مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الجلسة الخامسة)
بسم الله الرحمن الرحيم
يسعدنا ويشرفنا أن نلتقي معكم باحثين ومفكرين في مؤسسة الإمام موسى الصدر رائد الحوار الثقافي والسياسي والحضاري في لبنان والعالم العربي والعالم الإسلامي، واستميحكم عذراً في مقدمة وجيزة ثم أدخل ضمن البحث على أساس أن أقدم عناوين لأن هذا الموضوع يحتاج الى دراسات وتوثيقات واطلالة على عالمنا وعلى ما يجري فيه من ثقافات وتحولات.
أهمية البحث:
في العالم المعاصر، حيث تتنوع الثقافات، وتتقارب المسافات، ويتفاقم الخطر على الاستقرار والسلام العالمي، وتتحول أدوات الدمار الشامل إلى نذير يهدد بتدمير الحياة، وحيث تتقاسم الدول القوية خيرات الأرض، ويحاصر الجوع شعوباً ومناطق محكومة بالنهب الاستعماري والهيمنة الطاغية، وحيث توجه النوازع العنصرية سياسات الدول الكبرى، وتضيع الآمال بالمنظمات الدولية، وتتعرض الأرض والأغلفة المحيط بها لإفساد بيئي شامل، وحيث تفلت من الحكماء والعقلاء القدرة على ضبط المسيرة الحضارية، وحمايتها من البوار والانتحار، وحيث الصراعات الرعناء تدب بين الدول المتجاورة وداخل مجتمعاتها، فتغرقه في تخلفها، وتقوّض كل إنجازاتها، وتظل أسيرة التبعية، والإذلال لقوى البطش الداخلية والإقليميه والعالمية.
وحيث لا يكون الإنقاذ إلا باستعادة الوعي، وإلغاء خطوط التماس، ووقف مسلسل التدهور والتهور، وابتداع نظام دولي جديد، وإرساء العلاقة بين الدول المتجاورة على مبادئ تحقق التكافل والتواصل، وإعادة النظر في المواثيق الاجتماعية التي تقوم بين المجموعات ضمن الدولة الواحدة، وفيما بين الشعوب وحكامها، ولن يكون كل ذلك أو بعضه إلا بالحوار المنطقي لانتزاع المشكلات وإنهاء الأزمات، وتحديد الأهداف والغايات، وترسيم الوسائل والمناهج.
إن التجدد المرجو في القرن الحادي والعشرين لا بدّ أن يستعيد قصة الآلام والفواجع التي أتخم بها القرن المنصرم ليعمل على تجنبها والتحصن منها، ولا بدّ أيضاً من توظيف الإنجازات الباهرة التي حفل بها القرن المنسحب، لخدمة البشرية، ولترقيهاالإنساني، واستئصال كل أسباب الجهل والفاقة والشقاء.
إن الآمال معقودة على متغيرات توفر حياة آمنة لكل الشعوب، تصان فيها الحقوق ، وتعلو العدالة، وتتبدد العنصرية، وتنعدم الأحقاد، ويزول الظلم، وتسود مشاعر الرحمة، ويسلم الإنسان من طغيان نفسه على نفسه وعلى سواه، وتحمى القيم من سلطان القوة، وتحمى الحرية من بطش الطغيان، ويحمى العلم من سوء الاستعمال، ويحمى الاقتصاد من شر الاستغلال، ويحمى الأطفال من مرارة الجوع، وتحمى النساء من عبث الاستهواء، وتحمى الأخلاق من استشراء الفساد، ويحمى الإيمان من لوثة الإلحاد. وكيف يتأتى ذلك إذا كانت جسور التخاطب والتلاقي مزروعة بانعدام الثقة، وكانت مفارق الطرق مطوقة بالملثمين، الذين يغتالون كل فكرة، ويتهمون كل بادرة، وينفذون مآرب الشيطان الذي يسعى لإخراج الإنسان من جنة الدنيا كما أخرجه من الجنة العليا.
