* ألقاها المطران بولس مطر
(مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات")
(كلمات الافتتاح)
أيّها الأحباء،
للمرّة الثانية في خمس سنوات أحظى بشرف تكليفي من قبل صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس صفير بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكلّي الطوبى لأحيّي باسمه القيّمين على مركز الإمام موسى الصدر الكرام في يوم افتتاح مؤتمرهم الذي يقيمونه لهذا العام تحت عنوان "حوار الحضارات". وإنّي لأنقل اليهم في هذه المناسبة أسمى مشاعر التقدير والمحبّة التي يكنّها غبطته للسادة المنظّمين وللمشاركين في هذا المؤتمر الذي تعالج فيه قضية من أهمّ قضايا الفكر والحياة لتعلّقها بمستقبل التلاقي بين الناس في مواجهة مصيرهم الإنساني الواحد.
ولقد أردتم تسليط ضوء المنطق والعقل والإيمان القويم على موضوع "الحوار بين الحضارات" وقد يطرح نفسه على العالم في لحظة حاضرة من الدهر يكاد يسيطر عليها غيم داكن من الجنون بما راح ينذر بشرّ مستطير يقوّض أركان الحياة الإنسانية برمّتها. ففيما المخلصون من قادة الرأي في هذا الوطن العزيز، وفي مقدّمهم أولئك الذين يحملون في قلوبهم وعلى أيديهم التراث الروحي والوطني والإنساني للإمام موسى الصدر، وفيما العالم يتطلّع في بداية ألفية جديدة من تاريخه الى أيّام تحمل اليه برداً وسلاماً وتقارباً بين أبناء الأرض، راح يطلّ على الدنيا شبح رهيب قاتل من بغضاء ينذر بالشؤم وبالفناء، ويهدّد لا الاستقرار العالمي وحسب بل المرتكزات التي يبنى عليها كلّ رجاء بغد أفضل لناظريه، من أقصى الدنيا الى أقصاها.
ولقد أعطي هذا الشبح اسماً هو الصراع بين الحضارات، كما أعطي أباً وأماً بشخص واحد من أنبياء الشؤم ومخيّلته السوداء وهو الكاتب الأميركي صاموئيل هانتنغتن الذي وظّف قلمه للتهويل بتصادم مقبل بين الشعوب يقعون فيه بدعوة من حضاراتهم بالذات لأنّها وقد أصيبت بداء العداوة في ما بينها على حدّ زعمه لتضرب الناس في ما كانوا اليه يأمنون.
وإنّ أشدّ ما يؤلم في هذا النداء الذي ترفض الضمائر والآذان حتى سماعه، أنّه بدأ يلقى بعض الآذان الصاغية أو راح يلوّح في الآفاق بانتقال محتواه الى حيّز التحقيق عبر أحداث وأحداث مضادة يشهدها العالم وهو لا يريد في قلبه إلاّ أن تعود أخطارها خائبة من حيث أتت وأداً لفتنة عالمية تطلّ من مهدها، ورفضاً لتهديد المكتسبات الإنسانية والحضارية بالتداعي والانهيار. وكم يملي علينا الواجب في هذا المجال بإلقاء تحيّة الإكبار للروح الوطنية
الجامعة في لبنان وقد صارت هي الردّ الأوّلي والمباشر على دعوات السوء هذه بإبراز الحوار اللبناني بين الحضارات نوراً يجلي ظلام المرحلة التاريخية التي نواجهها وطاقة بناء عالمي للنفوس فيما تعمل المعاول على هدمها ونشر ألوية الخراب فوق مدائنها.
ومن قال أنّ الحضارات هي للتصادم وللتفاني، وبخاصّة منها الحضارة المسيحية الداعية أصلاً الى الحب والإنسانية الموحّدة على الخير والصلاح والحضارة الإسلامية التي ترفع ألوية العدل بين الناس وتدعو الى الرحمة والسماح؟ وهل من خوف يكمن مع الحضارات هذه وحتى مع سواها إلاّ بفعل انحراف أبنائها بها عن أصول الدين الذي ألهم اليها أصلاً ورعى مسيرتها نحو تحقيق ذاتها في التاريخ؟ وهل التناقض يأتي من الإلهام الإلهي أم هو ناجم في كلّ حين عن قساة القلوب من الناس وغلاظ الفهم وعن السالكين في طرق مغايرة لطرق الهدى والنور؟ لقد تعوّدنا أن يتّهم الناس غيرهم في ما هم فاعلون من سوء. أمّا أن يتّهم الله بالذات في تقويض حياة البشر وآمالهم بالحياة فإنّ ذلك هو الكفر الأكبر والشر الأدهى.
