مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الافتتاح)
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وعلى جميع انبياء الله ورسله وعباده الصالحين.
والسلام والتحية الى الاخ الامام السيد موسى الصدر صاحب الرؤية الثقافية الرائدة التي شع وهجها في سماء عالمنا العربي والاسلامي.
والسلام عليكم جميعاً، اخواني واخواتي ابناء مدرسة الامام الصدر، مدرسة ثقافة الاسلام والايمان الابراهيمي الكبير والتنمية والجهاد والمقاومة، السلام عليكم في يوم العودة الى الامام الصدر في بعده الثقافي، الحاضر فينا فعلاً يومياً، وثقافة قرآنية حية وانجازات ظاهرة ومستقبلاً مرجواً ان شاء الله...
ان الامام السيد موسى الصدر، باعتباره عالم دين يمثل احد انقى وابرز التعابير الحديثة للرؤية الدينية المستنيرة على قاعدة الاجتهاد المتفاعل الاجتهاد مع قضايا المجتمع وقضايا الحياة المعاصرة، وهو من جيل الفقهاء الذين عملوا على تطوير رؤية في مجال الاجتهاد تلحظ جدل النص الشرعي مع الحياة والواقع انطلاقاً من المكونات الذاتية للنصوص من دون استعارة مناهج وافكار غربية على اللغة العربية او على طبيعة الشريعة الاسلامية.
إن الحديث عن الثقافة يستدعي دائماً الحديث عن ابعادها، وعما ينبغي ان يكون عليه الانسان في حياته الخاصة والعامة من مبادئ واخلاق وقيم، لان الحياة العملية للانسان انما تتبلور في ضوء المعطيات الروحية والقيمية والعقلية التي يعيشها الانسان، وقد سبق للامام موسى الصدر ان عرف الثقافة وفسرها بالحياة العقلية. وبكل ما تشتمل عليه من تشريع حقوقي وفلسفة وتصوف وعلوم وفنون واداب، وهذا التفسير يلحظ الثقافة باعتبارها المضمون الداخلي للانسان الذي يوجه حياته ويميز شخصيته في الاجتماع الانساني.
ان الثقافة مفهوم متنوع الجوانب الى درجة قد يمكن القول فيها ان ثمة مفاهيم متعددة للثقافة. هناك الثقافة النظرية المحضة التي ليس لها اثر مباشر في المجتمع، وهناك الثقافة بمعنى الاعراف والعادات والتقاليد التي تنعكس في انماط الحياة، وهناك الثقافة بمعنى يتجاوز هذا وذاك الى المعرفة والمقولات الفكرية التي تتكون منها وعلى اساسها الرؤية السياسية والموقف السياسي من قضايا الوطن والامة...
ثقافة ترتكز على رؤية معينة لتنظيم المجتمع ووضعية الانسان في المجتمع والعالم...
وانطلاقاً من ذلك، فان الامام موسى الصدر كان دائماً يركز على الجانب الثقافي باعتباره جانباً وبعداً اساسياً في الشريعة الاسلامية، مستدلاً على ذلك بحقيقة ان الوحي الالهي بدأ بكلمات القراءة والكتابة والقلم والسطر، ولا شك في ان بدء الوحي بذلك هو اوضح ايحاء بهذا الاصل، حيث قال تعالى: "اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم.".
لقد بدأ الوحي القرآني بآيات القراءة والعلم والقلم ليسجل منذ اللحظة الاولى لولادة الرسالة الخاتمة ان نهج الاسلام هو نهج العلم، وليس نهج الخرافة، نهج العقل وليس نهج الاوهام.
ان الله تعالى لا يخلق فقط ثم يدع خلقه دون رعاية وتدبير، وانما هو خلق مستمر، وربوبية دائبة وتربية مستمرة للانسان وغيره من المخلوقات في كل آن.
وهذه التربية الدائمة، وهذا الخلق المستمر يبلغان اعلى مستوى بالعلم الذي يحقق للانسان اعظم ادواره، ويمكنه من فتوحات كبرى في عالم الشهادة ينبغي ان تجعله اكثر صلة بعالم الغيب وايماناً به، وبذلك يعده لممارسة الخلافة على الارض، ويحقق فيه ارادة الله تعالى الذي علم ادم الاسماء كلها.
