البعد العربي- الاسلامي في مسيرة الامام الصدر

calendar icon 11 تشرين الثاني 1999 الكاتب:محمد علي مهتدي

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الجلسة الاولى)

المقدمة

- مشروع الامام الصدر، مشروع موحد غير قابل للتجزئه

- اهم معالم المشروع الاصلاحي

- الايمان بالله

- خدمة الناس

- بدأ الحركة من القاعدة الى القمة (مقارنة مع حركة الافغاني)

- دور علماء الدين

- لبنان: الساحة النموذجية للمشروع

- في الساحة العربية

- في الساحة الاسلامية الايرانية

- دور الامام الصدر في الثورة الاسلامية في ايران.

- النتيجة.

- الهوامش والمصادر

لا يمكن الحديث عن البعد العربي او الاسلامي لمسيرة الامام موسى الصدر بدون التطرق إلى شخصيته وفكره ككل. فمسيرة الامام في لبنان برأيي لا تختلف عن مسيرته في ايران او في العالم العربي او الاسلامي فنحن امام شخصية غير عادية يملك مشروعاً اصلاحياً كبيراً ويكرس حياته لتنفيذ هذا المشروع. فما قام به في ايران او في لبنان او في اي مكان آخر هو في الحقيقة شكل من أشكال هذا المشروع الاصلاحي حسب الظروف والامكانيات المتاحة في ذلك المكان. اساس هذا المشروع في نظري هو العمل للانقاذ، لانقاذ الانسان المعاصر من خلال حركة دائمة مجددة في اطار نظام فكري متكامل مبني على مبادئ ثابتة.

من هنا نرى ان المواقف والاهداف عند الامام الصدر واضحة دائماً وثابتة، لا تتغير بتغير المصلحة. فاذا أمعنّا في هذه المواقف المسجلة سواء في الصحف او اشرطة التسجيل هنا وهناك لوجدنا انه يسير في خط ثابت لا يتزحزح قيد انملة عن الصراط المستقيم الذي رسمه استناداً الى مبادئه، فهو يملك في تاريخه وتراثه منذ اربعة عشر قرناً رصيداً ضخماً فلا ينطلق من ردود الفعل والمصالح الآنية بل من المبادئ. يقول الامام الصدر: انني لا اعتبر العمل السياسي او الاجتماعي إلا جزءاً من رسالتي الدينية بمعنى ان الايمان بالله في تصوري لا ينفصل عن الجهد في سبيل خدمة الناس، ذلك المسلك الذي يعتمد على الالتزام بالقيم الاخلاقية لذلك فان اللقاء والخلاف عندي لا يمكن ان يكونا نابعين من الظروف بل منطلقين من المبدأ(مقابلة معه في جريدة السفير بتاريخ 23/2/1977).

على هذا الاساس فالامام موسى الصدر في لبنان لا يختلف عن الامام موسى الصدر في ايران او في اي بلد آخر، عربي او اسلامي، فحركة المحرومين- مثلاً- ليست حركة لبنانية فقط لان المحرومين موجودون في لبنان وفي ايران وفي العالم كله· لذلك نراه يقول: " ان حركة المحرومين حركة خالدة لصناعة التاريخ في لبنان وفي العالم العربي"( مجلة "صوت المحرومين" 1/12/1976)

ويقول في مكان آخر: "ان الانسان المعاصر معذب، يشعر-مهما بلغ- بدرجة من الحرمان ويحمّل الانظمة والاشخاص مسؤولية حرمانه وعدم توفير الفرص المناسبة له وهو ينتظر أن يحس في الداعي او العالِم المسلِم حرارة النضال وصرخة الحق"(من محاضرة له القيت في المؤتمر الاسلامي الثامن في القاهرة عام 1977.) ومن هنا يتبين خطأ الذين يحصرون حركة الامام الصدر في اطار شيعي لبناني بحت ويعتبرون ان هذه الحركة بعد التطورات التي حصلت في الساحة اللبنانية نتيجة اتفاق الطائف، اعطت ثمارها وانجزت اهدافها فانتهى دورها.

