القى الكلمة نيابة عنه الاستاذ لؤي شرف الدين
مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات"
(كلمات الجلسة الخامسة)
إن نظرية صراع الحضارات أو الثقافات، مثلها مثل نظرية عنف الاسلام، نظريات من اختراع الغرب وصياغته.
وهي تمثل الاطار النظري الجيواستراتيجي الذي يسعى الغرب أن يرى من خلاله معركة دفاعه عن مواقعه المتميزة ومصالحه المشتركة والخاصة في مواجهة المخاطر الكبيرة التي تتهددها منذ الآن وبشكل أكبر في المستقبل. وهي على نوعين، مخاطر مرتبطة بعداء الشعوب والبلدان الفقيرة والمهمشة التي أسقطت من ركب النمو والتقدم، وفي مقدمها العالم الاسلامي الذي يشكل اليوم بؤرة الاضطراب الرئيسية في العالم. ومخاطر مرتبطة بالعكس من ذلك تماماً، أي بالنمو الحثيث لبعض الدول الصاعدة المرشحة لأن تكون منافسة حقيقية اقتصاديا واستراتيجيا، مثل الصين بالدرجة الأولى. وليس من قبيل الصدفة أن صاحب نظرية صدام الحضارات التي تحولت اليوم إلى حرب الحضارات قد توقع تحالفاً بين الصين والعالم الاسلامي، بينما ليس هناك في الواقع الفعلي أي مؤشر أو سبب حقيقي لتأكيد مثل هذا التوقع.
ولا يزال العالم لاسلامي يعيش في فلك مختلف كلياً عن الفلك الصيني من جميع النواحي، ولا يشعر بأي قرابة روحية أو ثقافية معه، وليس له أي علاقات اقتصادية أو استراتيجية هامة تربطه به، وإذا وجد بعضها فهي تكاد لا تذكر بالمقارنة مع ما يشد العالم الاسلامي والعربي منه بشكل خاص إلى الولايات المتحدة وأوروبا، في الاقتصاد والسياسية والدفاع والثقافة بل والدين والعلاقات البشرية معاً.
والقصد إن طرح الأمور في مثل هذا السياق النظري والاستراتيجي لا يعبر عن واقع قائم بقدر ما يوافق مصالح الغرب ويستجيب لشعوره بأن عليه أن يتهيأ لمعارك المستقبل القريب الصعبة، والتي تستدعي في الوقت نفسه تعبئة الغرب بمجموعه وتوحيده، كما تستدعي إضفاء المشروعية على حربه التي يريد أن يسميها حضارية والتي يريد أن يستعيد من خلالها صورة المواجهات التاريخية القديمة بين الغرب وعالم الاسلام أثناء الحروب الصليبية.
وهناك في الواقع تفاهم ضمني وعفوي بين جميع أوساط النخبة الغربية، من مثقفين واختصاصيين ورجال سياسة، باستثناء قلة خرجت عن القاعدة لنزعات فكرية استقلالية ونقدية يمثلها رجال مثل نعوم شومسكي، على ضرورة صياغة رؤية دفاعية استراتيجـية تاريخيـة تضع مسألة الصراع في إطار ثقافي ونفسي أو حضاري بدل أن تكون كما حصل حتى الآن وكما كانت تدعو لذلك العلوم الاجتماعية الغربية في إطار الصراعات الاقتصادية والاجتماعية
بشكل أساسي. ويساعد هذا الطرح لقضية الصراعات الدولية أي نقلها من أرضية المصالح إلى أرضية القيم والتقاليد والعادات على حل مشكلتين كبيرتين تهددان احتفاظ الغرب بالهيمنة الدولية التي حافظ عليها منذ قرنين. الأولى هي مشكلة تصفية ذيول المسألة الاستعمارية التي عادت إلى واجهة مسرح الصراعات الدولي مع تزايد مطالبة الشعوب المستعمرة سابقا، خاصة في أفريقيا، بالاعتراف بالحيف الذي أصابها ومطالبة بعضها بالتعويضات المادية والمعنوية عنها. والثانية هي مسألة إضفاء المشروعية الأخلاقية والسياسية على حروب الغرب الراهنة والقادمة باعتبارها حروباً للدفاع عن نموذج الحضارة الغربية.
