(مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات")
(كلمات الجلسة الرابعة)
حوار الحضارات قاعدة أصلية وأصيلة في قانون التعايش والتعارف بين الجماعات والأمم، فالحوار إلى الجدل هو من أصول التفاهم وتنظيم المصالح، ولكن لكل قاعدة استثناء، والاستثناء هو اسرائيل، لماذا الاستثناء هو اسرائيل.
هل يمكن استثناء الصراع العربي - الاسرائيلي من قاعدة حوار الحضارات؟ فلكل قاعدة استثناء وتشكل القضية الفلسطينية وتداعياتها، منذ قرن تقريباً، تلك الحال المختلفة عن قانون الحوار.
هذه النتيجة تحتاج الى برهان، وهو ما نجده ليس في التاريخ والجغرافيا وحقوق الإنسان فقط بل في مختلف الأوجه والمستويات الدولية والقانونية والخلقية.
اسرائيل في أساسها دولة مخالفة. فهي ادعت ملكية أرض لا سند قانونياً لها. وادعت أن تلك الأرض خالية من البشر لبشر لا يملكون أرضاً. وادعت أن ظلماً وقع عليها في فترة لم تكن موجودة في المنطقة. وادعت أن من حقها استدعاء ناسها الى أرض غيرها رافضة عودة أهل الأرض بذريعة أن مساحتها لا تتسع لعدد كبير من السكان.
لم تقتصر مخالفة اسرائيل لقواعد اللعبة على شؤون الحق والعدالة والانسانية بل، هي الآن، الدولة الوحيدة المخالفة لكل القرارات الدولية وشرعية الأمم المتحدة والمواثيق والمعاهدات الموقعة من دول العالم. فالمخالفة الاسرائيلية شاملة لكل الساحات السياسية والمساحات القانونية. فقبل تأسسها رفضت كل محاولات التسوية (الظالمة في جوهرها للشعب الفلسطيني) التي أقدمت عليها بعثات عصبة الأمم في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتن الأولى والثانية. وهي احبطت كل المبادرات الدولية أو الثنائية التي لجأت اليها دولة الانتداب آنذاك (بريطانيا)، وهي أفشلت كل مشاريع لجان التقصي الدولية أو الأميركية مستخدمة العنف والارهاب ضد الرموز التي تجرأت على كشف الحقيقة.
وحين تأسست الدولة الاسرائيلية استمرت في سياسة المخالفة. فهي رفضت تطبيق قرار التقسيم الدولي (الظالم في أساسه) مستخدمة القوة لاحتلال أجزاء من أراض تابعة للجزء الفلسطيني من قرار التقسيم. وأرفقت رفضها بعدم الموافقة على القرار الدولي الرقم 196 بعودة المهجرين الفلسطينيين الى أرضهم واستمرت على رفضها على رغم تأكيد الأمم المتحدة لمدة تزيد على 50 سنة على ضرورة التزام اسرائيل بذاك القرار.
وبعد حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) انسحبت اسرائيل من سيناء تاركة بعض الجيوب البرية والبحرية تحت سيطرتها في شرم الشيخ وجزر مضيق تيران.
وقبل حرب حزيران (يونيو) 1967 رفضت اسرائيل الاستجابة للدعوات الدولية بعدم تحويل روافد نهر الأردن ضاربة بعرض الحائط كل مشاريع التسوية التي اقترحتها (ضمن معادلة توازن المصالح) الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا محذرة من خطورة اندلاع حرب مياه على مصادر الطاقة المائية، إلا أن تلك الدولة خالفت كل المبادرات الدولية ولجأت الى تحويل الروافد مستندة الى تحالفات دولية عسكرية تعطيها الأفضلية في تقرير استراتيجية خطيرة من طريق القوة.
وبعد حرب حزيران تحايلت اسرائيل على القرار الدولي الرقم 242 ولجأت الى استخدام شبكة علاقاتها الدولية والأميركية لتبرير الاحتلال واستمراره مستخدمة تكتيكات المقايضة بين الأرض والبشر للتهرب من قبول الحل العادل للقضية الفلسطينية.
