مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات"
(كلمات الجلسة الخامسة)
بعد إعلان عام2001حوار الحضارات، تحصل في هذا العام، وفي نيويورك بالتحديد، كارثة بشرية هي الأسوأ في مطلع الألفية الثالثة، وتعلن حرب شاملة على الإرهاب تتورط فيها أكثر من دولة، ويموت فيها مئات بل آلاف الضحايا، أكثرهم من الأبرياء.
ترافق مع بداية الألفية الثالثة، أمل بل رؤيا، بأنها ستكون بداية تفكيك للصراعات وحل للتناقضات التي يعج بها العالم، وأن عصر التعددية الثقافية وتنوع الذوات الحضارية قد ابتدأ، وأن لغة الحوار العقلاني والمقاربة الدبلوماسية ستكون أساس العلاقة بين الكيانات السياسية.
ومع سقوط الاتحاد السوفييتي، استبشر العالم بأن هاجس الحرب النووية قد زال، وأن مبررات سباق التسلح قد انتهت، وأن هياكل الاستبداد السياسي بدأت بالتفكك، وأن الفرصة بإعادة النظر في توزيع الثروة في العالم قد استحقت. وقد رافق ذلك إعلان نهايات متسرعة في تفاؤلها، تبشر على وقع العولمة وإيحائها، بتغيير في شكل الحياة على الأرض، وبتحولٍ في شبكة العلاقات، وبتعديلٍ في تجليات القوة ومظاهر السلطة، تكتسح معها كل شروط الوجود السابقة. فأعلن نهاية الجيوبوليتيك لصالح الجيواكونوميك، ونهاية المحلي لصالح الكوني، ونهاية المكان لصالح الأثير، ونهاية التاريخ لصالح الرأسمالية-الليبرالية السعيدة، ونهاية الشمولية لصالح التعددية، ونهاية القوة المادية لصالح المعلومة، ونهاية الإيديولوجيا والنسق لصالح النسبي والمبعثر.
حدث 11 أيلول، أيقظ العالم على أن الشروط السياسية والثقافية والاقتصادية التي شكلت الواقع في القرن العشرين وصنعت أزماته وحروبه، ما تزال في كامل حيويتها، وتحتفظ بحقها التام في صنع أحداث المستقبل. لم يكن سقوط الاتحاد السوفييتي وثبة في واقع الوجود الإنساني، بقدر ما كان تعديلا في شكل توزيع القوة والنفوذ، مع بقاء ذات العقل المتحكم بمجريات القوة والهيمنة، وكما يقول فوكو بأن الماركسية لم تحدث أية قطيعة فعلية في المستوى الأعمق للمعرفة الغربية، بل وجدت موقعها دون صعوبة كشكل ممتلئ هادئ مريح مرضٍ داخل فضاء ابستمولوجي احتضنها بالتهليل. ولم تكن العولمة الاقتصادية افتتاحاً لممارسة اقتصادية تفكك رأسمالية الثروة والإنتاج والتوزيع، بقدر ما كانت توسيعاً لمداها، من خلال فتح كل الحدود أمامها ورفع القيود عن حركتها لتستحيل رأسمالية متوحشة. ولم تحدث الثورة المعلوماتية أو الغزو الأثيري للمعلومة أو التحولات في أشكال السلطة قطيعة معرفية مع بديهيات الحداثة، بقدر ما ساهمت في إطلاق مداها، وحولت دعاتها إلى كهنة خلاص وغفران من كل فقر وتخلف يلف العالم.
حدث 11 أيلول، كشف عمق وكثافة الأزمات التي تملأ العالم على مشارف الألفية الثالثة، وبَيّنَ ضعف الأعمدة التي سترفع العالم الجديد، وأظهر أن الما-بعد الموعود يوطوبيا حالمة أو طامحة، لم تجد لها فسحة تحقق في زحمة التوترات المتراكمة، التي ربما تهدأ، إلا أن هدوئها يكون تهيئة لانفجار مدمر، يصدم كل الذين فهموا أن العالم قد صفى كل حسابات الماضي وأنه بدأ بصنع تاريخ جديد.
إن الأزمات التي ألقاها القرن العشرين على باب الألفية الثالثة لم تنته ولم تتغير طبيعتها، بل ازدادت تأزماً وتضخم أثرها ليشمل العالم بأسره.