وفي الحالة الأولى يهدف الطرح الثقافي والحضاري للمسألة إلى مساعدة الغرب على الخلاص من عقدة الحقبة الاستعمارية والتنصل تماماً من مسؤولية الدمار والتخريب والاجتياح المادي والمعنوي الذي سببه الاستعمار بالنسبة للشعوب الفقيرة من دون الحاجة إلى تقديم أي اعتذار أو تعويضات على شكل مساعدات في التنمية أو غيرها. وفي الحالة الثانية كما يهدف إلى تحرير ضميره من الدين الذي لا يزال يشعر به جزء من رأيه العام، تجاه العالم الثالث، والذي يغذي نزعة عالم ثالثية أو إنسانية بعيدة عن مفاهيم السيطرة والنفوذ والمصلحة القومية، ويدفع بالتالي إلى تعاطف جزء من هذا الرأي العام مع العالم الفقير والدعوة إلى مساعدته.
وفي الحالة الثانية يضمن الغرب لحروبه شبه الاستعمارية والرامية إلى الحفاظ على المكاسب والامتيازات الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية في العالم، وبالتالي على التوزيع القائم للثروة والقوة، الشرعية التي تحتاج إليها بجعله العنف الصادر عنه دفاعاً عن النفس والهوية، في وجه التهديد الذي ينبع من صعود العالم الاسلامي أو الصيني. ويسمح له هذا التموقع الدفاعي الثقافي في تحقيق هدفين. الأول قلب الأدوار والمواقع، بحيث يصبح العالم الفقير، والعالم الاسلامي والصيني، هو المعتدي المحتمل والغرب هو الضحية، مما يجعل من حروب الغرب ضد العالم الفقير، تماماً كما هو حاصل الآن، حروباً هجومية وبالتالي مدانة لأنها عدوانية، ومن حروبه التدميرية حروباً دفاعية وبالتالي مشروعة وضرورية وحتمية.
والهدف الثاني هو تنصل الغرب الصناعي والرأسمالي من مسؤولياته السياسية والاقتصادية، أي مسؤولية سياساته الدولية، في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلدان الفقيرة وتصويره ما تعيشه هذه البلدان على أنه انعكاس لقيمها الحضارية لا لإخفاق مشاريعها التنموية. فبعد أن شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية انتصار فكرة ارتباط التخلف بالتقدم، أي بسياسة البلدان الصناعية وتحكمها بمصير البلدان الفقيرة أو بفرضها نوعاً من التبادل غير المتكافيء عليها، وهو ما طورته بشكل خاص نظريات الامبريالية والتبعية والتخلف، تنحو هذه الصياغة الجديدة لمجال العلاقات الدولية إلى القول بأن الوضع الذي توجد فيه أي أمة هو الترجمة المباشرة لثقافتها أو لتراثها الثقافي ومجموعة القيم والتقاليد والاتجاهات التي تحكم سلوكها وتتحكم به، أي لحضارتها.
