مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الجلسة السادسة)
وصل الإمام الصدر إلى لبنان قادماً من قم في أواخر عام 1959 تلبية لدعوة من أبناء المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين الذي توفي قبل اقل من عامين(توفي السيد عبد الحسين شرف الدين في 31/12/1957)، وبناء لتشجيع كبار المراجع في قم آنذاك.
لم يكتف الإمام الصدر بتقليد تجربة علماء الدين المألوفة في ذلك الوقت والتي يختصرها الوعظ والإرشاد والمشاركة في المآتم وعقود الزواج والطلاق. بل عمد مباشرة إلى إحياء سنّة الربط بين الوعظ الديني وبين العمل الإجتماعي والسياسي. وقد استفز هذا الربط الذي قام به جبهات عدة اضطر إلى مقاومتها والتصدي لها في أوساط كثير من السياسيين ورجال الدين داخل الطائفة الشيعية وخارجها. وكان بذلك يضع حجر الأساس لمشروع المقاومة الذي سيتسع لاحقاً ليشمل جوانب الحياة الأخرى السياسية والوطنية والفكرية والقومية، وحتى الفردية والإجتماعية. هكذا عمد الإمام الصدر إلى كسر الإطار السابق الذي احتكره السياسيون وابتعد عنه رجال الدين؛ فتنقل في مختلف قرى جبل عامل، وفي قرى منطقة بعلبك الهرمل، وتعرف مباشرة على مستوى الحرمان والبؤس الذي تعيشه الناس في هذه القرى، وجعل من إزالة الحرمان، ونبذ التفرقة، والمطالبة بالعدالة والمساواة هدفاً أساسياً من أهداف رسالته الدينية؛ وقد نجح في مدينة صور، حيث كان يقيم، في القضاء على التسول والتشرد، بعد أن رد أسبابهما إلى أربعة: كثرة العيال، والعاهة المعطِّلة، وقلة الخبرة بوسائل كسب العيش، والكسل.
وهكذا أصبح بناء المؤسسات الإجتماعية والمهنية والثقافية والتربوية الحجر الأساس الذي سيبدأ الإمام الصدر به مشروعه للمقاومة الشاملة في لبنان· فشارك في تأسيس عشرات المشاريع الإجتماعية، وفي جمعيات خيرية عدة، بين 1960 - 1969 وأنشأ مؤسسات لإيواء الأيتام وتعليمهم، ومهنية جبل عامل في البرج الشمالي قرب صور ومدرسة فنية للتمريض، ومدرسة داخلية خاصة للفتيات، ومعهداً للدراسات الإسلامية·· وصولاً إلى حصوله في عام 1967على ترخيص لتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لتنظيم شؤون الطائفة الشيعية، أسوة بالطوائف الأخرى في لبنان. وانتخب عام 1969 أول رئيس له. وربما يكشف الهيكل الأولي الذي أصدره بعد إنتخابه، هذا البعد الشمولي في مشروعه للمقاومة على جبهات عدة· فقد ركّز هذا البيان (ووفقاً لما نشرته الصحف في ذلك الوقت) على العناوين الأساسية التالية:
- تنظيم شؤون الطائفة وتحسين أوضاعها الإجتماعية والإقتصادية.
- القيام بدور إسلامي كامل، فكراً وعملاً وجهاداً.
- عدم التفرقة بين المسلمين، والسعي للتوحيد الكامل.
- التعاون مع الطوائف اللبنانية كافة، وحفظ وحدة لبنان.
- ممارسة المسؤوليات الوطنية والقومية، والحفاظ على إستقلال لبنان وحريته وسلامة أراضيه.
- محاربة الجهل والفقر، والتخلف، والظلم الإجتماعي، والفساد الخلقي.
- دعم المقاومة الفلسطينية، والمشاركة الفعلية مع الدول العربية الشقيقة لتحرير الأراضي المغتصبة.
وقد نبّه الإمام إلى مخاطر وجود إسرائيل· ودعا مبكراً إلى تنفيذ إجراءات واقعية من أجل الدفاع عن الجنوب، عبر الخدمة العسكرية الإلزامية وتدريب أبناء الجنوب وبناء الملاجىء لهم ورفع مستواهم الإجتماعي (حديث تلفزيوني للإمام الصدر في 20/6/1969 ).
إلا أن التطورات التي عصفت بلبنان بعد بضع سنوات فقط على إطلاق الإمام الصدر لهذا البيان /المشروع، حالت دون إنجازه، وبدلت أولوياته· فتراجعت على سبيل المثال (مع إندلاع الحرب الأهلية عام 1975) مشاريع السعي لتوحيد المسلمين، ومحاربة الجهل والفقر والتخلف، والتعاون مع الطوائف اللبنانية كافة، لتتقدم عليها أولوية الحفاظ على وحدة لبنان وإستقلاله ودعم المقاومة الفلسطينية، من دون أن يعني ذلك أن الإمام الصدر لم يعمل طول السنوات التي امتدت من إعلان هذا البيان إلى إندلاع الحرب الأهلية، من أجل تحقيق الربط بين هذه الأهداف مجتمعة... إلى أن تم تغييبه في نهاية الشهر الثامن من عام 1978.