ولكنّنا أمام واقع مستجدّ أسود هو واقع الحرب الأخيرة المطلّة علينا في مطلع هذا القرن الجديد. وهي قد حصدت مع لحظة اندلاعها آلاف الأبرياء وما تزال تحصد مثلاء لهم في كلّ يوم، أضف الى ذلك أنّ للحروب كلّها ميزة ثابتة هي سهولة المعرفة لكيفية بدايتها واستحالة التصوّر لكيفية نهايتها. وسواء أطلقت على هذه الحرب تسمية الإرهاب والإرهاب المضاد أو أيّة تسمية أخرى يريد أصحابها اطلاقها عليها، فإنّ الحرب تبقى في ذاتها انحرافاً عن الحضارة وعن المسيرة الإنسانية لا تعبيراً عنها أو تفعيلاً لها. إنّها هي المشكلة دوماً وليست الحلّ لأيّة مشكلة على الإطلاق وهي الأزمة وليست الطريق للسيطرة على الأزمات. وفي زمن راحت فيه الأبراج العالية تهوي من حيث لا يتوقّع لها أصحابها هذا المصير، قد يكون من المفيد لنا جميعاً أن نتذكّر مصير أول برج تحدّث عن رفعه التاريخ الديني وعن سقوطه مهدماً على أصحابه ألا وهو برج بابل. وقد روى عنه الكتاب أنّ رافعيه أرادوا بتشييدهم له تنصيب أنفسهم آلهة قادرين في وجه الربّ القدير وحده فهوى فوق رؤوسهم وسحقهم وانقلبت قوّتهم وبالاً عليهم ومصاباً كبيراً. واستكمال التذكّر لهذا الحدث يبلغ بنا الى النتيجة الحاصلة من جراء سقوط هذا البرج وهي بلبلة الألسن التي ما عاد الناس معها يفهم أحدهم كلام الآخر ولا لغته ولا نواياه. لأنّ لغات الناس تباعدت ولم يعودوا يعرفون سبيلاً للتخاطب وللتفاهم فيما بينهم وهم لن يعرفوا الى ذلك سبيلاً ما لم تتحوّل عندهم كلّ كلمة سيئة الى كلمة سواء.
وما من شك في أنّ أسوأ أنواع التخاطب هو الذي يلجأ فيه أصحابه الى الحديد والنار. وليس من المنطق في شيء اعتبار سلاح الأقوياء سيفاً مسنوناً للحقّ لأنّه سلاحهم ووسيلة الضعفاء محكومة بالباطل لأنّها وسيلتهم. وإنّنا لا ندين حرب الإرهاب أو أيّ شكل من أشكاله، خاصاً كان أو عاماً فحسب، بل نرفض كلّ منطق الحروب ولا نرى في أيّة منها طريقاً سليماً لحلّ المشاكل بين الناس أو دواء ناجعاً لإدواء العلاقات التي تقلّبهم الواحد على الآخر. فالإرهاب له أسبابه القريبة وهي اليأس يصيب القلوب فيحجّرها وتعطيل يطال العقول فيفقدها صوابها. إنّه في الأعماق جرثومة خبيثة تنبت في بؤر الظلم والظلام. ولا يتمّ الشفاء الحقيقي منها عبر الكيّ الخارجي لمظاهرها بل هو بحاجة الى استئصال العوامل التي أدّت الى توليدها في الأجسام. ونحن هنا مسيحيين ومسلمين نرفض الإرهاب غاية ونرفضه وسيلة لإحقاق أيّ حق، لأنّ الحق والإرهاب لا يلتقيان، ولكنّنا أيضاً نرفض ظلم المظلومين وقهر المقهورين على شاكلة ما يجري في فلسطين حيث لم ينل الظلم حقوقاً وطنية وقومية لشعب صابر وحسب بل تعدّاه ليطال في أبنائه أبسط الحقوق الإنسانية والكرامات.
وإنّنا لن نقبل أبداً أيّ عنوان لهذه الحرب المشؤومة يتضمّن دمجاً خاطئاً بين الغربيين والمسيحيين أو دمجاً خاطئاً بين الإرهابيين والمسلمين. ونتّخذ من هذا اللقاء لمركز الإمام الصدر عنواناً إسلامياً مشرقاً للحوار الإنقاذي للحضارة الإنسانية الشاملة ممّا يتهدّدها من أخطار، كما ندعو الغرب المصلحي والمادي للعودة الى أصول دينه عوضاً عن ابتعاده عنها على ما بدأنا نشهد اليوم، ونستصرخ الناس جميعاً في ضمائرهم ولا سيّما المسؤولين عن قيادة هذا الكون أن يتّقوا الله ويتوبوا اليه، وأن يلجأوا عوضاً عن التصادم الى الحوار بين الحضارات. وهو حوار ترفعون هنا بيض راياته مثالاً حياً وشهادة للمعتبرين. ألا بارك الله مقاصدكم وشرّف غاياتكم بتأييد من عنده ولكم منّا جميعاً أطيب الدعاء.