في الحقيقة يجب ان نعترف جميعاً- سواء في لبنان او في ايران- اننا لم نتعرف على الامام موسى الصدر حق معرفة، ربما لان الامام الصدر لم يكن يدرك زمانه فحسب بل كان دائماً متقدماً على زمانه فكأنه كان يرى المستقبل مثلما يرى الآخرون الماضى او الحاضر. ويعرف القريبون منه أن هذه الميزة لم تكن حالة طوباوية نابعة من شفافية الروحية نتيجة اخلاصه وتقربه من الله بقدر ما كانت نتاج عقله النير الذي لا ينقطع عن القلب الودود وفكره الملتزم بالضمير الواعي فكان يحلّل الاحداث والتطورات تحليلاً عقلياً دقيقاً يمكّنه من الوصول إلى رسم بياني يحدد مستقبل هذه التطورات في ضوء كل العناصر المؤثرة في حركة الاشياء وتطورها. يقول بعض زملائه الايرانيين كالمفكر الشهيد مرتضى مطهري وآية الله السيد عبد الكريم موسوي اردبيلي: " ان الامام الصدر كان يتمتع ببعد النظر فكان ينظر إلى ما بعد الخمسين سنة المقبلة كما ينظـر الانسان الى يومه او غده" (نامه مفيد، المجلة الفصلية لجامعة مفيد، في مدينة قم، العدد 16، شتاء 1377 هـ ش (1998) ص 18 ) (بالفارسية).

كثيرون من منتقدي الامام الصدر  آنذاك والذين كانوا يأخذون عليه بعض مواقفه وجوانب من سلوكه تجاه الآخرين، يعترفون اليوم وبعد مرور عشرات من السنين بصحة مواقفه وصواب سلوكه.

اذن، كما قلنا فان سلوك الامام الصدر سواء في ايران او في لبنان او في العالم العربي كان نابعاً من منظومة فكرية متكاملة كوّنها هو بعد تفكير ودرس عميقين. الايمان بالله هو الاساس في هذه المنظومة، "الايمان بالله الذي هو ثقة وطموح وامل، الايمان بالله الذي يوصل الموت بالحياة فيمدد وجود الانسان وعطاءه، الايمان الذي يجند طاقات الفرد ويوحد طاقات الجماعة وينسق سلوك الانسان مع حركة الكون في موكب الحياة من الازل الى الابد"(من نداء لسماحته وجهه الى اللبنانيين عبر التلفزيون مساء 29/1/70)، ثم يأتي دور الناس في هذه المنظومة الفكرية، كل الناس، خصوصا الناس المعذبين والمحرومين· السيد جمال الدين الاسد آبادى - المعروف في العالم العربي بالافغاني، كان القدوة عند الإمام الصدر. ولكن لماذا لم تنجح حركة السيد جمال الدين؟ هذا السؤال كان يشغل فكره وباله كثيرا. كان يقول لزملائه: يجب علينا ان نعود الى الوراء مائة سنة لندرس أخطاء السيد جمال الدين ونتفادى الوقوع فيها مجدداً.

الخطأ الاكبر في مسيرة السيد جمال الدين كان اعتماده على الرؤوس دون القواعد، اى الناس. كان يفكر أن بامكانه ايجاد التغيير من خلال إعطاء النصيحة والتأثير على الرؤساء والحكام. هذا هو الخطأ الذي يعترف به السيد جمال الدين نفسه في الفترة الاخيرة من حياته. اما نحن - يقول الامام الصدر - يجب ان نتفادى هذا الخطأ، يجب أن نبدأ بالناس، يجب ان نبدأ التغيير من قلب المجتمع من القاعدة وصعوداً إلى القمة وليس العكس. اما الحكام فبالامكان مسايرتهم واتباع اسلوب المماشاة معهم وابقاؤهم دائما في حال من الخوف والرجاء بدون ان نهملهم او نستفزهم كليا قبل ان يبلغ التغيير في قاع المجتمع الى المستوى المطلوب(نامه مفيد، مصدر سابق، ص 104)

هنا نرى ان الاساس في فكر الامام الصدر- كما عند المفكر الاسلامي الكبير مالك بن نبي، وهما قد اجتمعا حسب علمي مع بعضهما في الجزائر وتباحثا كثيراً حول موضوع الحضارة الإسلامية والإنحطاط الموجود في المجتمع الإسلامي وكذلك عند الدكتور علي شريعتي، وفي هذه الآية الكريمة "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم"(القرآن الكريم، سورة الرعد، الآية 11).