لقد أمضت القوى المهيمنة على العالم حقباً متطاولة من الخداع والتدليس ، ومارست البغي بشعارات مكذوبة وبسياسات منافقة، وبتحالفات عدوانية، واستخدمت حقوق الإنسان لسحق هذه الحقوق والتفرد وبالتسلط والاستعلاء، واحتكرت العلوم، وأضرمت نيران الحروب بين الشعوب، واصطنعت الحكام والأنظمة، وتوسلت المكائد والتجسس والإفقار لتحقيق أطماعها، واستباحت كل المحرمات لبلوغ مآربها.
ثم انتهت اليوم إلى طرح شعار العولمة تحت ستار وحدة المسار العالمي، والرغبة في تقارب الأمم، والاستظلال بقيم مشتركة، والتطلع إلى أهداف متوافقة، وحقيقة الأمر أن النظام الدولي القائم يريد أن يقبض على كل الطموحات والخصوصيات، ويلغي تبعاً لذلك منهج الحوار في المجتمعات وبين الدول، ويتفرد بالسيطرة الأحادية على الثقافة، والاقتصاد، والحريات، والآمال، ويلغي كل المواريث التاريخية التي تعتبر المحرك الفاعل لحركة الشعوب لتحقيق ذواتها والتعبير عن قيمها ومشاعرها وتطلعاتها.
وبذلك ينعدم الحوار لعدم الحاجة إليه أو التفاعل به، وتضيع الخصوصيات التي تصنع للعالم تنوعه المستمر به منذ بدء الخليقة.
فهل يتحول العالم بفعل العولمة إلى قرية من النمل محكومة بقانون المعدة، ومنضبطة بقوة غريزية لا تستطيع الفكاك منها وإلا هلكت أو أهلكها من هو أقوى منها؟
إن الترويج للعولمة في ظل النظام الدولي الأحادي هو ترويج لنظام الأقوى، وهو تخطيط ماكر لإحكام السيطرة والتفرد، وهو الخطر الكبير الذي يتهدد النظام الحواري الذي أسست عليه الفلسفات وتقدمت الثقافات، ونهضت الحضارات، وارتقت الخبرات، واستعلت الأهداف والغايات.
وإذا كان المعبر الخلاصي لأزمات العالم يعتمد على الحوار أكثر مما يعتمد على سواه، فإن توجه العولمة المطروحة ينسف هذا المعبر لا للإبقاء على مشكلة الانفصال والتباعد، بل للوصول إلى ما هو أبعد وأخطر، وهو وضع العالم كله في سلة المصالح الاستعمارية وإقفال كل الثغور التي تنفذ منها إرادات الشعوب وحرياتها في التعبير عن حقوقها وآمالها ورفع يد البطش والعدوان والاستغلال التي تسترقها وتستذلها.
وإذا كان الحوار هو الوسيلة العلمية والراقية لحل المشكلات العالمية والدخول في عصر جدير بآمال عريضة، فإن الحوار في أي مجتمع خاص هو ضرورة استقرار واستمرار، وهو في مجتمع تعددي يغدو ضرورة حياة، ومصدر غنى، ومبعث ارتقاء، ومعلم حضارة ، وموئل ازدهار. وكلما تدفقت ينابيع الحوار في مجتمع تعددي توقفت عوامل الهدم، ونشطت حركة البناء، وانهارت عبثيات الاستغلال وازدهرت مكارم التألق الفكري، والتفوق النفسي واستحق المجتمع شهادة الحياة بامتياز.
ثقافة الحوار :
لا تنشأ ثقافة الحوار من العدم، أو بالمصادقة، أو بالاستهواء، كما أنها لا تتوقف على تغيير المواقف، وتبدل المصالح، أو على الأطر الخارجية التي تصنعها المجاملات والظروف العابرة. أن ثقافة الحوار تصدر عن ذهنية مشبعة بعقيدة واضحة، وعن مشاعر متوهجة بروح الأخوة، وعن قيم متأصلة في أعماق المجتمع ومن هنا كان من الحق أن يدور البحث ضمن الثوابت العقيدية، والوجدانية، والاجتماعية، لنتبين من خلال ذلك الركائز الأساس لثقافة الحوار عموماً ولثقافة الحوار في مجتمع تعددي على وجه الخصوص.