وعلى الرغم من الترابط في أوجه النشاط الديني والسياسي والاجتماعي والوطني الذي قام به الإمام الصدر على امتداد زهاء عقدين من الزمن، إلاّ اننا يمكن أن نميّز بين مرحلتين أساسيتين في عمله هذا المرحلة الأولى التي بدأت مع وصوله في نهاية عام 1959 واستمرت حتى إندلاع الحرب الأهلية في نيسان/أبريل 1975. وفي هذه المرحلة تركزت مقاومة الإمام الصدر وحركته وخطابه التعبوي والتحريضي على رفع الحرمان عن المناطق التي يسكنها الشيعة في لبنان، وعلى رفع الغبن عنهم في التوزيع الطائفي داخل دوائر الدولة وإداراتها الرسمية مقارنة بالطوائف الأخرى، وإستناداً إلى نظام توزيع الحصص الطائفية. كما ربط بين رفع هذا الحرمان عن الشيعة وبين إزالة الحرمان عن اللبنانيين كافة الذين يعانونه في أكثر من منطقة. وقد ميّز في نشاطه هذا بين خطابين، واحد موجّه إلى الجمهور الشيعي الواسع لكي يستعيد ثقته بنفسه وينهض للمطالبة بحقوقه، وآخر موجه إلى الدولة ومسؤوليها وأركان الحكم فيها مطالباً إياهم بتحسس مشكلات الجنوبيين قبل فوات الأوان. مذكراً بما يتعرض له الجنوب من إعتداءات إسرائيلية ومن تهميش على مستوى التنمية بوجوهها كافة التعليمية والصحية والزراعية.. مبيناً بالأرقام والتفاصيل حجم الهدر الذي تم تحت شعارات المشاريع المختلفة في الجنوب على مدى عشرات السنين.
وقد كان للمهرجانات الضخمة والحاشدة التي ضمت عشرات الآلاف من المؤيدين التي دعا إليها بين عامي 1970 و 1974 في بعلبك وصور وقعاً سياسياً كبيراً جعل القوى المختلفة في لبنان الرسمية وغير الرسمية داخل الطائفة الشيعية وخارجها تنظر إلى ما جرى بعين القلق والريبة، وذلك خشية الدور الذي بدأ يقوم الإمام الصدر به والموقع الذي احتله على رأس الطائفة الشيعية خاصة وفي لبنان عامة. ما كان يعني عملياً سحب البساط من تحت أقدام الكثير من الشخصيات السياسية ومن رجال الدين ومن الأحزاب والحركات السياسية المختلفة· وهذا سيعرّض الإمام الصدر لاحقاً إلى حملات قاسية ومنظمة من الإتهام والتشكيك..
وعلى الرغم من أولوية الجانب الإجتماعي والسياسي في هذه المرحلة من مشروع الإمام الصدر، أي رفع الحرمان عن الشيعة وتنمية مناطقهم، إلا أنه كان يربط على الدوام بين هذا المشروع وبين حق الشيعة في الدفاع عن أنفسهم وفي مقاومة الإعتداءات الإسرائيلية· وكان يكرر دائماً "لماذا لا يعطون السلاح للجنوبي للدفاع عن بلده؟". إن لبنان مهدد من قبل إسرائيل، "وأن إهمال الجنوب يخدم مصلحة العدو الإسرائيلي". كما كان يعلن أن الجنوب في خطر وأنه صامد ويحتاج إلى دعم ومساعدة، وأن لا كرامة للبنان ولا سلامة له بدون الجنوب". والملاحظة المهمة في هذا المجال هي أن مثل هذا الربط أغفلته أحزاب سياسية كبرى كانت تقود الحركة السياسية والحزبية والطلابية في تلك المرحلة· فأغفلت الجنوب، ولم تعر الاحتلال الإسرائيلي أي أهمية، بل اقتصر "نضالها" على الجانب المطلبي الاحتجاجي والنقدي للنظام السياسي في لبنان. أما الملاحظة الأخرى فهي تأكيد الإمام الصدر أن مثل هذا الدفاع ومثل هذه المقاومة اللذين يطالب بهما لن تكونا دفاعاً عن الجنوب بما هو كيان خاص، أو منطقة خاصة، بل هو دفاع عن لبنان. بما أن الجنوب هو "جزء من كل"، كما كان يكرر دائماً (راجع خطابه في بلدة ياطر عام 1974). أي أنه كان يرفض أن يفصل بين الدفاع عن الطائفة وبين الدفاع عن الوطن، أو بين الدفاع عن الجنوب والدفاع عن لبنان لأنه لا يريد الجنوب هزيلاً أو في شكل دويلات بل "نريد جنوباً متمسكاً بلبنان، مرتبطاً بهذه الأمة، موحداً مع العرب، رأس حربة لهم، لا جنوباً هزيلاً مفصولاً، بل نريده جنوباً مانعاً وصخرة تتحطم عليها أحلام إسرائيل وتكون نواة تحرير فلسطين وطليعة المحاربين ضد إسرائيل.. وقاعدة لتحرير الأراضي المقدسة" (خطاب له في مدينة صيدا بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف. نشرته الصحف في 5/4/1974).
أما المستوى الثاني في إستراتيجية الإمام الصدر كما عبّرت عنها سياسته ومواقفه وحركته سواء، قبل إندلاع الحرب الأهلية أو في أثنائها، إلى حين تغييبه، فهو مشروعه لمقاومة إسرائيل· وربما كان من المتعذر بل والمستحيل على الإمام الصدر أن يفصل في مشروعه هذا بين رفع الحرمان عن الشيعة وبين تأمين مسلتزمات الصمود والقتال طالما أن الجنوب هو مسرح الإعتداءات الإسرائيلية الدائم وهو منطقة المواجهة الممكنة، وهو منطقة الكثافة الشيعية في لبنان. ولهذا كان يقول "الحرمان أن يترك الجنوب بلا حماية ولا دفاع"(راجع خطابه في بلدة بدنايل البقاعية في 17/2/1974).
