موضوع استثنائي لفكر استثنائي

calendar icon 11 تشرين الثاني 1999 الكاتب:جان عبيد

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الجلسة الاولى)



أيها الأخوة والأخوات

نلتقي اليوم في رحاب موضوع استثنائي وفي مناخ فكر رجل استثنائي هذا الاستثناء في البعد الثقافي في سيرة الإمام الصدر، وإن هذا البعد الثقافي في رأيي على اتساع شأن الدين وأوامره ونواهيه ينهل عند الإمام السيد موسى الصدر من المنابع التي تعلي شـأن الدين وترفعه فوق المذاهب وفوق الطوائف، وأظنني لا أغاير فحوى مسيرته ورسالته إذا قلت ان الايمان عنده  فوق الدين على ما رسخ في أذهاننا في السنين الاخيرة من إقران الدين بأمة من الأمم او بالجانب الوراثي الذي يصح علينا فيه اننا قد نرث أدياننا ولكننا سنختار أعمالنا وايماننا وبهذا نحن إلهيون اكثر مما نحن مسلمون او مسيحيون او يهود او بوذيون او هندوسيون.

والدين هو الرافد الأكبر في فكر الإمام وأقول أنَّ في ثقافته أي في البعد الثقافي عنده مناهل قد لا ترقى إلى مصافي الدين بمعناه الإلهي ولكنها أيضاً تستقي منه وتستقي من مناهل أخرى وهنا تكبر عظمة الإمام، كل منّا يرث دينه أو مذهبه ولكنه في النهاية سيحاسب امام رب العالمين على ما يختاره لا على ما يرثه. وتعجبني في ما تعجبني في الذكر الحكيم تلك الآية "وترى كل أمة جاثية، كل أمة تدعى إلى كتابها، اليوم تجزون ما كنتم تعملون".

الإمام لم يكن الرجل الذي يقرأ في كتاب واحد. على كبر وسمو الكتاب الواحد الذي قرأ فيه وبدأ حياته فيه لكن فِكرَهُ كان بهذا النحو انسانياً شاملاً أكثر ما يسمى بالبرمجة، البرمجة أحياناً تشاؤم، لأي دين معين أو مذهب ان يكتفي بكتابه لكن الرجل الذي يسمو فوق دين المذاهب والطوائف يفتح قلبه وعقله وضميره كما عمل الإمام لجميع الكتب السماوية دون أن يخل بالأسس وبالأوامر والنواهي بل على العكس من ذلك كان النبع الأول في حياته والأخير في حياته ذلك الكتاب الكبير الذي أنزله الله تعالى.

البعد العربي الذي تغيّر في اللحظة الأخيرة، الإسلامي في مسيرة الإمام الصدر أو الثقافة بين الغزو والانفتاح تقودنا أياً كانت جوانب هذا الموضوع الى موضوع أساسي. هل كانت الأديان لفريق من الأمم والشعوب بل إنها كانت في مسيرتها وتوجهها واهدافها  لجميع الأمم والشعوب. الذين يصورون الله وكأنه لفريق حزبي أو مذهبي أو طائفي أو لأمة من الأمم أعتقد أنهم لا يعبرون عن حقيقة الدين الذي ينتمون اليه. يحضرني الى جانب ذلك كلمة للسيد المسيح فيما أوصى فيه "من كان منكم يريد أن يكون كبيراً فليكن للآخرين خادماً". وآية أخرى في حديثه "كونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام ". وحكمة ثالثة أيضاً في حديثه: "من هو قريبي يا سيدي فأجاب بعد تجربة السامري قريبك من أحسن إليك". إذا أساء مسلم الى مسلم فليس بقريبه وليس بمسلم وإذا أساء مسيحيٌّ الى مسيحي  فليس بقريبه وليس مسيحياً وإذا أساء مسلم إلى مسيحي فليس مسلماً والعكس كذلك. روح الدين هو الإحسان وهو الإحسان للآخرين اذن هو الاعتراف بالآخر ولعل مسيرة الإنسانية منذ قتل قايين أخاه الغاء للآخر الى عصرنا هي مسيرة مكافحة الالغاء، في قلب العائلة الواحدة والمذهب الواحد والدين الواحد والأمة الواحدة بل في قلب جميع الأمم.

إن الأمم التي تلغي بعضها في الثقافة لا تنقصها المكننة في هذا العالم ولا العصرنة ولا العلمنة، لا ينقصها الكثير من أدوات التقدم بل ينقصها الى جانب تلك المكننة والعصرنة والعلمنة الأنسنة التي من أجلها جاء الدين والدين لا يتآخى مع الاكراه، ليس فقط لأنه لا اكراه في الدين وليس فقط لأن الله نهى أنبياءه، وتحضرني تلك الآية من البينات " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين". هذا استفهام الانكار كما يسمى بالبلاغة، الاعتراف بالآخر اعتراف بثقافته بحقه ومن باب أولى فإذا كان لا اكراه في الدين فمن باب أولى يجب أن لا يكون هناك اكراه في الدنيا إذا كان الكلام المنزَّل لا اكراه فيه وقد قال رب العالمين في كتابه الكريم للنبيّ: "ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين". وفي قوله هذا انه إذا كان الكلام الإلهي الذي يجب أن ينزل كحد السيف يحتاج الى الحكمة والى الموعظة الحسنة والى الجدال بالتي هي أحسن فكيف بنا في هذه الدنيا التي تتنافر وتتناقض فيها الأذواق والعادات والتقاليد واحيانا القيم وحتى الألوان والألسن، ولا يمكن أن يكون على هذا الكوكب سلام إذا لم يعمد الى احترام الآخر ثقافة، دينا، عادات، وتقاليد والى أن يستقي كلٌّ منا من هذا النور الإلهي الذي أسميه أنا هذا البحر الإلهي في قول لعمر الخيام ترجمه أحمد رامي "إن تُفصلُ القطرةُ من بحرها ففي مداه منتهى أمرها" جميع هذه الأديان والثقافات مفصولة من البحر الإلهي وعائدة اليه وبقدر ما تعرف بدايتها ونهايتها وتبقى على روح هذه البداية وعلى نهايتها وهي الروح الالهية بقدر ذلك تعبر عن انسانيتها وعن روح الدين الحقيقي الذي أعتقد، وإن اختلفت فيه المذاهب والطوائف هو واحد عند الله، الدين واحد عند الله، وإن تعددت السبل وبهذا المعنى كانت مسيرة الإمام السيد موسى الصدر في بدايتها وسيرها وفي منتهاها كانت دائماً مسيرة مؤمنة واسعة الأفق انسانية بل كونية الأهداف والسلام عليكم.

source