في فكر الامام الصدر، هناك جبهتان او صفّان: جبهة الناس المستضعفين والمقهورين والمعذبين، بغض النظر عن دينهم او مذهبهم او حتى انتمائهم، وجبهة الطغاة والظالمين والمستعبدين، ايا كان دينهم او مذهبهم او شعاراتهم السياسية.

في جبهة الناس، يجب ان يكون الباب مفتوحا للجميع، لا "فيتو" على احد، لا تصنيف للناس: "انني لا أومن بتصنيف الناس اطلاقا ولا اتصرف مع الناس على ضوء الانتماءات السياسية"(جريدة الانوار، بيروت، 27/12/1976.) يحق لكل انسان ان يدخل من هذا الباب ويشارك في العطاء في حدود مقدرته واستطاعته يجب ان تثق بالناس ليثقوا بك، فالوعي الجماعي لا يمكن خداعه: "إننا ننطلق في اعمالنا من واجبنا ونعتبر الله رقيبا وحسيباً، ولا نسعى للتجارة الرخيصة بارواح وكرامات الناس، ولا نشك لحظة بأن التضليل الدائم لجميع الناس مستحيل، وان الحقيقة ستكشف"(صوت المحرومين، بيروت، 23/9/1976.) وهذا هو نفس الاسلوب الذي اتبعه رسول الله (ص) في بداية الدعوة الاسلامية. ) اما في مجابهة الطغاة فالمعركة مفتوحة في كل مكان وعلى جميع المستويات بدون اية مساومات او مداهنات او لقاءات في منتصف الطريق. يقول الامام الصدر: "أنا لا اثق بمن لا يؤمن بالله. فالايمان في رأيي ليس تجريديا، بل يحدد معالم شخصية الإنسان وسلوكه مرحليا واستراتيجيا. انا ضد الملحدين وضد الذين تنكروا لله وفي نفس الوقت انني احارب الذين يعبدون انفسهم من دون الله، اى تجار السياسة، حماة المصالح الخاصة إنني احارب هؤلاء جميعا ولو تقنعوا بشعارات التقدمية وحماية المسلمين والمصالح القومية" (من مقابلة معه في جريدة القبس الكويتيه، 25/10/1976).

ولأن الايمان بالله يأتي في طليعة العناصر الرئيسية في مشروعه النضالي التغييري، فعلماء الدين يحملون مسؤولية ضخمة في انجاز هذا المشروع. قبل حركة الامام الصدر، كان عالم الدين يجلس في بيته، سواء في لبنان أو في إيران، او في جامعه حتى يأتي الناس اليه ليسألوه بعض المسائل الشرعية المتعلقة بالصلاة والصوم، ويخرج احيانا لحضور الجنائز. اما الامام الصدر، فلأول مرة، ايام دراسته في النجف الاشرف، خاطب جمعاً غفيرا من العلماء قائلا: اليوم لا يكفي ان تجلسوا في البيوت حتى يأتي الناس اليكم، اليوم يجب عليكم انتم ان تذهبوا الى الناس لتدعوهم الى الايمان والقيام بالواجب.

وفي الواقع انه بسلوكه في لبنان تحول الى امثولة في هذا المجال، فلم يبق بيت في قرية نائية إلا ودخله موسى الصدر ليجلس مع صاحب البيت على الارض ويأكل طعاما بسيطا معه ويمسح غبار الفقر والحرمان والمعاناة من وجهه وهذه تجارب كلنا عشناها وانتم أيها الأخوة أكثر مني معرفة بسلوك الإمام الصدر في المناطق المحرومة في لبنان. وفي بعض الايام كان يسير بسيارته المتواضعة اكثر من 300 كيلو متر ليزور اكبر عدد ممكن من القرى في المناطق المحرومة. وكان يقول:"انهم يريدون صلاتي عبادة في الجوامع وحجا وهديا للناس، انا لا ارضى بهذه الصلاة وان اتحول الى شيطان، واعوذ من نفسي فانا مناضل معكم ومن اجلكم"(من خطاب له في بلدة بدنايل بتاريخ 17/2/1974).

" الذين يدعون رجال الدين الى البقاء في مساجدهم، هم الذين يدبرون المؤمرات، لانهم يحبسون ربهم في الكنائس والمساجد لتخلو الساحة لطغيانهم وعبثهم بمصالح الناس"(جريدة النهار، تاريخ 21/1/1975). ثم يخاطب العلماء قائلاً: " اخواني علماء الدين، في الساعة التي تجدون انفسكم مغضوباً عليكم من الحكام، اعرفوا انكم تسيرون على الطريق الصحيح، آلهة الارض وطغاة الأرض، أيّا كانوا، ارفضوا عبادتهم، وقِفوا إلى جانب الانسان، إلى جانب الشعب، إلى جانب المعذبين في الارض(النهار البيروتيه، بتاريخ 5/4/1974).

