مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الخامس: "المقاومة والمجتمع المقاوم"
(كلمات الجلسة الثانية)
قلة ٌمن العظماء عبر التاريخ وبعد غيابٍ قسري يُفْرض عليهم، يبقى لانتصار شعوبهم رائحة من عطر أجسادهم، ونحن اليوم نلتقي جميعاً في حضرة واحد من تلك القلة فبالأمس القريب، وفي زهو النصر الذي حققه شعبنا المقاوم على أرض الجنوب، كان هو حاضراً بتلك العباءة، يظلل إحساسنا بالنصر، وبتلك القامة المديدة يهدي الصامدين الى دروب المستقبل. تتسارع الأفكار وتتزاحم حول رجل من هذا العيار الثقيل، ويشعر الفرد منا بفيضٍ من كلمات المحبة يريد دائماً أن يبدأ بها في حضرته. فالمحبة كانت سمةً من سماته، والوجدان كان عبقه الزاهي في نسمات الجنوب، فوّاحاً عطره على كل لبنان، مالئاً قلوب اللبنانيين ثقةً بالنفس وأملاً بالمستقبل.
المقاومة عندما كان قلة من اللبنانيين يدركون أنها ستكون قدراً لهم وبعداً إجبارياً سيفرض عليهم، كان موسى الصدر يؤسس لمرحلة لم يرها سوى قلة من أبناء جيله أو الذين سبقوه، مؤسساً لهموم الساعة قبل أن تحدث بوعي عميق لآلية التاريخ الآتي إلينا بكل ثقله كالصاعقة تحل فينا فنتعثر ونتشتت لهول الصدمة الأولى. مستشعراً عن بعد في الزمان، كان موسى الصدر، مستشعراً سياسات عقيمة لدولة وسياسيين، ناصحاً لأبناء شعبه، رادعاً لقوى الشر فيهم، سبّاقاً لبناء جسور الثقة وإشاعة مناخات الأمن والاطمئنان والتواصل والتفاعل، مدركاً عمق الحقائق التي صنعها التاريخ والجغرافيا ووحدة جوهر المعتقد الديني لدى كل اللبنانيين. من هذه الحقائق، في سلبها وإيجابها، انطلق موسى الصدر بخطواته الواسعة آملاً في استباق الوقت، طامحاً لتغيير سير عجلة التاريخ حتى لا تطأ تلك العجلة أجساد أحبابه· فكان في المراحل الأولى صرخة في البرية نسيج وحده في طروحاته. وما إن وَطئ التاريخ بجحافل الأعداء أرض لبنان حتى باتت كلماته في الزمن السابق هدياً ونبراساً يضئ دروب المؤمنين بهذا الوطن، من جيل شابّ استوعب مقولاته في الاجتماع والسياسة، وانطلق منها في مقاومته الباسلة لتحرير أرضه من رجس الأعداء.
مع زهو الانتصار تطل عيناه مشعلاً تحمله الأجيال الشابة، هادياً لها على دروب الالفة ووحدة الحياة، منيراً لنا جميعا طرقاتٍ مليئةً بالمهاوي يصعب عبورُها دون رؤيا حساسة مستشرفة صادقة مترفعة في وهج الانتصار. كان موسى الصدر حاضراً بما كان هو من نسج تاريخٍ، طويل من النضال والأمانة من جبل عامل الى العتبات العراقية المقدسة، هو - بآبائه وأجداده -كانوا هناك بين الحضور.
ما غابت المقاومةُ يوما عن تفكيره ولا غابت عن رؤياه بمختلف مسالكها، مدنيةً كانت أم سياسية أم عسكرية، عندما لا يترك للرجال مجال إلا السلاح. هكذا كان موسى الصدر في كل أحواله وفي كل تقلبات الدهر المريرة المتسارعة التي حكمت ساحة لبنان منذ نهايات الخمسينات حتى سبعيناته· محذراً دوما كان من بنية فكرية اجتماعية تشكل هابطة الفكر الاجتماعي في بلادنا.
فما آمن موسى الصدر بالتفرقة يوماً، ولا وثق يوماً بالمزايدة في حب الوطن، ولا ارتاح لرفقة من ظنوا أنفسهم محتكرين للبنان وأرز لبنان والوطنية في لبنان، بل كان في كلامه دوما تخصيصياً للحالة الاجتماعية، معتبراً أنها "كاحل أخيل" في بنية النظام اللبناني، فالحرمان كان هاجسه لأن الفقر برأيه شر وبلاء ومعبر للأمراض الاجتماعية كافة من جهل وتبلّد، ومن طائفية ومذهبية· لذلك كان موسى الصدر في كل أوقاته رأس الحربة في رفع لواء المسألة الاجتماعية الإنمائية الاقتصادية شأنا أساسياً في بناء المجتمع وتقدمه ووحدته واستمراريته، منوهاً منذ البدايات بالخطر الصهيوني على لبنان أرضا وشعبا ومؤسسات في وقت كان الكثيرون منا كالنعام رؤوسهم في الرمال. هذا الوعي السياسي العميق كان هاجسه الخفي الذي خفي عن المبصرين بعيونهم، ولكنه كان ساطعا ًكالشمس لكل صاحب بصيرة· لا يترك من كلماته ومقالاته ومقابلاته سانحة إلا وتطرق للمسألة الفلسطينية، والمقاومة الفلسطينية الشريفة الحقة، وحق الفلسطينيين في العودة الى بلادهم، منبهاً في ختام غالبية مقالاته من ذلك الخطر الآتي ولا بد، كنتيجة حتمية لأطماع الصهيونية، ولهشاشة بنائنا الاجتماعي على مستوى لبنان وطناً لكل أبنائه.
وكان الإمام في كل محطاته يقف أمام الناس ليدرأ عنهم أخطار الجهل وينير سبل المعرفة، معرفة أنفسهم بادئ ذي بدء. فالمعرفة عنده شرط الانتصار، يذكرنا نحن اللبنانيين جميعا بأن لبناننا مرتبط بجذور عميقة تاريخية كانت، او جغرافية او إنسانية، وعقائدية من مختلف الحضارات والثقافات، التي هفت الى بلادنا عبر التاريخ بالسيف حيناً، وبالكلمة أحيانا. إنه يذكرنا بأن تلك الحضارات هي التي صنعت حضارة لبنان اليوم.
يقول في مقابلته الشهيرة مع الأستاذ عادل مالك: "تتكون الحضارة من مختلف الحضارات المتنوعة والثقافات المتعددة والتيارات الفكرية بما يجعل لبنان ملتقى ومعرضا لها بكل صورها وألوانها البهية". هكذا كان يرى لبنان، نسيج وحدة متينة في صورة واحدة من تشكل الألوان. فلكل لون عنده خاصيتُهُ وكل الألوان إلى قلبه قريبة متى وضعت في إطار الصورة. أما إذا ما حاولت أي من تلك الألوان الخروج عن إطار الصورة الذي هو بالنسبة إليه لبنان الكبير، كان له عندئذ موقف مختلف. ففي هذا التصور المعاصر لفهم القومية وواقع تشكُّل الأمة كان الإمام الصدر من المحدّثين في نظرته غير الكلاسيكية، مبتعداً مسافة شاسعة عن كل النظريات الأحادية الرؤية في تشكل الأمة.