وكما يقول ليو بينيان: "لقد انتهت الحرب الباردة لكن الحروب الساخنة تستعر في ما يزيد على 30 بلداً ومنطقة، وبلغت موجة المهاجرين من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية وتدفق الناس من المدن الريفية إلى المدن حجماً غير مسبوق. مما يشكل ظاهرة سماها صندوق الأمم المتحدة للسكان: الأزمة الراهنة للجنس البشري، بحيث يصعب القول أن هذه الأزمات كانت نتيجة للنزاع بين حضارات مختلفة".
ويعجب ألين تورين من تفاؤل أولئك الذين يرون أن العالم سائر باتجاه التوحد ونحو انتهاء التاريخ، عبر انتصار الاقتصاد السوقي والديمقراطية والليبرالية والعلمنة والتسامح، من أمثال فوكوياما، ولا يملك إلا الأسف لضيق أفقهم وانغلاقهم على محوريتهم المجتمعية. ويرى تورين بأنه ترافق مع الآحادية القطبية للعالم، حركة تفتيتية، حيث تنكفئ الهويات القلقة على نفسها، ونشهد أشكالاً طائفية من الحياة القوموية والدينية تتحصن وراء متاريسها لتقاوم غزو التكنولوجيات وأشكال الاستهلاك الزاحفة عليها من المركز المهيمن.
لم تعد إشكالية العالم تتمحور حول التحديث أو نسف الماضي أو قلب النظم القديمة، بل صارت تتركز حول الحيلولة دون تمزق العالم وانشطاره، ودون الفصل الرهيب بين دنيا التقنيات والمعلومات والأسلحة، ودنيا الأعراق والملل والفرديات المنغلقة على ذاتها. وبتعبير ألين تورين: إشكالية إعادة تركيب هذا العالم الذي يتطاير شظايا سواء من الناحية المجتمعية والسياسية أو من الناحية الجغرافية والاقتصادية.
مشكلة العالم، أن تقدمه يتسارع بوسائلية تقنية عالية، من دون أي مقاربة موازية في حل أزماته المتراكمة، ومن دون أن يخلق فضاءً جديداً يصنع شبكة علاقات جديدة بين البشر. ما تزال ثقافات ما قبل الحداثة تصنع أكثر أشكال التضامن السياسي والاجتماعي، وما تزال الايديولوجيات أو العقائديات، التي فجرت الحروب العالمية والمحلية حرة طليقة، والأهم من ذلك، ما يزال الغرب الذي يقوم رهان وجوده على فرض الإرادة وتقوم عقلانيته بالسيطرة، هو الذي يعبث بمصير هذا العالم.
الحداثة والعولمة
لم تحدث العولمة، رغم إمكانات التحول الكامنة في داخلها، قطيعة مع الفضاء المعرفي والنظام العلائقي الذي قامت عليه الحداثة الغربية، ولم تنفصل عن كونها مظهر انتشار غربي. أي ما تزال العولمة المتشعبة الأطراف، تتركز مرجعياتها داخل التكوين الحضاري والتاريخي للفكرة الغربية، فلا يمكن بناء توقعات حول مستقبل العولمة، إلا من خلال التعرف على بنية العقل الغربي التي تنتج مفاهيمه وأدواته، ومن خلال كشف ايديولوجياته الباطنة والظاهرة، واقتفاء أثاره، ليس في نتاجه فحسب، بل في آلته التي تصنع هذا النتاج.
يعتبر اسوالد اشبنغلر، أن الوطن في الفكرة الغربية، هو كل بقعة من الأرض تسيطر وتفرض إرادتها عليها، وأن التاريخ الواقعي لديها لا يتمثل في سيادة المثل العليا والخير والأخلاق بل في سيادة العزيمة والإرادة القوية. أي أن الحياة نضال مستمر من أجل السيطرة والسيادة وليس هناك من قوة أخرى تنظمها سوى قوة المصير".
أما روجيه غارودي، فقد اعتبر أن بدايات الفكرة الغربية كانت حينما قرر الإنسان أن يكون سيد الطبيعة المطلق، وأن يضادها بفرديته وبفكره المجرد. وقد تجلى ذلك في حبس المعرفة في حدود جانبها التصوري، وانحصر المفهوم في كونه أداة مداولة الطبيعة والإنسان. فأنتج ذلك رأسمالية ناشئة تسخر العلوم والتقنيات في إشباع غريزة الإنسان في السيطرة والربح، وخلق مجتمعا تسوده المنافسة وخصومة الناس بعضهم مع بعض في إطار السوق، وولد عقائدية (ايديولوجيا) تبرر هذه الممارسة، وتمنح القيمة العليا لإرادة الربح والسيطرة، التي هي إرادة الغازي الذي لا يتردد في اقتحام تخوم العالم المعروف ولا في تدمير القارات والحضارات".