هذه هي أهم معالم حركة الامام الصدر وفكره ومشروعه الحضاري الاصلاحي ولكن لنرى الآن كيف سعى لتنفيذ هذا المشروع في مختلف الساحات.

1- في الساحة اللبنانية:

نقول باختصار شديد- ان الامام الصدر ترك دراسته الفقهيه في النجف الاشرف- بعدما بلغ مرتبة الاجتهاد- ليتوجه إلى لبنان وذلك في عام 1960، وهناك اجماع لدى جميع زملائه واساتذته انه لو بقي في النجف لكان قد وصل إلى مرجعية المسلمين الشيعة في العالم كله، ولكنه اختار أن يرحل إلى لبنان ليتخذه مقراً دائماً ليس لأن فيه شعباً مظلوماً ومعذباً ومهملاً بحاجة إلى قيادة دينية واعية لتغيير تلك الوضعية الشاذة فحسب، بل- وهنا بيت القصيد- لأن النسيج الاجتماعي للبنان يختلف كلياً عن ما في الدول الاخرى. فلبنان بوجود العائلات الروحية المسيحية والاسلامية فيه يعتبر نموذجاً مصغراً من العالم، فاذا استطاع  تنفيذ مشروعه الاصلاحي بنجاح في لبنان، سيكون بامكانه - ولو نظرياً- توسيع نطاق هذا المشروع إلى المستوى الاقليمي ثم إلى المستوى العالمي وصولاً إلى دولة كبرى في الشرق الاوسط ودولة واحدة كونية في العالم.

هذا الهدف ربما يبدو مستغرباً ولكن- يقول الامام الصدر في هذا الصدد: "لبنان في هذه المرحلة بالذات من تاريخ العالم، اصبح ضرورة حضارية قصوى للعالم، هذا العالم المترابط الذي يضم الاديان. والتعايش بين ابناء العالم من اجل استمرار الانسان في بناء الدولة الواحدة الكونية مرتبط ومتأثر إلى حد كبير بنجاح صيغة لبنان التعايشية. فاذا سقطت تجربة لبنان سوف تظلم الحضارة الانسانية لمدة 50 عاماً على الاقل"(جريدة النهار البيروتيه، تاريخ 18/1/1977).

وفي لبنان اصطدم الامام الصدر بجدار الطائفية التي هي - في نظره- سياسة وليست ديناً  "ولذلك  نرى أن اكثر الناس تعصباً للطائفية في  لبنان هم ابعدهم عن التدين فهم لا يدخلون جامعاً او كنيسة".

ثم اصطدم بحرب عبثية قذرة اكلت الاخضر واليابس في الوقت الذي كان الامام الصدر - في ذروة نضاله الديني والاجتماعي، فاستخدم كل طاقاته لايقافها دون ان يكتب له النجاح الكامل، فالمؤامرة على لبنان كانت كبيرة وضخمة بالاضافة إلى الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على الجنوب اللبناني والتي كانت تُحدث- ولا تزال- قتلاً وتدميراً وتشريداً لاهالي هذه المنطقة الغالية.

2- في الساحة العربية:

بالرغم من اهمية المنطقة العربية واهمية كل دولة فيها، فان الامام الصدر بسبب انشغاله في الساحة اللبنانية، لم يتمكن من عمل الكثير في الساحة العربية، خصوصاً وانه- كما ذكرنا- كان يطمح لانجاح مشروعه الاصلاحي في لبنان اولاً. لذلك نرى أن تجوله في الساحة العربية غالباً ما كان يصبّ في خانة اهدافه اللبنانية.

في متابعتنا لتحرك الامام الصدر في العالم العربي نرى أن هذا التحرك يتمحور حول المحاور التالية:

1- التعرف على مجتمعات المسلمين الشيعة ومساعدتهم في مجالات مختلفة وربطهم بقضايا الطائفة الشيعية في لبنان.

2 - العمل للتقريب بين المذاهب الاسلامية على صعيد الاحكام الفقهية والرؤية السياسية.