لذلك كان إيمانه بلبنان عميقاً كأيمانه بقدرة لبنان على القيامة من جديد، في كل مرة يتعرض فيها لعاصفة تحاول اقتلاعه من جذوره الحضارية العميقة ومن تاريخه المتميز بالعطاء، ومن جذوره الجغرافية البعيدة المدى والممتازة بالترابط. وفي ذلك كله ما خرج إمامنا عن بنائه الإنساني وبنيته الإنسانية. فما اعتبر لبنان حرباً على الآخرين بل حقاً يدافع عن نفسه· وقد حدد الخطر الأدهى على لبنان حدده بالخطر الخارجي. ففي المقابلة نفسها يقول: "حتى العدو يحاول دائماً أن يستغل الانقسامات والأخطار الداخلية ليضرب البلد من خلالها"· فالخطر الخارجي الذي يقصده - أي الخطر الصهيوني - "لا يمكن الاستهانة به، لأنه - ربما - أخطر خطر في العالم"· ففي هذه العبارة حدد العدو الذي هو الخطر الصهيوني، وكذلك اعتبر الخطر الداخلي خطراً أساسياً يعبر منه الخطر الخارجي لضرب مصالحنا الوطنية.
فما هي رؤية الإمام الصدر في الخطر الداخلي؟ إنها ولا شك، وبعد أن استشففنا بعمق إيمانه بلبنان، وبوحدة لبنان في صورته المتعددة الألوان، بأنه لا يمكن أن تكون هذه الصورة الجامعة هي مصدر الخطر، بل إن مصدر الخطر هو الواقع الاجتماعي العام. وباختصار، كانت حربه الأولى والأخيرة على الجهل، الذي هو فعلاً مصدر كل علة اجتماعية تضرب بناء أي مجتمع. وفي رأيه أن للجهل منابع، كما له مصابّ: فالجهل يصب مباشرة في خانة أعداء الوطن، وكل الذين يريدون تمزيق صورة لبنان بألوانه الطبيعية، ومنابع الجهالة لديه كثيرة كثيرة. من هنا يستطيع الباحث منا القول بأنه اعتبر الحرمان أس الأسس السوداء التي يبني عليها الجهل قصوره ويشيد حصونه ويرفع قلاعه، باطشاً بادئ ذي بدء بمن حمّلوه شعاراً أو من حملوه شعاراً دون أن يدروا.
فقد دأب منذ بواكير حضوره المتألق إلى لبنان في أواخر الخمسينات على التشديد والإشارة إلى هذا الواقع الخطر الذي يحياه لبنان بسبب الحرمان، تحديداً الواقع المتردي في جنوبه· فلا خدمات ولا طرقات ولا رعاية اجتماعية تُذكَر، لا إرشاد زراعي ولا بنية صحية استشفائية، ولا مؤسسات تعليمية حكومية، بل بؤس وشقاء وحياة يعيشها المواطن بكده وتعبه وعرقه، وهجرة أبنائه ليس من قراهم للمدينة فحسب، بل في انتشار واسع في آفاق العالم كله. ما عاد منهم إلى لبنان سوى القلة القليلة، بينما أفنت الغربة معظم شبابه في تلك المراحل. هذا فعلاً ما كان يقضّ مضجعه في البناء الاجتماعي اللبناني. فهو كيفما نظر وجد المتناقضات، ففي الأطراف إهمال وفي القلب تكديس للمشاريع، في الأطراف حرمان وفي القلب وهب دون حساب، أو على الأقل دون تخطيط· في الأطراف إقطاع يجهِّل الناس، وفي المدينة مدارس حديثة، في الأطراف إفراغ للأرياف، وفي المدينة تكديس للإمكانيات. هذا ما كان يقضّ مضجع موسى الصدر. لذلك اعتبر الحرمان من مواصفات الدولة الظالمة لمواطنيها كلهم على حد سواء، ففي رأيه دوماً أنك لا تنام شبعاً إذا ما أَرِقَ جارك جوعاً. هذه هي كلماته وآلامه. كان يرى في الحرمان من المدرسة أساساً للتجهيل بتحويل الجيل الشاب إلى أداةِ سخرة في يد الإقطاع السياسي المتحكم في نواحي الحياة عامة في لبنان، وفي الجنوب على الأخص. فما كان منه إلا أن سلك دروب الطيبين من أجداده في فتح المدارس وتأمين سبل المعرفة التعليمية والتربوية والتثقيفية، معتبراً أن العلم معرفة، والمعرفة سلاح يحق لكل إنسان التزين به. فقلة المعرفة تأتي من نتاج الحرمان وما نتيجتها سوى قلة الوعي، الوعي الاجتماعي عموماً والوعي الفردي أيضاً. فقد اعتبر في خطبة له في مسجد صور أن "الضعف في تحمّل المسؤوليات لدى المواطن" يؤدي إلى اهتزاز كثير من الناس ووقوعهم على مقربة من الانهيار وانجرافهم في سلوك عفوي غير مسؤول. ونحن نعرف أن هذا النوع من السلوك إنما هو مسلك هدّام ينعكس سلباً على بنية الفرد وبنية المجتمع. فالحرمان إذاً هو نقطة الارتكاز ونقطة البداية لجميع المساوئ الاجتماعية والاقتصادية، التي تتفاعل في حياتنا سلباً. وقد دعا الدولة في هذا الإطار، وفي أكثر من خطبة ومقالة، لوعي مسؤوليتها تجاه الجنوب وإنماء الجنوب، صوناً لوحدة الوطن ودرءاً لأخطار الاجتياح الذي، كما قلنا، استشرفه عن بعد.
واليوم، وفي زهو الانتصار، لا بد لنا أن ننظر في هذه المرحلة لنرى، وبعد ربع قرن من الزمان، ما الذي تحقق. إن المواجهة المصيرية التي خاضها لبنان بمقاومته الباسلة وبالتفاف مؤسسات الدولة مؤخراً ودعمها لهذا الحق الإلهي الإنساني نرى بأن هواجس إمامنا الصدر لم تزل حتى اليوم هي هواجسنا. فقد أمعن الاحتلال في مراحله السوداء القاتمة في إعمال سكّينه على البنية الاجتماعية اللبنانية، تاركاً في جسد الوطن جراحاً وندوباً هي اليوم من المهام الأولى الملقاة على عاتقنا وأمامنا، لعلاجها· كذلك شكّل الاحتلال ضربة قاسية للاقتصاد اللبناني على كامل ترابه الوطني، وفي الجنوب تحديداً. فمُنع المواطنُ من استغلال أرضه وبناء مؤسساته، فهُجِّر من منزله، وباتت الحقول مزروعة بالشوك، وسُرقت المياه ينبوع الحياة، وفقد التعليم الرسمي، والاستشفاء الحكومي، والضمان الصحي، والمؤسسات الاقتصادية، وأقفلت المعامل والصناعات بمختلف أشكالها لفترة مديدة.