نعي اشبنغلر للحضارة الغربية في أول القرن العشرين، كان ينذر بحلول كوارث كبرى في العالم، وسعي غارودي في آخر القرن، إلى البحث عن مضامين لثقافات جديدة من خارج المنظومة الغربية تسد الثقوب التي تعرض العالم كله للغرق، وجهده في إيجاد تركيبة حضارية جديدة تعيد التوازن إلى حركة الحياة، دل على أن أزمة العالم المعاصر كانت نتيجة منطقية لرهان القوة الذي لم يتوقف في الغرب، وأثراً مباشراً لاختزال الإنسان إلى كائن مستهلك مسحت من داخله نوازع الحب والإيمان والخيال. فأصبح النمو الإنساني محكوماً لمعايير وحيدة الجانب هي المعايير الاقتصادية، وغدا معيار التقدم هو الازدياد الكمي في الإنتاج وفي الاستهلاك دون الرجوع إلى مشروع إنساني أو إلى صفة الحياة.
ومع تسطيح كافة الأبعاد التي توفر للحياة عمقاً وخيالاً وعبقرية وإبداعاً، تحولت الأشياء في ظل الحضارة الغربية إلى أشياء جامدة، فأضحى العالم الاجتماعي يظهر على هيئة عالم من الأشياء، شأن العالم الطبيعي، وأصبح هذا العالم يظهر لنا كما لو أنه لم يعد بمقدورنا أن نغيره، مثلما أنه ليس باستطاعتنا منع الشمس من الشروق. وكما يقول جورج لوكاش: بأن العمليات الداخلة في تشكيل صنمية السلعة والتشيوء، تخلق بنى اجتماعية خارجية يصبح بنو البشر دمى لها، فالمستوى الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي، منظم بطريقة تجعل العلاقات بين البشر تبدو وكأنها علاقات بين أشياء.
بهذا انفصلت الواقعة عن القيمة، وانصب الاهتمام على اكتشاف كيف تصنع الأشياء وليس على ما يجب صنعه، وهو ما أطلق عليه أدرنو وهوركهايمر بالعقل الأداتي، الذي تبلور في عصر التنوير، حيث وقعت عملية تحويل الطبيعة إلى أداة. وهذا يعني أن الرأسمالية هي نتاج العقل الأداتي، حيث تتساوى المعرفة وفق ذلك مع القوة والهيمنة.
لقد أصبحت الخطابات والمؤسسات في ظل الحداثة مندفعة بغريزة السيطرة، ومثبتة بعلاقات القوة الكامنة فيهما، فلم تعد القوة أداة للتحرير بل أضحت أداة للإستعباد. أي تحول العالم الذي يتكون من آلاف مؤلفة من علاقات القوة، إلى عالم قائم على صراعات على القوة لا حصر لها. وكما يقول ألان تورين، بأن المجتمع أصبح عبداً لقوته وتقنياته، وخاضعاً لأجهزة سلطاته السياسية والاقتصادية والعسكرية، لقد تطاير هذا العالم بفعل وسائلية السوق والتقنية إلى شظايا.
فضاء الصراع على السلطة، جعل ميشيل فوكو يرى وهمية الحياد المعرفي، ويعتقد بأن المعرفة لم تخلق لأجل الفهم، وانما لأجل التكسير والحسم. ففي المعرفة تتفاعل وتتصارع أهواء ورغبات ومصالح وعلاقات قوى، وتكون الحقيقة نفسها أسيرة علائق السلطة، حيث من الوهم افتراض حقيقة لا سلطة لها.
ارتهان الحقيقة والمعرفة لشبكة السلطة العائمة على سطح العلاقات الإنسانية، يحصل عندما يفقد الإنسان صلته بالعالم الأصلي، ويقع في أسر العلامات والرموز التي هي نسخ عن النسخ، فغدا ما حول الإنسان مصطنعاً، وارتهن معنى الحياة –نتيجة لذلك- للسطح وما يجري على أرضه من تجاذبات. وهذا ما جعل جيل دولوز ينصح بعدم التلهي عبثاً بالبحث وراء الستار إذ لا شئ وراءه البتة، ولا سر هناك.