3- التأثير على علماء الدين في مختلف الدول العربية وحثهم على تغيير اسلوب نشاطهم الاجتماعي بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث.

4- التأكيد على الخطر الاسرائيلي على العالم العربي ومن ثم مركزية القضية الفلسطينية وضرورة التضامن العربي لمكافحة اسرائيل والعمل المشترك لانهاء الازمة اللبنانية ودعم المقاومة الفلسطينية والتنبه لخطورة التدخل الاسرائيلي في لبنان.

هنا نلاحظ ان الامام الصدر يولي اهمية خاصة لسورية وللدور السوري في القضايا العربية، فسورية - في نظر الامام الصدر- "تُشكل العمق الاستراتيجي للبنان وامتداداً للارادة الوطنية والقومية في لبنان وسنداً له وحصناً منيعاً للمقاومة الفلسطينية"(النهار، 17/4/1976)،" فلا حرب مع اسرائيل ولا تحرير لفلسطين ولا تطوير للبنان إلا بالتعاون مع سورية (النهار، 3/7/1976).

اكثر من ذلك، يؤكد الامام الصدر، ان سورية هي رئة الثورة الفلسطينية التي تتنفس بها، ومنبتها وحصنها وتوأمها، بل أمها، فالخلاف مع سورية ممنوع ولا بد للمقاومة الفلسطينية أن تنسق مع سورية. وكان للامام موسى الصدر- كما نعرف- علاقة قوية ومتينة جداً مع القيادة السورية ومع الرئيس الاسد شخصياً وكان يستخدم هذه العلاقة لخدمة المقاومة الفلسطينية ولرأب الصدع بين الجانبين ولمنع تقسيم لبنان كما هو معروف في تطورات الازمة اللبنانية عام 1976.

كذلك كان للامام الصدر علاقات قوية مع القيادات في كل من الاردن ومصر والسعودية والجزائر والكويت فكان يزور هذه الدول للمشاركة في المؤتمرات والقاء محاضرات والتباحث مع المسؤولين السياسيين فيها. ولعل اهم نجاحات الامام الصدر في الساحة السياسية العربية كان نجاحه الباهر في المساهمة في انعقاد مؤتمري الرياض والقاهرة عام 1976 لحمل الدول العربية على العمل المشترك لإنهاء الازمة النازفة في لبنان، فقد التقى الامام الصدر مرتين بالرئيس السادات في القاهرة وثلاث مرات بالرئيس الاسد في دمشق ومرتين بالملك خالد بن عبد العزيز ومسؤولي السعودية خصوصاً الامير فهد (انذاك) والامير عبد الله في الرياض، ومرة بأمير الكويت وكبار مستشاريه. "وخلال هذه اللقاءات سعى أن يثبت لهم جميعاً أن بقاء المحنة مجمدة يعرض لبنان والعرب للاخطار الكبرى التي لا تقارن بما حدث في لبنان، وأن الانتظار لا يحلّ الازمة، وان الحسم بالوضع الذي كان وضمن خلافات عربية وبوجه خاص ضمن الصراع المصري- السوري مستحيل، ذلك لان الخلاف بين القاهرة ودمشق يمنع تكوين ارادة عربية موحدة التي هي وحدها كفيل بوقف النزيف الدموي وبمنع تدويل الازمة اللبنانية" (انظر نشرة صوت المحرومين، تاريخ 1/12/1976).