وإذا كانت أولوية الجانب الاجتماعي السياسي قد طغت على المرحلة الأولى من مشروع الإمام الصدر، وأمكن أن نطلق عليها مرحلة بناء الذات ومقاومة الحرمان والغبن الطوائفي الداخلي على الرغم من تحذيره الدائم من الخطر الإسرائيلي والمشروع الصهيوني، فإن المرحلة الثانية التي طغى عليها الإهتمام المباشر بمقاومة الإعتداءات الإسرائيلية، بدأت مع التحولات الإقليمية التي جعلت ساحة الجنوب أكثر سخونة إبتداءً من عام 1970 بعدما نزحت المقاومة الفلسطينية من الأردن إثر معاركها مع الجيش الأردني إلى لبنان واستقرت في جنوبه. وعلى إمتداد هذه المرحلة ومن خلال نشاط الإمام السياسي، وخطبه ومواقفه، وعلاقاته المحلية والعربية والدولية يمكن أن نتبين المفاصل الأساسية لمشروع المقاومة في فكر الإمام الصدر. وهي مفاصل، كما سنرى، تمايزت إلى حد الصدام عما كان سائداً من مشاريع في الأوساط الفلسطينية أو في الأوساط اللبنانية المؤيدة لها في تلك المرحلة بين 1970 و 1978 ولا شك أن الإمام الصدر دفع ثمناً كبيراً لهذا التمايز، وهو في ذروة عمله قبل أن يتم تغييبه·
وربما يصعب البحث عن فكرة المقاومة ومشروعها في رؤية الإمام الصدر وتجربته في ظل الغيوم التي بدأت تتجمع في سماء لبنان بعد لجوء المقاومة الفلسطينية إليه في عام 1970، وفي ظل الغبن الطوائفي المزمن الذي كان يلحق بالشيعة آنذاك، والحرمان التنموي الشديد الذي كانت تعيشه مناطقهم، بالإضافة إلى إنعكاس المعادلة العربية بتناقضاتها على المنظمات الفلسطينية المتعددة وعلى لبنان في وقت واحد.
إن صعوبة عمل مماثل تتأتى من الحاجة لاستعادة كل تلك التطورات السياسية والأمنية الداخلية والإقليمية التي تركت أثرها منذ الستينات، وحتى منذ الإستقلال، في طبيعة الصراع في لبنان. إلا أن مسيرة الإمام الصدر، ومواقفه والخطب التي ألقاها في المناسبات الشعبية والسياسية والدينية والوطنية، والتصريحات التي أطلقها، والمقابلات التي أجراها منذ مجيئه إلى لبنان، شكّلت تأريخاً لتلك المرحلة الخطيرة التي هددت مصير لبنان، وكانت في الوقت نفسه تعبيراً مباشراً ومكثفاً عن هذا التشابك المعقد للصراعات بين البعدين الداخلي والإقليمي في لبنان. وقد سمحت لنا هذه السيرة وتلك المواقف والخطب والبيانات بتحديد عشرة مرتكزات أساسية في هذا المشروع تتداخل في ما بينها، ويصعب الفصل بين عناصرها إذ يتمم بعضها بعضاً على الرغم من انها كانت حصيلة عقدين من الزمن:
1 - دعم المقاومة الفلسطينية
إنطلاقاً من رؤيته لمخاطر الإحتلال الإسرائيلي، شدد الإمام الصدر دائماً على دعم المقاومة الفلسطينية في قتالها ضد إسرائيل. واعتبر أن الإستعداد لمجابهة العدو هو جزء من دعم هذه المقاومة والمشاركة في تصعيدها والحرص على سلامتها (راجع مؤتمره الصحافي في 19/11/1969). وأن الحل الوحيد الذي برز إلى الوجود هو المقاومة الفلسطينية التي عليها أن تتصاعد لتكون نواة الحرب الشعبية (راجع خطابه في يوم الإضراب الوطني العام الذي دعا إليه في 26/5/1970).
ودافع الإمام الصدر في الإطار نفسه عن القضية الفلسطينية وعن الشعب الفلسطيني في كل المحافل العربية والدولية. ففي المؤتمر الصحافي الذي عقده في مكتب الجامعة العربية في مدينة بون في ألمانيا في 10/8/1970 رأى في المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان رداً على الإحتلال الإسرائيلي الذي شرد الشعب الذي عاش في أرضه آلاف السنين. وكذلك فعل في اللقاء الصحافي في باريس في 30/8/1970 مع صحيفة (لاكروا) الباريسية مؤكداً حق الفلسطينيين في المقاومة وفي رفض مشروع روجرز في ذلك الوقت. "لأن الثورة الفلسطينية هي الطريق إلى الأرض المقدسة، وهي الشعلة المقدسة التي أوقدها اللّه لحماية خلقه ولكرامة هذه الأمة.. وإنها أمانة اللّه في عنقنا.. ونصرف في سبيلها الغالي من الأرواح" (من خطاب له نشرته الصحف اللبنانية في 16/8/1975).
انطلق الإمام الصدر في دفاعه عن المقاومة الفلسطينية من موقفه المبدئي الذي كان يكرره دائماً في جميع المحافل اللبنانية والعربية والدولية من الإحتلال الإسرائيلي. ومن تحذيره المستمر من مخاطر هذا الإحتلال على لبنان والعالم العربي. كما كان الإمام في دفاعه هذا عن المقاومة الفلسطينية ينسجم مع المناخ السائد عربياً في دعم هذه المقاومة وخصوصاً مع بداية صعودها إثر هزيمة الجيوش العربية في عام 1967.