سنّة إلهية :
إن أعلى المصادر التي تشكل الثوابت العقيدية لثقافة الحوار هي المتعلقة بما صدر عن الإرادة الالهية من حوارات مع المخلوقات، مع أن الأمر الإلهي لا ينتظر موافقة أحد على الإنشاء والتكوين. ولكن الفضل الإلهي شاء أن يكرّم مخلوقاته بمحاورته إياهم، وأن يعرّفهم بعضاً من حكمته من خلال هذا الحوار، وأن يسنّ لهم مشروعية الحوار ليكون نظاماً لهم يحققون به حريتهم، ويستحقون معه مسؤوليتهم، ويعتمدون عليه في تقدم وعيهم، وارتقاء حياتهم.
ومن المفيد أن نعرض لنماذج من تلك الحوارات التي تؤكد هذا المضمون، وتجعل من موضوع الحوار ثقافة عقيدية لا يقف أمامها المؤمن متردداً أو متراجعاً ولا يجد في سواها معتصماً لبلوغ أسمى المقاصد.
مع الملائكة:
حين أطلع الله تعالى ملائكته على توجه إرادته لخلق الإنسان، أعطاهم حق التساؤل والحوار، مع أنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وكل ما يصدر عن حوارهم لا يهدف إلى التأثير في إرادة الله، فترك لهم حرية الاستعلام وإبداء وجهة النظر، وناقشهم في الأمر، وأقام عليهم الحجة دون قهر لهم، ودون تبكيت، وردّ موقفهم إلى نقص في المعرفة وليس إلى رغبة في الاعتراض واللجاج، ليكون في هذا التوجيه التأسيس السليم لموضوع الحوار.
يقول تعالى "وإذ قال ربك للملائكة، إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك، قال: إني أعلم مالا تعلمون، وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، قال: يا آدم، أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون، وما كنتم تكتمون" [البقرة 33].
هذه الحوارية التي تطل من عالم الغيب، تحمل عمق التثقيف الحواري، وإقامة ثقافة الحوار على العلم بحقائقه، فيصبح الحوار بذاك شريعة وعقيدة، ومنهجاً راسخاً للبشر في عمليات الإيجاب والقبول، وفي ميزان الإرسال والاستقبال، وفي نطاق التحليل والتركيب، وفي ميدان التوصل والتوحد.
مع الشيطان :
ومن ذلك حوار الحق سبحانه مع إبليس لحظة عصيانه وتمرده، لإعطائه الفرصة الفسيحة لعرض الدوافع التي قادته إلى المعصية لعله يتراجع ويتوب ويكتشف خطيئته، ثم لبيان جلال العدل الإلهي في ضخامة العقوبة التي تنـزل بالعاصي على قدر معصيته.
فلقد يمرّ بالخاطر أن معصية إبليس تستحق إنزال العقوبة الفورية، ولكن استحقاقها شيء، وإنزالها شيء آخر، فاستحقاقها يتعلق بعلم الله، وإنزالها يتعلق بعدل الله، ومن عدل الله تعالى أن يعطي المجرم فرصة كافية للدفاع عن نفسه إن كان له موقف تبريري، لكن إبليس الذي منح فرصة الحوار وإبداء وجهة النظر أضاف إلى معصية التمرد معصية الإصرار والتكبر، فحكم على نفسه بنفسه وخرج من الحوار بخسران وطرد أبدي.
"ولقد خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها، فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين. قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك من المنظرين. قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال فاخرج منها مذموماً مدحورا، لمن اتبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين" [الأعراف 10-18]. وفي آيات أخرى يكشف الله تعالى عن هول جريمة إبليس بقوله "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ. أستكبرت أم كنت من العالين، قال أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين ...".
فأية جريمة أكبر من معصية الله، والتمرد عليه، ومن رفض السجود التكريمي للإنسان الذي يقول الله عنه "نفخت فيه من روحي.. وخلقته بيديّ"، ومع ذلك كان الحوار الطويل، وعقّب إبليس بتحديات جديدة للثأر من الإنسان والاستمرار بالتمرد والعصيان، فماذا يترك هذا الحوار من تثقيف في ذهن المؤمن وفي وجدانه إذا كان الله هو الحق وذو الجلال قد حاور إبليس رمز الشرّ والهوان، فكيف لا يحاور الإنسان الإنسان وكيف لا يتحاوران بأفضل مناهج الحوار، وكيف لا يتوصلان إلى أسلم الأهداف وأكرم الغايات ؟.