هنا لا بد من الاشارة إلى نقطة هامة وهي قوة التأثير والاقناع التي كان الامام موسى الصدر يتمتع بها وهذه القوة كانت واضحة في لقاءاته مع الملوك والرؤساء العرب وهي كانت سر نجاحه في انعقاد مؤتمر القمة الرباعي في الرياض. فقد نقل عن الملك خالد قوله: " ان ما سمعته من السيد موسى الصدر كان اصدق تحليل وأدقّ عرض لأبعاد الأزمة اللبنانية وعلينا أن نستمع اليه ونتجاوب معه". كذلك لما توجه احمد بن سودة، مندوب الملك المغربي الحسن الثاني إلى لبنان والتقى في القاهرة الرئيس انور السادات قال له السادات: " عليك أن تلتقي بالسيد موسى الصدر في رحلتك وتنسق معه، فقد وجدته موضوعياً وهادئاً"(الامام موسى الصدر، الرجل الموقف- القضية- مكتبة صادر 93)· في الواقع ان السادات تأثر جداً بشخصية الامام الصدر وهو في احدى لقاءاته معه بعدما استمع اليه جيداً طلب منه أن يلقي خطاباً للضباط والجنود المصريين المرابطين في قناة السويس، فلبىَّ الامام الصدر هذا الطلب والقى محاضرة مؤثرة جداً للجيش المصري لرفع معنوياتهم تجاه اسرائيل(السيد هادي خسرو شاهى، فصلية التاريخ والثقافة المعاصره، عدد خاص بالامام موسى الصدر، مدينة قم، رمضان 1416. (بالفارسية)) وقبل ذلك، في نيسان 1969سافر الامام الصدر الى القاهرة للمشاركة في المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الاسلامية، وعلى هامش اعمال المؤتمر اجتمع بالرئيس جمال عبد الناصر وكانت مدة اللقاء محدده بنصف ساعه ولكن الرئيس عبد الناصر بعدما استمع الى الامام الصدر، الغى كل مواعيده ومدد اللقاء لاكثر من ساعتين، ثم نقل عنه قوله "ياليت كان للازهر رئيس مثل السيد موسى الصدر"(المصدر السابق، محسن كماليان، "عزت شيعة" مدينة قم 1997، ص 16 (بالفارسية)).

3- في الساحة الاسلامية:

التحدي الكبير امام مشروع الامام الصدر لبنانياً وعربياً واسلامياً وحضارياً انما يتجسد في وجود اسرائيل وما يشكل هذا الوجود من الاخطار للمنطقة. ولا ضير أن نستذكر هنا بعض مواقف الامام في هذا الصدد: "ان اسرائيل بوجودها وبما لها من اهداف تشكل خطراً علينا محدقاً على جنوبنا وشمالنا، على ارضنا وشعبنا، على اقتصادنا وسياستنا، على قيمنا وحضارتنا"(الصحف اللبنانية بتاريخ 20/11/1969.). إن اسرائيل شر مطلق وخطر على العرب مسلمين ومسيحيين وعلى الحرية والكرامة، ومكافحة اسرائيل خير مطلق". "انني كمسلم لا يمكن أن أقبل ببقاء الاحتلال الصهيوني لارض فلسطين فكيف بالقدس وكعالم ديني يجب أن أعلن ذلك. فان الاسلام الذي هو عقيدتنا لا يمكن ان يقبل ببقاء شبر من ارض فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني ولا يمكن لمسلم أن يقبل ذلك بارادته" (صحيفة "المجاهد" الجزائرية، تاريخ 12/8/1973).

ولكن ما العمل وما هو الحل لهذه المسألة؟ المسألة في نظر الامام الصدر، ليست احتلال كيلومترات من الارض ولكنها حرب حضارية بدأوها ضد الحضارة الاسلامية ضد الوجود الاسلامي والمسيحي في هذه المنطقة، والحل في فكر الامام الصدر انما يكمن في مقاومة شاملة على مستوى المنطقة ومن خلال تعبئة كل الطاقات والامكانيات المتاحة لدى الامة. يقول الامام الصدر: ان اسرائيل تهدد العرب والفلسطينيين واللبنانيين، والحل هو ازالة الوجود الاسرائيلي من فلسطين والحل الوحيد الذي برز إلى الوجود هو المقاومة وعلى هذه أن تتصاعد لتكون نواة الحرب الشعبية الشاملة"(من خطاب له في الجامعة الامريكية في بيروت بتاريخ 26/5/1970).

الموقف من ايران ودوره في الثورة:

