(مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات")
(كلمات الجلسة الثالثة)
أود في هذه المناسبة أن أعرب عن شكري لمؤسسة الإمام موسى الصدر على الدعوة للمشاركة في هذا المؤتمر الذي ينعقد في لحظة تاريخية نحن أحوج ما نكون فيها إلى التواصل والبحث. فما نشهده اليوم من مظاهر مختلفة للأصولية يدفعني إلى تركيز مداخلتي على أهمية الحوار الإسلامي – المسيحي في مواجهة هذه الظاهرة.
إنني أعني بالأصولية الفكر القائم على الغاء الآخر بمجرد اختلاف معه في التكوين أو التفكير.
وليس هناك من أصولية اسلامية أو أصولية مسيحية أو أصولية قومية أو أصولية ثقافية. الأصولية واحدة، والصفة المضافة لا تمس في الجوهر، أنما هي تشير إلى تمايز في أشكال التعبير.
يعتقد البعض أن الأصولية تعني العودة إلى الأصول في مواجهة ما هو قائم، وأنها بالتالي حالة رفضية تتميز عن غيرها بأنها تعتمد على الماضي في مواجهة الحاضر، في حين أن الحركات اليسارية مثلاً توظف المستقبل لتخطي الحاضر.
إن هذا الوصف للأصولية وصف قديم لا يساعد على فهم طبيعة هذه الظاهرة، إنه مجرد محاولة لايجاد أسس عقلانية لحالة هي، بطبيعتها، مناقضة للعقلانية.
الأصولية بما هي رفض للآخر المختلف هي قبل أي شيء تعبير عن حالة لاعقلانية من الخوف تلقي مسؤوليتها بشكل غريزي على الآخر. الأصولي هو إنسان يرى أن الاختلاط والحوار والتفاعل إنما هي أمور تشكل خطراً على تماسكه الداخلي، فلا يجد من مخرج لأزمته سوى تكفير الآخر – أي إخراجه من "الداخل" الذي تسلل اليه – والهجرة عنه وعن عالمه. ووجهة هذه الهجرة هي بالضرورة نحو عالم مضى يعاد إحياؤه وتركيبه وفقاً للمقتضى.
فالأصولي الذي يعتمد الدين مرجعاً له يتكلم عن مراحل البداية، فيدعي القدرة على إلغاء التاريخ وإعادة احياء هذه المراحل وتعميمها وفقاً لما تفرزه مخيلته عن هذه البدايات. ثورة الفلاحين في المانيا في القرن السادس عشر التي كان شعارها العودة إلى المسيحية الأولى لا تتميز في الجوهر عن الدعوات السلفية التي تطرح تعميمها المعهود (الاسلام هو الحل) من دون أن تكون لديها أطروحة معرفية تأخذ في الاعتبار المستجدات.
أما الأصولي الذي ينطلق من الفكر القومي، فهو أيضاً يعود إلى مرحلة سابقة يبحث فيها عن أمة مفقودة قد يشكل لإحياؤها مدخلاً لتجاوز محن الحاضر. والأصولي العلماني الذي يبحث عن الانسان المجرد من كل تجاربه المتراكمة على مر الزمن يحاول، هو الآخر، الغاء التاريخ بحثاً عن مرحلة وهمية كأن التشابه بين الإنسان وأخيه تشابه كامل.
والأصولية قائمة على الفرز: الفرز بين من يقف معنا فهو منّا، وبين من لا يقف معنا فهو عدونا. آخر مظهر من مظاهر هذا الفرز جاء على لسان الرئيس الاميركي الذي أعتبر أن ليس هناك من خيار أمام العالم أجمع سوى الخيار بينه وبين بن لادن، مختزلاً البشرية وثقافاتها المتنوعة واحتمالاتها المتعددة بشخصين. وأعني بأصوليتين هما في النهاية مكملة الواحدة منهما الأخرى.
إن المنطق الأصولي هو في جوهره منطق بدائي ينطلق من غريزة موجودة عند جميع الكائنات الحية، تدفعها إلى اعتبار التمايز والمغايرة والاختلاف مصدر خطر على وجودها.
إن اكتساب الانسان القدرة على الانفتاح واستيعاب التنوع جاء نتيجة مسار تاريخي طويل، غير أنه مسار قابل للارتداد في حال اعترضته عقبات وصعوبات ما يدفع الانسان كرد فعل وحماية للذات المهددة إلى مراحل سابقة من نموه وتطوره ليحاول تجديد تماسك شخصيته.
كيف يمكننا مواجهة الأصولية الكامنة في كل النفوس؟
الطريق الوحيد هي، بنظري، العودة إلى الدين بما هو فلسفة لفهم الذات والآخر. فليس هناك من دين الا ويشترط وجود الآخر في ضمير المؤمن.
