأقوياء يفسرونها ويعطونها التعريف الذي يشاؤون . هذه المدرسة في السياسة لا شك بأنها مغرضة تريد تقسيم العالم على أساس عرقي وديني ليصب هذا التحليل في خدمة اسرائيل. انهم لا يريدون أن يروا أو يسمعوا ما تفعله اسرائيل يومياً على أرض فلسطين من قتل للأبرياء والنساء والأطفال ولكن الله يرى وهو شاهد على ذلك بقوله:?من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً?. [المائدة،32].
هذا الفريق المغرض يهدف الى أن يضع المسلمين في خندق اللاعقلانية والارهاب فقد عمد الى تصنيف وتوصيف المسلم وخاصة العربي على أنه:
1- ارهابي يقتل باسم الدين ويعشق القتل دون قضية أو هدف دنيوي سوى الطمع في الجنة ومتاعها.
2- عربي تلفه عباءة البؤس والشقاء يجذف في الصحراء حافياً لا يفقه شيئاً عن الحضارة والرقي والتقدم الانساني . يعيش حالة قبلية بحيث لا تزال آثار داحس والغبراء في فكره يتأثر بالقبيلة ويغزو الآخرين طمعاً في السرقة والاغتصاب والنهب .
3- العربي هو ذلك الغني المسرف الذي يبدد المال بدون حساب. دأبه في الحياة لعبة الميسر والحريم والحرام وازدراء الآخرين.
4- عربي لا يفقه شيئاً عن عمل الخير وبناء المؤسسات الخيرية والاجتماعية.
5- عربي لا يفرق بين شعر امرئ القيس ومفهوم النظام والسياسة الخارجية.
6- عربي يواجه الأحداث بالغوغائية وعدم التبصر. لديه رصيد تاريخي كبير من العنتريات الصوتية. رجل لا يقر بالمنطق الوضعي.
ذلك كله لانه يعيش حالة اضطراب نفسي وسياسي في وطنه تدفعه الى حالة اليأس والعنف والارهاب .
وهنا يجب ألاَّ ننسى بأن الأكثرية من المفكرين الغربيين وخاصة الأميركيين قد كتبوا ومنذ أمد بعيد وبأسلوب حضاري عريق عن العولمة الانسانية غير المتوحشة وعلى رأسهم الأستاذ الجامعي كارل دويتش وقد وصفوا ذلك بالاندماجية العالمية International integration  وكتبوا عن التطور الديمقراطي وارساء القواعد الجيدة لبناء المجتمع الانساني واحلال السلام على كل أرجاء الكرة الارضية . وللوصول الى هذا الهدف السامي كتبوا الكثير من الدراسات عن تطوير المواصلات بكل أشكالها لخلق أواصر التفاهم والتعاون بين الشعوب. فاذا كان بينك وبين الآخر جدار يمنع حالة التواصل فان ذلك سوف يؤدي إما الى حالة الابتعاد وعدم التعاون أو حتى العداوة. ولكن إذا أزيل الجدار فيجب أن تتحول العلاقة الى تفاهم بين الناس واقامة حالة الاندماج والتفاهم والانصهار والتكامل العالمي وتضييق الهوة بين الأوطان والمجتمعات كي يتعاون الجميع على محاربة الحرمان السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم.
يقول بول كندي بأنه يجب أن نولي اهتماماً كبيراً لوضع كوكبنا برمته لا أن يكون منبع هذا الاهتمام ممثلاً فقط في أننا نواجه جدول أعمال جديد من المخاطر الأمنية كالدفء الكوني، والهجرة الجماعية, والحروب الاقليمية، والمجاعة واحتجاز الرهائن، وقتل الأبرياء، بل الانفتاح على الآخر بقلب كبير وأن نقرر جميعاً أن نظاماً دولياً مستقراً وحضارة انسانية خضراء على الكوكب الأرضي لا يمكن أن تتحقق في ظل انفجار سكاني كبير في العالم الثالث وانفجار تكنولوجي وعلمي يسير بسرعة هائلة في العالم الصناعي. إن هذا الواقع يحتم علينا أن نساهم في أي شكل من الأشكال في مجابهة المشكلة والعمل أولاً على الحد من عملية الانجاب وتنظيم الأسرة لتطويق الانفجار السكاني وثانياً العمل على تعميم العلم والتكنولوجيا والخبرة على الجميع حتى لا تكون لفئة دون أخرى، وبذلك تصبح جميع المسارات مفتوحة على بعضها البعض وتصب بالنهاية في النهر الحضاري العظيم. فالأنا والآخر هما روافد في هذا النهر شاؤا أم أبوا.
يقول شكسبير: "من الناس من يولد عظيماً، ومنهم من يصنع العظمة، ومنهم من تقتحم العظمة بابه". فالامام موسى الصدر هو ذلك كله كما عرفناه فكم نحن بحاجة اليه والى دوره على ساحة الحوار الحضاري ومخاطبة الآخر وخاصة في هذه الايام العصيبة التي تلفنا جميعاً.
يقول جبران خليل جبران "أمرُّ ما في أحزانِ يومنا ذكرى أفراح أمسنا".
إن أحزان غياب الامام موسى الصدر عن ساحة "كلمة سواء" تبعث فينا فرح ذكرى اليوم الذي وضع فيه مبادئ وميثاق حركة المحرومين على أمل قيامة لبنان العدالة السياسية والاجتماعية والانمائية.
فلمن تقرع الأجراس ولمن تعلو اصوات المدائن لغيره على ساحة الوحدة الوطنية.
فلو وقف الامام يسأل أين كل ذلك؟
وأين هي الوحدة الوطنية؟
وأين هي دولة النزاهة والاستقامة؟
وأين هي لغة الحوار في غير "كلمة سواء"
فلا جواب عندي ولعله عند غيري ولعلكم تعرفون.
وشكراً.

source