تلاها بالنيابة السيد لؤي شرف الدين
مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الجلسة الرابعة)
الأديان التوحيدية او الإبراهيمية التي تعرف بأديان حوض البحر المتوسط قد ظهرت في مساحات جغرافية كانت تحتوي على خلفيات حضارية وبعبارة اخرى إن هذه الأديان -التي لم تكن في الحقيقة الا دينا واحدا- لم تنشأ في خلو من الثقافات، فأي قوم ارتضوا بدين-اعم من المسيحية واليهودية والاسلام-كانت لهم خلفيات ثقافية فهم من هذا المنطلق أنكروه او سلّموا له.
فما جاء في التاريخ من عدم خضوع ثلّة من البشر لدعوة الأنبياء ومحاربتهم فهو من جهة التعارض بين الثقافة الدينية والسنن الموجودة والمتداولة عندهم فكان هؤلاء في حيرة من أمرهم بين قبول الدين الجديد والجمود على رسومهم وسننهم السابقة، فما نسمع من عدم الإنصياع عند أقوام لأي دليل عقلي لإثبات الأركان الدينية فهو من جهة عدم إمكانية الجمع بين الدين والتراث القومي عندهم ومن ثمّ ترجيح السنن على الدين فعلى سبيل المثال يذكر القرآن قوم شعيب(ع) حيث كانوا يعيشون حوالي فلسطين آنذاك- يردّون النبي بقولهم: "أصلواتك تأمرك ان نترك ما يعبد أباؤنا".أي إن كلامك ورسالتك يناقض تراثنا الذي تعودنا عليه.
فالسؤال الذي يطرح هنا هو: ما هو وجه الشبه بين الدين والتراث؟ وهل الدين دوماً بصدد نفي السنن والعادات او على العكس بأن الأديان قد وقعت في مصبّ الحضارات فوافقت بعض مرتكزاتها ونفت بعضها الآخر.
لا شك بان الثقافة والتراث لهما معنى أوسع من الإيمان، ففي أوروبا حتّى النصف الثاني من القرن الثامن عشر لم يكن مصطلح الثقافة (CULTURE) متداولاً في الأوساط العلمية وبعدها دخلت هذه الكلمة في ضمن المصطلحات السياسية والاجتماعية ومن ثم ذكروا لها تعاريف شتّى من زوايا مختلفة، فأرباب السياسة قالوا عنها: "الثقافة السياسية للمجتمع هي عبارة عن مجموعة من الأفكار والإتجاهات والأنظار والموازين والتقاليد التي نتجت عبر التاريخ وتأثرت في بعض مسيرتها وانتقلت من جيل الى آخر في سبيل النيل لأهداف المجتمع".
وعليه فكلّ تراث يحتوي على أسس ثوابت ومرتكزات متغيرة في طول الزمن التي تتحول مع الشروط، ولكن الفقرات الإيمانية والعقائدية- في قسمي العقيدة والأخلاق- لا تتغير أبداً، نعم قد يمكن طرق التغيير في بعض جوانب الأحكام الشرعية استناداً الى التحول في موضوعاتها. وعلى كلّ فإن النسبة بين الدين والثقافة نسبة العموم والخصوص من وجه التي لها مادة اجتماع وافتراق، والحقيقة ان الأديان قد ظهرت في بساتين الحضارات فمن المحتمل ان يوجد فيها الأزهار والأثمار الطيبة كما يمكن ان يكون فيها الأشواك ويمكن القول بأن الإتجاه العام في الأديان هو إصلاح الثقافات ومحو الزوائد والحشويات، وبعبارة أخرى إن الظواهر الثقافية لكل قوم يمكن ان تكون باطلاً من الأساس وفي تعبير القرآن لم تكن على أساس التعقل> وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أَوَلَوْ كان آباوهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون."
فلو كانت عبادة الأصنام وأكل الربا جزءاً من ثقافة الجاهلية التي كانوا يصرون عليها فإن رسالة الاسلام تقتضي محو هذا الشرط من ثقافتهم او التصادم معها. وهكذا يمكن ان يجد بعض المميّزات في ثقافة قومٍ قبولاً دينياً. فالدين ليس بصدد محاربة كافة الموازين الثقافية لدى المجتمع بل ان الواقع بين الدين والثقافة هو واقع التبادل والعطاء المتقابل.