لقد غابت الأصداء والهمسات التي كان يتحسسها المبدع والفنان والشاعر والفيلسوف في السابق، ولم يعد ثمة أعماق خفية للحياة، هناك فقط مستوى واحد وهو مستوى السطح الذي يتسم بالفوضى واللا-معنى وترسم خارطته شبكة السلطة. وتولد، نتيجة للتطور السريع في التقنية الجديدة التي ضغطت الزمان والمكان، عدم الأمان والتفتيت والتطور المتقلب السريع الزوال. فأصبحنا ننظر إلى عالم مجنون يتسارع فيه التغير وتنعدم فيه الثقة بالأشياء. لقد أصبح الإنسان ممزقاً من قبل القوى التي تتقاذفه والتي لا قبل له بها، فهي تحده وتدفعه في بعض الأحيان باتجاهات لا يرغب في الاتجاه نحوها. بيد هو في صراع مستمر معها للسيطرة عليها، ولعل غاية ما يصبو إليه هو أن يتكيف مع تلك القوى ليحول دون أن يسقط وتسحقه بأقدامها.
مأزق الحضارات
أزمة الغربي، أنه أوكل كل أموره إلى العقلانية، إلى درجة أنه لم يعد قادراً على وقف تضخمها ومنعها من تسطيح كل مظاهر الحياة. ومأزق ثقافات العالم اليوم أنها لم تعد قادرة على الصمود أمام عقلانية غربية تكتسح وتبتلع كل ما حولها من دون أن تميتها، أي عقلانية تقتحم الحدود بدون تصريح، وتحدث خللاً في التوازن النفسي والاجتماعي الذي جهدت الحضارات الأخرى على إبقائه في داخلها. لقد وقعت كافة الحضارات داخل عنق الزجاجة، فلا هي قادرة على إغلاق نوافذها أو صم آذانها على ما يحصل في العالم، ولا هي قادرة بتكوينها التاريخي ومعادلتها الفكرية أن تستمر وتقاوم.
بحكم جنون العالم الذي يختبئ خلف وسائلية السوق وسبرانية المعلومة، تتعرض حضارات اليوم إلى الإلغاء والتفتيت، وتتقطع ثقافاتها بفعل أثير الإعلام والتوجيه الفضائي، وتخترق قيمها من خلال برامج الدعاية ونماذج الاستهلاك المتجددة دائماً. وكما فقد الإنسان الغربي المعاصر السيطرة على النظم التي بناها لنفسه وأصبح أسير عقلانية لا تعرف سوى تصنيف الأشياء وتفكيك وحدتها في جداول مجزأة، فقدت الحضارات الأخرى قدرتها على الصمود أو حتى الاستمرار في ظل واقع كوني جديد.
هيمنة التفسيرات الغربية للحضارة، دفع الثقافات الأخرى إلى تقمص مكونات ليست منها، وإلى نبذ عناصر هي جوهر حقيقتها، فولد ذلك في داخلها، صراعاً بين ثنائيات لا ينتهي، ومواجهة بين مكونات لم تعرفها من قبل: بين عقل ولا عقل، بين غيب وتقدم، بين إيمان وعلم. ونشأ في داخلها تيارات سياسية تنقل صراع الثنائيات إلى الأرض، فسبب ذلك انشطاراً في تكوينها السياسي، وتزعزعاً في تضامنها الاجتماعي، وقلقاً وتشويشاً في بناها الثقافية.
ليست الحضارة أثاراً للبدايات الإنسانية الأولى، أو مجرد تاريخ للعقل في رحلة إدراكه وتصنيفه للعالم، أو تحقيب لمراحل الوعي في تمييزه بين ظواهر الحياة المختلفة، بل هي تجربة صياغة العالم وإعادة تكوينه، هي موقف وجودي واتجاه أو خيار جماعي، يجعل من الحضارة، على الرغم من تماثل عناصر تكوينها عند كل الجماعات البشرية -كما يعتبر اشبنغلر، يجعل منها واقعاً متنوعاً وتشكلاً يتماوج بألوان الحياة الغزيرة، بحيث يكون لكل مجموعة بشرية تجربة خاصة وذوق فريد لا يتكرر في المجموعات الأخرى. بهذا المعنى، لا تعود الحضارة مجرد صدى لرعب المعارك، وضجيج المصانع، وصخب المدن، أو بقايا الآثار المعمارية العجائبية، بقدر ما هي تراث أو إرث بشري متنوع وغني، قد انقضى بعضه أو ذاب داخل كيانات أخرى، وما يزال البعض الآخر مستمراً ومندفعاً، وهي كلها عبارة عن تجارب حياتية تحركها طاقات فريدة للالتحام بالطبيعة وبالكون.