مع الدعوة وللإيمان :
في دعوة الله للإيمان به، يسوق قضية كبرى هي أن الإيمان لا يقوم بالإكراه، ولا بالسيطرة على قلوب الناس. فالمبدأ العام "لا إكراه في الدين"، والحرية مشرعة الأبواب : "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وعاقبة ذلك بيد الله، والطريق إلى الإيمان هو طريق الحوار والاقتناع الحر، والبرهان القاطع· فليس لأحد القدرة على اقتحام النفوس، وليس لأحد الحق في إلزام الناس بالهداية. ومن أجل هذا التثقيف الحواري، ونزع التوهم بإمكان صبغ الوجود البشري بصبغة دينية أو فكرية واحدة دون اختيار حر، يقول الله تعالى : "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس 99] .
ويقول تعالى :"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم" [هود 118-119].
فهناك مسلّمة لا يجوز أن تخفى ولا أن تقلق المؤمنين، وهي أن البشر لن يكونوا جميعاً على ملة واحدة، ولن يتحولوا إلى أمة واحدة، فلقد قضت مشيئة الله ترك الحرية للبشر ليستوفوا نصيبهم من القبول أو الرفض، ويستوفوا نصيبهم من الثواب والعقاب وهما بيد الله لا بيد الشر، إذ ليس هناك من وصاية ولا أوصياء على قلوب الناس وعقائدهم يقول الله لنبيّه "فذكرّ إنما أنت مذكرّ، لست عليهم بمسيطر" [ الغاشية 22].
لن يكون الناس أمة واحدة، بل هم أمم وشعوب، لكل أمة مشاعر ومطالب ومطامح وقضايا، فالاختلاف قائم وليس لأحد أن يوظف هذا الاختلاف لإحداث الخلاف، كما أنه ليس لأحد تحت أية ذريعة أن يعولم العالم في قالب واحد. والسؤال هنا يتمحور حول الإيحاءات التي تتركها هذه الآيات في صنع ثقافة حوارية تعددية، حين يدرك المؤمن أن التعددية واقعة ضمن الإرادة الإلهية، وأنها مقصودة لذاتها، لتحقيق التنافس الحركي، والتكامل الذي يعطي للإنسانية حرية الاندفاع نحو مرتقيات إنسانية لا تبرز إلا من خلال التنوع والتسابق في مضامين الإبداع، والتقدم في إعلاء الخصائص الإنسانية نفسها.
فالتعددية الدينية لا تورث انقساماً مجتمعياً يفضي إلى التنازع والتباعد والتكاره، على عكس ما يتوهم المهووسون الذين يجعلون من التعددية الدينية محرضاً على الخصومات، وعلى إلغاء الآخرين. وهل أبلغ من قول الله تعالى في تصوير العلاقة بين المسلمين ومخالفيهم من اتباع الديانات الأخرى، قوله سبحانه: "الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير"[الشورى 17]
ويقول المفسرون، لا حجة بيننا وبينكم أي لا احتجاج، ولا خصومة، وليس للاختلاف سبيل إلى المعاداة.
وحين ينتهي الحوار إلى ثبات كل فريق على عقيدته وعبادته، فليس في الأمر مشاحنة ولا مقاطعة، ولا انطواء على تربص وأحقاد، بل هو قول فصل يعطي كل فريق حرية الموقف، ويتبادل الفريقان مشروعية الاعتراف بعضهم ببعض، وبأعذب مقالة وأرفع تفكير، وذلك بقول الله تعالى "ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، لكم دينكم ولي دين".
ثم، أليس من ابلغ التثقيف الحواري أن يتخذ القرآن منهجاً متفرداً في مخاطبة أهل الكتاب، وفي الأسلوب المفروض للتحاور معهم، وأن يكون ذلك لا في عصر الحرية الحوارية المعاصرة بل في عصر النـزاعات، والجاهليات، والصراعات العنصرية والدينية والمادية؟ يقول الله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بانّا مسلمون" [آل عمران64]. ويقول تعالى:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" [العنكبوت46].