علاقة الدين بموجة الإصلاح:
ذكرنا ان الأديان لم تكن لتمحو كافة التقاليد والأعراف تماماً وتأتي بسنن وآداب جديدة في كل المجالات بل انها سعت الى جذب الموارد التي لا تعارضها في سبيل سعادة البشر. فلو اردنا اشارة علمية للموضوع فيجب القول بأن الأحكام في الإسلام على نحوين: تأسيسية وإمضائية، وهذا الأخير عبارة عن أحكام كانت رائجة ومتداولة في المجتمع الجاهلي واندرجت تحت الآداب والأعراف الاجتماعية. فأحكام الجزاء -مثلاً- كانت غالباً موجودة في العصر الجاهلي، والإسلام حيث لم يرها منافيةً للتوحيد والأخلاق، أوصى بها وتقبلها وأدخلها في الشريعة الإسلامية. والدليل في المقام هو ان الدين ان كان بصدد نفي الحضارات والمقابلة معها، لم يهيىء الأرضية الملائمة لنموها وازدهارها، والحال ان الأديان وعلى الأخص الإسلام -لم تواجه اية حضارة الا وقد استقبلتها بحفاوة. والنموذج الاعلى لهذه الظاهرة قد حصلت في ايران، فايران ذات موقعية راقية في طول التاريخ وكانت تعرف بمفترق الأفكار. فالثقافات الآسيوية والعرفان الشرقي كانت تتلاقى فيها مع الثقافات الأوروبية والفلسفة الغربية، فالحضارة الإيرانية ذات مميزات من العرفان الشرقي والفلسفة الغربية ومع كل هذه التفاصيل فان الإسلام قد نفذ في هذا المجتمع وتقبلها الناس بترحاب. فالدين على قول بعض المؤرخين كان له التأثير في المجتمع الإيراني كما انه تأثر من الثقافة الإيرانية، اي على تعبير الأستاذ الشهيد مطهري كان هناك تأثيرٌ متقابلٌ بينهما. فالإيرانيون مع حفظ تراثهم من الأدب والتاريخ، بدّلوا "الوثنية" بالتوحيد ومعابد النار الى مساجد. وعلى جانب آخر جاء المتفكرون المسلمون لبناء الحضارة الإسلامية، فأخذوا الأسس من الحضارات المجاورة فتداول الطب الإيراني والفلسفة اليونانية في بيت الحكمة في بغداد وبدأت نهضة الترجمة فيها. وعلى رغم ان بعض الحكام والخلفاء بعد النبي قد تعمّدوا في التفرقة العنصرية وترجيح العرب على العجم وتسمية الإيرانيين بالموالي واجراء الظلم والجور عليهم باسم الدين، مع كل هذا لم يكن الإيراني ليرفع يده عن هذا الدين، وبعد مضي قرون قد بنى الإيرانيون الحكومة الدينية، فالحكومة الدينية قد عجنت مع الثقافة الإيرانية طوال قرون. والأغرب من هذا ان الثقافة الإيرانية قد أثرت حتّى في اسلوب الحكومة عند الخلفاء العرب، فبعضهم كان يعترف بتفوّق الموالي عليهم، فهذا احد الخلفاء الأمويين يقول:"استغرب من الإيرانيين فإنهم حكموا الف سنة ولم يحتاجوا الينا في سلعة، وحكمنا مئة سنة ولم نستغن عنهم لحظة".
فالثقافة الإيرانية قد رسخت الى مدى بعيد بحيث انهم حازوا على مراتب رفيعة في مجال العلم والدين وبعد مضي فترة قصيرة اصبح معظم الفقهاء والمفسرين والمتكلمين والمحدثين هم من هؤلاء الموالي ولا شك بأن نظرياتهم كان لها الأثر البالغ في تفسير الدين وعلى رأي بعض الفلاسفة فإن آراء الفقهاء الإيرانيين ذات طابع عقلي وعاطفي اكثر مما هو عند غيرهم من الفقهاء لأن الادب الإيراني هو ادب المحبة والعرفان. وعلى اي حال فإنها ومن الرقي والازدهار الوافر في مختلف شؤون الحياة والتوسع في شتى العلوم والفنون في العالم الإسلامي - في حين كان العلم في اوروبا راكداً - فالسبب يرجع الى نوع التعاطي بين الإسلام والثقافات الموجودة، فالإسلام لا يعارض الآداب والسنن والتقاليد بنحو عام بل يختار الصحيح منها ويدع السقيم والشاهد على هذا القول ان اكثر العلماء والمتفكرين المسلمين هم من خارج شبه الجزيرة العربية، يقول ابن خلدون:
"من الغريب انّ اكثر علماء الإسلام- الا في موارد محدودة - هم من غير العرب حتى ولو كان بعضهم عرب القومية فانهم في احضان مشايخ او اساتذة عجم، هذا مع ان صاحب الشريعة والدين هو من العرب ."(مقدمة ابن خلدون، ج 2، ص 148)
ومع غض النظر عن الإيرانيين فالكلام في مدى تعاطف الإسلام مع الثقافات الموجودة في المجتمعات البشرية، فنرى القوميات المختلفة قد انجذبت تحت لواء الإسلام مع ما فيها من التمايز، فنرى المسلم من منطقة القطب من سيبيريا وفنلاندا إلى ماليزيا والسودان وشمال افريقيا حتى شرق البحر المتوسط اي سوريا والأردن وفلسطين ولبنان ففي كل هذه الأقطار والمجتمعات تمكّن الدين من التطابق مع الثقافات الموجودة فيها فقدّر كل المميزات الأخلاقية الموجودة في تلك الشعوب وتلقاها بالقبول.