ان المتتبع لخطاب الامام الصدر يلاحظ انه كان في حديثه عن الثقافة الاسلامية ينطلق من نقطتين اساسيتين هما : المفاهيم والتعاليم.
والمفاهيم بنظره هي النقطة الاولى في ايجاد شخصية المسلم، باعتبار ان الاسلام في اركانه الثلاثة: العقائد، الاعمال، الاخلاق، يجعل للمسلم قاعدة فكرية ترتكز على مفاهيم معينة تعد اساساً لايمانه وعباداته وحقوقه وواجباته ومثله الاخلاقية. هذا اضافة الى ما يقدمه الاسلام ايضاً من مفاهيم عن العمل الذي هو عبادة اذا اقترن بالاخلاص، ومفهومات عن الدنيا والاخرة، وعن الجسم والروح، وعن الخير والشر، وعن الطيبات والخبائث.
هذه المفاهيم بنظر الامام الصدر، وجميع فقهاء المسلمين هي النقطة الاولى في الثقافة الاسلامية، وهي حجر الزاوية في بناء عقائد المسلم وافعاله واخلاقه، هذا في جانب المفاهيم.
أما في جانب التعاليم الاسلامية فإن القرآن والسنة النبوية كانا دائماً يزودان المسلمين بالثقافة في مختلف ابوابها، فالعقائد والتشريع، والتربية الخلقية، والادب والفن والامثال والقصص الموجهة ملأت افكار المسلمين وطورت عقولهم وهذبت نفوسهم.
ومن هنا فإننا نرى ان الثقافة الاسلامية ليست شيئاً مجرداً، وانما هي ذات ابعاد شاملة في حياة الانسان، ولا يمكن ان تنفصل عن الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتنمية، هذا فضلاً عن القيم المعاشة في المجتمع، وذلك من منطلق ان المضمون الثقافي لكل شعب من الشعوب ولكل امة من الامم لا بد ان تكون له تعبيراته في جوانب الحياة المختلفة.
وبمقدار ما تكون القيم المعاشة، حية ومتحركة، بمقدار ما يكون ممكناً التحقق سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً.
ان الركائز الثوابت لكل ثقافة هي القيم، فاذا كانت القيم الحية المحركة هي القيم الفردية والعشائرية (القبلية) التي لا تأخذ بعين الاعتبار حاجيات المجتمع والجماعة، وكانت معادية للتغيير والابداع والتطور وتحول دون الاجتهاد والانفتاح والحوار، اذا كانت هذه القيم لا تخدم حقوق الانسان وكرامته، فإنها لا تكون ثقافة نابعة من الاسلام ولا معبرة عنه، لانها تؤدي الى تفسخ المجتمع وتخلفه، والى ضعف الدولة وانحلالها، والى تقييد البشر بالقيود والاغلال.
وكما نعلم جميعاً ان الاسلام جاء ليطلق ارادة البشر، ويحقق لها الخير العام، كما قال تعالى: "يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم".
ولا شك ايضاً في ان القرآن الكريم قد اشار الى حقيقة ان القيم الصالحة الحية، هي في اساس تكوين المجتمع الصالح والدولة الصالحة. وفي معرض بيان عوامل سقوط اليهود وفقدان دورهم، يقول عز وجل"... ونسوا حظا مما ذُكروا به".
إن الثقافة الحقيقية، كما عبر عنها الامام موسى الصدر، هي الثقافة التي تربط بين السماء والارض، بين الدنيا والاخرة، وتصل المخلوق فرداً وجماعة بالخالق عز وجل، فتتصف بالربانية والقداسة والقوة، وتُرضي بهذه الصفة جميع مشاعر الانسان.
ومن هنا، ضرورة المراجعة الدائمة من قبل قيادات المجتمع الثقافية في المجال الديني والثقافي العام لمكونات الثقافة التي يتداولها المجتمع، وينتجها ويتمثلها في عقول ابنائه ووجدانهم، وتتمثلها الجماعة في عقلها ووجدانها ويرصد تفاعلاتها لئلا تلابسها عناصر سلبية تخرج بها عن مسارها ورسالتها.