وحتى ساعة كتابة كلماتي هذه، لم نرَ التحرك الحكومي والعربي والدولي المطلوب تجاه رفع الحرمان عن الجنوب ومدّه بوسائل الإنماء والتحديث لرفع المستوى الاقتصادي لأبنائه. فإن ما يقال اليوم عن نظريات الإنماء المركزي المتوازن، المدني والريفي، لم تزل صراخاً في الأودية. وإذا لم تستطع الحكومات اللبنانية المتعاقبة إيجاد النمط الاقتصادي العادل الهادف الى تأمين اقتصاديات متقدمة في الأطراف، فلن يستطيع الاقتصادُ الوطني النموَ على المستويات كافة.
ولا شك بأن ورقة العمل للمجلس الشيعي الأعلى في لبنان المرفوعة بتاريخ 11/5/77 مخاطباً عبره الشعب اللبناني والفعاليات كافة تشكّل حالة استشرافية راقية لسبل الخروج من التخبط والصراع الأهلي والحرب الداخلية الدائرة رحاها بحدة وعنف في تلك المرحلة· ولا بد لنا من استعمال كلمة استشراف اليوم، وبعد خمسة وعشرين عاماً على تاريخ الورقة النداء، بخاصة إذا ما قارنّا بينها وبين الكثير من البنود المطروحة في اتفاق الطائف الذي عليه ارتكزت مسيرة السلم الأهلي في لبنان· فنحن نرى بين الملاحظات العامة، في الصفحة الثانية وفي تعريف الوطن، تحديداً ملفتا ملخّصه:
- "أن الوطن بمعناه العميق، ليس أرضاً محددة، وحسب، تلتقي عليها الطوائف ضمن مناطق، متعايشة سلمياً في نوع من الحذر والتحاسد والتمويه، بل هو قبل كل شيء مناخ استقرار وطمأنينة وثقة في إخاء حقيقي، وحرية مسؤولة، وطموح على بسط العـدالة الاجتماعية في إطار تكافؤ الفرص للجميع وفي احترام حضاري للكرامة الإنسانية".
إن هذا التعريف المتقدم والراقي المعبّر عن أحاسيس المواطن، أي مواطن في أي وطن، لا يبزُّه سوى ربط الاجتماعي بالسياسي، عبر طرح هموم المواطن كطموح حق له على الدولة في بسط العدالة الاجتماعية التي لا تتبدّى إلاّ عبر انتظام واضح لنسق تكافؤ الفرص أمام جميع اللبنانيين. وهو ما عاد ليؤكده، في الوثيقة نفسها في الصفحة العاشرة، الباب الثامن، مبوباً للهموم الاجتماعية· فيؤكد في مقدمة مقتضبة له وجوب أن تكون جميع نشاطات الدولة مبنية في ضوء الاحتياجات الاجتماعية للإنسان المواطن اللبناني تحقيقاً لرفاهيته وحقه في حياة كريمة فيقتضي الأمر عندها. وفي الصفحة نفسها ما مفاده:
- "أن يتم وضع ديمغرافية شاملة بالنسبة الى لبنانيين وللمقيمين على الأرض اللبنانية وللهجرة الداخلية والخارجية للطارئين والمؤقتين والدائمين حتى لا يبقى مكتوم واحد على ارض لبنان" (···· التجنيس)
وقد أكد في البند الثاني وجوب اتجاه التطور الاجتماعي بحيث تتكافأ الفرص أمام الجميع، مؤكداً مرّة أخرى أهمية هذه النقطة تحديداً في تثبيت مبدأ المساواة الوطنية، التي يتطرق إليها في البند الثالث، مؤكداً شمولها أبواب العمل والتربية والثقافة، مطالباً ببرامج تقود تدريجياً الى نوع من اللامركزية، متطرقـا في المواد اللاحقة الى سياسة الإسكان، كحق، والإمداد المادي ضمن تسليفات مدروسة كحق أيضاً، مؤكداً ضرورات اجتماعية كضمان الشيخوخة وسحق البطالة، التي تتنطح اليوم حكوماتنا لتحقيقها. مؤكداً أيضاً وأيضاًً في بنود أخرى حقوق العمال بالرعاية أولاّ، والتأهيل ثانياً، من أجل بناء وطن عميق الجذور متناسق الأشكال متكامل الأفعال، ملوّحاً، ومنذ خمسة وعشرين عاماً في البند التاسع، بالتالي:
"بأن ترسم الحكومة سياسةً لمكافحة التلوث وحماية البيئة الطبيعية والإنسان والثروات الوطنية بهدف تأمين مستوى أفضل لحياة المواطن والأجيال القادمة في المستقبل القريب والبعيد".
تضع هذه البنود، في عمق معانيها، حلولاً لمعظم مشاكلنا الاجتماعية المطروحة حالياً، وما هي إلاّ استشرافات صادقة لرجل وطني صادق.
ولا ندرك فحوى هذا الفكر المتقد على حقيقته، إلاّ إذا تمعنّا أكثر في تاريخ الإمام وبنيته الفكرية والنفسية منذ البدايات الأولى. فنقرأ له مقالات موحية في الاقتصاد، ناقدا معالجا للنظريات الاقتصادية المختلفة نقداً علميا بناءً ينطلق من إيمانية حقة تتوسل الكلمة المحاورة إحقاقا وإنصافا لإنسانية مغرقة في جهالتها المتبادلة بين عائلاتها وأقوامها وطبقاتها ودولها. فقد نشر الإمام منذ شباط 1959مجموعة من المقالات النقدية للفكر الاقتصادي الكلاسيكي بمرجعيتيه الماديتين الماركسية، والرأسمالية الحرة، بتفرعاتها وتطوراتها كافة، ساعياً عبر استقراء إسلامي، إلى وضع تصور وسطي ينحاز الى العمل والعامل بما يفوق منحى الاشتراكية في ولائها لحقوق العمل من جهة، ومن جهة أخرى ضامنا عادلا لشروط النمو الاقتصادي عبر توفير ضمانات عادلة لنمو رأس المال الذي هو بطبيعة الحال القطب الآخر في أساسيات النمو الاقتصادي. لقد جمعت هذه المقالات في كتاب "المذهب الاقتصادي في الإسلام"، وهو كناية عن دراسة تدل في خلاصاتها على مسلك اقتصادي إنساني يحيط عوامل الإنتاج كافة، وتراكم الثروات، بنظرة شمولية عادلة، متوخيا بناء مجتمع اكثر إنسانية وعدلا.
إن العودة من الاقتصاد ونظرياته الى أرض الواقع في لبنان الإمام، تقتضي أن نطرح اليوم للنقاش والحوار مجموعة من الأفكار والخلاصات التي لا نراها متعارضة مع أفكاره، في الإقتصاد والبناء الاجتماعي ومعالجة مشاكل الحرمان، توخياً للانسجام الاجتماعي في وطن هو في أمسّ الحاجة إليه. إن ما حذر منه الإمام في خطاباته ورسائله وبياناته ودعواته، عن الأوضاع المتردية منذ مطلع الستينات الى أواخر السبعينات، هي أمور يتفق عليها معظم اللبنانيين. وإن ما نصبو إليه اليوم في أن نتمكن، كمجموعة بشرية وكمجتمع متطور، من الاتفاق على وسائط الخروج منها إلى بدائل حياتية ونماذج وطنية أفضل وأسلم، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً. وإن حددت المداخلة للمداخل كلمته في أسس الإنماء والاجتماع، فإننا نجد أنهما لا ينفصلان عن السياسة الإنمائية والسياسة الاجتماعية، اللتين بدورهما تكونان جزءاً لا يتجزأ من تكوينات السياسة العامة للدولة. ولذلك نرى أنه لا بد لنا من توسيع الأفق قليلاً قبل الدخول في عمق النقاط المحددة أساساً.