لكن هذا التأييد المطلق للمقاومة الفلسطينية، لم يمنع الإمام الصدر، وخلافاً للتيار الذي كان سائداً آنذاك عربياً ولبنانياً في الوقت نفسه من التأكيد الدائم على أهمية تدريب الجنوبيين وتسليحهم للدفاع عن أرض الوطن. وهو تأكيد سيتحول لاحقاً، نظراً لاندلاع الحرب الأهلية وتكرار الإعتداءات الإسرائيلية، إلى أولوية قصوى في مشروع الإمام الذي عبر عنه إثر إعلانه عن تشكيل "أفواج المقاومة اللبنانية" في عام 1975.
2 - الحفاظ على وحدة لبنان.
هذا التأييد للمقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان ارتبط دائماً عند الإمام الصدر بالحفاظ على الوطن (لبنان) ووحدته. لذا كان يكرر دائماً إن دعمنا للمقاومة... ينطلق من المبدأ نفسه الذي ينطلق منه السعي للحفاظ على الوطن والدفاع عنه(راجع مؤتمره الصحفي الذي نشرته الصحف في 20/11/1969)، ولهذا السبب كانت مطالبته الدائمة بإعادة المؤسسات الشرعية إلى الجنوب قبل المناطق الأخرى بعدما عطلت الحرب الأهلية هذه المؤسسات من أجل "إعادة الشعور لدى المواطنين في الجنوب بوجود الدولة وبالتالي بوجود الحماية والرعاية والمسؤولية الشريفة" (حديث لمجلة الصياد في تشرين الثاني 1976)، وهذا الربط الذي التفت إليه الإمام الصدر وأصر عليه دائماً ستكشف التطورات اللاحقة أهميته في مقابل الإتجاهات اللبنانية والفلسطينية التي عملت على الفصل بين هاتين القضيتين أي بين دعم المقاومة وبين الحفاظ على الوطن.
3 - الإستعداد لمعركة طويل.
لم تكن المقاومة بالنسبة إلى الإمام الصدر معركة محدودة في الزمان والمكان، ولم تكن بالنسبة إليه ذات جانب واحد، عسكري، على سبيل المثال. بل هي "معركة ذات وجوه كثيرة. فهي معركة حضارية طويلة الأمد متعددة الجهات، وطنية، قومية، دينية، إنها معركة الماضي والمستقبل. ومعركة المصير وهذا يعني أن المطلوب منا الإستعداد لعشرات السنين وعلى جميع الجهات وبكل المستويات ومع جميع الطاقات" (راجع مؤتمره الصحافي الذي نشرته الصحف في 20/11/1969).
4 - توسيع دائرة القتال ضد العدو.
دعا الإمام مبكراً إلى توسيع دائرة المشاركة في القتال ضد إسرائيل وعدم اقتصارها على الفلسطينيين، وإلى تربية الأجيال على هذا القتال. فنادى بإنشاء مخيمات التدريب للبنانيين وإلى تسليح أهل الجنوب وإلى مشاركة الجميع في القتال ضد إسرائيل "لأن القضية الفلسطينية ليست ملكاً لأحد، إنها مسؤولية هذه الأمة بكل فئاتها وأشخاصها ودولها". وأعلن من بعلبك في المهرجان الشعبي الكبير الذي دعا إليه في 17/3/1974. "أن المعركة لم تنته، نريد أن نستعد، نريد أن نربي جيلاً يتمكن من حمل السلاح.. نحن في حاجة ملحة إلى التدريب العسكري.. نحن مضطرون إلى تدريب أولادنا وتسليحهم كي نحفظ كرامة بيوتنا .. ونؤدي دورنا في صيانة الوطن" (نص الخطاب نشر في الصحف في 18/3/1974).
5- عدم إضعاف الجيش اللبناني.
لقد تعرض دور الجيش اللبناني في مراحل مختلفة من الحرب الأهلية، وحتى قبل تلك الحرب بسنوات، إلى النقد والتشكيك والإتهام من أطراف سياسية عدة في لبنان. إلا أن الإمام الصدر، وخلافاً لتلك الإتهامات شدد على عدم إضعاف الجيش وعلى أهمية دوره في المقاومة، إلى جانب تسليح المواطنين وإعدادهم للمشاركة في القتال. وقد شدد الإمام على هذا الدور القتالي المفترض للجيش في مواجهة دعوات لبنانية (يمينية) كانت ترى قوة لبنان في ضعفه، وترفض هذا الدور للجيش، ودعوات أخرى فلسطينية ولبنانية (يسارية) متعاطفة معها كانت ترى في أي مشروع لمشاركة الجيش في القتال في الجنوب محاولة لتطويق الفلسطينيين هناك أو "مؤامرة" عليهم. وكان الإمام الصدر يربط "بين الخروج من أسلوب تطبيق النظام الطائفي والقدرة على تأسيس جيش قادر على الدفاع" (راجع الصحف بتاريخ 10/6/1969).
