مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الافتتاح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، والصلاة والسلام على من جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، سيِّدنا ونبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
وبعد أيها السادة: بين العلم والثقافة والمعرفة وبين الدين رباطٌ وثيق وحبلٌ متين لا يدركُهُ إلا ذو فطرةٍ سليمة، ولُب نقي، وقلبٍ سليم ولا أدلَّ على المَوْثِقِ والعهد المحكم الذي بين العلم والثقافة والمعرفة وبين الدين في الإسلام ولا أدل على ذلك من الخطاب الرائع الذي بدأ اللَّه به وَحْيَهُ على خاتَمِ أنبيائهِ ورُسُله في أول آيةٍ أنزلها عليه من القرآن الكريم بقوله تعالى:
" إقرأ باسم ربِّك الذي خلق خلقَ الإنسانَ من علق إقرأ وربُّكَ الأكرم الذي علَّمَ بالقلم علم الإنسانَ ما لم يعلم"؛ وهو خطاب أيضاً لكلّ إنسانٍ يطلب العلم والثقافة والمعرفة.
إننا أيها السادة، حين نجعل العلمَ والثقافةَ والمعرفةَ مِحْوَرَ نشاطاتنا العقلية، وأساسَ حياتنا الفكرية، الثقافةَ البانيَةَ لا الهادمة التي تُطِلُّ على الحوار والانفتاح، وتُحقِّقُ سلامَةَ المجتمع والوطن والأمة، وتوفِّرُ المناعَةَ الفكرية في مواجهة ألوانِ الغزو الفكري الذي أعقبَ غزوَ الجيوش ثم جلاءَها في مجال السيطرةِ وبسطِ النفوذ والهيمنة.
إننا حين نجعل الثقافةَ البانية أساسَ حياتنا، على ضوء القواعد الهاديَةِ في القرآن الذي أنزَله اللَّه بعلمه، وهو الذي يعلَمُ السِرَّ في السموات والأرض، فإنَّنا لا نَضِلُّ حينئذٍ ولا نشقَى، فالذي خَلَقَ الإنسانَ وهو الله عز وجل وخلق هذا الكون الفسيح العظيم هو أعلم بالانسان وبما يُصلحه في حياتِه الدنيا والآخرة، وقد قال اللَّه تعالى في هذا الشأن في القرآن الكريم : "هو أعلَمُ بكُم إذْ أنشأكُم من الأرض وإذ أنتُم أجِنَّةٌ في بُطونِ أمهَّاتِكم فلا تُزَكُّوا أنفُسَكُم هو أعلمُ بمَنِ اتَّقَى".
ولذلك أيُّها السادة فإن ثقافَةَ القرآنِ ينبغي أن تأتي في طليعَةِ الثقافة التي نُعَوِّلُ عليها في منطلقات تفكيرنا وأساسيَّات حياتنا، وفي تَطَلُّعِنا نحو الأفضلَ، ونحوَ المستقبل، ذلك أنَّ ثقافةَ القرآن تُنيرُ العقلَ والقلبَ والفِكْرَ معاً، وتفتحُ أمام الإنسانِ آفاقاً لمعرفةٍ أوسعَ، وعالَمٍ أرحَب، وسعادةٍ أشمل، في عالَمَي الدنيا والآخرة،أَلَم يَقُلِ اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم: "إنَّ هذا القرآن يهدي للَّتي هي أَقْوَم"؟.
إن ثقافةَ القرآن أيها السادة، تقوم على إعلاء شأنِ العلمِ والثقافَةِ والمعرفة والتفكُّر والاطلاع.. والبحث والتلاقي والتعارف والحوار، والانفتاح على كل القيمَ التي تُعلي من شأن الانسان وتحضُّهُ على التفكير وإعمالِ العقل والتمسُّكِ بالقيم والأخلاق الكريمة الفاضلة وحسن المعاملة مع غيره، كما تحضّهُ أيضاً على العدلِ والتسامُح والاعتدال، في كل شأنٍ من شؤون حياته التي لا تنتظِمُ تماماً إلاَّ بالقواعد الهادية في القرآن كتاب الله عز وجل ورسالته الاخيرة الى الناس، كما لا ينتَظِمُ أمرُ الكَوْن إلا بسُنَنِه وقوانينِه التي يَسيرُ عليها وينتظمُ بها.
إن ثقافةَ الإنسان في القرآن أيها السادة، تقومُ أوَّلَ ما تقوم على اختيار الكلمة الملائمة لا أيَّة كلمة، والكلمةُ الملائمةُ في ثقافتنا هي الكلمةُ الطيبةُ التي وَرَدَ بها الخطابُ في القرآن بقولِه تعالى:
"أَلم تَرَ كيفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً كلمةً طيِّبَةً كشجرةٍ طيِّبة أصلُهَا ثابتٌ وفَرْعُها في السماء تُؤْتي أُكُلَهَا كلَّ حينٍ بإذْنِ ربِّها ومَثَلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثة إجْتُثَّتْ من فَوْقِ الأرضِ مالَهَا من قرار".
إنّ الثقافة التي تقوم على الكلمة الطيِّبة أيُّها السادة، وعلى الحكمة والمَوْعِظَةِ الحسنة، واعتماد لغة الحوار بين الناس وبعضهم، تُقَرِّبُ بين العقول، وتُؤَلِّفُ بين القلوب، وتُدخِلُ الأمنَ والأمانَ والاطمئنانَ الى النفوس، وهذا ما يحتاجه لبنانُ اليومُ في ثقافة أبنائه.
من هذا المعين العظيم الذي لا ينضب ابداً كانت مسيرةُ الإمام السيد موسى الصدر، من هذه القيم الثقافية السامية انطلقت مسيرة الإمام الصدر وتوجُّهُهُ الى الناس كلِّ الناس؛ فخاطبَهُم بلغة العقل وبلغة القلبِ معاً، فدخَلَ إلى قلوبِ الناس، وتحلَّقَتْ من حوله الجموع، وتلقَّحتْ من علمهِ العقول، فاستَفَادَتْ ممَّا أنعَمَ اللَّه عليه من علمٍ وثقافَةٍ ومعرفة، وما اختزَنَ في عقله وقلبه من قِيَمِ الاسلام وثقافَتِهِ ذاتِ المنحى العالمي، لأنها توجَّهت بخطابها الى الأمم والشعوب والى الناس جميعاً في كل مكان من العالم، ألم يُخاطِب اللَّهُ في القرآن الكريم الناسَ جميعاً بقوله تعالى:
"يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذَكَرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوبا وقبائلَ لتعارَفوا إنَّ أكرمَكُم عند الله أتقاكم"؟ ألم يَقُل اللَّه لخاتَم أنبيائه ورسله سيدنا ونبينا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في القرآن : "وما أرسلناكَ إلاَّ كافَّةً للناس بشيراً ونذيراً"؟ أَلم يَقُلِ اللَّه لنبيِّهُ ورسوله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: "وَمَا أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمين"؟
جعلنا اللَّه وإياكم أيها السادة ممَّن يستمعون القولَ فيَتَّبِعُون أحسَنَه، وَوَفَّقَنا وإياكم لنشر العلم والثقافَةِ والتقريب بين الناس جميعاً، لتَعُمَّ لغةُ الحوار، وثقافة الإنسان التي تقوم على القيم والأخلاق التي نادَتْ بها الرسالات.
أشكركم أيها الإخوة وأتمنَّى لمؤتمركم هذا النجاح فيما يسعى ويهدف إليه من خير، والسلامُ عليكم ورحمةُ اللَّه وبركاته.