بعد أن أبصر المجلس الاقتصادي الاجتماعي النور الذي طال انتظار اللبنانيين له، وبرغم ركاكة جسم المولود حتى اليوم، يبقى على الدولة واجب إطلاق الشقيق التوأم لهذا المجلس، ألا وهو المجلس الأعلى لإلغاء الطائفية في لبنان. إن تلازم السياسة والاجتماع هما أمران خارج دائرة النقاش، وتلازم السياسة والطائفية في لبنان هو أيضاً أمر محتوم واضح المفاعيل بسلبياته. لذلك نرى، وقبل أن نطرح أفكاراً في الاقتصاد والاجتماع والإنماء، وجوب تأكيد ضرورة معالجة مشكلة الطائفية في لبنان وتقسيماتها المبطلة لفعل الجسد الواحد وتماسكه. إن هذه الآفة تأتي على رأس الأمراض المتوجب علاجها بحذر ودقة. والمطلوب أن نبدأ، ولو متأخرين، وأن نبدأ، ولو دون استعجال، ولكن أن نبدأ لنرسل عندها رسالة لأنفسنا أولاً وللآخر كشريك في بناء الوطن ثانياً، بصدقية نظرتنا إلى واقع المشاكل وطبيعتها، وهي تواجه نمونا على مختلف الصعد.
في أولويات ما يواجهنا والحلول المطروحة لها:
أ- في التربية: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، "من علمني حرفاً كنت له عبداً". إن الباحث في التربية يطلع ربما على الكثير من الأمثلة والأحكام الصادقة في مجملها، ولكنه يجد أنها تؤثر سلباً في مضمون التربية وواقعها في لبنان. إن وجوب تحصين المجتمع في صورته المتعددة الألوان يبدأ فعله في المجتمعين في هذه الصورة منذ نعومة الأظفار وإلا ما استلحق نفسه· فالتربية في لبنان حتى اليوم تعيش في جزر مختلفة متباعدة ، بل متناقضة في أحيان كثيرة، ما ينعكس سلباً على البنية الاجتماعية إن لناحية الولاء، أو لنواحي المعرفة المختلفة، فيصبح لزاماً على الدولة أن تأخذ الإجراءات التالية لأجل تربية وطنية واحدة موحّدة:
1- التحديث الدائم والتوحيد الإلزامي للبرامج والمناهج التعليمية والتربوية كافة، إن في القطاع الخاص أو في القطاع الرسمي.
2- إقامة البناء المدرسي الرسمي المؤهل القادر على الاستيعاب الوافي للطلبة والمجهز تجهيزاً علمياً كاملاً·
3- تأهيل جسم المعلمين الرسميين عبر نظام التدريب السنوي وتفضيل المتقدم وإبعاد المتأخر حكماً، لأننا في صدد الكلام عن التربية التي هي أس الأسس لبناء المجتمع.
4- إلزامية التعليم الرسمي المجاني لللبنانيين كافة إلى مستوى شهادة البروفيه.
5- إيلاء الأهمية اللازمة للجامعة اللبنانية، وبنائها الحديث القادر على استيعاب المجاميع الكبيرة من الطلبة والخريجين، وصهرهم في الحياة العامة، واشراكهم في هموم الطلاب المشتركة، والسهر الدائم لإنتاج البرامج التعليمية المتقدمة وتطويرها.
تبقى الصحة الى جانب التربية من الهموم الأساسية الملقاة أصلاً على كاهل الدولة لعلاجها· فوجوب تعميم المستشفيات الحكومية المجهزة بالتكنولوجيا المطلوبة والجسم الطبي المؤهل على الأراضي اللبنانية كافة، أمرٌ أساسيٌ وواجبٌ وطنيٌ نسعى من خلاله الى خدمة المواطنين كافة ضمن إمكانيات المواطن اللبناني الاقتصادية المتاحة، ووقفاً للهدر الدائم في ميزانية وزارة الصحة ومستحقات المستشفيات الخاصة·
1- دراسة سوق العمل وتوجيه الجيل الجديد في كل الاتجاهات العلمية المطلوبة في الأسواق وذات الانتاجية العالية في الوقت نفسه ·
2- إيجاد أسواق العمل الداخلية عبر تشجيع الاستثمار، والخارجية عبر الاتفاقات الحكومية·
3- صياغة قانون للبطالة يحمي المواطن في حدود متطلبات الحياة الدنيا.
4- تثبيت نظام ضمان الشيخوخة بشكل عادل اجتماعياً وإنسانياً، بعد ان لاحت بشائره مؤخراً ·
لا شك بأن كل هذه المتطلبات الواقعية، المرخية بثقلها على كاهل الدولة، تستوجب منا البحث الجدي في إيجـاد مخارج لتفعيل الحركة الاقتصادية في لبنان، وضخ الأموال إلى خزينة الدولة ودائرة النماء الاقتصادي، كما أراد ذلك الإمام ، وكما يجب أن يكون.
لا شك أن الصعوبات التي يعانيها الاقتصاد اللبناني، وتقف حائلاً دون تقدمه، تندرج تحت عنوانين أساسيين: ظرفي وبنيوي. أما الصعوبات الظرفية بمجملها فهي استمرار حالة الحرب التي يعيشها لبنان على حدوده الجنوبية مع العدو الإسرائيلي، بالإضافة إلى ارتباط لبنان بالموضوعات الإقليمية الجارية في المنطقة. أما الصعوبات البنيوية القائمة في هيكلية الاقتصاد اللبناني فصعوبات عميقة الجذور، وهي تمتد إلى بدايات الاستقلال. فمنذ ذلك الوقت وحتى اليوم، لم يعرف لبنان رؤية أو استراتيجية سليمة مبرمجة· فلم ترسم أي خطة هادفة من قبل القطاعين الخاص والعام.