وقبل حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 اتبعت اسرائيل سياسة الضغط العسكري على جيرانها مستخدمة تفوقها الجوي المدعوم أميركياً لإرهاب الدول العربية المجاورة· فارتكبت سلسلة مجازر في جنوب لبنان ومطاره، وفي الأردن وغوره، وفي القاهرة ومدن مصر. أي أن ارهاب اسرائيل انتقل للمرة الأولى من فلسطين (دير ياسين، كفر قاسم، والقبية وغيرها من مذابح أسفرت عن تدمير أكثر من 400 قرية) الى الدول العربية في محاولة لفرض قانون التهجير السكاني تمهيداً للاستيلاء على الأرض.
وبعد حرب تشرين الأول تحايلت اسرائيل مجدداً على القرار 338 القاضي بتطبيق القرار 242 فماطلت وماطلت ولا تزال حتى يومنا.
وقبل اجتياح لبنان في حزيران 1982 واصلت اسرائيل مخالفة القرارات الدولية الصادرة في العام 1947 و1967 و1973 رافضة عودة المهجرين الفلسطينيين والانسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة. ولجأت الى سياسة فرق تسد على المستويين العربي (عزل مصر عن محيطها) واللبناني (اللعب على تناقضات الحرب الأهلية) مستفيدة من مخاوف التوطين لتمرير سياسة تدمير الدولة وتصديع الثورة الفلسطينية من طريق حرفها عن أهدافها الاستراتيجية.
ونجحت اسرائيل في تلك الفترة القلقة الفاصلة بين حرب 1973 واجتياح 1982 في عزل مصر عن محيطها العربي في مقابل الانسحاب المشروط من سيناء، واستغلال الانقسام الأهلي اللبناني للدخول الى الجنوب واقامة "الشريط الحدودي" في آذار (مارس) 1978، وأخيراً ضرب المفاعل النووي العراقي بذريعة أنه يشكل خطراً على وجودها بعد عشر سنوات. فاسرائيل المخالفة لكل الشرعية الدولية نجحت في توظيف اتصالاتها وعلاقاتها المميزة لتحسين شروط التفاوض واذلال الدول العربية من خلال تدخلها في شؤونها سياسياً وعسكرياً. فبعد ضرب المفاعل العراقي وعزل مصر اتسعت مهمات اسرائيل وبدأت تتدخل في تقرير مصير صفقات تسلح ووضع شروط عليها كما حصل مراراً مع السعودية ودول الخليج بذريعة أنها تعرض أمنها للخطر.
وباجتياح لبنان في العام 1982 وتدمير بناه التحتية واحتلال عاصمته وسرقة آثاره امتدت دائرة الأمن الاسرائيلي التي بدت أن حدودها من دون حدود، مستخدمة بذلك صلاتها الدولية للضغط على دول مثل إيران وباكستان والسودان والجزائر لفرض رقابة على موازناتها العسكرية بذريعة أن تلك الموازنات تشكل خطراً مستقبلياً على أمنها في وقت انكشفت فيه ترسانتها النووية وصواريخها العابرة التي تطال معظم الدول العربية والإسلامية المحيطة مباشرة وغير مباشرة بها.
وباجتياح لبنان في 1982 أضافت اسرائيل الى مخالفاتها السابقة للقرارات الدولية جملة مخالفات جديدة بدءاً بالتدخل في شؤون البلاد الوطنية وتنفيذ مجازر صبرا وشاتيلا وصولاً الى رفضها الاستجابة للقرار الدولي الرقم 425 القاضي بانسحابها من لبنان وجنوبه.
وقبل اندلاع حرب الخليج الثانية في العام 1990 - 1991 استخدمت اسرائيل كل أساليب الخداع الديبلوماسية والسياسية للتحايل على القرارات الدولية رافضة تنفيذها على رغم خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان التي تذرعت بوجودها لاحتلاله.
وحين اندلعت حرب الخليج الثانية وظفت اسرائيل الانقسام العربي لتحقيق استراتيجيتها العسكرية القاضية بإضعاف قوة الردع العربية واستغلال حاجات واشنطن لتقديم نفسها القوة الضاربة الوحيدة في المنطقة التي تستطيع تلبية المشروع الأميركي في الدائرة الشرق الأوسطية الممتدة بحسب المفهوم الاسرائيلي الى ايران ودول آسيا الوسطى وباكستان، فضغطت باتجاه تحديث ترسانتها الصاروخية وتوسيع مدى صواريخها ليشمل عشرات المدن العربية والإسلامية من حدود تونس الى جنوب روسيا ودول شرق أوروبا وجنوبها الواقعة في القسم الشرقي من البحر المتوسط.
