مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات"
(كلمات الجلسة الثالثة)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى خاتمهم سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا وشفيع ذنوبنا ابي القاسم محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين ومن اتبعهم بإحسان الى قيام يوم الدين.
حينما نقول حواراً، هذه الكلمة من المقلع الجميل ككل نظائرها حوار وحَوَر وحورُ عين وحوريون وحواريون. هذه الكلمة بالذات احدى المناشط للذهن البشري ولا يكون الحوار إلاّ بالأخذ والعطاء والفعل والانفعال، على هذه القاعدة بالذات سنخرج عن مألوف الجلسات وسأستبيح من الأستاذين الكريمين عذراً في أن أقدم مقدمة بسيطة، ومن الجمهور الكريم في أن آخذ من وقته أيضاً فلا يقتصر موقفي على إدارة الجلسة فحسب.
أيّها الأحبة، في الإنجيل في البدء كانت الكلمة وفي القرآن في البدء كانت الكلمة ولكن بصيغة أخرى، فأول ما حكاه الله عن قصة الخلق والتكوين قال سبحانه باسم الله الرحمن الرحيم ?وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني أعلم ما لا تعلمون? [البقرة، 30] وهنا جاء دور الكلمة ?وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة? [البقرة،31] ولأن الكلمة في صلب قصة التكوين والخلق لهذا الانسان كانت هي أيضاً المعراج الى الله تعالى فكانت الصلاة وهي الصلة بين الانسان وربه.
الحوار الاسلامي المسيحي موضوع جلستنا هذه، ربما يتوقف الباحث باعجاب كبير عند الكلام القرآني في هذا الموضوع بالذات، حيث أولى هذا الموضوع عناية خاصة. وعند قراءة القرآن يبدو أننا تخلفنا كثيراً وكثيراً جداً عن الأطروحة الإلهية في هذا المجال، ويسجل على المسلمين أنهم ليسوا عصاة فقط في موضوع الصلاة والصيام والحج والزكاة فيتركون ما أمر الله به ويرتكبون ما نهى الله عنه، بل في المسائل العامة التي لها طابع العمومية وتتعلق بمساحة الحياة البشرية على الأرض، هناك ارتكابات على مستوى الجريمة في هذا المجال أنهم ما عاشوا الحوار الذي فرضه الله تعالى عليهم. وحينما يتحدث القرآن الكريم عن الحوار يتحدث عن المسيحية بصورة خاصة مما يؤذن ويؤذِّن بوضوح أن على المسلمين أن يفهموا منذ أنزل الله قرآنه أن المسيحية في طول التاريخ هي في عرض الاسلام. انهما موجودان وباقيان. ولو لم تكن المسيحية باقية، وهي الدين الثاني القوي الموجود كالدين الاسلامي لما أفرد لها القرآن الذي هو كلام الله حديثاً خاصاً في موضوعات شتى، ذلك أن كتاب الله الخالد لا يتحدث في الجزئيات وعن المؤقت، وانما يتحدث في الأمور العامة والتي لها طابع الاستمرار والديمومة بشكل أو بآخر، حديث القرآن عن أهل الكتاب وعن النصارى منهم بصورة خاصة هو حديث مودة وحديث فيه ذكرٌ عطرٌ وثناءٌ عاطر. قال سبحانه تعالى ?ولتجدن أقربهم مودة الذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى? [المائدة،82] . وفيما أعلم أن المسلمين كلما قرأوا شيئا من القرآن قالوا صدق الله العظيم، وإذا قلنا صدق الله العظيم فإن أقرب الناس مودة الذين آمنوا، الذين قالوا إنا نصارى.
هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى،أحد ركائز مودتهم للذين آمنوا أن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، فالقسيسون والرهبان كما سيتضح لاحقاً كعلماء المسلمين تماماً منهم من هو سبب لخير عميم، ومنهم من هو سبب لشر عميم، كعلماء المسلمين تماماً. هذه المودة هي مودة يبادلها المسلمون للمسيحيين، بسم الله الرحمن الرحيم ?غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين? [الروم،1-4] الى أن تقول الآية ?ويومئذ يفرح المؤمنون? [الروم، 4]، إن هذا الفرح من المسلمين المؤمنين بانتصار الروم النصارى على الفرس الوثنيين هو على أرضية الايمان الابراهيمي المشترك الموحد لله سبحانه وتعالى. وسأتلو عليكم آية من آيات الله تظهر أيضاً كم أننا فعلاً في مساحة الحياة والعمل متخلفون عن الأطروحة للالهية الواردة في القرآن الكريم منذ ما يزيد عن الأربعة عشر قرناً، وهي قوله سبحانه وتعالى بعد آيات متتاليات في سورة المائدة تتحدث عن اليهود والنصارى وعن التوراة وعن الانجيل وعن الحكم بما أنزل الله الى أن يقول سبحانه وتعالى ?ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم فيما كنتم فيه تختلفون? [المائدة، 48].