ان ميزة الثقافة الاسلامية في كل عصر وزمان هي انها تدعو الى الوحدة والحوار والتقدم في مختلف مجالات التطور العقلي، وتتمثل كل جديد وكل معرفة وتعتبر ذلك سبيلاً الى الله تعالى وما لم تنشد الثقافة ذلك، فإنها لن تكون ثقافة اسلامية حقيقية.
وهذا ما كان يردده دائماً الامام موسى الصدر ويعمل له، حيث انه كان يرى ضرورة لان يأتي كل نشاط ثقافي في اي حقل من حقول الثقافة منسجماً مع النشاطات الاخرى في وحدة منسقة تعكس في سمع المثقف السمفونية الكونية، وتسبيح الموجودات كلها.
ولذا، فإن على الانسان المسلم ان ينفض عنه غبار الغربة والتقليد، وكل ما تولد عن تقليده للغرب، وان يتوجه من جديد نحو عالمه الذي هو الاسلام، باعتباره محتواه الثقافي وعالمه الثقافي ومجاله في الرؤية. وهذا ما يحتم القول بان الثقافة الاسلامية تنمو وتتفاعل في داخل المسلم من خلال مناخ حضاري اسلامي، وهذا المناخ دونما شك مختلف عن الرؤية الحضارية الاخرى، كما انه مختلف تماماً عن الرؤية الحضارية السائدة في عصرنا الحاضر، لانها رؤية مادية محضة تشوهّ قيم الانسانية، وتدعو الانسان الى عالم مادي، هذا فضلاً عما تسعى اليه من نفي للآخرين، في حين ان قوام الثقافة الاسلامية كان ولا يزال الحوار مع الاخر والتفاعل معه، باعتبار ان الحوار يغني الثقافة، ويسلك بها الى السبل والمساحات التي تفتقر فيها الجماعة الى الرؤية الرشيدة.
ولا شك في ان الامام السيد موسى الصدر، كان رائداً في اطار الدعوة الى الحوار والتلاقي، والعالم كله، وخاصة اللبنانيين، يعرفون جيداً ما كان عليه الامام الصدر من حرص في هذا المجال، حيث انه لم يدّخر جهداً الا بذله من اجل اعطاء الثقافة طابعها الحقيقي، ومجالها الرحب، بهدف ان تتلاقى الشعوب والاديان، لان الاسلام يرحب بكل حركة فكرية ايجابية، وكل تطور عقلي سليم، ويعتبر كل هذا جزءاً من رسالة الانسان في الحياة وواجباً من واجباته.
واذا اراد المسلمون والعرب في مجتمعاتهم ان يبنوا حضارة، وان يستعيدوا السيادة على ساحة العالم، فليستعيدوا ثقافتهم الاسلامية، ليس في الكتاب والمجالات المتخصصة باحياء التراث فحسب، وانما في الحياة العملية المعاشة من خلال الفرد المسلم والتربية البيتية، والاسرة المسلمة، وهذا يعني ان تعطى الاولوية لتربية المجتمع. ومن ثَمّ العمل من اجل استمرار الاسلام وثقافته الحية في الامة،على قاعدة الحوار مع الآخر بهدف التكامل معه والانفتاح عليه لانه ضمانة تطبيق الشريعة، وضمانة اقامة الدولة، وهذا لا يحصل الا بإيجاد مؤسسات قائدة تعنى بالعملية التربوية وترعاها على مستوى الامة، وتتركز مهمتها على إحياء القيم والمقولات الثقافية الاسلامية، لا باعتبارها مواداً علمية يكتفى بمعرفتها، وانما باعتبارها مواد تربوية تساهم في تكوين شخصية الانسان المسلم وتطبع سلوكه الحياتي. وفي الوقت ذاته لا بد ان تقوم هذه المؤسسات البديلة بمهمة تنقية عقل المسلم وقلبه من المقولات الدخيلة التي لابستها.
والحمد الله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.