وعلى سبيل المثال نعلم بأن المسلمين قد دخلوا منطقة البحر المتوسط بعد مضي سنين من وفاة النبي( ص) فتعاملوا مع شعوب المنطقة بشكل قد ادى الى توسيع رقعة الإسلام في هذه البقعة من الأرض وحتى ان هذه المنطقة كانت مصبّاً لحضارات مختلفة، فكل ارباب هذه الثقافات تعاطفوا مع الإسلام كثقافة غير اجنبية عنهم فمثلا المسيحيون في المنطقة قد نظروا الى هذا الدين وتعاليمه كتعاليم تتلاءم مع آدابهم وسننهم والإسلام يصدق رسالة المسيح(ع) ويعتبره كلمة الله "انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته"· وفي آية اخرى يذكر الذين يؤمنون بالله والآخرة ويعملون الصالحات بأنهم مأجورون.
"إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم..
الدين والثقافة بمنظار الإمام موسى الصدر:
قلّ من لم يسمع بالإمام موسى الصدر في منطقة البحر المتوسط ولم يعلم برسالته الإلهية في هذه المنطقة، وينبغي أن نعتبره من المصلحين في القرن الأخير الذين كان في مقدمتهم السيد جمال الدين الاسد آبادي. فالإمام موسى الصدر كانت نظرته للدين والمجتمع نظرة اصلاحية· والقاسم المشترك بينه وبين السيد جمال الدين الاسد آبادي هو انهما كانا ينظران الى الدين منزّها من الحشو والزوائد التي وصمت به في طول التاريخ وايضا كانا معا يؤكدان على الجهات المنقول عنها في الدين فكانا يعتبران الرجوع الى الإسلام الأصيل هو الركيزة الأولى لإنتصار الإسلام في العالم وايضاً كانا معاً يعتقدان بأن السبيل الوحيد الى انقاذ المجتمع هو توعية الناس فكانا يريان ان اللازم هو نقل المفاهيم الدينية من صورة النظريات البحتة والأبحاث غير المفيدة الى الوسط الاجتماعي وتطبيق الدين تطبيقاً عملياً وعينياً كالنبي (ص) والإمام علي(ع) وابي ذر. ففي خلال دراساتي وعلاقاتي في السنتين الأخيرتين رأيت ان محبة الإمام موسى الصدر في قلوب المسلمين في هذه المنطقة بمنزلة محبة المسيح (ع ) عند المسيحيين.
فالسؤال الذي يتراءى هو كيف استطاع عالم شيعي ايراني يتكلم بالفارسية، استطاع ان ينفذ الى قلب شعب الى هذا الحد مع ثقافة خاصة تختلف مع ثقافته وفي منطقة جغرافية تختلف عن بيئته بحيث انه بعد مضي سنين من اختفائه يبقى اسمه وذكره وسيرته خالدا حتى الآن كسائر اولياء الدين حيث يحكمون على القلوب والضمائر.
فمن الضروري تبيين مباني سيرة هذا العالم وافكاره لتوضيح هويته الثقافية حتى يكون مشعلاً في طريق الذين يريدون ان يبلغوا دين الله في مجتمعات ذات ثقافات مختلفة.