وفي تفسير القرآن الكريم أحد الاركان الهامة ما يسمى بالسياق، القرآن له دلالات لا تحصى منها دلالات الجرس ودلالات الظل ودلالات الوقع، والدلالة الالتزامية والدلالة المطابقية الى غير ذلك من الدلالات، ومن الدلالات على المعنى أيضاً السياق، سياق الكلام ذلك أن كل آية تُفسر في الأغلب بسياق ما قبلها وبسياق ما بعدها. ان القرآن يقول لنا لا تتوقفوا طويلاً عند الاختلاف العقائدي، لا تتوقفوا طويلاً عند تفصيلات الايمان، انطلقوا في مساحة العمل ومساحة الحياة على أساس المشتركات بين هذين الدينين العظيمين، ?ولكل جعلنا منك شرعة ومنهاجاً? فالشرعة والمنهاج في المسيحية هي من جعل الله والشرعة والمنهاج في الاسلام من جعل الله سبحانه وتعالى ?واستبقوا الخيرات?، تنافسوا في صناعة الخير للبشرية، تنافسوا في تقديم الأفضل للبشرية تنافسوا في الارتقاء بالحياة العامة والخطاب العام نحو الأجدى، وأما ما أنتم فيه تختلفون ?فإليه مرجعكم فينبئكم فيما كنتم فيه مختلفون?. الحسم فيما نختلف فيه هو لله يوم القيامة، ولا يجوز ان يكون لنا في هذه الحياة، لأن الحسم يكون بالقوة وما شاكلها وما هو من بابها، وهذا لا يجوز لأنه لا إكراه في الدين. فاتركوا ما اختلفتم فيه في المسألة العقائدية الى يوم القيامة ينبئكم الله فيه.
القيامة الصغرى منذ يتوفى الانسان سيعلم أنه على حق أو على باطل أو ما مقدار الحق في اعتقاده وما مقدار الباطل. وهي يوم القيامة العظمى لكل البشر الأمر كذلك، ولكن صناعة الخيرات، استبقوا الخيرات، استعجلوا من أجل صناعة الخير للبشرية كل البشرية لأن كل البشرية مكرمة في أطروحة الله تعالى في القرآن الكريم ?ولقد كرّمنا بني آدم? [الاسراء، 70] ?وانه من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا? [المائدة، 32].
ويتحدث القرآن عن معوقات هذا الحوار، وإنه لمن معوقات هذا الحوار رجال الدين، وهذا ما يميز الامام موسى الصدر عن غيره. هذا المؤتمر الذي نحن فيه هو احد اشعاعات هذا العملاق العظيم الإمام موسى الصدر، ولقد كان قبله رجال للدين، وأتى بعده رجال للدين، وتميز من بين الذين أتوا من قبله والذين أتوا من بعده. والتميز هذا دليل كاف على أن بعض رجال الدين معوقات حوار وأن البعض الأخر مكملات حوار وَنِعَِمُ حوار ومسببات حوار. لهذا القرآن امتدح رجال الدين المسيحيين في جزء وذكر بعضاً آخر منهم تحت علامة استفهام في جزء آخر. ما يقوله القرآن عن رجال الدين المسيحيين يقوله أيضاً عن رجال الدين المسلمين لما ثبت في الحديث الشريف أنه سيكون في هذه الأمة ما كان في الأمم التي سلفت. "حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة" كما أثر عن رسول الله صلى لله عليه وسلم.
فمن عوامل المودة بين المسلمين والمسيحيين ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. ومن عوامل سقوط الحوار بين المسلمين والمسيحيين أن بعض الرهبان والقسيسين الذين اتخذهم الناس أرباباً من دون الله. سئل الامام الصادق كيف اتخذ المسيحيون الرهبان والأحبار أرباباً من دون الله ونحن نرى أن المسيحيين لا يعبدونهم؟ فقال: أطاعوهم من دون الله، فوضعوهم في موضع الله، فكأنهم عبدوهم مكان الله. وعند المسلمين كذلك ولقد سمعت بأذني هاتين بعض رجال الدين المسلمين يخاطب ويكرر للجمهور الاسلامي إن الله يريد منكم، إن الله يأمركم، أن الله يطلب منكم، هناك رجال دين يصنعون الاله قزماً على مقاس أحلامهم أو على مقاس غرائزهم أو على معايير فهمهم فيكونون من الهدامين بدل أن يكونوا من البنائين.
قال سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم ?شرع لكم في الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا اليك من قبل وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه? [الشورى،13] هذه الوصية الالهية الخالدة للرسل أولي العزم الذين هم أكبر رسل الله على الاطلاق ?شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تفرقوا فيه? ثم يتحدث القرآن عن سبب التفرقة ويقول ?وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم? [آل عمران،19] حملة العلم، بدون أخلاق بنفسية شريرة على قاعدة البغي المستحكمة في قعر أنفسهم هم الذين فرقوا. ايها الأحبة هنا أعود فأقول لا يأتي الإصلاح إلا من حيث أتى الفساد وإن بعض رجال الدين الجهلة هم الذين يعوقون لقاء الناس والحوار وحوار الأديان وحوار الحضارات. ورجال الدين المستنيرون ولقد صرنا بحاجة الى لفت النظر هذا لكثرة الذين يتحدثون باسم الدين، بعضهم له الأهلية لذلك والبعض الآخر ليس له الأهلية لذلك، مرة أخرى أستميحكم عذراً مما أخذته من وقت المحاضرين الجليلين ومن وقت الجمهور الكريم وأهلا وسهلا وبكم.
في برنامجنا لهذه الجلسة مع الاستاذ سمير فرنجية وهو من هو وله تاريخ مضئ وهام في حوار المسلمين والمسيحيين وفي الوضع العام في لبنان وانه لا من بيت سما بنيانه وتوطدت اركانه وعرف بالقيادة الحكيمة انه ابن الزعيم الوطني الكبير الاستاذ حميد فرنجية وانه أيضاً لأمل وطني كبير، تفضل.