كل ما كان يجري على الصعيد الاقتصادي أن اللبنانيين انتهزوا الفرص واستغلوا الظروف، والحوادث التي جرت على ساحة المنطقة، بدءاً من وجود الجيوش الحليفة وتمركزها فيها خلال الحرب العالمية الثانية، مروراً بنكبة فلسطين، التي صدّرت إليه شريحة متعلمة متمولة، وشريحة أخرى من اليد العاملة الزهيدة وغير المكلفة، الى حرب السويس حيث ابتدأت خطوط النقل والملاحة البحرية بالانتقال إلى مرفأ بيروت، وصولاً إلى الهزات السياسية والعسكرية، وحملات التأميم في بلدان المحيط، التي صدّرت الأموال وكدستها في البنوك اللبنانية، ثم نقلتها إلى دورة الاقتصاد الوطني، بالإضافة إلى إقفال قناة السويس، وتصدّر بيروت لقطاع الترنزيت في الشرق الأوسط في مرحلـة تنامي وتكديس الثروة البترولية، التي نـال منها لبنان في البدء "بخشيشا"ً لا بأس به. كل هذه العوامل اقتنصها اللبنانيون وقطفوا ثمارها من دون تعب وبشكل انتهازي، في وقت كان من الأجدى لهم، والمفروض، أن يبنى فيه اقتصاد إنتاجي فعلي على أسس سليمة، تمكننا من الولوج إلى هذه الألفية الجديدة بقوة ورخاء، ونحن واقفون على أقدامنا لا نعاني هذه الفوضى والبلبلة القائمة· ومما لا شك فيه أن الحرب اللبنانية زادت الطين بلة، وأضافت للمعلول علة، فنما الاقتصاد غير المشروع، وأنفقت فيه الأموال الطائلة عبر الأطراف المتحاربة كافة. وعبر مناخ الحرب، وفي ظله، نمت زراعة وتجارة الممنوعات، وأمنت سيولة كبيرة، كل ذلك الرخاء المصطنع توقف فجأة بعد الحرب· والمؤسف في كل هذا الأمر أن الحكومة اللبنانية لم تعرف كيف تؤقت وقف زراعة الممنوعات وبأي مقابل، فها نحن نرى المزارعين اليوم حائرين لأنهم، ومنذ ثماني سنوات، لم يصلهم شيء من المساعدات الموعودة، والدعم للزراعات البديلة، كما حدث في بلدان أخرى من العالم والمنطقة.
وأضافت إسرائيل في حربها المدمرة وقصفها المستديم علة جديدة إلى علل الاقتصاد الوطني، بل إن سياستها العدوانية تمكنت، وبشكل منهجي مدروس، من ضرب الجسم الاغترابي اللبناني في البلاد الإفريقية، الذي كان يقدم رافعة جيدة للاقتصاد الوطني عبر تصديره الكثيف للعملات الصعبة واستثمارها، وإن بشكل غير مدروس، في الأراضي اللبنانية وتقديم هذه المغتربات الإفريقية لفرص عمل وافرة لليد العاملة اللبنانية المهاجرة، التي شكلت أموالها المرسلة الى الأهل خط الدفاع الأول في حياة الجنوبيين على امتداد عشرين عاماً وأكثر. لقد توصلت اليد الإسرائيلية الى ضرب هذه البنية الاغترابية وتشتيتها وتحجيمها. كذلك تأثرت مداخيل وتحويلات اللبنانيين العاملين في دول الخليج منذ بدء انخفاض أسعار البترول (سابقاً) مروراً بالحرب العراقية - الكويتية، مما أثر سلباً في الإقتصاد اللبناني، حيث كانت في الخليج فرص العمل تشكل خشبة خلاص أساسية للبنانيين.
أما اليوم، وبعد صيف حار نعانيه منذ سنوات طويلة، فلقد ذاب الثلج وبانت حقائقنا الاقتصادية على هشاشتها، اقتصاد ريعي، اقتصاد غير منتج، حتى اقتصاد السنوات العشر الأخيرة يطرح التساؤلات. فالاستثمارات، على قلّتها، توجهت أساساً الى سندات الخزينة بفائدة مرتفعة، وجزء أقل منها نحو الاستثمار العقاري، حتى بات حجم الأموال المجمدة في القطاع العقاري الذي تمّ تطويره يفوق عشرة مليارات دولار. هذا فضلاً عن معاناة السياسات المالية من الفلتان والهدر والفساد. وقد أدخلتنا الاضطرابات المالية في حلقة مفرغة كمن يغذي العجز بالدين وبدين ينمي عجزاً. كل ذلك سدد ضربة قاسية الى كلفة الإنتاج في بلدنا، وبالتالي خسرت مؤسساتنا هامشاً هائلاً من القدرة التنافسية، فخلت الأسواق الخارجية من الصناعات اللبنانية والمنتجات الزراعية اللبنانية· هذا فضلاً عن عوامل داخلية إضافية، فقد أظهرت دراسات المؤسسات الوطنية للاستخدام، أن الانتظار قبل الانخراط في سوق العمل لخريجي الجامعات اللبنانية هو بحدود تفوق الستة عشر شهراً، مما يدفع بأفضل نتاج لبناني من حملة الشهادات العليا الى الهجرة خارج الوطن، حيث يؤخذون بالإغراءات والحوافز الفضلى، التي تقدمها أسواق العمل الأجنبية. ونحن جميعاً نعلم أن دروب الكفاح والنجاح مفتوحة أمام أصحاب الكفاءة، وهم كثر في لبنان· وعندما نخسر هؤلاء الشباب تتفاقم أزمتنا الاجتماعية. هذا فضلاً عن تنامي نسبة العزوبية التي ارتفعت لتصل في مدينة بيروت تحديداً الى50 % من الفتيات العازبات فوق سن الثلاثين، وهي سابقة خطرة في الديمغرافية اللبنانية، التي تؤثر تأثيراً سلبياً على تجدد الأجيال وسرعة تكوين الأسر. ونحن نعرف ما للأسرة من قيمة أساسية في بنياننا الاجتماعي.
ولا نستطيع في هذا السياق أن نغفل مواضيع أخرى وهي قبول الشباب لوظائف لا تتماشى وشهاداتهم العلمية، ولا تساير طموحاتهم في تأمين مستقبل لائق وكريم. هذا غيض من فيض في ما يعانيه الاقتصاد اللبناني وما يواجهه من عوائق وعقبات حالية، ابتداء بالدين العام المرهق للخزينة بفوائده المرتفعة، وسياسات الإنفاق غير المدروس، بل الهدر المبرمج المدروس لسنوات طويلة في السابق. والكل يفرض علينا السعي الجدي والسريع في إيجاد وسائط النمو والتطور الاقتصادي الاجتماعي الذي بـات وضعه يشكل الآفة الأساسية في بنية النظام الوطني اللبنانـي.
واذا أراد الفرد منا أن يكون دقيقاً فيما يطرح من أفكار على مستوى الاقتصاد الوطني، فلا بد له في البداية من عرض سريع لبعض مؤثرات الساحة الاقتصادية الدولية، فهي اليوم في موقع المؤثر الأول على نمو الاقتصاد الوطني؛ وعندما نقول المؤثر فإننا نعني الناحيتين، السلبية منها والإيجابية. فلكل وضعية وفكرة تقييمها الخاص بحسب الظروف الموضوعية لكل بلد من البلدان، كون الاقتصاد علماً حياتياً سريع التحرك والتحول والتطور، في عصر بات كل ما فيه يمتّ الى السرعة بصلة رحم. ولا يسعنا، في هذا المجال، ومع ولوجنا الألفية الجديدة، سوى التوقف أمام التحولات الجوهرية التي شهدها عالمنا في السنوات القليلة المنصرمـة من أواخر القرن الماضي، إن على الصعيد الاقتصادي، او الاجتماعي، وغيره ، فانفتاح الأسواق على بعضها البعض وتراجع أهمية وجدوى الحدود الوطنية في أغلب الأحيان أمام دفق المبادلات التجارية والبضائع الساعية دوما لتجديد عناصر السوق، واضمحلال تدريجي لدور السلطات الوطنية في ضبط حركة الاقتصاد العالمي أمام النفوذ المتصاعد للكتل المالية الضخمة والتكتلات الاقتصادية الهائلة من جهة، والمؤسسات المتعددة الجنسيات العملاقة من جهة أخرى، وانطلاق الاقتصاد المعرفي بزخم عزّ نظيره في ما عرفتـه الإنسانية عبر تاريخها الطويل· كل هذه العوامل أدت الى تسريع وتيرة توليد المداخيل وتكديسها، وأضافت تغييرات جوهرية على وسائط توزيع الثروات الحديثة.