وحين حاولت واشنطن احتواء الطموحات الاسرائيلية بإدخالها في منظومة الشرق الأوسط على قاعدة تنفيذ القرارات الدولية خالفت كل التوجهات وتمسكت بحصتها التي تزيد بمقدار كبير على وزنها وحجمها ودورها.
وحين اضطرت الى المشاركة في مفاوضات مدريد لجأت اسرائيل الى سياسة التحايل على القرارات الدولية مستفيدة من الانقسام العربي واختلال الميزان العسكري مجدداً لمصلحة استمرار احتلالها. وفي وقت كانت واشنطن ترى في نتائج حرب الخليج الثانية وتفكك الاتحاد السوفياتي مناسبة لتمرير السلام وجدت اسرائيل أن فرصتها تجددت كحليف استراتيجي للولايات المتحدة لإخضاع المنطقة متوسلة قوتها للضغط على الدول العربية وكسر القرارات الدولية وتعطيلها.
وانتهت مفاوضات مدريد الى حائط مسدود ورفضت الاستجابة للمطالب الأميركية القاضية بوقف الاستيطان والانسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية.
ولم تكتف اسرائيل بهذا القدر من المشاكسة بل إنها نقلت ثقلها السياسي من الشرق الأوسط الى أميركا ضاغطة على البيت الأبيض من خلال علاقاتها القوية مع الكونغرس. فاسرائيل في هذا المعنى مارست سياسة الضغط المتبعة ضد الدول العربية ضد حليفها الاستراتيجي في العالم، الأمر الذي كشف مدى ضعف الادارة الأميركية وهزال سياستها في دائرة الشرق الأوسط.
ونجحت اسرائيل بتطبيق مبدأ اللعب بالتناقضات اللبنانية أحياناً والتناقضات العربية أحياناً أخرى الى اللعب بالتناقضات الدولية وتحديداً التناقضات الأميركية الداخلية مستغلة المشاعر الموروثة من الحرب العالمية الثانية والسياسة النازية ضد اليهود والأقليات الأوروبية الأخرى.
أدركت أميركا آنذاك (انتخابات 1992 الرئاسية) أن اسرائيل تحولت من قوة معزولة في الشرق الأوسط الى قوة مهيمنة ليس على السياسات الأميركية في المشرق العربي بل إن طموحاتها تفوق المعقول. فهي تريد السيطرة على السياسات الخارجية لإدارة البيت الأبيض.
وبانتقال الرئاسة من الجمهوري الى الديموقراطي نجحت اسرائيل في شراء الوقت والدخول مجدداً في استراتيجية المخالفة للقرارات الدولية التي أصبحت قرارات أميركية بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي من الخريطة السياسية.
في فترة كلينتون جددت اسرائيل لعب دور المشاغب على استراتيجية أميركا الدولية من خلال تحسين علاقاتها مع جنرالات تركيا لتوسيع مجالها الجوي والضغط على ايران والعراق وسورية، وتهريب التقنيات والتكنولوجيا المتطورة للصين في مقابل اتباع بكين سياسة متوازنة في شأن القضية الفلسطينية، إضافة الى تدخلها في شؤون البلقان بدعم الصرب، وتحسين علاقاتها الصاروخية والنووية مع الهند لتطويق باكستان، وصولاً الى سرقة أسرار الصناعات العسكرية في الولايات المتحدة ومراقبة خطوط هاتف البيت الأبيض. وليس أخيراً تطويق الرئيس الروسي يلتسين بمجموعة من المستشارين والممولين لانهاك الدولة والضغط على موسكو لعدم تزويد الدول العربية بالسلاح الحديث والمتطور.
وحتى حين اضطرت تل أبيب الى الدخول في مفاوضات ثنائية وجزئية (أوسلو ووادي عربة) لجأت الى مخالفة القرارات الدولية شرطاً للتسوية. فالتسوية عندها تقوم على فكرة الغلبة وموازين القوى، ومفهومها للسلم لا يأخذ العدالة في الاعتبار مقياساً لتوازن المصالح بل قوة الغالب والمغلوب في معادلة الصراع. فإسرائيل لم تعد تشاغب على الدول العربية وتعطل امكاناتها وتستنزف قواها بل وسعت من دائرة اهتماماتها فانتقلت الى الدائرة الإسلامية والدول الأفريقية المحيطة بالدول العربية متحولة بذلك من مخالف للقوانين الدولية الى مشاغب على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، اضافة الى مخالفتها القوانين الأميركية الداخلية. فالخطر الاسرائيلي الآن امتد شرقاً وغرباً وبات على الدول المتضررة منها المساعدة على التخفيف من طموحاتها الاقليمية حتى لا تصل غداً الى عمق آسيا وأوروبا.