ولم يتورط الإمام الصدر في أي محاولة لإضعاف الجيش أو النيل من مكانته. بل دعا "إلى تحمل المشاق والتضحيات لأجل تعزيزه وتجهيزه من أجل الدفاع عن الوطن" (مقابلة معه نشرت في صحيفة الحياة في عدد خاص عام 1974). حتى بعد مقتل معروف سعد، الذي اتهمت عناصر من الجيش بالقيام به قبل شهر واحد من إندلاع الحرب الأهلية نراه يدعو في خطابه التأبيني للقائد الصيداوي في 13/3/1975(نشرته الصحف في 14/3/1975) إلى أن يكون الجيش لحماية الوطن.. ويتصدى للكوماندوس الإسرائيلي·· ويتعرض للدوريات الإسرائيلية التي تفتش السيارات.. لا نريد جيشاً يطلق الرصاص على معروف سعد، فنحن لا نتهم أحداً في لبنان.. أولئك الذين يريدون إضعاف الجيش لا يريدون له السلاح، يقولون أن قوتنا في ضعف الجيش، وذلك لأنهم لا يريدون جيشاً قوياً. إنهم يريدونه للمعارك الداخلية... لقد خلقتم الخصومة بين الجيش والناس. أريد الجيش قوياً صالحاً حتى يحمي الحدود". وكان يؤكد في إطار دعوته إلى أهمية وجود الجيش في الجنوب أن "أول طلقة حقيقية وأول بيان صادق يصدران عن الجيش سيؤديان إلى التفاف شعبي وفلسطيني وعربي لمساندة الجيش" (راجع الصحف في 5/2/1975).
6 - تشكيل المقاومة اللبنانية.
على كل شاب أن يتدرب ويحمل السلاح لتأسيس مقاومة لبنانية تلقن العدو درساً· الدفاع عن الوطن ليس واجب السلطة وحدها فهذا لا يلغي واجب الشعب في الدفاع. "إن أول رصاصة تنطلق من بنادقنا ستغير المعادلات الداخلية والخارجية. فلنقف على أرجلنا ونتسلح. ونشكل مقاومة لبنانية" (من خطاب القاه في الكلية العاملية ببيروت بمناسبة ذكرى عاشوراء. راجع الصحافة 21/1/1975).
يعتبر الإمام الصدر أول من أطلق الدعوة إلى تأسيس مقاومة لبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي إنطلاقاً من جنوب لبنان. وتنسجم هذه الدعوة مع ما يختزنه جبل عامل من تراث عقائدي وسياسي وتاريخ حافل بالتمرد على الظلم والإستبداد.
لكن الظروف التي أحاطت بهذه الدعوة في مطلع السبعينات كانت شديدة التعقيد والصعوبة نظراً لتقاعس السلطة اللبنانية عن قيامها بهذا الدور ناهيك عن عدم تشجيعها له، ولوجود المقاومة الفلسطينية التي كانت تقاتل الإحتلال الإسرائيلي بدورها من جنوب لبنان. وهذا ما جعلها دعوة تحاصرها الصعوبات والمخاطر الداخلية والخارجية قبل إنطلاقها.
وقد أعلن الإمام الصدر عن ولادة هذه المقاومة في صيف 1975 (بعد حادث الإنفجار في معسكر التدريب في البقاع في العام نفسه)، نافياً أي دور لها في الصراع الداخلي، داعياً المتحاربين كافة لنقل سلاحهم إلى الجنوب "لأن سلام لبنان هو أفضل وجوه الحرب مع إسرائيل"، و"لأن الدفاع عن الجنوب والقتال لرد العدوان واجب شرعي وتاريخي ووطني". وقد تحولت هذه الحركة تدريجياً إلى حركة مقاتلة بدأت تتصدى مع نهاية عام 1975 للدوريات الإسرائيلية وتشارك في تحرير قرى وبلدات احتلها عملاء العدو وجنوده.
ولم يكتف الإمام بإطلاق هذه المقاومة، بل عمل في الوقت نفسه على تأسيس "هيئة نصرة الجنوب" التي ضمت رؤساء الطوائف الروحية في الجنوب، إيماناً منه بضرورة توسيع قاعدة المشاركين والمدافعين عن الجنوب وعن المقاومة.
7 - بناء مجتمع حرب.
إن مجتمع الحرب يعني أن يكون كل شيء يشير إلى الصمود والوقوف والدفاع." لأن الخطر الأساسي على لبنان هو الخطر الداخلي الذي يتمثل في الميوعة والفساد. ووسائل الصمود هي التسلح بالأسلحة الدفاعية الحديثة، هي تكوين مجتمع جد.. وتقوية الإيمان باللّه والإيمان بالقيم، والإيمان بأن الحق سينتصر مهما تقلبت الظروف وطال الزمن" (صحيفة (الجريدة) في 21/6/1969).
ومن بديهيات مجتمع الحرب والصمود "إعطاء الأفضلية للجنوب في الموازنة العامة، والمساهمة في رفع معنويات أبنائه.. إلى تأسيس المستشفيات والمستوصفات النقالة والمشاريع والمصانع ووسائل الدفاع المدني وأمثال ذلك" (مؤتمر صحفي نشرته الصحف في 20/10/1969). إن بناء هذا المجتمع بالنسبة إلى الإمام سوف يحدّ أيضاً من نزوح الجنوبيين على رغم ما يتعرضون له :"لأن التجربة أثبتت أن النزوح يعرض الأرض للمطامع الإسرائيلية" (من حديث له إلى إذاعة مونت كارلو في 16/3/1978 بعد يومين على بدء إجتياح إسرائيل جنوب لبنان ونشرته النهار في 17/3/1978).
8 - الدور العربي في دعم الجنوب والمقاومة.