بالقدر الذي اتسمت به فترة السبعينات وما قبلها بتقوقع الاقتصادات الوطنية للدول وانغلاقها على ذاتها، شهدنا في نهايـات القرن الماضي انفتاحاً اقتصادياً عالمياً شامل الآفاق، وتزاوجاً بين الاسواق الوطنية، وتداخلا بعضها مع البعض الآخر. ولا شك أن العولمة بالإضافة الى قدرة تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية قد حملت في طياتها تقصيرا للمسافات، وتخطيا للسياسات الاقتصادية الوطنية في معظم دول العالم، وخلطت الحابل الوطني بالنابل الكوني، راسمة في المنظور لوحة شطرنجية جديدة في أبعادها، احتلت منها التكتلات الاقتصادية مساحـة مرموقة، متنامية في تسارع، مع بروز اتفاقية التبادل الحرفي أميركا الشمالية، وتعاظم نفوذ لاعبين مخضرمين، كالشراكة الأوروبية مثلا.
في موازاة هذه التحولات، أو بسببها، راحت مؤسسات القطاع الخاص تعزز وجودها العامودي من خلال التوسع التدريجي او عمليات الدمج والشراء، وكذلك وسعت هذه المؤسسات انتشارها الأفقي، ولم تزل مستمرة، مع نشر نشاطاتها فوق أصقاع العالم كافة. وأصبح الدور الذي تضطلع به هذه المؤسسات أساسيا وجوهريا على البنى الاقتصادية المحلية والوطنية بل والإقليمية في أحيان أخرى. وقد واكب هذا الانقلاب السريع تراجع لدور سلطات النقد والمصارف المركزية عبر المضاربة الموجهة من صناديق التعاضد والاستثمارات الأجنبية، وأضحت بذلك الحكومات الوطنية مغيبة اكثر فأكثر عن عملية صنع القرار الاقتصادي. وهكذا، ومرة أخرى، جاءتنا رياح التغيير والتحول من الغرب الاميركي تحديدا، حيث دخلت الولايات المتحدة في عامها العاشر في نمو اقتصادي متتابع دون انقطاع، وتلقت قدراً عظيماً من العافية المتجددة، حتى ان الاضطرابات الكبيرة في أسواق النقد العالمية بين العامين 1997 و 1998 لم تتمكن من إعاقة هذه الديناميكية الفريدة المتجددة.
وواقع الأمر أن القطاعات التكنولوجية هي التي لعبت الدور المزدوج في الاقتصاد الأميركي، شكلت بذاتها الرافعة العامودية والقاطرة الأفقية، إذ كانت هي وحدها مسؤولة وخلال سنوات قليلة ولا تزال عن 25% من النمو وعن ·1% من فرص العمل، ذلك فضلاً عن تكوين المداخيل الفردية المذهلة لدى الكثيرين. لذا أطاح تراكم الثروات هذا بجميع مقاييس الثروة المعهودة. وفي محاولة لتوظيف هذه التطورات الهائلة ومواكبتها خلص تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الى أن "اكتشاف مناجم الذهب والتوسع الجغرافي، أو السيطرة على الآليات الصناعية، لم تعد تؤدي إلى العظمة الاقتصادية· فالسبل الجديدة أضحت القدرة على إنتاج برامج معلوماتية أو إمكانية فك رموز السلاسل الجينية".
هكذا، وخلافاً لمنطق ساد طويلاً في علم الاقتصاد عن الغلبة التي تكتب غالباً للمنافس الأقوى، فبات الربح من نصيب الأذكى، الأدهى والأسرع. وأدت هذه المعادلة المستجدة الى تكوين صورة جديدة في موازين القوى بين الدول، بل وبين الأفراد والدول إلى فرز اقتصاديات وطنية على أسس وقواعد متجددة دوماً، وذلك تحسباً من البقاء على قارعة الطريق. فمختلف الدول تسعى لأن تجد لها مقعداً في قطار الاقتصاد المعرفي، بحظوظ مختلفة ومتفاوتة.
ففي الوقت الذي حزمت فيه أوروبا أمرها في النصف الثاني من العقد المنصرم عبر تطوير قطاعات الاتصالات والإنترنت، وتزايد عمليات المضاربات المالية في الشراء والدمج في مجالات المعلوماتية والإعلام والإعلان، في الوقت نفسه تعثرت مجموعات أخرى كبلدان أميركا اللاتينية، وشرق آسيا لبعض الوقت، وذلك بسبب الأزمات النقدية والمالية المتنقلة، بل وربما المفتعلة، التي اندلعت بدءاً من منتصف التسعينات· إلا أن هذه الدول استطاعت من توفير الفرص المطلوبة لنفسها، واستلحقت الوقت الضائع عبر تركيز نشاطها الاقتصادي على تكنولوجيا الاتصالات وتقنية الإعلان.
أما عالمنا العربي حتى اليوم، فلم ينفض عنه غبار الاقتصاد الريعي، ولم تزل وتائر النمو الاقتصادي مرتبطة عضوياً عندنا بأسعار النفط، فلا الاستثمارات والفوائض المالية والبنى التحتية، ولا عصرنة القوانين واكبت هذا التطور بالمستويات المطلوبة، فظل القديم في عالمنا العربي على قدمه، ولم تواكب نظمنا الاقتصادية هذه التغييرات الانقلابية سواء من نواحي الإدارة التقليدية أو على مستوى القطاع الخاص، الذي تأخر فيه استيعاب أنماط التكنولوجيا وجوهرها ونهجها. ونتج عن هذا أن عالمنا العربي بقي مستهلكاً فقط لسلع وخدمات تكنولوجية ذات قيمة مضافة عالية يستوردها من دول أخرى. فوسمت دنيا العرب نفسها كونها مجرد ساحة لترويج المنتجات الأجنبية بدل أن تكون مصدراً مميزاً للابتكار والإبداع أقله إقليمياً. وبقيت الصادرات العربية والمبادلات البينية العربية مكونة أساساً من النفط ومشتقاته. فقد مرت ثورة التكنولوجيا عليهم مرور الكرام، فهل سيتمكن العالم العربي من قطف ثمار التكنولوجيا المرجوة ومن رد الضربات الاقتصادية الموجهة شطر مجتمعاته؟ وهل كان الاقتصاد المعرفي قاطرة للاقتصاد المقاوم؟
هل يستطيع لبنان في ضوء الواقع الاقتصادي العالمي أن يتجاوز صعوباته الاجتماعية-الاقتصادية الراهنة من خلال احتضانه القطاعات المكونة للاقتصاد المعرفي وتنميتها وتعزيزها والإفادة منها ؟ يأتي جوابنا بالتأكيد، نعم. ذلك أن الشروط الموضوعية المطلوبة لإنجاح مبادرة كهذه متوفرة في بلادنا كما سنرى لاحقاً، شريطة أن يتكاتف القطاعان العام والخاص في رسم استراتيجية تكنولوجية معرفية مستشرفة واضحة المعالم محددة الطموح والأهداف، على أن تنفذ في برنامج زمني محدد. وفي حال نجاحها يكون لبنان قد أفلح بداية في تصحيح اختلالاته المالية الحالية المتمثلة بحلقة الدين والعجز المفرغة، بشكل شبه تلقائي، وفي تلافي سيناريو التراجع الاقتصادي لإعادة النمو إلى الدورة الاقتصادية بعد سنوات وسنوات من التراجع والتعثر. فلا يغيبن عن بال أحد انه، وفي الاقتصاد الحديث، يسهل إزالة الميزات التفاضلية بين ليلة وضحاها. فمن المعروف أن الزبائن على شبكة الإنترنت مثلاً ينتقلون من مورد إلى آخر عبر كبسة زر.