فالحوار قائم على مناقشة ودية، والدعوة هي للتوصل إلى كلمة عدل، وليس إلى التغلب والهيمنة، أو إلى تحكيم القوة المادية، والكثرة العددية، والجدال لا يكون بطريقة حسنة فحسب بل بالتي هي أحسن، نأياً عن التحدي، ومقاطعة للاستفزاز، وتعففاً عن الصخب، واعتماداً لأفضل أساليب التخاطب والإقناع والتلطف، فهل يبقى بعد ذلك أي مدخل للشحناء، أو التنابذ ، وهل يصعب بعد ذلك التوصل إلى الوفاق التام، أو الاتفاق على قواسم مشتركة، تلغي أي تطرف أو إثارة، وتزيل من النفوس سوء الظن، وسوء الفهم، وسوء التقدير.
مع البشر كافة :
يطلق القرآن الكريم موضوع الحوار في الساحة الأممية، لينشئ ثقافة حوارية منفتحة، لا تقيدها حدود عنصرية، ولا تصدها مصالح متعارضة، بل إن الحوار الأممي الإسلامي هو الأساس في التغلب على العنصرية التي تذهب ببهاء الإنسانية، والأساس في التنسيق بين المصالح المختلفة، حتى لا ينشأ من خلالها تظالم أو تكاره، وحتى لا تكون المصالح المتعددة على حساب الوحدة الإنسانية في مكارمها الإنسانية.
يقول الله تعالى:"يا أيها الناس، إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" [الحجرات13].
هذا الإعلان الإلهي الأممي، يفتح أوسع الصفحات أمام البشرية المتعددة الأجناس والألوان والمواقع والمشاعر والمصالح، لكي تضمها واحة نضرة من الأخوة الإنسانية، ولكي تتلمس فيها أفضل السبل لقيام عالم السلام والمحبة والتناصر· فالتعددية في منطوق القرآن هي لغاية الائتلاف وليس لنشوء الخلاف. فصراحة القرآن تحدد الهدف بقول الله :" لتعارفوا" والتعارف يعني أول ما يعني الاعتراف بالآخر، والاعتراف بخصوصياته، والتعرف إلى ما يهمه من قضايا وتطلعات، وإلى ما يشغله من تحديات وضرورات، وإلى ما يفكر به من تصورات ومعتقدات، ثم التعرف إلى أفضل الوسائل التي تحقق التواصل والتعاون على أساس التسليم بالحقوق العامة، والحريات العامة، والمقاصد المشتركة.
فالتعددية ليست بدعة في الكيان البشري، بل إنها متساوقة مع النظام الكوني الذي رتّب الله وجوده وحركته على النظام التعددي، بين سالب وموجب، وبين ذكر وأنثى، وليل ونهار، وبين مادة وروح، وبين دنيا وآخرة، وبين شر وخير، وبين حياة وموت، وفي ذلك جدلية إيجابية في تكامل الوظائف الوجودية، وفي إغناء المضامين الوجودية، بقدر ما يقوم بينها من تفاعل حيّ، ومن تواصل موزون، مع محافظة كل جانب منها على خصائصه التي تحفظ وجوده وتحفظ بالتالي دوره المؤتلف مع الجانب الآخر. فالتعددية في الواقع البشري قوة للإبداع، وليست واقعاً للصراع، ووشيجة للتقارب وليست وسيلة للتنافر وموضوع للتعارف وليست مشرعاً للتصادم. وأساس ذلك كله الإيمان بهذه الوحدة، والتسليم بهذه التعددية والسعي الملازم لتحقيق الخير العام. وفي هذه الرحابة التنظيمية ، تنشأ ثقافة عليا تستقر في أعماق الأذهان، وفي طوايا الوجدان، وتجعل من الحوار إيجابية مثلى، للاغتنام من واقع التعددية العالمية والمجتمعية ما يضيف إلى حركة الحياة استقراراً وازدهاراً، يصدران ويتوجهان في آن واحد نحو الغاية الكبرى لحكمة الحياة.
