(مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات")
(كلمات الافتتاح)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين اتبعوه بإحسان وعلى جميع أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين.
أصحاب السعادة والفضيلة والسماحة ... أيها الحفل الكريم ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
يسرنا أن نلبي دعوة مركز الإمام السيد موسى الصدر للأبحاث والدراسات إلى جلسة افتتاح هذا المؤتمر السادس حول حوار الحضارات شاكرين للأخت السيدة رباب الصدر رعايتها هذا المؤتمر لأنه فرصة طيبة لمناقشة قضايا مهمة والبحث عن الحقيقة في خضم هذا التراكم الفكري والثقافي الذي يسود عصرنا الحاضر.
من على منبر كلمة سواء ندخل في حضرة الإمام، هذا الإمام الساكن في إنسانيته، الناطق بالحقيقة حقيقة الإسلام السمح ذو البعد العالمي والذي جذب في فكره وأطروحاته كل طالب معرفة...
إن البحث في حوار الحضارات يستدعي الوقوف على تاريخ الحضارات في تكونها ونشأتها للوصول إلى اكتشاف طرائق الوعي لدى الحضارات، ومن خلال قراءتنا للتاريخ نجد أن اللقاء والتفاعل بين الحضارات قد تم وتحقق وفق مشتركات إنسانية أقامها أهل هذه الحضارات وارتضوا الالتقاء ضمن دوائرها يجمعهم الحوار، حوار الإنسان للإنسان لأنه من النوافذ الأساسية لبلورة هذه المشتركات وإخراجها إلى الواقع العملي. هذا الحوار لا يدعو إلى المغادرة من موقع التنوع والتعدد إنما هو احترام لخصوصيات الآخر واكتشاف في الوقت نفسه للمساحة المشتركة والانطلاق منها إلى النظر في كل الأمور وديننا الإسلامي أراد للإنسان أن ينطلق ويفتح أبواب التعارف والحوار على قاعدة العالم بالفكرة لا الجاهل لها ?ها أنتم هولاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون? [آل عمران،61]. فالإسلام يدعو للتثاقف والحوار والانفتاح على بقية الثقافات بالحجة والموعظة الحسنة. وان العلماء المسلمين وهم يتواصلون مع نتاج الحضارات الأخرى كان رائدهم في ذلك البحث عن الحقيقة والمعرفة والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها.
لقد تشربت العقيدة الإسلامية النتاج الذي قدمه ميراث العالم القديم بعد أن أصبح متوفراً باللغة العربية فأدى ذلك إلى قيام مدارس الفلسفة والعلوم التي سيطرت على أفق الحضارة الإسلامية نتيجة لتطبيق مبادئ الإسلام على أشكال المعرفة المختلفة التي ورثها المسلمون عن الشعوب ذات الحضارات العريقة. فإذا كانت الأبواب قد شرعت للتجارب الإنسانية فإن الحذر بل والرفض للفلسفات والمعتقدات المخالفة للمعايير الإسلامية كان موجوداً إن في السياسة أو في الاجتماع أو في الدين. فإذا كان على كل أمة أن تؤثر فعليها أن تبلور مشروعها الحضاري وتخرجه من غربته ليعم العالم وذلك وفق الربط بين الواقع وثوابت كل حضارة، وليس أمام المسلمين من وسيلة لهذا الربط غير الدين الإسلامي الحنيف الذي أولى عناية فائقة لشحذ عقل وفكر الإنسان تجاه ما يحيط به من موجودات ومخلوقات وسنن كونية وتجاه نفسه، فالإنسان في المفهوم الديني لا يعد كائناً سلبياً بل هو فاعل إيجابي يتأثر بما يجري حوله ويؤثر فيه. ولإن ثقافتنا الإسلامية وعبر تاريخها المديد أثبتت أنها ثقافة حوار وتواصل تداخلت مع الثقافات الأخرى فأخذت منها وأعطتها واستفادت من العلوم المختلفة وأفادتها وأسهمت في رفد العديد من الحضارات الأخرى بالعلم والمعرفة، ولقد استطاع الدين الإسلامي بأفقه العالمي أن يؤسس قنوات لتفاعل إيجابي مع مجتمعات متنوعة دون أن يفرض نفسه عليها قسراً أو عنوة. وقد أسس مبادئ تقوم على الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن ورفض الاكراه في الدين والعقيدة، وباعتبار أن الأمة الإسلامية شاهدة فإن حالة الإشهاد هذه تفرض حضوراً دائماً في هذا العالم ?وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً? ]البقرة،143].
فالإنسان المسلم مناط به الاهتمام بالشأن العالمي والتبشير بقيمه وأفكاره والكشف عن إنسانية وعالمية الحضارة الإسلامية، والعالمية في المفهوم الإسلامي نزوع إنساني وتوجه نحو التفاعل والتساند بين الأمم والشعوب، وهي ترى العالم منتدى حضارات يجمعها المشترك الإنساني العام، وجاءت عالمية حضارة الإسلامية كثمرة من ثمرات عالمية الرسالة التي شاء الله أن يختم بها شرائعه إلى الإنسان. وقد تحدث القرآن عن هذه العالمية بقوله تعالى ?وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين? [الانبياء، 107].
العالمية في المنظور الإسلامي تعني حب الإنسانية وهي ضرورة إنسانية لأنها تجسد وحدة النوع البشري وترفعه عما سواه، وتنسجم مع الفطرة البشرية. والخطاب القرآني جاء إلى الناس عامة ?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم? [الحجرات،13]. فهذه الآية تؤسس لعلاقات بين الأمم والحضارات على قاعدة التعارف (لتعارفوا) وليس على أساس النزاع والصدام والإلغاء فلا يكون الاختلاف دون التعاون في سبيل الخير الإنساني العام.