ومن الطبيعي أن يكون لكل حضارة أساليب وطرائق مختلفة للعيش والممارسة. فالعرب مثلاً متدينون وبالتالي غير قادرين على تمثل الحداثة، ومن الطبيعي أن يعيشوا في ظروف التخلف والاستبداد والفقر التي تعرفها مجتمعاتهم اليوم. وفقرهم وهامشيتهم ليسا نابعين من سياسات التدخل والسيطرة ونهب الموارد وتدعيم الحكومات اللاشعبية وغير التمثيلية والاستبدادية وتدمير البنى التحتية بحروب مخطط لها منذ قرن، ولكنهما ثمرة نمط من التفكير العربي والاسلامي اللاعقلاني واللاموضوعي. وهذا لا يعني أن العرب والمسلمين والأمم الفقيرة الأخرى هم وحدهم المسؤولون عما أصابهم، ولكن أكثر من ذلك أنه ليس من مسؤولية أحد وبشكل خاص ليس من مسؤولية الغرب الذي يخشى عداءهم، مساعدتهم على الخروج مما هم فيه، ولا يمكنه حتى لو أراد ذلك أن يصل إلى نتيجة طالما أن الأمر مرتبط بثقافة هؤلاء ودينهم. بل ليس هناك أي ضرورة لتغيير الأوضاع القائمة التي ليست إلا التعبير الطبيعي عن قيم الحضارة العربية والاسلامية التي تميزهم عن غيرهم. فليس في هذه الحضارة ما يؤكد على قيم الحرية، وبالتالي ما يشرع لتأييد الديمقراطية، ولا ما يشير إلى قيم القانون والعدالة، ولا إلى قيم السعادة والرفاه الدنيويين. إنها حضارة دينية مغلقة ومعادية للانجاز المادي والسياسي والمدني ولا تهتم إلا بتطبيق الأوامر الدينية والخضوع للحكمة الربانية.
وبالمثل، إن إرجاع العنف إلى الاسلام، أي ربطه بالاعتقادات الدينية لا بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التاريخية، لا يوفر على الدول الغربية التي وضعت أسس نمو العنف في المجتمعات العربية والاسلامية أن تشعر براحة الضمير فحسب، ولكن أكثر من ذلك أن تستمر في ممارسة سياساتها التي تنزع، في سبيل ضمان النفوذ الحر إلى الموارد المادية والمعنوية، إلى تدمير أسس التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي يقوم عليها استقرار المجتمعات وتقدمها.
والنتيجة لمثل هذا المنظور هي التنصل من أي مسؤوليات جماعية وتبرير التمديد لقانون القوة كإطار وحيد لتنظيم العلاقات الدولية. وهذا هو نمط التفكير الذي يميز المنطق الامبرطوري أو الامبريالي في جميع الحقب التاريخية. نحن لامسؤولية لنا عما يحدث في العالم، ومن أراد أن يتعرض لنا أو يشكك بمصالحنا القائمة ويحرمنا من امتيازاتنا ومواقعنا فلدينا كل الشرعية الدولية والأخلاقية والسياسية لندمره ونجعله بين المعادين للحضارة الحديثة والانسانية. فالبنسبة لهذا المنطق كل ما هو قائم هو صحيح وهو الموافق للواقع والعقل، وليس هناك أي سبب لتغيير أي شيء، وليس هناك أي واجب على الدول الصناعية الغربية تجاه أحد. وكل يبحث عن مصالحه ويدافع عن نموذج الحضارة التي يمثلها أو تمثله كما يريد وحسب استطاعته.
إن الهدف الحقيقي هو تبرير تعميم استخدام قانون العنف كأساس للعلاقات بين الأمم وقطع الطريق على كل الدعوات الراهنة لاخضاع مجال العلاقات الدولية هذا للحد الادنى من القانون وبالتالي للتعاون والتفاهم بين الشعوب. وليس هناك شك في أن الغرب وهو يدافع عن حضارته أو يدعي الدفاع عنها يعتقد بأنه يدافع عن الحضارة عموماً ضد الثقافات الأخرى التي يسميها تجاوزاً حضارات، ولكنه يعتبرها في العمق نماذج للبربرية التي تفتقر لمفاهيم أساسية في القانون والحرية الفردية والديمقراطية والقيم الانسانية والدنيوية التي تؤكد على محورية الانسان.
