مثله المونسنيور بول نياغا
مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الافتتاح)
حضرة السيدات والسادة،
بادئ ذي بدء المجد لله الرحمن الرحيم،
اسمحوا لي أن انقل إليكم التحيات الحارة من المونسينيور انطونيو ماريا فيليو موفد الكرسي الرسولي في لبنان الذي يشرفني أن أمثله اليوم. عندما طلب مني تمثيلَه لم يَفُتْه أن يشدِّدَ على الأهمية القصوى التي يوليها للإرث الثقافي للإمام الصدر ابن لبنان العظيم، معرباً عن اسفه لعدم تمكنه من الحضور شخصياً. ويسرني أن ألبيّ باسمه دعوة السيدة رباب الصدر شرف الدين للمشاركة في هذا المؤتمر الذي ينظمه مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، حول موضوع "الهوية الثقافية" قراءات في البعد الثقافي لمسيرة الإمام موسى الصدر.
إسهامات الإمام موسى الصدر
1- يؤسفني كثيراً الاّ أكون قد عرفت الإمام موسى الصدر شخصياً هو الذي كان مصدرَ وعي قسم كبير من الشعب اللبناني لهويته. كما يؤسفني اكثر غيابه المفاجئ لأنه لكان تمكن من المساهمة بشكل فاعل، في ضمان توازن الهوية اللبنانية خلال سنوات الحرب، نظراً إلى القيم التي كان يؤمن بها وقوة الإقناع التي كانت تشعُّ من شخصيته القوية التي دمغت التاريخ اللبناني المعاصر.
كانت حياته وأعماله تعكس تماماً قناعاته الاجتماعية الثقافية، وكلنا يعرف فعل إيمانه بلبنان الوطن الحر والدائم. وتتماشى نظرته إلى هوية لبنان الثقافية تماما مع ما يسميه الحبر الأعظم قداسة البابا يوحنا بولس الثاني "الدعوة التاريخية للبنان"، وهي دعوة للحوار بين الديانات والثقافات والحضارات كافة. وقد جرى الحديث مفصلاً عن هذه الدعوة في الارشاد الرسولي الذي وجهه قداسة البابا بعد السينودس "رجاء جديد للبنان".
الاشكالية
2- لمست من خلال قراءاتي ومناقشاتي مع بعض أبناء وبنات هذا البلد، أنّ اللبنانيين يدركون تماماً مشكلة هوية لبنان الثقافية، ويكفي مثلاً أن نأتي على ذكر المجالس اللبنانية الشهيرة قبل عقود عدة أو المؤتمرات الكثيرة، ومنها مؤتمر اليوم، التي تبحث في هذه المشكلة الحساسة. ويحدد الكاتب اللبناني امين معلوف في كتابه "هويات قاتلة" الهوية على أنّها انتماء مستلهم من الحرب اللبنانية ومن أمثلة أخرى في العالم. ومن ثم يتجاوز هذه الصورة القاتمة للتاريخ فيقترح صورة اكثر إيجابية تستند إلى إنسانية الإنسان وعقلانيته.
فالهوية الثقافية ليست مكتسباً جامداً بل هي واقع متحرك. الهوية ليست متوازنة توازناً مطلقاً. انها حقيقية لكن في الوقت عينه تبحث دائماً عن ذاتها. ومن اجل بلوغ هذا الهدف، لا يتعيّن على اللبنانيين شنّ "معركة قاتلة" يخوضونها عسكرياً أو أيديولوجياً بل بالأحرى أن يبحثوا عن كيفية خوض "معركة محبة" على حد قول الفيلسوف الألماني الشهير كارل جاسبرز.
تحديد
3- ينبغي هنا أن نضع تحديداً لكلمتي هوية وثقافة.
تأتي كلمة هوية من التعبير اللاتيني "ايدنتيتاس" ومن الجذر "ايدم" الذي يعني "ذات". وتعني قبل كل شيء الهوية الشخصية، ومن هنا تعبير الهوية-الذات كطبعنا مثلاً الذي يبقى هو ذاته طوال حياتنا. اعتقد ان كلمة "هوية" في اللغة العربية تعني الفرد في جوهره بكل ماهيته وما يمثّله. هذا ما يسمى باللاتينية "ايبسي" ويأتي منه تعبير الهوية-الذاتية. وفي مقابل هذه الهوية الشخصية نضع الهوية الجمَاعية التي تتضمن أو بالأحرى هي مماثلة تماماً للهوية الثقافية.
أما تعبير ثقافة، فله اكثر من تحديد نظراً إلى أوجهه التاريخية والاجتماعية والعرقية. وفي هذا الصدد أودّ ان استشهد بتحديد تعبير الثقافة الذي وضعه مجمع الفاتيكان الثاني في الدستور الرعوي "غوديوم أي سبيس" (الكنيسة في عالم اليوم).
"تعني كلمة ثقافة بالمعنى الواسع كل ما يلجأ إليه الإنسان لتأكيد وتنمية طاقاته الفكرية والجسدية المتعددة. يجهد لإخضاع العالم بالمعرفة والعمل. يؤنسن الحياة الاجتماعية والحياة العائلية وكل الحياة المدنية بفضل تطور العادات والمؤسسات. يترجم تجارب الإنسان الروحية الكبرى وتطلعاته السامية وينقلها ويحافظ عليها في أعماله على مر الأزمان لكي تكون في خدمة عدد كبير من الناس لا بل في خدمة البشرية جمعاء" (البند 53). انطلاقاً من هذه الممارسات المتوارثة، يتشكّل تراث خاص بكل جماعة بشرية يسمى الهوية الثقافية.
