مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات"
(كلمات الجلسة الرابعة)
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أنبياء الله والمرسلين وعلى خاتمهم سيدنا ونبينا ابي القاسم محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله. في البدء لا بد لي من تحية عطرة مضمخة بمشاعر الشكر الجزيل لكل الأخوات والاخوة المؤسسين والعاملين في مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات على ما يتيحونه لنا من فرص لتبادل وجهات النظر حول قضايا أساسية مهمة لطالما ناضل وكافح من أجلها الإمام موسى الصدر. نبدأ جلستنا بمداخلة قصيرة مفسحاً المجال أمام الزملاء المحاضرين.
إذا كانت الحضارات تمثل أرقى ظواهر الاجتماع البشري فإن الحوار فيما بينهما يغدو أصلاً وبديهياً.
ذلك أن التحضر سمة من سمات المجتمع البشري المستقر ومبعث الاستقرار فيه هنا ليس القوة المادية فحسب، بل إن العامل الأساس في استقرار المجتمعات هو تقديرها للانسان وارتفاع مستوى الحس الانساني لديها، هذا فضلاً عن القدرات التي تمتلكها في مختلف الحقول والمجالات.
ولأن الانسان هو محور كل الحضارات فإن "الانسانية" هي أحد مؤشرات القوة أو الضعف في كل حضارة.
لا بل إن هناك من يذهب إلى أن الانسانية قد تعوض القوة المادية حين ينتقص منها فيما العكس ليس صحيحاً على الاطلاق.
وفي التاريخ البشري حضارات كثيرة ومتعددة سادت حيناً ثم بادت، عمّر بعضها طويلاً فيما ذوى سريعاً بعضها الآخر، لكن المؤكد أن "الانسانية" عندما كانت تذوي في تلك الحضارات كانت كل معالم القوة تضمر بعدها حد الانحلال.
ولعل هذا ما دفع ابن خلدون للقول "إن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد".
إن هذه الحقيقة تحكم أطوار كل الحضارات حتى تلك التي صنعتها الأديان .. وهنا أشير إلى نص جريء ومعبر للإمام السيد موسى الصدر تحدث فيه عن الأديان نفسها باعتبارها أوتاد الحضارات فأكد أنها عندما كانت من أجل الانسان كانت واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة إلى الله وخدمة الانسان، وهما وجهان لحقيقية واحدة، ثم اختلفت عندما اتجهت إلى خدمة نفسها ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تنسى الغاية، فتعاظم الخلاف واشتد وازدادت محنة الانسان وآلامه.
كانت الأديان واحدة تهفو إلى غاية واحدة (النص لا يزال للإمام الصدر): حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما أيضاً وجهان لحقيقة واحدة، ولما انتصرت الأديان وانتصر معها المستضعفون وجدوا أن الطغاة غيروا اللباس وسبقوهم إلى المكاسب وبدأوا يحكمونهم باسم الأديان، ويحملون سيفها فكانت المحنة المتعاظمة للمضطهدين وكانت محنة الأديان والخلافات فيما بينها، "ولا خلاف إلا في مصالح المستغلين".
إذن، حتى الأديان يخفت وهجها ويذبل تأثيرها وتذوي بعيداً عن الناس حين يتسلط باسمها مستغلون لا يرون في الدنيا إلا مصالحهم ولا يعملون إلا من أجلها...
فكيف الحال اذاً مع حضارات أنبتت دعائمها على كل ما هو مادي سواء في الثقافة أو المفاهيم أو العلاقات أو العمران ... فمن الطبيعي آنذاك أن تكون المصالح المادية وليس الانسان هي محور الاهتمام والتطلعات، وبالتالي عندما تتعارض هذه المصالح مع بعضها داخل أي مجتمع سيسود النزاع والتصادم بين أفراده، وسيلجأ المستغلون لدفع المجتمع كله للهروب إلى الأمام والبحث عن مساحة أوسع تتيح المجال لمصالحة بين الجميع على قاعدة تسوية المصالح لكن هذه التسوية ستكون حتماً على حساب مجتمعات بشرية أخرى.
إن الولايات المتحدة الإميركية التي وصلت إلى ذروة التفوق والاستقطاب الدولي وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تكشف فيما تمارسه اليوم من سياسات عدوانية تجاه شعوب العالم الاسلامي والعربي والمستضعف عن هشاشة بنيانها الحضارة، وليس استخدام القوة بهذا الحجم المفرط إلا الدليل الأوضح على حجم الضعف بل الافلاس الحضاري للولايات المتحدة.
إن القوي على المستوى الحضاري لا يمكن أن يمارس ظلماً بهذا الافتضاح، وقد عبر الإمام السجاد (ع) عن هذا المؤشر بدعائه: حين قال: "وانما يَعْجَلُ من يخاف الفوت وانما يحتاج إلى الظلم الضعيف".
إن الرأسمالية المتوحشة وتفاقم روح الاستغلال والعلو في الأرض أوصل المتسلطين هناك إلى مرحلة الذروة حيث يبدأ بعدها السقوط.. وافتعال الصدام الحضاري لا يمكن أن يبرره إلا مستوى الفساد والاستبداد وتدني المستوى الانساني داخل بنية المجتمع الأمريكي..
أيّها السادة، إن التصادم الحضاري أمر سهل وغير معقد، ويقدم عليه المفلسون وحدهم، أما الحوار الحضاري فهو أمر صعب لا يستطيعه إلا حر واثق بنفسه معترف بالآخر، انساني متسامح مترفع عن غايات شخصية أو فئوية، متطلع إلى توسيع مساحات الالتقاء ومواطن المصالح المشتركة.
وإذا لم تتوفر هذه المقومات فعبثاً ننشد حواراً حضارياً وعبثاً تستمر الحوارات.
أيّها السادة، دعونا الآن ننظر إلى الصراع العربي – الاسرائيلي في اطار حوار الحضارات لنسأل:
هل يجدي حوار مع كيان عنصري يؤسس وجوده على إلغاء الآخر والتصادم معه؟
وهل يثمر حوار حضاري مع كيان، لا يرى في غير اليهود اناساً يمكن أن يكون لهم حق، بل يرى فيهم "أشياء" ينبغي امتلاكها والسيطرة عليها.
هل ينفع حوار مع كيان يقوم بالأصل على نزعات السيطرة والعدوان والتسلط...
هذه الأسئلة هي ما سيجيب عليها كل من زاويته الباحثان المشاركان في هذه الجلسة وهما الأستاذ نافذ أبو حسنة الباحث في شؤون الصراع العربي – الصهيوني المؤلف للعديد من الكتب والمعد للكثير من الأبحاث والدراسات.
وكذلك الأستاذ وليد نويهض الصحافي والمحلل السياسي المعروف.
نبدأ الآن مع مداخلة الأستاذ نافذ أبو حسنة.