دعا الإمام العرب إلى جعل قضية الجنوب قضيتهم مثل قضية فلسطين، لأنهما لا ينفصلان، طالباً منهم أن يعتبروا الجنوب "جبهة للعرب كل العرب". وأن يساهموا في تنميته وتحصينه. وأن يكونوا هيئة عربية لمساعدة السلطات اللبنانية في تحمّل أعباء ليست هي أعباء لبنانية محضة. هذا دون أن ينسى الإمام أهمية البعد الدولي وتأثيره في الصراع، فطالب العرب "باستعمال صداقاتهم الدولية للضغط على إسرائيل فوراً ومنعها من الإعتداء"(راجع رسالته إلى الملوك والرؤساء العرب لدى اجتماعهم في القاهرة). كما طالب في مرحلة لاحقة (1976) بحضور قوات عربية تحت أمرة القيادة اللبنانية من أجل توفير الأمن وإسقاط الحجة من يد الذين يستغيثون بإسرائيل (حديث إلى صحيفة القبس الكويتية في 25/10/1976). ولم يتردد الإمام الصدر في زيارة مختلف الدول العربية لعرض قضية الجنوب والإعتداءات الإسرآئيلية، فزار كلاً من سوريا والأردن والسعودية والجزائر ومصر، وقابل رؤساءها، ودعاهم إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه لبنان.
وقد أدرك الإمام مبكراً أهمية الدور السوري في إطار هذا البعد العربي فرفض تدويل القضية اللبنانية أثر إندلاع الحرب الأهلية وما أدت إليه من صدامات مسلحة بين اللبنانيين وبين الفلسطينيين والجيش السوري. وهو يؤكد أولاً ضرورة إعادة التلاحم الكامل بين سوريا وبين المقاومة، "فلا حرب مع إسرائيل ولا تحرير لفلسطين ولا تطوير للبنان إلا بالتعاون مع سوريا. ولا رسالة لسوريا إلاّ من خلال وقوفها مع الإرادة الوطنية اللبنانية ومع الثورة الفلسطينية ومع كل قضية عادلة في العالم"· ولهذا السبب يرى الإمام أن لا حاجة للوساطة الدولية لإعادة اللحمة بين سوريا والمقاومة الفلسطينية والصف الوطني اللبناني، "التي يقوم بها تشاوشيسكو أو تيتو، أو جيسكار ديستان". لأن رؤساء الطوائف في لبنان هم أولى الناس وأقدرهم على إعادة هذه اللحمة (راجع رسالته في صحيفة النهار في2/7/1976).
9 - رفض التقسيم ووحدة لبنان وعروبته·
ما نريده، يقول الإمام الصدر، "لبنان واحداً أرضاً وشعباً. لا نريد التقسيم وخلق إسرائيل أو إسرائيلات أخرى. نرفض الدولة المارونية والدولة الشيعية. نريد أن نعيش معاً كمواطنين مسلمين ومسيحيين مهما حصل في الماضي القريب والبعيد. نريد لبناناً عربياً، لا جسماً غريباً في المنطقة يأخذ ولا يعطي. بلداً متفاعلاً مع أشقائه يتحمل معهم مسؤولياته العربية ويشارك في المصير العربي، نريد لبنان العربي الحر المستقل"(في بيان له بمناسبة مرور سنة على الحرب الأهلية في لبنان· نشرته الصحف في 17/4/1976). وقد دعا الإمام أيضاً في إطار نظرته إلى وحدة لبنان وعروبته إلى التشديد على الوحدة الوطنية وعلى تجنب الصدامات الداخلية اللبنانية اللبنانية واللبنانية الفلسطينية "لأن كل إستفزاز وتشنج يخدم العدو بصورة واضحة. وكل تهدئة وتوحيد للمواقف وكل صبر وتحمّل للإستفزازات الآتية من غير العدو، إبعاد للمؤامرة وتفشيل لها" (راجع نداءه بمناسبة نتائج مؤتمر قمة الرياض، الصحف في 22/10/1976).
ولهذا السبب نفسه وقف الإمام بصراحة تامة ضد مشاريع الإدارة المحلية التي دعت إليها بعض الأحزاب اللبنانية في المناطق التي كانت تسيطر عليها أثناء الحرب الأهلية. واعتبر ذلك "مشاركة في تقسيم لبنان" (من خطاب له في قصر الأونيسكو في 23/5/1976).
10- رفض التطبيع.
وهو رفض لا يقبل أي ذريعة من الذرائع، وخصوصاً بعدما أدت تطورات الحرب الأهلية في لبنان إلى إنشاء ما سمي "الجدار الطيب" في الجنوب، فوقف الإمام الصدر ضد أي مساعدة تقدمها الدولة العبرية إلى اللبنانيين في تلك المنطقة. وقال "علينا أن نعلم أن كل قطرة من أدوية إسرائيل هي سم زعاف يسمم أجسامنا وأجسام أولادنا وأن كل من يذهب إلى مستوصفاتها إنما يذهب إلى وكر الأفاعي والحيات.. وعلينا أن ندرك أن كل خدمة تقدمها إسرائيل وكل بضاعة نشتريها وكل رحلة توفرها لنا هي ضربة قاضية على وطننا وتاريخنا وكرامتنا". "إن التعامل مع إسرائيل والإستعانة بها بأي صورة وبأي حجم حرام وغدر وخيانة" (من بيان له بمناسبة مرور سنة على الحرب الأهلية. مرجع سابق). وفي انتقاد له لزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس، يعلن الإمام أن الإنفتاح العربي على إسرائيل، إذا تم، فسوف نجد إسرائيل حاضرة ومسيطرة في جميع الشؤون الإنمائية والإقتصادية والتربوية والثقافية وغيرها(17/1/1978).