غلب على الحضارات الأولى اتجاه المؤالفة بين حب الطبيعة وبين التقوى وبين الناس، وتجنبت ألفردية الوهمية في مسعى انصهارها مع الطبيعة. أي قامت حضارات لم تستند إلى الفرد ولا إلى المفهوم-التصور المجرد-، بل انطوت على علاقات حب الطبيعة وعلاقات بين الناس من شأنها رفض الفردي والاستبدادي لصالح الحياة الجمعية. فكان الأقدمون يرون الإنسان جزءاً من المجتمع والمجتمع كشيء مثبت في الطبيعة معتمد على قوى كونية، فهم لم يروا الطبيعة والإنسان واقفين يجابه الواحد الآخر، لقد كان ينظر إلى الظواهر الطبيعية كأنها تجارب إنسانية، والتجارب الانسانية كأنها حوادث كونية.
لم تكن هذه الحضارات، معنية بالسيطرة على الطبيعة، كما كان ذلك الدافع الأول للإنسان الغربي. ولم تكن تجربة رجل الحضارات الأول مقتصرة على التصور، بل كانت تشمل كيانه وشعوره وإرادته. وكما يقول أ. فرانكفورت، بأن رجل الحضارات الأول لم يجابه طبيعة جماداً، ولم يجابه ك:"هو" بل ك:"أنت"، فلو استطاع الإنسان القديم أن يدرك الموقف الذهني إزاء الطبيعة لرفضه واعتبره غير واف بتجربته.
من هنا، فإن توسيع الأبعاد الإنسانية، يكون بإدخال كل تجارب الحياة داخل مجال النظر والتأمل، وإشراك الرؤى التي جسدتها حضارات العالم، صغيرها وكبيرها، في اكتشاف الإنسان وفي فهم العالم من جديد. وهنا تبرز الضرورة بتكوين منظور تاريخي شامل يعيد قراءة كل التجارب التاريخية، ليس فقط في مواضيع السلطة ومفاصل النصر والهزيمة، بل يتعداها إلى الميادين التي يتجلى فيها قلق الإنسان وتوتره في ميادين الفكر والفن والسحر والأسطورة والروح والنفس. أي قراءة تجربة الإنسان من منظور كوني وببعد فوق محلي. وكما يقول غارودي، بأن أكبر مآسي التاريخ المكتوب، أنه كتب من قبل المنتصرين الذين يريدون دائماً أن يثبتوا أن هيمنتهم كانت حتمية تاريخية، وأنها ناتجة بالضرورة عن تفوق ثقافتهم وحضارتهم. لذلك فإن الحاجة إلى منظور تاريخي شامل، تتجلى في عرض كافة الإمكانات البشرية وفي التنقيب عن الأبعاد التي فقدها الإنسان خلال فرص التاريخ المفقودة، وفي اكتشاف جميع إمكانات الحضارات الباطنية التي تجلت على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون وعلوم ودول. فليس في وسعنا أن ننتزع جبرية المستقبل إلا إذا انتزعنا جبرية التاريخ ومركزياته المزيفة.
إن دراسة الحضارات اللاغربية تعادل بأهميتها الثقافة الغربية، ومبحث الجمال يعادل أهمية العلوم والتقنيات، ويساوي التفكير في الغايات والأهداف أهمية التاريخ نفسه. أي أن كل أثر انساني من أبسط أداة حتى القانون الخلقي، من التصميم العمراني حتى التحفة الفنية أو العقيدة الدينية يمكن اعتباره مشروعاً لعالم ينبغي تحويله أو خلقه، لنظام لم يوجد بعد، إنه استباق المستقبل، وتحويل رؤيتنا للعالم عن تركزها حول أنان الصغيرة.
ويؤكد جيلبير دوران، صاحب كتاب الانتربولوجيا الشهير، بأن الحرية الحقيقية وشرف النزوع الانطولوجي للبشر، لا يرتكزان إلا على تلك العفوية الفكرية وذلك التعبير الخلاق الذي يشكل ميدانا للتخيل. الحرية الحقة هي إباحة كل نظم التفكير مع التسليم بأن مجمل تلك النظم ليس كثيراً على هذا الشرف الشعري للإنسان الذي يهدف إلى قهر عدمية الزمن والموت. ان علم تربية الخيال يفرض نفسه إلى جانب التربية البدنية والعقلية.
