(مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات")
(كلمات الافتتاح)
باسمه تعالى نبدأ دائماً في أول السطور وعليه نتوكل وبه نستعين في جميع الامور، السلام عليكم أيّها الإخوة الحضور الكرام بمناسبة افتتاح المؤتمر السادس للكلمة السواء. وهذه السنة تحت عنوان حوار الحضارات بدعوة مشكورة وجهود تستحق الثناء والتقدير للسيدة الفاضلة رباب الصدر وجميع القيمين والمسؤولين عن مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، والإمام المغيب الذي بقي ذكره حاضراً في جميع الأذهان اليقظة.
وما أحوج هذا العالم المهزوز أن يلتقط أنفاسه في هذه الفترة الأصعب من تاريخه، ويوقف موجة الجنون وعاصفة العنف التي تجتاحه، ويعود لمنطق التعقل والحكمة والحوار الهادئ الصادق لمحاولة حل المشاكل المعقدة، بدل اللجوء لنزعة العنف ومنطق القوة والرد على العنف بالعنف والحقد بالحقد والإرهاب بإرهاب أبشع وأعنف وأكثر تدميراً وإراقة للدماء وتشويهاً لصورة الإنسان المخلوق على صورة خالقه، ليكون حقاً من عدله ونوراً من شمسه وشعاعاً روحياً جزئياً متصلاً بأصله الإلهي الأسمى فإذا به يعصى وينسى وينفصل عن أصله الروحي وينحدر من جنة القرب والسعادة بنور الحق والعقل إلى جهنم التيه والضلال والشقاء في ظلمة الباطل والجهل.
نعم أيّها الإخوة المؤمنون هذا ما حل بإنسان هذا العصر الذي تعب كثيراً في بناء حضارته لتكون له نعمة شاملة، فإذا بها تتحول فجأة إلى ما يشبه النقمة الكاملة، بعد أن تمت بسرعة وتطورت وتقدمت كثيراً وخصوصاً في النصف الثاني من القرن الأخير، وهي تتآكل اليوم بسرعة فائقة في مطلع هذا القرن وتضع العالم على فوهة بركان ينذر بالانفجار المدمر والنار المحرقة، التي تأتي على الأخضر واليابس من ركامها وحطامها الدنيوي الفاني، موضوع الصراع والنزاع الدامي والمآسي والويلات والحروب والقتل والتشريد والظلم والجور الذي ملأ الأرض هنا وهناك وفي كل مكان، إنها حضارة العولمة المترنحة للسقوط بسبب هشاشة بنائها المؤسس على الرمال المتحركة للمصالح والغرائز والمطامع والأغراض المادية المتقلبة، وليس على صخرة المبادئ والأخلاق والقيم الروحية الثابتة.
وهكذا يغرق عالم العولمة المزيفة في بحر الفوضى والمآسي والشرور وتضربه موجات الأحداث المتلاحقة التي تتحدث عن نفسها كل يوم بوتيرة تصعيدية واندفاع جنوني بالعربة الكونية نحو الهاوية، نتيجة انفراد الحصان الأسود بقيادتها ممثول الطبائع الضدية الغريزية الشيطانية بغياب الحصان الأبيض ممثول الطبائع الولية العقلية. ومع غياب العقل القائد والربان الأمين للوصول بالعربة والسفينة إلى شاطـئ الأمان يتفاقم الداء ويعز الدواء وتضج الأرض بطغيان وغرور المتسـلطين، وتخترق جرثومية الفساد والتعفن والاهتراء أعماق الجسم الكوني وتقصر المعالجات التقليدية عن الاصلاح وإيجاد الحلول، والأمور سارية في المجهول، وكأن القدر هجم لإظهار العبر وإفهام بني البشر أن الحق يمهل ولا يهمل، وقد أمهل الإنسان الذي حمل الأمانة وكان ظلوماً جهولاً عبر دورة العصور والدهور وصولاً إلى هذا العصر وهذا الجيل، جيل حصاد مقدمات الأعمال، بعد امتداد فترة الإمهال حيث أصبح ?العصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر? [العصر]. ?ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم? [الرعد،11]. فما هو التغيير المطلوب ومن أين تبدأ مسيرة التغيير الذاتي للفرد نواة الأسرة والمجتمع والعالم؟
نعم أيّها الإخوة من هنا تأتي أهمية الحوار والتركيز على اليقظة والإيقاظ وحفظ التوازن ساعة انحناء الطريق وتمايل الأرجوحة العالمية، وتأتي أهمية صحة وسلامة الرؤيا الذاتية في صفاء المرآة العقلية، ليتعرف الإنسان على حقيقة نفسه، أي انسان كان اينما كان ولأي دين أو شعب أو حضارة انتمى بهويته الدنيوية التقليدية فهو في هويته الروحية الأصلية إنسان الروح والنفس الآدمية الواحدة منذ بدء التكوين في رحلة تغيير الجلود والأقمشة عبر الدهور والعصور هو هو، يتقلب في مظاهر تعدد الهويات والانتماءات للأديان والطوائف والحضارات والشعوب والأمم المتعددة، مع بقاء حقيقة جوهر هويته الروحية الأصلية الواحدة كما أوضحت ذلك آية كتاب الخلق والإبداع. ?ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة? [لقمان، 28]. ?ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون? [الذاريات،56] (أي ليعرفون).