هذه المبادىء العشرة التي كونت إستراتيجية الإمام الصدر للمقاومة ضد إسرائيل منذ بداية 1960، إصطدمت بجدار الحرب الأهلية ونيرانها التي اندلعت في 1975 والتي لم تسمح له بتطبيق ما كان يخطط ويسعى له. ولم يتردد الإمام الصدر في تبديل أولوياته عندما تبدلت المخاطر والتهديدات. فها هو يدعو، على سبيل المثال، إلى عدم إستخدام السلاح في الصراع الداخلي، بعدما استمر سنوات يحرض الناس على إقتناء السلاح والتهديد به لتحقيق المطالب ورفع الحرمان والدفاع عن النفس ضد الإعتداءات الإسرائيلية. وعندما اتخذ الصراع الداخلي طابعاً إسلامياً ـ مسيحياً رأى الإمام الصدر أن الأولوية هي في الحفاظ على وحدة لبنان لأن سلامه الداخلي هو أهم وجوه الحرب مع إسرائيل، فلجأ إلى اعتصامه الشهير في مسجد الكلية العاملية تعبيراً عن رفضه للعنف والاقتتال الداخلي. واعتبر في عام 1976 أن لبنان يتعرض لثلاثة مخاطر: التقسيم، والإعتداءات الإسرائيلية، وتصفية الثورة الفلسطينية. لكن ذلك لم يمنعه من التصويب الدائم على الهدف الأساس في مشروعه وهو الجنوب لقتال العدو. فقام يطالب ويدعو في ذروة اشتعال الحرب الأهلية إلى الرحيل جنوباً، وإلى "نقل المدافع والهواوين والصواريخ والمتاريس إلى هناك.. ولنقل الحرب إلى وجه العدو.. ولا علاج إلا بنقل الأسلحة إلى الجنوب.. فالخطر هو من إسرائيل.. والعدو في الأرض المحتلة وليس في النبعة وبرج حمود· فلننتقل جميعاً إلى الجنوب" (من خطاب له في حسينية الشياح. الصحف في 10/7/1975).
هذا التأكيد على إستراتيجية المقاومة وإستراتيجية "التوجه جنوباً" هو الذي دفع الإمام الصدر أيضاً إلى توجيه النصح والنقد معاً للمقاومة الفلسطينية التي غرقت في رمال الحرب الأهلية الداخلية وابتعدت عن بوصلتها الحقيقية وهي قتال العدو في جنوب لبنان. فها هو يطلب من الثورة "أن تتلاحم مع كل صديق. وأن تبتعد عن كل إنحياز. وأن الثورة الفلسطينية مدعوة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لأن تعيد إلتزاماتها بلبنان، وأن تخلق للبنانيين، جميع اللبنانيين، ضمانات معنوية ومادية، تدخل الأمان في النفوس والثقة في المستقبل" (من نداء له نشرته الصحف في 14/6/1976). وفي إشارة واضحة إلى نقده لانصراف المقاومة الفلسطينية إلى التدخل في الشؤون الداخلية يقول: "إذا تحولت المقاومة التي هي حركة تحرير فلسطين، إلى حركة تحرير العالم العربي من أنظمته سوف تفقد كثيراً من رصيدها"(مقال إفتتاحي له في مجلة صوت المحرومين عدد 23/9/1976). وإنسجاماً مع نظرته إلى أهمية وجود المؤسسات الشرعية في الجنوب، وأهمية دور الجيش اللبناني في الدفاع وتحمّل المسؤولية الوطنية، وإلى خشيته من استمرار الصراع العربي عبر المقاومة الفلسطينية على أرض لبنان، دعا الإمام الصدر قبل أشهر من تغييبه، الفلسطينيين "إلى تسهيل دخول الجيش إلى الجنوب لئلا يتحملوا هم مسؤولية ما يجري". كما دعاهم إلى الإنضباط في الوقت الذي رفض المطالبة بطردهم من الجنوب" (من خطبة الجمعة في مسجد "الصفا" في الكلية العاملية في 25/2/1978)، كما كان يردد البعض آنذاك. ودعا منظمة التحرير الفلسطينية إلى حل بشأن الفوضى المتفشية في الجنوب لأنه في حال عدم حصول ذلك، فإن الوضع سيزداد خطورة. وسيتدخل الجيش الإسرائيلي"(من حديث له إلى مجلة Le Nouvel observateur الفرنسية. نشرته اللواء البيروتية في 9/3/1978). وهذا ما حصل فعلاً إذ تم الإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في الرابع عشر من آذار/مارس من العام 1978.
إن الوجه الآخر لإستراتيجية الإمام الصدر في التوجه جنوباً هو مشروعه لتأسيس المقاومة اللبنانية· وقد أراد الإمام من هذا المشروع الصعب الذي لم يدرجه لبنان يوماً على مخططاته السياسية أو العسكرية أو التنموية، أن ينزع من أيدي الجميع في الداخل والخارج الذرائع التي تبرر التدخل أو العدوان.
"إن مسؤولية إزالة العدو وإرهاقه إذا لم يخرج من الجنوب هي مسؤوليتنا وحدنا. لا نريد من أحد من الأشقاء ولا نريد من المقاومة الفلسطينية أيضاً أن تساهم في معالجة هذا الأمر. إن إسرائيل تتذرع إذا دخل غير اللبنانيين في سبيل تحرير أرضهم. نحن سنتكفل بذلك وسنتحدى العالم. نقول للعالم إن أرضنا احتلت ليس بسببنا أبداً وليس بإرادتنا بل نتيجة تآمر دولي وإهمال عربي" (من خطبة له في مسجد "الصفا". نشرتها الصحف في 1/4/1978 (بعد أقل من شهر على الإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان).