لذلك، فإنه من غير الممكن إقامة تواصل حقيقي بين الحضارات من شأنه أن يتيح إخصاباً متبادلاً بين الثقافات، إذا لم نبدأ بتحليل الآليات التاريخية التي منعت أو زيفت هذا التواصل إلى اليوم، وأفقرت معايير المقارنة، ولا سيما شروط عدم التوازن الاقتصادي المطرد بين الغرب وبين العالم الثالث. أي لا بد أن من إحياء الأسطورة التي تعيد السحر إلى هذا العالم، لكي تنشأ علاقة جديدة بين الإيمان والتاريخ بين الإيمان والعمل بين الإيمان والعالم، وتعود إشعاعات الإلهي تتسرب إلى عمق الإنسان ليتجاوز في تكوينه تخوم الطبقة والعرق والثقافة.
من هنا، فإن الحضارات لا تفهم كما لو كانت في حلبة سباق، أو صراع وجود، بقدر ما ينظر إليها كتجربة حياة ورؤية كونية ونظام معتقدات وتصورات مبتكرة من أجل رسم مدى للوجود وتأسيس طبيعة للعلاقة. الحضارة وضعية تفاعلية في الكون، ورؤية نابعة من موقف تجاه كل الظواهر.
قيمة الحضارة لا تنحصر في حجم كشفها عن أسرار العالم، أو في تمكين الإنسان من تفسير ظواهر الكون، أو في التمكن من التحكم في مسار الطبيعة، فهذا ليس إلا بعداً واحداً من أبعاد الحياة والوجود، بل لعله من الأبعاد الذي حين يتفرد في صنع مصير الإنسان، يحدث خللاً في وضعية الكون بأسره. صحيح أن التقنية الفيزيائية قد رفعت الغموض عن هذا العالم، إلا أن شكل استعمالها، نزع السحر عن الطبيعة وسلب منها جمالها الأخاذ، وأحالت الوجود إلى سلسلة ظواهر متعاقبة محكومة بداياتها ونهاياتها لنتائج محتومة.
لقد أطفأت تقنية الإنتاج والاستهلاك، بريق هذا العالم، وامتزج الطبيعي بالمصطنع، وضخمت ثقة الإنسان بقدراته إلى درجة أنه حول الطبيعة إلى حقل تجارب للدمار، وجعل التاريخ تاريخ صراع بين السيد والعبد. فالعقل قابل لأن ينقلب على صاحبه فيقتله، والعلم يحمل إمكانية التدمير، والتحليل يهدم ولا يبني. لقد تمرد الغربي على الغيب وهو جاهل بأن الغيب يحيط به ويسفه غروره، ونعت كل ما لا يحتمل التصنيف أو لا يصلح في مقدمة منطقية باللاعقل، فإذا باللاعقل يعود من أكثر من موقع، في الفن والحياة والتمرد والحروب.
يقول آلين تورين: "وكأن الآلة الصناعية كلما أمعنت حفراًفي الأرض، تكتشف قوى مطمورة تحتها، ذلك أن العالم الحديث لم يفقد سحره، فيغدو بارداً تقنياً ادارياً، بل عاد يكتسب سحره من جديد. بتنا نشهد أشكالاً متجددة ومسيسة من الهويات القومية أو العرقية تتخذ أهمية وتقاوم أشكالاً من التغيير تراها بمثابة اجتياح لها. بتنا نشهد انبعاث ما اندثر بعد القضاء عليه: متاحف تغص بالموجودات، ومسافرون يهرعون إلى الأمكنة البعيدة والأزمنة القديمة".
لم يعد من الجائز أن ينصب الغرب العقلاني نفسه محتكراً للتاريخية والحرية، تحت طائلة نسيانه لتاريخه الخاص، ولم يعد من المقبول أن نرفض سلفاً رؤية الذات البشرية، بابداعيتها وحريتها، تبحث عن سبل أخرى للإعداد والتعبير، وأصبح من السخف القول بأن الدين بمختلف أشكاله، عدو للتقدم والحرية.
من هنا، فإن حوار الحضارات يعني المشاركة في إدارة هذا العالم، يعني تعددية ثقافية تستدعي إعادة التفكير وإعادة البناء للطرائق غير المتساوية في القوة، يعني اعتراف متبادل لا يقتصر على مجرد مجاملات يتبادلها أحدنا مع الآخر، لكنه حاجة انسانية حيوية تقوم على اساس أن الحياة ذات طابع حواري، وأننا نحدد ذاتنا عن طريق الاتصال بالآخرين. ولسوء الحظ، كما يقول تشارلز تايلور، مع قدوم العصر الحديث أصبحت الحاجة إلى الاعتراف غالبا لا تلقى الإشباع.