يعتقد الامام الصدر ان ايران كبلد مسلم معرضة للمخططات الاسرائيلية فمن الواجب ايجاد جبهة مشتركة عربية- ايرانية للمقاومة ضد اسرائيل فما كان وجود شخصية فكرية ونضالية كبيرة مثل الشهيد الدكتور مصطفى شمران ضمن فريق العمل للامام الصدر في لبنان إلا رمزاً لهذه القناعة. فالامام الصدر بمولده ونشأته الايرانيين خبير بقضايا ايران وبتفكير الشعب الايراني. يقول الامام الصدر في حديث له لمجلة "المصور المصرية وذلك في عام 1970 أي تسع سنين قبل انتصار الثورة الايرانية " انني أؤكد تأكيداً لا شك فيه أن شعور الشعب الايراني تجاه قضية فلسطين واي قضية عربية أخرى لا يقل اطلاقاً عن احساس العرب انفسهم وحتى ان الشعب الايراني ينسى امام القضايا العربية قوميته وعندي على ذلك شواهد عديدة وكثيرة ... وليس غريباً أن اضخم المظاهرات التي شهدتها ايران في تاريخها الحديث كانت التظاهرات التي اقيمت من اجل فلسطين (       حديث لمجلة المصور القاهرية نقلاً في جريدة الانوار اللبنانية 7/3/1970) ويقول في مكان آخر: " ايران بلد مسلم وانها معرضة للاعتداءات والمطامع الاسرائيلية في المستقبل كما تؤكد ذلك الوثائق وانها بكافة شعبها تهتم بقداسة فلسطين وبمقام القدس وشعب ايران مهيأ للعمل على نصرة العرب بكافة طاقاته وامكاناته" (حديث لجريدة المحرر، بيروت، 28/2/1974).

هنا لا بد لنا أن نشير إلى جانب مهم في مسيرة الامام الصدر والذي ظل مجهولاً في لبنان، وهو دور الامام الاساسي في الحركة الاسلامية في ايران والتخطيط العلمي والدقيق لانجاح الثورة الاسلامية· فدور الامام الصدر في هذا المجال لا يقتصر على ايواء بعض المناضلين الايرانيين في لبنان او اصدار بعض البيانات كما يمكن أن يتراءى لبعض الإخوة اللبنانيين الذين عملوا معه، ولكنه دور شامل ريادي تعود بدايته إلى الخمسينات من هذا القرن. ففي تلك الفترة تشكّل فريق من المفكرين الدينيين في ايران لدرس حركة التحرر للشعب الايراني في ضوء التجارب الماضية واستكشاف الخلل واسباب الفشل ومن ثم ايجاد نظرية علمية لانجاح هذه الحركة ووضع برامج عمل طبقاً للمقتضيات الموجودة في ايران. هذا الفريق تكون من السيد موسى الصدر، السيد محمد بهشتي، الشيخ مرتضى مطهري، والسيد محمود الطالقاني والمهندس مهدي بازركان، ثم انضم اليه لاحقاً الدكتور علي شريعتي والشيخ اكبر هاشمي رفسنجاني. هذا الفريق، بعد درس وبحث عميقين وفي ضوء فشل التجربة الحزبية في ايران والانطباع السيء لدى الشعب الايراني عن الحركة الحزبية والقومية خصوصاً بعد ثورة الدستور عام 1906 والتطورات اللاحقة، اكد أن نجاح اي تجربة تحررية جديدة في ايران يعتمد على حركة شعبية ذات ابعاد ثلاثة:

اولاً: البعد الديني، فالعقيدة الاسلامية متجذرة جداً في ايران والشعب الايراني بغالبيته شعب متدين وأي تجربة لا تضع البعد الديني في الحسبان محكومة بالفشل.

ثانياً: البعد الفكري السياسي أي عرض افكار واهداف واضحة لاستقطاب عامة الناس· وكان السيد موسى الصدر يؤكد دائماً ان عامة الناس يعني كل الشرائح في المجتمع ولا نقصد العوام من الناس. وهناك فرق بين العامة والعوام.

ثالثاً: البعد العسكري بمعنى حيازة مجموعات مسلحة للتدخل عند الحاجة(الدكتور صادق طباطبائي، مائدة مستديرة في مجلة نامة مفيد، مصدر سابق ص 97).

يقول الدكتور صادق طباطبائي، إن الامام الصدر كان يصور دائماً هذه الحركة كمكعب ذي ثلاثة ابعاد بحيث اذا بدأنا الحركة انطلاقاً من رأس زاوية في اتجاهات ثلاث نحصل على حركة حجمية واذا اغفلنا اتجاهاً واحداً واكتفينا بسهمين في اتجاهين اثنين نحصل على حركة سطحية ليست مضمونة النجاح (نفس المصدر).

ومن النتائج المهمة التي وصل اليها هذا الفريق هو ضرورة نقل الحركة إلى الجامعات وايجاد صلة بين الجامع والجامعة وانجاز هذه المهمة اوكلت إلى المهندس مهدي بازركان والدكتور علي شريعتي اللذين نجحا إلى حد كبير في نقل الحالة الدينية إلى الجامعات واستقطاب الشباب المثقف.