قيم عليا :
ثم يأتي دور القيم التي عن طريق الإيمان بها والالتزام بمضامينها يرتفع صرح الثقافة الحوارية لتصبح مسلمات أقرب إلى البديهيات في أحكام النفوس، ومجريات الأحداث، وحركة المجتمع. وتتجمع تلك القيم في قمة هرمها المعبّر عنه بحقوق الإنسان، وهي حقوق تنطوي على واجبات، تنهض معاً، وتتوازن بإتقان، ويكون لهما في آن واحد الدور والأثر في بلوغ الغاية التي تجلل مسيرة الإنسانية بالانتظام والرفعة.
وفي طليعة تلك الحقوق، الحرية، والمساواة، والعدالة. ففي المجتمع التعددي لا قيمة لأية مواثيق، ولا أمل في أي توحد أو تقدم، ما لم يتساو الجميع في حق الحرية وحق المساواة وحق العدالة. بل إن هذه الحقوق هي القاعدة الأساس لأي منهج حواري، ولأي هدف حواري. فمتى أيقن كل فرد وكل فريق، أن حريته تامة، وأن عدالته مكفولة، وأن مساواته مع سواه منتظمة، زالت كل الحواجز، وأصبح موضوع الحوار موضوعاً عاماً وليس فئوياً، وأصبح أساس الوفاق موضوعاً للجميع وليس خاصاً بفريق دون فريق، وفرضت القضايا العامة نفسها على القضايا الجزئية، وتداخلت المطالب والمصالح لتشكل مطالب للجميع، ومصالح للجميع، وتحول الحوار التعددي من حوار بين فئات متقابلة إلى حوار بين أفكار مطروحة تشمل الجميع بموضوعيتها وعموميتها، ولا تتعارض تبعاً للتعددية المجتمعية.
فالحرية، والمساواة، والعدالة، هي أضلع المثلث الذي يشكل حجر الزاوية في البناء الاجتماعي المتماسك، القائم على ثقافة حوارية منشأها الحقوق وليس المجاملة، والوعي وليس الترويج، والثبات وليس التردد، والاستمرار وليس الظرفية. ولكن هذه الثقافة تحتاج إلى أمور تضمن لها العمق، والإيجابية، والحماية. وذلك يعني أن الثقافة الحوارية في مجتمع متعدد ، تتطلب بالدرجة الأولى عدة ركائز.
1- التربية.
2- الإعلام.
3- القانون.
4- السياسة .
5- المثقفون.
فالتربية الأسرية والمدرسية هي التي تغرس في النفوس ثقافة الحوار، وتلغي المفهوم الخاطئ عن التعددية، وتنشئ التصورات الإيجابية تجاه الآخر، وتنظف المشاعر من أية رواسب موروثة، وتعمق الوعي الإنساني والوطني، وهي قضايا وواجبات ملغاة من واقع كثير من المجتمعات التعددية التي لا تتذكرها إلا ساعة هبوب العواصف السياسية والصراعات الفئوية، بينما تكون النفوس مشبعة بمشاعر الانقسام، ونوازع التكاره، فتأتي الأحداث كاشفة عن العلة لا منشئة لها، وتكون النتائج مرّة وتستعصي عن العلاج أحياناً كثيرة، أو تتطلب جهوداً استثنائية لإلغائها أو التخفيف من آثارها.
ويأتي الإعلام ليتحمل مسؤولية كبرى في نشر الثقافة الحوارية، وعليه تقع المسؤولية الكبرى في حالة العبث والنيل من الثقافة الحوارية، فلا تقل جريمته إذ ذاك عن جريمة الخيانة العظمى. فالإعلام الفئوي، والمنحاز، والمحرّض، هو إعلام مدمّر، سواء كان ذلك عن طريق الخبر، أو الصورة، أو التعليق، أو التحليل، والإعلام - قبل سواه - يملك القدرة على نشر الثقافة الحوارية وعلى تعميقها وعلى حمايتها، وعلى فضح الأهداف والأساليب التي تسري في المجتمع التعددي بقصد تفتيته، أو تصديعه، أو رفع وتيرة الشكوك والانفصام بين مختلف فئات المجتمع.
ويأتي القانون الحارس لسلامة المجتمع التعددي من كل ما يهدد أمنه ووحدته، وليسهر على تحقيق العدالة التي تشيع الطمأنينة، وتحفظ الاستقرار العام، وتنـزع أي شعور بالغبن أو التميز أو الانحياز ..