من هذا المنطلق، وفي ضوء واقعنا الحالي، يمكن القول إن لبنان يقف في هذه اللحظات أمام مفترق طرق، وعليه تغليب حظوظ النجاح على احتمالات الفشل. فالإنجازات التكنولوجية عندنا هشة وعرضة للتراجع ما لم تُحمَ وتعزز. ويترتب على القطاعين العام والخاص أن يمنحا مجالات التكنولوجيا الرفيعة ديناميكية جديدة، عكس الواقع الحالي الذي يكاد يتبدد بفعل الواقع. وإذا كان لبنان هو الذي أدخل الإنترنت فعلاً إلى العالم العربي، إلا أن تقدمه بدأ يتراجع لأسباب اقتصادية اجتماعية وتكنولوجية أمست واضحة. والأجدى، طبعاً، أن يرتقي لبنان من كونه مجرد مستهلك الى واقع إنتاجي لخدمات قيمة ومربحة على الشبكة، حينئذ يتغير المشهد حكماً، وتتحول النباتات اليافعة هنا وهناك إلى مستوى مؤسسات ذات كفاية عالية ومساحات مالية مرموقة، محدثة فرص عمل مجزية، ناشرة ثقافة المعلوماتية على نطاقها الواسع.
ومن معوقات الوصول الى الهدف المنشود، ودرءاً للتحديات والمخاطر الاقتصادية والتكنولوجية التي نواجهها، والتي تعتبر تأخراً بنيوياً، يعاني البلد أيضاً مجموعة المعوقات التنظيمية والتشريعية والمالية والتربوية، التي تعرقل انطلاق الاقتصاد المعرفي فيه· هذا بالإضافة إلى ضعف في الرؤية المستقبلية الهادفة في هذا الإطار بما يهدد بحشره في خانة ضيقة على المدى القصير. فالظاهر أن لبنان، وحتى اليوم، متمسك بدوره التقليدي كوسيط أو جسر عبور بين الشرق والغرب. وإذا صح أنه كان للوساطة التي مارسها لبنان جدوى اقتصادية، وصولاً إلى منتصف السبعينات، مستفيداً -كما أسلفنا - من ظروف المنطقة في تلك المرحلة، فإنها اليوم، ومنذ منتصف السبعينات، قد تقلصت تقلصاً شديداً مع استغناء العديد من الدول العربية عن خدمات لبنان، حتى بات نموذج الخدمات في عدد من مدن هذه الدول يفوق كثيراً ما لدينا وما نستطيع أن نقدمه في لبنان اليوم. وجاء الإنترنت يكاد يقضي نهائيا على ما تبقى من هذه الجدوى الخدماتية الموهومة. ذلك ان "الشبكة" هي الوسيلة بامتياز للاستغناء عن الوسيط، إذ إنها هي نفسها المعرّف الأجدى بامتياز. فالنموذج الاقتصادي الذي أسست له الثورة الرقمية عزز بشكل منقطع النظير موقعين اثنين، هما: موقع المنتج وموقع المستهلك، على حساب الفرقاء الآخرين في العملية الاقتصادية، وتحديداً عامل الوسيط الخدماتي· هكذا تكون هذه الوضعية انعكست على سلسلة تكوين القيمة المضافة إذ تركزت المكاسب في طرفيها المتقابلين وانحسرت عند الوسيط في الوسط، وعند مواقع الكسب الطفيلية، فباتت غير مبررة الوجود.
فلو قدر للبنان في سنواته السابقة القليلة مواكبة هذه التطورات لوفر على نفسه آلام الجراحة الإصلاحية التي لا بد أن يخضع لها، ولكان بإمكانه أن يرتب داخلية بيته الإنتاجي بكلفة أدنى. فالغموض والضبابية وعدم الوضوح هما طرفا نقيض الانترنت، التي تتطلب الشفافية والوضوح في التعامل. وإطلاق المؤسسات في هذه القطاعات المتقدمة يتطلب الكثير من التضحيات الاستثمارية لفترات زمنية تطول او تقصر حسب الظروف، وذلك قبل جني أرباح سريعة. فهل تجتمع شروط العمل الجديدة هذه في رواد الأعمال اللبنانيين، ولبناننا اليوم على هذا المفترق الحادّ؟ لنخلع اليوم عنا ثوب النظريات البالية، ونرتدي جميعاً ما يتماشى مع هذه النظم الاقتصادية المتطورة. فالمهمة الأساسية أمامنا اليوم تتمثل في إيجاد منظومة تسهّل انخراط لبنان في دوائر الاقتصاد المعرفي، وعلينا ابتكارها وفق إمكانياتنا ومصالحنا الخاصة، دون تقليد او استيراد وتشغيل. ولنا من الانتشار اللبناني في العالم ميزة أساسية في رفع المشاركة بهذه الخدمات التفاضلية لبلوغ الحد الأدنى المطلوب من المشاركين على شبكة الانترنت، ونستطيع تحقيق ذلك بالسرعة المطلوبة. والمثال على ذلك ما نشهده من النجاحات المتوالية للفضائيات اللبنانية التي وجدت في الأساس لخدمة الاغتراب اللبناني، وقامت على هذا الاغتراب، ومن ثم انطلقت منه الى آفاق عربية أوسع، وقد باتت اليوم جاهزة لنقلة عالمية. وإنني أتوقع نجاحات افضل لخدمات الانترنت اللبنانية في اللغة والثقافة العربية، سالكة الاتجاه نفسه منطلقة من لبنان الى مغتربيه، ومن المغتربين الى دول الاغتراب عربية كانت او غير عربية، لنقدم عبرها ما يثير الاهتمام ويحض على التفكير للمشترك الخارجي، طبعاً، بربط متوازن مع الشبكات الدولية. وقد يوفر هذا التعاقد من الباطن لصالح مؤسسات أجنبية، وسيلة مميزة في هذا المضمار. ومن المستحسن التسريع في عقد شراكات قيمة مع الخارج قبل سواه من الدول، نظرا الى أهمية تعاون كهذا على تطور البلاد المستقبلي.