وعملاً بهذا النداء الإنساني قام النبي محمد (ص) بعد هجرته واستقراره في المدينة المنورة (يثرب) بمعالجة إنسانية متطورة لعلاقة بين التكوينات الاجتماعية والسياسية الحديثة العهد بالإسلام، من خلال دستور عرف بصحيفة المدينة جاء بشكل اتفاقية مبرمة بين فصائل سكان يثرب على اختلاف أصولهم العرقية وعقائدهم الدينية من أجل أن تصبح المدينة حرماً آمنا للتعايش السلمي في ظل احترام جميع العقائد. والإسلام ركز في تعاليمه عل قيم مثالية خيرة ستبقى بإذن الله عالمية في المطلق يطبعها الثبات والسماحة والتسامح. وفي طليعة هذه القيم العدل والمساواة ومناهضة العدوان والظلم والارتفاع بالإنسان إلى مستوى السمو والحد من استبداده وتعسفه. ولقد ترسخت هذه القيم عبر دعوات الإصلاح التي نادى بها الإمام المغيب السيد موسى الصدر ونذر نفسه لها وكانت عنده تنطلق من منظومة فكرية متكاملة ذات بعد عالمي يسكنها الهم الإنساني معتبراً أن التحديات التي تتعرض لها ثقافات الجماعات تدفع بها إلى الانغلاق على نفسها رافضة الآخر الثقافي، ولكن المطلوب في نظره ليس الانكفاء وإنما الانفتاح الذي يقوم على الحوار والتواصل والمثاقفة.
من هنا تميز مشروع الإمام الصدر الثقافي بأنه ينطلق من الانفتاح على الآخر والقرب منه ومحاورته والاهتمام بالإنسان أولاً وأخيراً. وقد عبر عن ذلك في أكثر من مناسبة سواء أكان ذلك في داخل لبنان وعبر لقاءاته الفكرية مع جيل الندوة اللبنانية التي أسسها ميشال الأسمر والتي أغنت ميادين الحوار الإسلامي المسيحي أو في خارج لبنان عبر لقاءاته الصحفية التي عقدها في أكثر من بلد غربي، ولا سيما مؤتمره الصحافي في المانيا1970، حيث أعلن فيه إيمانه بالتفاعل والتكامل بين الشرق والغرب. وقد أسس السيد الصدر ثقافة شعبية مقاومة وكان يعتبر أن مشروع الهيمنة الصهيونية يطال العمق الثقافي والحضاري لأمتنا ذات التراث الإنساني الضخم، لهذا دعا إلى التمسك بهذا الحصن المنيع لأنه سلاح مقاومة الذاتية. وكان يعتبر أن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع إرادات وهويات وهذا هو أصل المسألة ومصدر الخطورة في معركتنا مع الكيان الصهيوني.
إذا كان العالم قد رحب بفكرة حوار الحضارات إلا أن الاختلاف على الأسس والأدوات بقي واضحاً وخاصة مع إصرار الطرف الأقوى على التمسك بالهيمنة، فتحولت الجهود إلى البحث عن أسس عادلة تكفل مسيرة الحوار وترعاها ومن ضمنها مبادئ العدالة والمساواة والاعتراف بالغير على قاعدة الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات بعيداً عن النظرة الأحادية الإلحاق أو الاستبعاد.
إن مسيرة الحوار (حوار الحضارات) تحتاج إلى حضور ونقد دائمين لكي نطبعها بطابع التجديد المستمر والاختبار الواسع وعلى جميع المستويات والصعد. وإذا كان هناك من أزمة في الحوار فهذه ناتجة عن تحديات وأطروحات مسرحها الأفكار والدول والنظم. وهذه الأزمة هي ردة فعل لشرارة صدام الحضارات التي انطلقت من بعض مفكري الغرب. ولأن الحوار هو منهج للوصول إلى معرفة الآخر على قاعدة التواصل والالتقاء لا على قاعدة الصدام والإلغاء التي يريدها هؤلاء المفكرون أصحاب الرؤية القاصرة غير المتخصصة في فهم ودراسة التاريخ تاريخ الحضارات وصيرورتها.
إن مشروع حوار الحضارات يجب أن لا يقطع الصلة بالماضي لأن حواراً كهذا لا يستدعي التاريخ والتراث، لن يكون حواراً للمستقبل على الإطلاق فالطريق إلى حوار الحضارات هو معرفة التاريخ نفسه. ويجب نقل الحوار إلى أفق عالمي وتفعيل دور المؤسسات الثقافية والإسلامية إقليمياً ودولياً في هذا المجال ويجب أن لا تبقى مسألة الحوار وكأنه حوار بين تكتلات اقتصادية وسياسية يرهن مستقبل الحوار ضمن ما يطرأ من تحولات على هذه التكتلات.
وإن تبني الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمشروع حوار الحضارات وكذلك اليونسكو يجعل من هذا المشروع غير منحصر في البعد الثقافي فقط بل يتعداه إلى البعد السياسي، وهذا ما بشر بأن مشروع حوار الحضارات ينطلق إلى أفقه العالمي ويجب أن ينطلق وفق مبادئ العدالة واحترام حقوق الإنسان ضمن الدعوة إلى شراكة معرفية مع الآخر تقوم على الاعتراف بخصوصية هذا الآخر وليس على آليات تبرمج لعلاقة بين تابع ومتبوع ...