يقول آلين تورين:" إن فكرنا يتأرجح تلقائياً بين موقعين وطرفين: إذ يرى بعضنا أن جميع الكائنات البشرية متساوية ومتشابهة أساساً لأنها تتمتع بالحقوق نفسها ولكن هذه الفكرة تدفع هذا البعض إلى المماهاة بين تنظيم مجتمعي ما وبين جامعية العقل. بينما يرى بعضنا الآخر أن من الواجب أن نتعرف في كل شكل من أشكال الإبداع الثقافي على حضور جامعية ليست هي جامعية العقل بل جامعية الاقتناع".
من أوليات الحوار، النقد الذاتي الذي قد يستدعي إعادة بنائها، من أجل استمرارية حقيقية للحضور في هذا العالم، ومن أجل توسعة الذات، ليس لقبول الآخر فحسب بل للاندماج معه بعدما صار يتجول في فضائنا بحرية. من هنا، لم يعد استرجاع التاريخ الذي يحمل البدايات البعيدة، مصدر تمايز للذات ورصيد تغذية للهويات المغلقة، بل تحول إلى لوحة بشرية تمول الإنتماء المشترك للإنسان، وتغذي الذاكرة الكونية للعالم كله، وتولد المشاركة العاطفية بين البشر، وتوتر التحسس الوجداني بوجود الآخر الإنسان لا الشيء.
وبتعبير آلين تورين، إن الخطر الأكبر الذي يخيم على عالم اليوم هو انشطاره بين عالم الوسائلية وعالم الهويات اللذين تخوي بينهما ساحة الحرية.
وبتعبير أولريش بك أيضاً، في كتابه المواطنية العالمية: "لم يعد السؤال يتعلق عما إذا كانت الجماعات ستنقرض أو كيف يمكن انقاذها، بل يتعلق بأن تكوين الجماعة في العصر الكوني قد تحرر من الارتباط بالمكان، والنقطة الحاسمة هي أن القرب الاجتماعي كشرط للحياة الاجتماعية والعمل السياسي لم يعد في الامكان ربطه بالقرب الجغرافي. وهناك من يقول بأن معيشة الناس وتجاربهم يجب أن تفهم على أنها أتت من مكان ما تم تعميمه .
لقد فقد المكان قوته في رسم حدود ثقافة معينة أو في تأطير وجود جماعة بشرية متضامنة، وتشابكت المرجعيات، فانتفت معها الأحداث التي تصنعها فئة خاصة، وتبددت معها الذكريات الخاصة التي تكونها كل مجموعة لنفسها. وهذا يعني أن حوار الحضارات، في ظل هذه التحولات، لم يعد يقتصر على بناء استراتيجية تواصل بين الثقافات المتباينة، أو في طرح آلية تعايش بين الكيانات المتجاورة، فهذه مقاربة تفترض الانفصال بين الكيانات وتتصور التباعد بين الثقافات والمصالح. أصبح الحوار الراهن يتمحور حول خلق فضاء يحتضن كل تنوع، ويتسع لكل دوائر الوجود، ويدمج كل الثقافات ويصهر كل الانتماءات، لينتج إنسانا كونيا، تكون ذاكرته التاريخ كله، وتكون عقيدته احترام الحياة.
يقول أولريش بك في هذا المجال: "في كل مكان في العالم ينظر الناس إلى حياتهم الخاصة عبر عدسة أشكال الحياة الممكنة وهذا يعني أن الخيال أصبح ممارسة اجتماعية، أصبح بأنواعه المختلفة محركاً لتشكيل الحياة العامة بالنسبة إلى كثير من الناس وإلى كثير من المجتمعات. هناك بنية ومنظومة منزوعة المكان للعمل السياسي والاجتماعي، يجب أن يطور منطقها وأن يفهم فهماً صحيحاً، ومن يسير في هذا الاتجاه يكشف أن أشكال اختراع القرارات الديمقراطية والمنظمات السياسية، وحقوق المواطنين يمكن أن تطور وترسم خطوطها وتعاد هيكلتها عبر الحدود".
ويعتبر آلين تورين أيضاً، أن العلاقة بالآخر في الثقافة المعاصرة، أخذت تتخلص من الأطر المجتمعية والثقافية، وأخذت مشاريع الحياة الشخصية تتنوع، وأخذت نحل محل ثقافة القطيعة ثقافة التكامل والتلاقي.