ومن هنا أيّها الأخوة تأتي أهمية وقدسية المعرفة للحق والحقيقة في سر نعمة الأديان السماوية والوصايا الإلهية والدروس المتعاقبة لهداية العائلة البشرية وجمعها على مائدة الكلمة السواء كلمة الحق والحقيقة التي يعشقها الإنسان إذا عرفها، ويأنس بها أو ينفر منها ويعاديها إن جهلها، لأنه بطبيعته عدو ما يجهل. وبذلك نطق صاحب إشراق الشمس العيسوية في وصيته "اعرفوا الحق والحق يحرركم"، ومن بعده أوضحت آيات الفرقان المبين ما آلت اليه حالة جهل العالم للحق وهو أقرب إليهم من أنفسهم وهم لا يشعرون، في قوله تعالى ?ولقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون? [الزخرف،78]. وهذا الكره للحق والتكبر والتجبر والغرور والكفر والعصيان وفقدان الإيمان ومصادقة الجن للجنون وطغيان الظلمة واختفاء النور هو سبب ترنح السفينة الكونية على وشك الغرق والهلاك في بحر المآسي والشرور، وهنا تأتي أهمية ما يمكن أن يسمى قوارب النجاة أصحاب الهمم وأئمة الهداية ومصابيح الطريق المستقيم مسلك العبور السليم للشعوب والأمم، وهم النخبة الخيرة الواعية أهل الذوق أبناء الحياة أحباب المحبة والارتقاء وصدق الإيمان وقوة اليقين المرتبط بجوهر الدين وقوة الثبات والاثبات إيماناً بالحق وبإمكانية تحقيقه بقدرة العزيز القدير، لأن الحق هو قانون الوجود وهو النور الذي جاء إلى العالم فأحب الناس الظلمة أكثر من محبتهم للنور كما قال السيد المسيح (عليه السلام)، وعندما تضاء شمعة شمس النور يتلاشى الظلام ويلغى الكفر والتلحيد بعودة إشراق التوحيد وهو المعنى الأسمى لقوله تعالى ?ان الدين عند الله الإسلام?. ومن هنا ينجح حوار الحضارات ويأتي ثماره في حال الارتقاء الذاتي وامتلاك شجاعة الصراحة والصدق وصفاء النوايا والنطق بالحق والتحرر من قيود الانتماء الأدنى المادي للأنا الطائفية والمذهبية والدينية التقليدية المحدودة إلى الانتماء الأسمى الروحاني اللطيف لهذه الأنا الإنسانية الآدمية الكونية اللامحدودة. ولعل انطلاق مسيرة العولمة الروحانية لهذا الكون تبدأ من لبنان وتكون مشيئة مقدرة وحكمة مدبرة بتدبير العزيز القدير المبدي المعيد الفعال لما يريد، بوضع سره في أضعف خلقه. وكما كان لبنان بوحدة شعبه ومقاومته وسر كينونته سبباً لإسقاط مقولة التفوق المطلق للقوة الصهيونية لعله يكون بما فيه من كنوز القوى الروحية سبباً مؤثراً في إسقاط مقولة العولمة الصهيوينة الأمريكية ليعلم العالم في أربع زوايا هذه القرية الكونية الغارقة في مستنقع الكره والصراع والتناحر والدمار طريق المحبة والتفاهم والتعايش والحوار والسلام، فتنتصر قوة الايمان وتنحدر إلى الشلال المرسوم والأجل المحتوم لغة الشر المبطن بالحنان.
