مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الجلسة الخامسة)
أيها الحفل الكريم
اسمحوا لي، بداية، أن اتوجه بتحية التقدير الكبير لـ "مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات" وللمشرفة الأولى على إدارته ونشاطاته، السيدة الفاضلة رباب الصدر شرف الدين. فخير الوفاء لمسيرة الإمام السيد موسى الصدر جعل غناها وخصبها مورداً ومنهلاً دائمين متجددين لقراءة معرفية نقدية تحسّن مقاربتنا لمسائل حاضرنا، وتمنحنا المزيد من القدرة على استشراف مستقبلنا، وعلى مستوى الإعداد السليم له بخاصة.
وأما خير الذكر لإمامنا الكبير، ولمسيرته الرائدة، فأن يجعل التراث الذي خلّفه، في صلب الذاكرة الجماعية، مصدر إيحاء واستلهام. وإنما هذا ليس من أجل العثور فيه على أجوبة جاهزة. بل من أجل الإنتباه الى حسن طرحنا للأسئلة من حيث الأساس، والتي تعتمل في واقعنا وعصرنا. وهو ما تنطوي عليه الروحية، أو الذهنية، التي بها انطلق الإمام السيد موسى في نظرته التصدية لمسائلنا.
وإننا لنستلهم الكثير الكثير من الذهنية التي أطل منها الإمام على وقائعنا اللبنانية. وهوما يسوّغ حقاً التقدير الكبير للهواجس المعرفية والتثقيفية التي يتطلع إليها هذا المؤتمر الدراسي المنعقد على جهود معرفية لا تتأسس أصلاً على غير الذهنية المنفتحة.
بل ربما كانت هذه الذهنية المنفتحة سر المسيرة الثقافية للإمام السيد ذهنية الحوار أصلاً، وفي الوقت عينه.
ولقد كان لتوقفه الخلاق عند هذه المسألة، مسألة ثقافة الحوار، طابعاً ريادياً حقاً وطابعاً استشراقياً فعلاً.
وإن الأمر هنا يتعدى لبنان ليكون تبصراً مبكراً لتبدلات نوعية راح عالمنا المعاصر يشهدها مؤخراً، على صعيد بنية الدول ونسيج مجتمعاتها وشعوبها، على أبواب القرن الواحد والعشرين.
فالأحادية الإتنية أو الدينية، والتجانس الثقافي الأحادي، يتعرضان اليوم للإهتزاز، بصفتهما الركيزة الوحيدة وعنصر التماسك الأوحد اللذين كانت الدولة تبنى عليهما وتستمر، كما عهدنا حتى الماضي القريب.
الدولة المسيجة، المتفاصلة، عن دولة أخرى، والمجتمعات المتباعدة عن بعضها البعض بأسوار متعددة الأشكال السياسية والثقافية والدينية والاقتصادية، والمتجانسة على أساس أحاديتها الإتنية والدينية والثقافية، بدأت هذه كلها تخلي المكان لصالح تركيب آخر على صعيد الدولة والمجتمع والشعب الواحد.
سمة هذا التركيب الآخر التمازج والاختلاط ضمن الدولة الواحدة في ما بين مجموعات إتنية وثقافية ودينية، متنوعة مختلفة·أما على صعيد الدول، وعلى صعيد العلاقات فيما بينها، فإن الحواجز الماضية تتساقط بدورها،لتنشأ وتتعزز مكانها علاقات تبنى لا على التقوقع، والانعزال، والريبة، بل على الاعتراف بالآخر والحوار معه، والتشارك سوية في حل معضلات كونية الطابع.
وعلى سبيل المثال، فهناك اليوم ملايين المسلمين من عرب وغير عرب، باتوا يشكلون جزءاً متزايد الحجم والدور في فرنسا وبصفتهم مواطنين فرنسيين. وقل الشيء نفسه في ألمانيا وبريطانيا وفي غيرهما من الدول والبلدان.
نحن لسنا معتادين على العيش مع الآخر فقط، نحن في لبنان رواد، وهذه أهمية لبنان، لذلك يقول قداسة الحبر الأعظم عن لبنان: "لبنان رسالة" رسالة العيش المشترك للدول كلها، إننا فخورون لأنه في لبنان فعلاً لا يوجد تنوع، ولكن يوجد تجانس،كلنا نعيش معاً، ولا يمكن لأحد أن يفرق بيننا، وهذا هو الأساس.
وهذا كله بفعل التطور التكنولوجي والمعلوماتي والعلمي المذهل الذي جعل من العالم قرية واحدة، كما بات يردد الجميع. بفعل سرعة التنقل وحرية وسرعة التبادل على مستوى الأشخاص والأفكار والمعلومات والسلع، وانفتاح صفحات كتاب العالم المستلقة أمام أنظار الجميع.
عالم القرن الحادي والعشرين يجد نفسه بصدد إعداد مراسم الوداع لصيغة الدولة المتقوقعة ضمن حدودها الضيقة. فهل هو قدر منزل أن تتحول مراسم الوداع هذا الى نزاعات وصدامات دموية مدمرة ضمن البلد الواحد بين المجموعات المكونة له، والمتنوعة إتنياً وثقافياً ودينياً، تمعن بمواطنيه قتلاً وبمجتمعه تفتيتاً؟ ولن أعدد الأمثلة المريعة على ذلك في أرجاء العالم.
بلى، هناك حلّ، إنه حل قائم على العيش المشترك الذي يعترف بالتنوع، وباختلاف الرأي، ويتقبل الآخر، ويحترمه، ضمن المجتمع الواحد والبلد الواحد، في مسيرة من الإستمرار والتطور واحدة بالنسبة لجميع الفئات المكونة لهذا المجتمع.
وهذا كله يستدعي ثقافة تطلق الحوار وتعززه وتواصله بلا انقطاع بين هذه الفئات جميعها، بحيث تنتهي الى إدراك حقيقة التكامل فيما بينها.
أجل هناك حل. وهو يبدأ من الحوار ومن ثقافة الحوار الذي جوهره وعي وغنى التنوع، ووعي عقم الاحادية والعواقب الوخيمة لفرضها، ونبذ العنصرية بصورة قاطعة. فلا يمكن القبول تالياً، بحوار مع الدول والقوى والتيارات التي تتمسك بالعنصرية والعرقية والأحادية الدينية أساساً لبناء دولها ومجتمعاتها.
إذ يصبح الحوار هنا تطبيعاً مع العنصرية، ودعماً لقواها ودولها، وتشجيعاً لها على تماديها بإلغاء الآخر. وهذا خطر قد تنطوي عليه العولمة الثقافية والاعلامية، نظراً لكون الحركة الصهيونية تحتل مواقع أساسية مسيطرة في وسائل الإعلام ومنابر الثقافة كافة. وهل يجوز الحوار الثقافي مع اسرائيل "الشرالمطلق"، على حد تعبير الإمام السيد، ما دامت مصرة على عرقيتها أو عنصريتها ونزعتها في التوسع والعدوان والسيطرة؟
هذه التبدلات، بوقائعها وبالمسائل والمشاكل والأزمات التي تطرح في عديد أرجاء العالم، تمحض بدورها، صدقية إضافية أخرى لريادة الإمام السيد في انتباهه، وتنبيهه، الى حاجة الجميع القصوى الى ثقافة الحوار. ولبنان في هذا الصدد "واحة نموذجية" على تعبير الإمام السيد.