الاستثناء عن القاعدة
كما قلنا بداية لكل قاعدة استثناء. والاستثناء الوحيد في سلسلة انتصارات اسرائيل ونمو قوتها القاهرة كان لبنان حين أجبر قواتها للمرة الأولى على الانهزام والتراجع من دون قيد أو شرط. وبطبيعة الحال لم تكن القوة هي السلاح الوحيد الذي اتبع بل ترافقت قوة السلاح مع قوة القانون الدولي. فحين كانت تخالف الشرعية الدولية كان السلاح، اضافة الى توافق ارادة الدولة مع ارادة المقاومة المدعومة اقليمياً، يعيدها الى الساحة الديبلوماسية والقبول بتنفيذ القرار 425.
والسؤال: كيف توصلت اسرائيل الى هذه القوة المتنامية والمشاغبة والمخالفة للحقوق والقوانين والشرعية الدولية؟
في عودتنا للسلوك الاسرائيلي نستطيع أن نلتقط الخيط المتعرِّج في سياستها الدولية والاقليمية. ففي البداية لجأت الصهيونية الى بريطانيا مستفيدة من حاجتها المالية في الحرب العالمية الأولى فانتزعت "وعد بلفور" الذي قال بضرورة قيام وطن لليهود في فلسطين. فأخذت الصهيونية الوعد البريطاني وخالفته حين انتقلت من فكرة الوطن التي رعاها الانتداب البريطاني في فلسطين (مستوطنون واستيطان) الى فكرة الدولة التي رعتها الولايات المتحدة حين قررت الحكومة البريطانية ترك فلسطين بناء على "قرار التقسيم" الذي اصدرته الأمم المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فالفكرة الاستيطانية بدأت بوطن في الحرب الأولى وانتهت بدولة بعد الحرب الثانية. الأولى قادتها لندن والثانية قادتها واشنطن.
وحين تأسست الدولة دخلت اسرائيل على خط تخريب العلاقات العربية - الدولية مستغلة أي خلاف مصالح ينشأ بين الدول العربية وأوروبا الغربية وأميركا. فمثلاً حين اختلفت مصر (عبدالناصر) مع بريطانيا وفرنسا على ملكية قناة السويس دخلت تل أبيب على خط النزاع وشاركت باحتلال سيناء في "العدوان الثلاثي" مستفيدة من الدعم المالي واللوجستي لتحسين آلتها الحربية لتخويف الدول العربية.
وحين دعمت الدول العربية الجزائر في حرب استقلالها ضد فرنسا (الديغولية) انتهزت اسرائيل الفرصة فدعمت فرنسا في حربها ضد الجزائر وحصلت منها على المفاعل النووي وعززت أسطولها الجوي بسلاح طيران متطور (ميراج).
وحين قرر الجنرال ديغول قطع الامداد العسكري لإسرائيل بعد حرب حزيران 1967 انتقلت فوراً الى دعم السياسة الأميركية ضد أوروبا في المنطقة العربية مستفيدة من تقنياتها العسكرية في فترة كانت واشنطن متورطة في حرب المستنقعات في فيتنام.
وحين قررت الأمم المتحدة مقاطعة النظام العنصري في جنوب أفريقيا تحالفت تل أبيب معه مخالفة بذلك الشرعية الدولية مستفيدة من حاجة النظام العنصري الى حليف مشابه له في المنطقة العربية. وبالتعاون مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا طورت اسرائيل ترسانتها النووية والصاروخية وأجرت سلسلة تجارب مشتركة في صحراء ناميبيا على رغم استنكار دول العالم لمخالفاتهما الثنائية.
وحين اختلفت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي على مسألة حقوق الإنسان دخلت تل أبيب على الخط مستخدمة نفوذها المالي والاعلامي وضغطت بواسطة واشنطن على موسكو لتسهيل خروج اليهود السوفيات في مقابل السكوت عن مسألة حقوق الإنسان، مختزلة قضية حقوق الإنسان الى نقطة واحدة وهي فتح باب الهجرة اليهودية الى فلسطين. وزداد الطين بلة حين انهار الاتحاد السوفياتي إذ نجحت تل أبيب في اقناع واشنطن بمنع الهجرة اليهودية الى الولايات المتحدة واختصار الخروج الى جهة واحدة: فلسطين.