وفي تحديده لمواصفات هذه المقاومة بعد إعلانه عن ولادتها في عام 1975، يدعوها إلى عدم الإنجرار إلى أي معركة داخلية لأن شباب هذه المقاومة "هم فدائيو حدود الأرض اللبنانية المقدسة فقط" وإلى عدم إغلاق باب هذه المقاومة "أمام أحد من المسيحيين الشرفاء". وإلى إلتحاق شبابها بالمؤسسة الرسمية الكبرى (العسكرية) عندما تتحمل هذه الأخيرة مسؤولياتها الوطنية.
لم تنطلق هذه الإستراتيجية الشاملة للمقاومة التي وضعها الإمام الصدر من تصورات نظرية مجردة. بل كانت خلاصة تجارب صعبة وحروب وفتن عرفها لبنان في أصعب المراحل التي مر بها من الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975 إلى الإجتياح الإسرائيلي الذي تم بعدها بثلاث سنوات في 1978. وقد حملت هاتان التجربتان تهديدات حقيقية لوحدة لبنان وسيادته وللعيش المشترك الإسلامي ـ المسيحي، ولجنوبه ولسكانه. لذلك كان من الصعب تصويب الرؤيا في خضم دخان المعارك والحروب الداخلية. وهو التصويب الذي جعله الإمام هدفاً بقوله "لنتجه جنوباً".
إن إعادة قراءة هذه الإستراتيجية، بنقاطها العشر تسمح لنا بالقول أن الإمام الصدر استشرف ببصيرة فذة خلال أحلك الظروف وأصعبها أولوية المقاومة جنوباً وبالسواعد اللبنانية. وتلخص هذه النقاط مشروع المقاومة في فكر الإمام الصدر وتجربته. وهو المشروع الذي قام على الدعوة إلى الربط (الذي لم يتحقق لغاية اليوم) بين تنمية المناطق المحرومة وخصوصاً في الجنوب وبين الإستعداد لقتال إسرائيل. وعلى دعم المقاومة الفلسطينية من دون التخلي عن سيادة لبنان. وعلى بناء المقاومة اللبنانية عندما تحولت المقاومة الفلسطينية ذريعة إسرائيلية وطرفاً في الصراع الداخلي. وعلى الوحدة الوطنية والعيش المشترك. وهو مشروع أدرك فيه الإمام الصدر أهمية البعد العربي في حماية لبنان والمقاومة. كما شدد فيه على دور الجيش اللبناني في المشاركة في هذه المقاومة وفي حماية الشعب والوطن.
لقد أرست هذه الرؤية الإستراتيجية للإمام الصدر، في مشروعه لوحدة لبنان ولعلاقة الشيعة بالدولة والكيان، ولمواجهة إسرائيل، حتى إختفائه عام 1978، القواعد التي سيعود إليها أطراف الشيعة لاحقاً في تجاربهم المختلفة ومن مواقعهم المتعددة كأحزاب وشخصيات ومرجعيات، على الرغم من التفاوت الذي سيبرز لاحقاً بين هذه الأطراف إما في التشديد على أولوية المقاومة، أو على بناء المؤسسات، أو على العلاقة الوثيقة مع سوريا، أو مع المرجعية الدينية (راجع مقالنا "الإسلاميون والديمقراطية، قراءة في إستراتيجية التصالح من خلال تجربة الحركة الإسلامية في لبنان". مجلة النور، لندن، عدد98/1999). كما أن أي مقارنة نعقدها مع ما بلغته المقاومة اليوم من نجاحات في قتالها ضد العدو، ومن إلتفاف وطني حولها، ومن مشروعية انتزعتها من محيطها اللبناني والعربي والإسلامي، واعتراف دولي بحقها، وكذلك مشروعها لتوسيع دائرة المشاركين فيها، إنما يلتقي، بطريقة أو بأخرى، مع دعوة الإمام الصدر قبل أكثر من ثلاثين سنة، إلى لبنانية المقاومة، وإلى تجنبها الصراعات الداخلية، وإلى التعاون بينها وبين الجيش وإلى حفاظها على وحدة لبنان وسيادته، وإلى التفاعل مع محيطها العربي وخصوصاً مع سوريا.
تعرضت هذه الرؤية الإستراتيجية للإمام الصدر لضغوط التطورات الداخلية والإقليمية التي حصلت في السنتين الأخيرتين (1977-1978) من حركته وسعيه لبلورة مشروعه الشامل في المقاومة. فقد وقعت مصر إتفاقيات كامب ديفيد· واجتاحت إسرائيل لبنان في ما سمي آنذاك عملية الليطاني. واتسع الإقتتال الداخلي اللبناني - اللبناني، واللبناني - الفلسطيني حتى على أرض الجنوب. وتحول لبنان إلى أكثر النقاط سخونة واشتعالاً في منطقة الشرق الأوسط، وإلى الساحة الوحيدة التي تحتاجها المقاومة الفلسطينية للحفاظ على وجودها وعلى عملياتها ضد إسرائيل. وكان من الطبيعي في ظل هذه التطورات التي لفها ضباب الدخان والحروب أن تتصادم الإرادات والمشاريع والرؤى اللبنانية والفلسطينية والعربية. وربما أمكن القول أن مشروع الإمام الصدر للمقاومة اللبنانية الشاملة بأبعاده المتعددة كان حلقة أساسية من حلقات هذا التصادم بين المشاريع المتناقضة. وربما أمكن القول أيضاً أن تغييب الإمام الصدر كان نتيجة مباشرة لهذا التصادم بين المشاريع المحلية والإقليمية في لبنان وعليه.