الهوية الثقافية اللبنانية
4- يحدد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني هوية لبنان بهذه العبارات الشهيرة "لبنان اكثر من بلد، انه رسالة". ويطوّر هذه "الهوية الثقافية" في الإرشاد الرسولي حيث يؤكّد في الصفحة الأولى أنّ "لبنان بلد طالما اتجهت إليه الأبصار. ولا يمكننا أن ننسى انه مهد ثقافة عريقة وإحدى منارات البحر الأبيض المتوسط". وإذ يدعو إلى التضامن في العالم العربي، يقول قداسة البابا في الإرشاد الرسولي "قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى".(البند 93)
5 - يحدّد كاتب لبناني تعبير "لبنان-رسالة" أو هوية لبنان الثقافية كالتالي: "إنّ لبنان هو ضمير العالم العربي" ما يعني أنّ "لبنان الرسالة" يتجاوز مجرد التعايش بين الأديان ليبلغ ديناميكية أكبر وتعبيراً أوضح. وبالفعل إنّ لبنان بلد الحوار والتعايش واللقاء والحريات والديمقراطية والوفاق، يبقى الوسيلة التي تحِّرك العالم العربي.
قال الرئيس الإيراني السيد خاتمي في تصريح لصحيفة النهار قبل أسبوعين "ان لبنان هو ملجأ الفكر والحوار والثقافات ووطن التعايش بين مختلف الأديان في هذه المنطقة. انه يحتل مكانة مميزة في هذا العالم في مجالات تطوّر النشر والطباعة والكتب والصحافة ووسائل الأعلام" (النهار السبت 30 تشرين الأول 1999 ص 16) أعتقد أنّ هذه هي دعوة لبنان التي تكمن فيها ملامح هويته الثقافية التي لطالما عززها الإمام الصدر ودافع عنها. ويعتبر الكاتب الأفريقي ليوبولد سيدار سينغور لقاءَ الشعوب وتحديداً لقاء الثقافات بأنّه لقاء العطاء والتلقي. لكن العطاء لا يمكن أن يكون إلاّ من مخزون الذات. بتعبير آخر لكي يتمكن لبنان من الاستمرار في إعطاء العالم العربي والمنطقة والعالم أجمع هذه الروح الضرورية لكي تعيش الشعوب جميعها مع بعضهم البعض ومن اجل بعضهم البعض، لا بد لهذا البلد في البداية أن يكون لبنانياً في العمق ومن ثم أن يقترح السلام كقيمة بحدِّ ذاته وليس كحدث مادي.
هذا هو أيضاً هدف المؤتمرات التي ينظّمها كل سنة مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات. بالفعل ان السلام كحدث ليس إلاّ مجرد أداة. فالسلام الحقيقي لا يتمثل بالمراحل التي تمر بها هذه العملية: وقف أو تقطع أو غياب الأعمال الحربية والرعب. ففي كل هذه المراحل تبقى قيمة السلام كأداة ليس إلاّ. أمّا السلام كقيمة بحدِّ ذاته فهو لا يتحقق سوى بوجود رغبٍة حقيقية. وتبقى نواتُه الأساسيةُ هذا الاتفاقَ الديناميكي مع الوجودِ المستمر لفترة معيّنة. من هنا تبرز ضرورة المحافظة على رغبة السلام لدى الآخر وتنميتها إذ أن السلام يولد من توافق الرغبات. إنّه نتيجة ديناميكية الرغبات الحرة التي يوجّهها العقل نحو الخير العام. ويشكل السلام كقيمة بحد ذاته مفهوماً ليس فقط وجودياً بل مفهوم علاقة. إذ انه لا يرتكز إلى الفرد او الشخص في العالم فحسب، إنّما يرتبط أيضاً بالعلاقة الوجودية القائمة بين الأفراد والشعوب والعالم. السلام متجذّر في جوهر البشرية وبالتالي فان الأخلاقية السياسية الناتجة عن ذلك تقضي بإقصاء العلاقات البشرية عن فكرة السيطرة وحكم الأقوى التي تترجم خاصة حروباً أو عنفاً بشكل عام. إنّ العقل لا يتأثر سواء اعتُبرَت الحربُ وسيلةً قانونية وطبيعية في العلاقات بين الشعوب والدول أو كانت القوة هي مصدر الحق.
اذاً السلام هو حتماً نتاج العقل. فهو لكونه قيمةً إيجابية يحتِّم مبدأ مسؤولية ثقافية لا بل تربوية تَصبُّ في مصلحة عيش البشرية وبقائها. ويجب تغليبُ ذهنية الحياة على ذهنية اليأس التي تهدف إلى تدمير نسيج كل مجتمع إنساني عبر تعرضها لحرية الإنسان وحياته وكرامته انطلاقاً من القناعة الثابتة بأن الإنسان لم يولد للموت بل للحياة وليس محكوما بالانقسامات والحروب بل هو مدعو إلى الاخوة والسلام. وان الإنسان لم يولد للحقد والريبة إنما لحب الله؛ أنه ولِد لله وأن الإنسان يلبي هذه الدعوة من خلال تجديد قلبه وأن أمام الإنسانية درباً تقودها إلى حضارة المشاركة والتضامن والحب حضارة وحدها تليق بالإنسان. (سينودس الاساقفة 1985).
في الختام، أودّ أن اثني على جهود من نظم هذا المؤتمر المهم، أتمنى تمام التوفيق لمناقشات هذا المؤتمر ومقرراته بما يعود بالخير على لبنان فيتمكن بناء على رغبة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني من النهوض وتلبية دعوته في أن يكون نوراً لشعوب المنطقة وعلامة للسلام الحقيقي الآتي من الله. (البند 125)