أما الطامة الكبرى فهي حصلت حين تفكك النظام العنصري في جنوب أفريقيا وانتقلت السلطة الى الأكثرية الأفريقية، لجأت اسرائيل الى قوتها المالية والاعلامية لمنع الدول العربية من الاستفادة من الحدث التاريخي فتظاهرت بدعمها للنظام الجديد في مقابل السكوت عن تحالفها مع النظام العنصري الذي قام أصلاً على فكرة مشابهة للفكرة الصهيونية العنصرية.
فإسرائيل المخالفة للقانون الدولي كانت تبني استراتيجيتها الاقليمية وفق التحالف مع القوة الدولية الكبرى لتنفيذ سياسات تعزز من قوتها العسكرية التي استخدمتها دائماً لحماية احتلالها وشغبها الدائم على المصالح العليا للدول الكبرى في المنطقة. فالمخالفة الدولية تعايشت في السياسة الاسرائيلية مع تكتيكات متلونة تتأرجح بين هذه الدولة الكبرى وتلك مستفيدة من حاجاتها الموقتة لتعديل ميزان القوة لمصلحتها. فالمخالفة تعايشت مع اللعب على التناقضات الدولية سواء كانت بين دولة أوروبية وأخرى، أو أوروبا وأميركا، أو أميركا والاتحاد السوفياتي، وأخيراً بين الصين وأميركا، والهند وباكستان، وروسيا والصرب في البلقان.
الى ذلك استفادت تل أبيب كثيراً من تعدد الدول العربية والإسلامية واختلاف مصالحها وحاجاتها وسياساتها الخارجية، مستغلة أحياناً خلافات لها صلة بالحرية والاستقلال كما حصل مراراً في الجزائر أو السودان أو اليمن، فتأخذ موقع القوي المعادي للعرب والمسلمين لتحسين قوتها العسكرية واستخدامها في حروبها الخاصة والاقليمية ضد الدول العربية والإسلامية. وتكرر الأمر مع بريطانيا في مطلع القرن، وفرنسا وبريطانيا في الخمسينات والستينات، وجنوب أفريقيا في السبعينات والتسعينات. وأخيراً أميركا منذ السبعينات الى يومنا. فالانتهازية الاسرائيلية لم توفر ثغرة إلا ودخلتها بدءاً من الهند وصراعها مع باكستان وصولاً الى الصرب وحرب البلقان. فالانتهازية المذكورة كانت المرشد العام لمخالفات اسرائيل الدائمة للشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي ترفض تنفيذها حتى الآن.
والآن وبعد ضربة 11 أيلول (سبتمبر) نجد اسرائيل تستخدم تلك الانتهازية الدائمة لتمرير مخالفتها للشرعية الدولية وقراراتها من خلال كسر الاتفاقات المهزوزة (والظالمة في كل الحالات) مع منظمة التحرير مستفيدة من حال الفراغ السياسي الناجم عن حرب الولايات المتحدة على شعب أفغانستان. فإسرائيل استغلت وتستغل كل حادث في العالم لربط نفسها بمنظومة العلاقات الدولية وتوظيفها لخدمة مصالحها الاقليمية وتعزيز قوتها العسكرية في وقت تقوم هي بمخالفة القرارات الدولية وشرعية الأمم المتحدة، فدائماً اسرائيل هي الاستثناء. الاستثناء في كل المجالات والحقول والسياسات. فهي دولة مخالفة منذ تأسيسها (قرار التقسيم) وقبل تأسيسها (وعد بلفور) وبعد تأسيسها (حرب حزيران واحتلال الأراضي العربية). وكذلك ينطبق الأمر على ما قبل انسحابها من جنوب لبنان وما بعد انسحابها. فالمخالفة هي نهج اسرائيل الدائم سواء كانت مخالفة جزئية أو كلية للقرارات والشرعية الدولية. وهذا ما يمكن ملاحظته في تكتيكاتها اليومية سواء في مجزرة قانا جبل عامل (1996) أو في مجزرة بيت ريما (2001).
والاستثناء لا يقاومه الا الاستثناء. ومن يستثني نفسه من كل المعادلات الدولية ويتجرأ على المشاغبة على كل الاستراتيجيات وتوازن المصالح والشرعية الدولية يجب ان يستثنى من قاعدة "حوار الحضارات" والتعارف بين الشعوب والأقوام والقبائل.