والتف هذا الفريق حول الامام الخميني باعتباره المرجع الوحيد الذي كان يدعو إلى قيام حكم اسلامي في ايران. وبعد الاحداث الدامية في حزيران 1963 وإبعاد الامام الخميني إلى تركيا، ظل هذا الفريق مستمراً في عمله وعلى تواصل دائم مع الامام الخميني في تركيا ثم في النجف الاشرف. وحتى بعد انتقال السيد موسى الصدر إلى لبنان وانتقال السيد محمد بهشتي إلى المانيا واعتقال الطالقاني وبازركان، ظل اعضاء الفريق يتبادلون الافكار وينسقون العمل فيما بينهم وبين الامام الخميني من خلال زيارات ولقاءات ثنائية وثلاثية ومن خلال موفدين ورسائل مكتوبة. إلى أن اختطف الامام موسى الصدر واجبر الامام الخميني على مغادرة العراق إلى فرنسا وانتصرت الحركة الاسلامية في ايران في شباط 1979.

طبعاً لا يسع المجال هنا للحديث مفصلاً عن هذا الباب ولكن نريد أن نؤكد أن الامام موسى الصدر في لبنان كان بمثابة قطب الرحى لجميع الذين كانوا يعملون للثورة في ايران ولولا تغييبه عن ساحة عمله قبل نجاح الثورة بستة اشهر كان من المفترض أن توكل اليه مسؤولية كبيرة بعد انتصار الثورة· يقول الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني: " كان أملنا معقوداً على الامام الصدر في لبنان"(نفس المصدر ص 40)

ويقول آية الله السيد محمد علي موّحد الأبطحي، أحد كبار العلماء والمدرسين في الحوزة العلمية بمدينة قم :" في نفس الوقت الذي كان الامام موسى الصدر يشكل المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى في لبنان كان الامام الخميني يلقي محاضراته في النجف الاشرف، حول الحكومة الاسلامية، وذات يوم قلنا له: لنفترض سيدنا انكم استطعتم اسقاط نظام الشاه واقامة الحكومة الاسلامية في ايران فهل لديكم الشخص المناسب لتسلم الحكم وادارة شؤون الحكم. فرد الامام الخميني: "نعم لديّ السيد موسى الصدر"!(السيد هادي خسروشاهي، مصدر سابق ص 452، نامة مفيد ص 120).

لذلك فان الامام الصدر يوم كتب مقاله المشهور في جريدة لوموند خلال انتفاضة الشعب الايراني واعتبر هذه الحركة استمراراً لخط الانبياء، كان على دراية كاملة لأبعاد الثورة وقدراتها وتطوراتها وكان على يقين بنجاحها وانتصارها (لوموند 23/8/1978 نقلاً عن السفير 15/9/1978).

قبل سنين، حاولت مجموعة من الشخصيات والباحثين والعلماء الايرانيين والعارفين بفكر الامام موسى الصدر ومسيرته حاول كل منهم أن يقدّم الامام من خلال عنوان من كلمتين او ثلاث فقالوا عنه: صالح للمرجعية الشيعية، عزّة الشيعة، فخر العالم الاسلامي، مجدّد في الفقه، العبد الصالح لله، الجامع بين العلم والسياسة، مصلح اجتماعي، مصلح العصر، قائد ممتاز، عقلٌ مدّبر، سابق على الزمان، امثولة الفضيلة، حامل راية الثورة، فارس ميدان العلم والعمل والايمان والاخلاق واخيراً، الحقيقة المجسدة.

وانا هنا اقتبس من مثقف عربي واقول: إنه "فلتة في التاريخ"

ولكن لنر ماذا يقول هو عن نفسه: في احدى المناسبات هنا في لبنان وصفه احد الخطباء بالمسيح او الامام المنتظر وذو الفقار، فبدا الانزعاج على وجه الامام الصدر فقام وقال: "تحدثوا عني كعظيم إلى جانب لبنان العظيم. لكني أرجو أن اكون خادماً في كيان لبنان وبقائه، فلكل منا حجمه لا يمكن أن يتجاوزه ونرجو أن نكون في هذا السبيل، اعاذهم الله من الغلو وأعاذني من الغرور... الامام المنتظر؟! ذو الفقار!؟ لا.. ابداً ... نحن نتمنى أن نكون ذرة من أعمالهم ولبنة من سيرتهم وسلوكهم". والسلام عليكم.

source