1- معرفة الإمام موسى الصدر وعلاقته بثقافة عصره:
ان الميزة البارزة للإمام الصدر هو معرفته لوضع زمانه وبعبارة اخرى كان عالماً حاضراً في زمانه بخلاف البعض حيث يملأون اذهانهم من القضايا العلمية ولكن في نفس الوقت هم غائبون عن زمانهم. فالعالم الشيعي الأصيل في الحوزات العلمية كان دائماً يسير مع ثقافة عصره وكان في مقام الإجابة لمتطلبات زمانه وكان يتطلع على الأجواء الفكرية لزمانه. الإمام الصدر كانت له شخصية ذات ابعاد مختلفة كالسيد المرتضى (قده) فكان يؤانس علماء بقية المذاهب والفرق وينظر بنظرة الإحترام الى اي صاحب فكرة وكان لا تسبقه الحوادث والوقائع على علم قريب منها فكان كلمة الإمام الصادق (ع) نصب عينيه "العالم بزمانه لا تتهجم عليه اللوابس". فالإمام الصدر كان يرى بأن العلماء في مجالات العقائد والثقافة يجب أن يكونوا على علم من الحوادث والوقائع حتى يتمكنوا من الخوض في بحر المسائل العويصة. وعلى جانب آخر فلم يكن الإمام الصدر كالذين ينسون أصالتهم وهويتهم الدينية وينغمرون في خط الغرب فالإمام كان يصر ويؤكد على الأسس الدينية وكان يرى الدين اجلّ من عدم امكانية التجاوب مع مشاكل العصر.
2- الإمام موسى الصدر كان في مجال معرفة الدين والإلتزام به في قمة السماحة والتساهل واسلوبه هذا متخذ من سيرة النبي(ص)، ففي مقابلة اعداء الدين وخصوصاً اعداء الفلسطينيين كان غليظاً لا يتحمل اي اعتداء عليهم ولكن في قبال الذين اختلفوا معه اعتقاداً وفكراً كان اسلوب المداراة والمماشاة هو طريقة سلوكه فكان يتحمل الفكر المخالف ومن ثم تمكن من النفوذ في قلوب اتباع سائر المذاهب والأديان. فالإمام الصدر كان يتجنب العصبيات التي اوجبت اشتعال الحروب الدينية وتسببت هلاك الكثير من اتباعها وكان يرى الدين خارجا عن حدود العصبية فكان يحضر مجالس اتباع المذاهب والأديان الأخرى ويخطب فيهم بجدارة وبسبب خلقه الذي كان نظيرا لخلق النبي (ص) كانوا يستقبلونه بحفاوة وحرارة فهو كان يدرك جيدا الخطاب الإلهي للنبي (ص) :"ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك".
فمن النظر في سلوك الإمام الصدر نخرج بالنتيجة التالية ان الحروب والمنازعات القومية والدينية لم تنقذ اي فئة في اية برهة من الزمن ولم تؤثر في نمو وازدهار اي حضارة وفكر.
3- من الأبعاد المشتركة بين الدين والثقافة هو الإصلاح الاجتماعي. فالمتدين الذي ينعزل في المجتمع والعالم الذي يغضّ النظر عن الإصلاحات الاجتماعية ويجلس في حوزته ومحرابه، لم يعد ملتزما بالدين ولم يكن في عداد العلماء. فالعلماء ان كانوا ورثة الأنبياء وجب عليهم السعي في الإصلاحات الإجتماعية ولزم عليهم ان ينادوا بصوت عال: "إن أريد الإصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله".
فالإمام موسى الصدر ومن منطلق الإيمان والمميزات الفكرية قد استعمل علمه ومقدرته الفكرية في سبيل خدمة المجتمع واصبح المستضعفون في جنوب لبنان كعبة آماله فهمّ في سبيل عزّتهم ورقيّهم، كان لليتامى اباً رحيماً "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير". فكان يسعى في اصلاحهم وعلى جانب آخر فتأسيس المراكز الخيرية والمؤسسات التربوية والتعليمية في بقاع من الأرض كان الحرمان الطابع الوحيد فيما قبله، كانت من عاداته.
ماذا نقول اذ لم يمكن عدّ خصائل هذه الشخصية الصالحة المصلحة في حدود مقال او ضمن اوراق· فالواقع ان يقال ان قلوب المحرومين والمستضعفين هو كتاب مذكرات هذه الشخصية الفذة وهذا الكتاب سيورّق في طول التاريخ فإنه قد كتبت صفحاته بدم عشاقه واجفان محبيه· وفي الختام نستودعه بكلمة من القرآن:
"وأما ما ينفع الناس فيمكث في الإرض". فالإمام موسى الصدر حيّ لأن خدماته خالدة.