والدين براء من محاولات الاختزال التي يتعرض لها هنا والتي تهدف في نهاية المطاف إلى توظيف ايمان الناس في خدمة مصالح خاصة.
ينبغي بالتالي على الحوار المنشود أن يتأسس على قاعدة رفض الاختزال للوصول إلى تحديد نظام قيم يهذب سلوك الانسان مع الآخرين ويدفعه إلى تخطي ذاته والبقاء في حال انجاز دائم.
ونظام القيم هذا هو في طبيعته نظام قيم يعنى به الجميع. فليس هناك من حضارات متنوعة في هذا العالم لكل منها نظام قيم خاص. هناك حضارة واحدة مكونة من روافد متنوعة، ساهم في بنائها جميع الأمم والاديان في مراحل متلاحقة.
فلو كان هناك من حضارات مختلفة لكان حوارنا تركز على كيفية تنظيم التعايش في ما بينهما. الصعوبة التي نواجهها هي أن العالم هو اليوم عالم مشترك تتداخل فيه الأمم والشعوب والأديان والمصالح في شكل لم يعد من الممكن إعادة فرزه والعودة إلى مكوناته الأولية.
عالم الشمال موجود بقوة به في الجنوب، موجود مباشرة بمصالحه، وشركاته وأدواته التقنية، وموجود أيضاً عبر النخب المعولمة التي تمسك بمقدرات دول العالم الثالث. وعالم الجنوب موجود أيضاً بقوة في الشمال عبر المهاجرين اليه وعبر ما وفد عليه من طقوس وأساليب عيش.
إن ما تحاول أن تقوم الأصوليات هو الغاء هذا التداخل، وهذا مشروع مستحيل لا ينتج عنه سوى القتل والدمار.
وماذا عن لبنان ودوره في هذه المرحلة؟
إن الحاجة ماسة اليوم لإحياء صيغة التفاعل الانساني التي عرفها لبنان وتطويرها، انطلاقاً من إيمان وطني بها، واقتناع متجدد بأنها الاطار الأوفق لخيارنا الحضاري التاريخي، مستفيدين من تجربة المشترك ودروس الحرب.
لقد قدم لبنان تجربة حضارية مميزة على صعيد العيش المشترك والتفتح الانساني. فقد استطاع في فترة ما قبل الحرب أن يكون فسحة مميزة يختبر فيها الانسان قدرته على التفاعل مع الآخر، واستيعاب التنوع، وإعادة صياغته، مقدماً بذلك مساهمة حقيقية في إغناء الحضارة العربية والانسانية عموماً.
وهذا النمط الحضاري عبّر عن نفسه في التسويات التي تضمنتها التجربة السابقة: تسوية بين بنى اجتماعية تقليدية ومقتضيات الحداثة، تسوية بين الانفتاح على العالم والمحافظة على الهوية، تسوية بين ضرورات الدولة واستقلالية المجتمع، تسوية بين معتقدات دينية مختلفة وانتماءات سياسية متعارضة، وحساسيات متنوعة ...
شكل هذا النمط الحضاري القائم على التجربة اليومية لمجتمع شديد التنوع، الاساس في التجربة اللبنانية. وبالتالي فإن تمسك اللبنانيين بوطنهم لا ينبع فقط، كما في مجتمعات أخرى، من اعتبارات تاريخية أو قومية، بل هو مرتبط ارتباطاً شديداً بأسلوب الحياة الذي ولده هذا النمط الحضاري.
إن إعادة احياء الصيغة اللبنانية يفسح في المجال أمام تجديد دور لبنان. فلبنان هو حاجة عربية باعتباره مهيئاً للمساهمة في مصالحة المنطقة العربية مع ذاتها ومع العصر. واستعادة معنى لبنان ومعنى تجربته التاريخية لا توفر ضماناً لمستقبل اللبنانيين فحسب، بل تشكل ضرورة لمحيطهم العربي وتساعد في تجاوز هذه المرحلة الخطرة المسكونة بأشباح الحروب.
كما أن لبنان يمثل حاجة مستمرة لتفاعل خلاق بين المسيحية والإسلام يمنح أبناءهما فرصة الاغتناء الروحي المتبادل من خلال العيش المشترك المؤسس على الحرية والمساواة، والقائم على التنوع في إطار وحدة تحترم الاختلاف والتغاير. إن هذه الحاجة أصبحت اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى ذلك أن المواجهة بين الشرق والغرب أخلت مكانها لمواجهة بين الشمال والجنوب. ولم تعد هذه المواجهة تعبر عن نفسها بصيغة سياسية: الرأسمالية في مواجهة الشيوعية، وإنما بصيغة دينية: المسيحية في مواجهة الاسلام.
هذا هو الدور الذي ينبغي أن يقوم به لبنان. "فالحياة التي نعيشها – والكلام هنا للإمام موسى الصدر – لا نستحقها إذا عشنا لانفسنا فقط"، وشكراً.