والمفارقة في هذه النظريات أن الغرب يعود إلى التأكيد على الخصوصيات الحضارية في وقت تزداد فيه الأرضية المشتركة بين جميع الثقافات البشرية بسبب زيادة التواصل والتفاعل والتنافس الذي تحث عليه الثورة المعلوماتية والعلمية، بينما كانت تؤكد على الايديولوجيات الانسانوية والكونية في القرن التاسع عشر الذي كانت فيه الخصوصيات الثقافية هي الواقع الأكثر بروزاً في تكوين الخريطة الجيوسياسية العالمية. والسبب أن العالمية كانت هي الوحيدة التي تبرر التوسع والاستعمار بالنسبة لأوروبا صاعدة وقوية، تماما كما أن الخصوصية هي التي تبرر السياسات الأنانية المعادية لمصالح المجتمعات الأخرى في عصر يشعر الغرب فيه أنه لم يعد في مرحلة الصعود ولكن في مرحلة التراجع والتجاوز من قبل قوى جديدة صاعدة.
هذه هي في الواقع العقبات الرئيسية التي تحول دون أي حوار جدي وايجابي ومثمر بين الثقافات والأديان، أعني منطق السيطرة والقوة والأنانية والاستفراد بالموارد الطبيعية وانعدام الشعور بالمسؤولية الدولية عند الدول الصناعية، وتحويلها لفضاءات الشعوب الأخرى، في إطار التنافس فيما بينها، إلى حقول للصيد ومصدر لموارد مجانية.
لا ينبغي للمظاهر أن تخدعنا. فليس هناك أي حرب حضارات ولكن حرب حضارية بالفعل غربية، أي حرب غربية للدفاع عن المواقع والمزايا والامتيازات التي راكمتها الأمم الغربية في القرون الماضية في مواجهة عالم يطالب بالدخول إلى الحضارة المادية ذاتها والمشاركة فيها. فبالرغم من الصراخ المرتفع للجمهور الاسلامي هنا وهناك ضد الغرب وباسم الحرب ضد الغرب فليس هناك حلم لهؤلاء غير الوصول إلى القليل من القانون والعدل والمساواة والحرية الشخصية والكرامة البشرية. ولم تستهدف عمليات 11 سبتمبر 2001 الغرب بمجموعه ولا حضارته وقيمه الانسانية ولكنها استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية ورموز القوة والهيمنة الاقتصادية والعسكرية، وجاءت بشكل واضح في إطار رد الفعل على سياسات أمريكية شرق أوسطية مخالفة لأبسط مباديء الحق والعدالة والقانون. وبالمقابل، وبالرغم من كل عبارات الاعتذار والتأكيد على أن الحرب الراهنة تستهدف الارهابيين وليس الاسلام، وربما بسبب هذا التأكيد المستمر، فليس هناك شك أنها صيغت وتم التفكير بها في واشنطن، وبمساعدة أكثر تيارات اليمين القومي الأمريكي تطرفاً، من منظار أنها حملة أولى ضمن الحملات الصليبية الجديدة المستمرة والمتواصلة التي يعتقد الغرب أن عليه أن يخوضها ليؤكد نفوذه الذي يتعرض للتحدي، والارهاب الانتحاري الاسلامي والعربي رفع بقوة من مستوى ونوعية هذا التحدي، ويضمن خضوع أو إخضاع عالم إسلامي تحول وسيتحول أكثر فأكثر إلى مركز للفوضى الشاملة ومورد رئيسي للعنف الذي سيتوجه جزء كبير منه نحو الخارج. وهذا ما يثير حذر أوروبا اللاتينية القريبة من بلاد الاسلام كما يثير حفيظة الدول العربية والاسلامية التي لم تظهر في أي فترة قلقها من الحرب الراهنة، بل من تصورها كحرب مستمرة وطويلة ذات مراحل وحملات متوالية، لا تعرف اتجاهها وغايتها، كما تظهره اليوم وفي مقدمها البلاد العربية.
إن حرباً صليبية جديدة قادمة لا محالة على يد الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ينبغي أن يكون الرد عليها كما يعتقد البعض بصليبية مماثلة، ولكن بالعكس بتفكيك نظام الهيمنة الدولية ومحاصرة الانفرادية الأمريكية بتحالف دولي واسع من أجل الديمقراطية والسلام والعدالة والمثل الانسانية التي تعني رفض قتل الأبرياء، فقراء كانوا أم أمريكيين، يضم على رأسه أوروبا وجميع الدول الديمقراطية.