ونتوقف عند الخطاب السياسي وخطورة أدائه في مجتمع تعددي، وما يتوقف عليه من توافق وترابط في مجتمع تعددي، إذا التزم الخطاب ثقافة الحوار وأخلاقها وأهدافها. ومن المؤكد أن الخطاب السياسي حين يخرج عن تلك الثقافة لا يكون خطاباً سياسياً، بل يتحول إلى مركب مخرّق، يوشك أن يغرق بأهله ويغرق مجتمعه معه. ومن المؤسف أن أكثر الأزمات وأعنفها في أي مجتمع تعددي يسبقها ويمهد لها الخطاب السياسي الانعزالي الذي يتحول إلى خطاب تحريضي وتقسيمي يدمر كل ما حوله. كما أن من الملاحظ بحق أن الحوار التعددي لا يسمو ويعطي أفضل الثمار إلا إذا كان مترافقاً مع الخطاب السياسي الملتزم بثقافة الحوار التي تمثل المحور المستقيم الذي تدور به وحوله كل القضايا والتوجهات نحو مستقرها الآمن. وأخيراً يأتي دور المثقفين الذين ينصبهم المجتمع أو ينصبون أنفسهم مرجعيات للفكر، والتطورات الاجتماعية، بعد أن يكونوا قد اغترفوا من بحور الثقافات المتعددة، والمتعارضة، وأصبح لقولهم الدور الأهم في التوجيه، والتوجه، وغدوا القادة الفعليين لركب المجتمع.. فهم في النهاية صنّاع الثقافة الحوارية الإيجابية التي يستخرجون قواعدها، ويعلون معالمها، ويوسعون رقعة انتشارها، ويرسلون الأضواء الكاشفة على مثالب الثقافة الحوارية الإنكفائية والتصادمية، فترسو بهم سفينة المجتمع مخترقة تلاطم الأمواج، ومتحدية عصف الرياح، ومحتضنة لكل من عليها بأشرعة الحنان والأمان، إذ بنجاتها ينجو المجتمع، وبخرقها يهلك الكل دون استثناء.
وبعد،
فإذا كان العالم في كل مناطقه وبكل قضاياه ومشكلاته، بحاجة إلى حوار عادل وواع ومنـزه، لاستتباب أمنه، وحماية منجزاته، واستنقاذ حضارته. فإن عالمنا العربي بحاجة اليوم أكثر من أي يوم مضى إلى حوار صادق، لتوحيد مجتمعاته التي تمزقها الرؤى المتناقضة، والسياسات المتناحرة، والعنصريات المتوترة، والمناهج المضطربة التي ترتبط بأمزجة الحكام وبمدى مصالحهم وبالخطط التي تقدم إليهم من الداخل أو تفرض عليهم من الخارج .
ولبنان يأتي في طليعة الدول العربية الذي كان نموذجاً راقياً في الحوار البالغ السمو، والذي به تحول إلى قدوة بالغة في تنظيم مجتمعه من أبنائه الذين ارتقوا بثقافة الحوار إلى إلغاء أي تنافر، وإلى إنماء كل تواصل، حتى جاء حين من الدهر نسي أهله موضوع التعددية التي لم تعد تحتاج إلى حوار يبعث ضرورة التوحد الجامع.
ولئن عصفت به عواصف هبت من كل الاتجاهات الداخلية والخارجية لاستخراج دفائن التعددية، وتحويلها إلى واقع تقسيمي، فإن لبنان العريق بثقافته، الواحدة، الموحدة، عاد سيرته الأولى، يسلك الطريق الآمن إلى مجتمع واحد، ويوظف بعض مظاهر التعددية في إغناء مسيرته، ويلوذ بثقافة الحوار التي تظل العماد الأقوى لقيام المجتمعات، واستقرار الأوطان.
وهنا نذكر لسماحة الإمام السيد موسى الصدر الذي لن ننساه ذهنيته الحوارية التي صدرت عنها مواقفه الدينية والوطنية وتحولت إلى صفحة بيضاء في سجل التاريخ اللبناني، وجعلت له مقاماً محموداً في سيرة الارتقاء اللبناني والإسلامي.