الأديان حوار الحضارات
وإذا عجزت الحداثة الغربية عن تغييب ثقافة الأديان، التي استمرت المصدر الأول للتضامن الاجتماعي كما يقول دوركهايم؛ فإن التداخل بين الثقافات وعولمة الأزمات واشتراك المصالح العالمية، يستدعي إعادة رسم للخطاب الديني، وبناء أدوار ورهانات جديدة للمعنى الديني، تعيد التوازن إلى واقع العالم القلق.
الحاجة إلى خلق عمق روحي يقاوم التسطيح الأداتي والاستهلاكي للإنسان، أفقد دواعي التبشير ومبررات الدعوة بين الأديان، ولم تعد قوة الأديان في زيادة عدد المنتين إليها، أو في نقل الناس من دين وإدخالهم في دين آخر، فذلك شكل من أشكال الصراع بين منظومات السيطرة، ومظهر هيمنة سياسية ذات عمق أيديولوجي وديني، برر إلغاء تجارب روحية متنوعة وغنية في العالم.
رهان الأديان اليوم، هو في توتير الأبعاد الروحية وإغنائها وتنويعها في عالم جفت فيه منابع الروح، وفي تنمية الخيال الذي يوسع المدى المادي للكون، وفي دمج عوالم الغيب من جديد في عالمنا، ولكن هذه المرة خارج كل توازنات القوى وأطر المنظومات. رهانها، أي الأديان، في طرح عناصر التوازن التي ترفع الجنون عن هذا العالم، وتمكن الإنسان من التعرف على نفسه من جديد، من خلال حفر أعماقه المطمورة. إذ ليست أزمة العالم في نقص العقل بقدر ما تكمن في ألوهية العقل وسلطانه المطلق، وتكمن أيضاً في ضيق الحياة، في رحيل السحر، وفي تبدد الخيال، وفي تشتت المعنى وسط حقل كثيف من الرموز والإشارات التي سحبت منها كل طاقة التوليد.
وليس هذا دعوة إلى نبذ القوة، بقدر ما هو دعوة إلى إعادة بناء العلاقات التي تنحصر القوة في رسم خارطتها وتتفرد دوافع السلطة في تكوين تراثها وثقافتها، وإعادة النظر في رفاهية حياة الإنتاج والاستهلاك التي غزت من خلالها حداثة الغرب العالم بأسره. هنالك قلق ويأس وفوضى واضطراب وجنون، خلف السوق المفتوح وأثيرية المعلومة، أي إن حاجة العالم، لا تكمن في نظام إنتاج بديل ووسائل تنافس جديدة وترسانة قوة لإعادة التوازن في سياسة العالم، بقدر ما هي الحاجة إلى محاصرة نظام السيطرة الذي يتوسع بلا حدود، وافتتاح مساحات وجود يكتشف فيها الإنسان ذاته ويحقق بها كينونته التي سطحتها حياة الأضواء والثرثرة.
لم يعد العالم يتحمل صراع حضارات أو تنافساً حول الأحقية، بقدر ما هو بحاجة إلى إعادة إنتاج كل مقولات وقيم هذا العالم من أجل أن يتسع لتجارب لا تستقر في تجددها ولا تتناهى في تنوعها. لقد أسهمت العولمة –ولعل هذه هي فضيلتها الوحيدة- في دمج الثقافات وفي تكوين شروط واقع حضاري لا ينحصر في المكان أو الزمان ولا يحده المحلي. إنه عصر النهايات التي أسقطت كل الشروط والأوضاع التي تحد المدى الإنساني، وانتهت كل نهايات التاريخ التي كانت تتنبأ بتوقف تدفق الحياة واستنفاذ خيارات الوجود. كشفت عولمة الاتصالات مكانية وزمانية الحقائق، وتاريخية السعادة والحرية، وقومية الخير والشر، وأن حضارة الإنسان التي يكتشف من خلالها ذاته ويوسع بها دائرة وجوده، ما تزال في طور الطفولة أو في سفح الجبل. من المؤكد أن العولمة هي نهاية التاريخ الذي كان فيه الإنسان منهمكا بمحلياته وجاهلاً بأبعاده الكونية وبإمكاناته المختزنة، وبداية لتاريخ من نوع آخر، تتغير فيه الأبعاد ويتعدل فيه شكل ومضمون الحدث.