وهنا يأتي التحدي الكبير وتضاء شمعة النور وتبدأ مسيرة التغيير المنتظر بسقوط الأقنعة عن الوجوه البشعة أينما كانت، بمختلف اشكالها وأحجامها ومواقعها، لأنها تشكل بمجملها بشاعة وجه الشر المقنع بالخير فيزول خطره المزمن عند انكشافه وتعريته من الاختباء وراء الشعارات والتمويهات، وتشرق الحقيقة بالوجه الأجمل، وتصبح طريق الحق والخير موجودة وواضحة أمام الجميع رغم أنها تبدو حالياً شبه خالية لاشتداد عتمة آخر الليل التي تسبق طلوع الفجر، فجر عودة إشراق شمس اليقين في نفوس المؤمنين المحقين بالقدرة الربانية والعزة الكونية، من هذه الأرض المباركة من لبنان وسوريا والجولان وفلسطين والقدس محطة التركيز والاهتمام تتم عملية التحرير بإرادة العزيز القدير، وتنهض الهمم ويرجع القِدَم وتُستجمع قوة الحقيقة لإحقاق الحق ولو كره المعاندون وتستيقظ العقول وتقوى القلوب بالمحبة الحقيقية وتصبح محلاً لظهور أسرار الأحدية وبروز جواهر الهوية الأصلية، وينطلق اللسان الروحي يطلب المعنى الأشرف لأسرار الآيات والوصايا والرسالات والحضارات، وكلمة الحق السواء التي بشر بها كل الرسل والأنبياء وكأنها خرجت كلها من فم واحد لغرض واحد في هذا الكون الواحد. ولا تُكشف معاني تلك الكلمة الأزلية وأسرارها الكامنة بين السطور وتظهر بغير حجاب إلا لأولي البصائر والأبصار أبناء النور عبر الدهور والأعصار ذوي النفوس المليئة بالمحبة والرضى المطمئنة بسلام نور قدسيتها وبجمال كمال إنسانيتها.
ولا تدور الدائرة الكونية وتتسارع الأحداث وتتصارع الدول والأمم والشعوب والحضارات في هذا الزمن الذي ساء بشدة وظهرت بشاعته وبلغت ذروتها في خضم هذه العولمة الفوضوية المموهة بأشكال منوعة وألوان مزخرفة، كمحاربة الإرهاب والقضاء على الشر والفتنة وغير ذلك من الشعارات الكلامية الإعلامية المنشطة بفيتامين الاستفزاز والاستحفاف بكل القيم والمفاهيم، وبالتالي العبث بنظام هذا الكون ومحاولة التحكم بمصير الشعوب والأمم وظلمهم وقهرهم وسلب حرياتهم واستباحة دمائهم وأرضهم ومقدساتهم كما يجري في فلسطين وأفغانستان وغيرها من مسلسل التسلط والإرهاب الصهيوني الأميركي الذي يرعب الكون ويحاول تصنيف المدافعين عن أرضهم وحقوقهم بالإرهابيين، وبالتالي محاسبتهم ومعاقبتهم وظلمهم بغير حق. ونسوا قدرة الخالق على فتح دفاتر حساباتهم وصفحاتهم السوداء ليذوقوا بأس ومرارة ما صنعته أيديهم وجَنَتْه نفوسهم الأمارة بالسوء كما قال سبحانه في كتابه المبين ?يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً? [الطارق،15-17] ?وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وانشأنا بعدها قوماً آخرين? [الانبياء،11] وهكذا صرعة أهل البغي تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون فلينتظروا قليلاً إنا منتظرون وسيعلم الظالمون أي منقلب سينقلبون.
وفي الختام أيّها الإخوة طابت أوقاتكم وامتلأت قلوبكم بصدق الإيمان وصدق الحوار الراقي الصريح الشجاع لكشف الغطاء والاستضاءة بنور الكلمة السواء ليقظة الأمة بإيقاظ واستنهاض قواها الروحية للانتصار في المعركة النهائية معركة الصمود والثبات والصبر حتى تحقيق النصر.
والسلام عليكم وعاشت أصحاب القلوب العامرة بالإيمان أهل الذوق أحباب الحق أمة الأخوان وأخوة الأديان قوة الثبات والإثبات وتحقيق الإمكان في قدسية المكان وعشتم وعاش مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، وعاش لبنان.