وفي لبنان نستطيع حكماً تأمين منتجات تكنولوجية عالمية بكلفة محلية متى توفرت الكفاءة الإنتاجية، مسلّمين في مطلـق الأحوال بالمدى الكوني لشبكة الانترنت بالأسعار العالمية، وينبغي التصرف على هذا الأساس. فعلى المنتج اللبناني أن يتخطى بمخيلته حدود الوطن الضيقة، وان يأخذ الأمر بنظرة كونية شاملة مهما بلغت الصعاب الذهنية التي يفرضها التوجه الاقتصادي الداخلي في لبنـان. إن تغيير هذه الآفاق واتساعها يمثل شرطاً أساسياً لنجاح مرجوّ. فالاستثمار المجازف في الخلق والإبداع لن تأتي ثمارُهُ من الأسواق المحلية الضيقة، بل من الأسواق الإقليمية والأسواق الدولية. فيصبح علينا التوفيق بين روح المبادرة الحـرة التي طالمـا ادعيناها لأنفسنا، وبين التماشي مع قواعد العولمة القاسية دون فقدان شخصيتنا الوطنية. وبإمكاننا تلبية هذين الشرطين بحماية ما تحقق، والعمل لتوسيع دائرة الإنجاز. فالواضح أن لبنان يمتلك بنسبة جيدة البنية التحتية الضرورية لنقل نظام المعلوماتية والسيطرة على المضمون، وإنتاج المضامين المتعددة الاتجاهات والوجوه من جميع البرامج والخدمات المباشرة وتطويرها بحسب اتجاهات الزبائن بما يتيح تحقيـق مضاعفة الأرباح. فقد عرف عن لبنان غناه بمبدعيه، ومفكريه، ومثقفيه، ومروّجي الأعمال فيه. فبلادنا مصهر لحضارات مختلفة، وبوتقة لعدد من التيارات الفكرية، وواحة للعقل المبدع والخلاق. وقد سبق للبنان أن قاد في عالمنا العربي بواكير عصر النهضة في الإعلام والثقافة، ويقود اليوم العالم العربي عبر محطاته الفضائية وشركاته الإعلانية السوق العربية بامتياز واضح. وهذا ما يدعم فكرة جدولة المضامين المتنوعة تحقيقا لكسب وافر يعود بداية بالنفع على شريحة محدودة من المستثمرين والعاملين الكفوئين وعلى الدولة· ثم سريعاً ما سيتجاوز هذه الأطر المؤسسة لمستويات عالية من الدخل، عبر ضخ المال في أسواق إنتاجية متنوعة، وتنمية السوق الذاتية لصناعة المعلوماتية، موسعا ًبذلك حلقة المستفيدين الى الشرائح والفئات اللبنانية كافة، وإلى جميع المناطق. فميزة التكنولوجيا الحديثة وشبكات المعلوماتية الجديدة أنها قادرة على النشوء والنمو خارج المتَّحدات الكبيرة كالمدن، بل إنها هي نفسها قد أسست لنمو مدني جديد حيثما حلت. والأمثلة على ذلك كثيرة، إن في أميركا الشمالية او في شمال أوروبا بما يوسع الحلقة الجغرافية المستفيدة من حركة النمو هذه. ولا يقصرها في المركزيات الكبيرة، بل ينمو بها باتجاه تنمية ريفية.
وهنا لا بد لنا أن نشير الى مسؤولية السلطات الحكومية المختصة في رسم السياسات الملائمة لهذا النمو المأمول عبر تبديد شكوك المستثمرين ورواد الأعمال وطمأنتهم بأن لبنان جدي في تعامله مع ظاهرة الاقتصاد المعرفي مالكاً لبنيتها التحتية وتشريعاتها الضرورية وخبراتها المطلوبة، مضيفين في هذا السياق مسؤولية كبيرة وأساسية تقع على أسواق التمويل اللبنانية والمصارف تحديداً التي لم تزل متحفظة في مكونات محفظتها الأساسية المكونة من سندات الخزينة ذات المردودية العالية، والآمنة، مبتعدة عن الاستثمارات المنتجة، في القطاعات الخلاقة، متجهة الى قطاعات اكثر تقليدية وان ارتفعت فيها نسبة الأمان نظرياً. فالواجب مشترك بين الدولة ورؤوس الأموال في الانطلاق بهذه النوعية من المشاريع تحجيماً للاغتراب والهجرة، وتنويعاً للدخل الوطني العام. إننا لا نرى نهضة اجتماعية ولا عدالة اجتماعية في ظل أزمات اقتصادية مالية، إن على المستوى الحكومي، او على المستوى الفردي. ولا خروج لنا من هذه الدائرة المغلقة التي أوصلنا نفسنا إليها إلا بالإبداع الخلاق وانتهاج المناهج الاقتصادية التي أثبتت جدواها في هذا العصر.
من أجل ان نستطيع نقل لبنان إلى مستقبل أفضل تماماً كما أراد له الإمام، وتماماً كما ناضل لأجله موطناً لبنيه كافة، وليكون لبنان كذلك، وليبقى الجنوب جزءاً غالياً وفاعلاً من هذا الوطن، يتوجب على الدولة إقامة مجموعة من المشاريع الحيوية القادرة على استنهاضه اقتصادياً.
تبقى المشاريع الحيوية الواجب تنفيذها متعددة الأوجه: إن على المستوى الاقتصادي أو على المستوى الاجتماعي. فسلسلة المشاريع التي يحتاجها الجنوب قد تبدأ ومن الصعب أن تنتهي ونذكر، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- وضع الدولة سياسة مائية هادفه متعددة الأبعاد، عبر إقامة السدود على جميع الموارد المائية واستغلال مياه الأمطار وإقامة شبكة حديثة للري ومياه الشرب كمقدمة لأي نهضة زراعية مستقبلية وبما يحفظ حقوق لبنان في مياهه، ويقضي على الحجج الإسرائيلية في سوء استغلال لبنان لثروته المائية وتبديدها وهدرها.
2 -تشجيع الزراعات الحديثة، وتوسيع ملاكات الإرشاد الزراعي العلمي، منعاً لإلحاق الضرر بالمزارعين، وتوجيههم إلى أفضل الزراعات الممكنة بناء على نوعية التربة ومعدل الأمطار وتوافر الأسواق.
3 - تشجيع الصناعات الزراعية، ومساعدة الدولة للتعاونيات الزراعية ودعمها في تأسيس رساميل مقبولة ورعاية إيجاد أسواق خارجية للمنتجات اللبنانية.
4 - استكمال شبكة الطرق والمواصلات، وتحسين التغذية الكهربائية، وشبكة المواصلات والاتصالات الأرضية، بما يخلق فرص عمل جديدة وواسعة.
5 - تخفيض مساحات المناطق الصناعية المحيطة بالمدن الكبرى ونقلها إلى الأرياف عبر إقامة مناطق صناعية حرّة في الجنوب، حيث إن كلفة الأرض مقبولة جداً، بالإضافة إلى توفر اليد العاملة بالأجر المعقول، بما يعزز الهجرة المعاكسة من المدن والتجمعات الكبيرة نحو الأرياف، لتحقيق الإنماء المتوازن المنشود.
6 - تشجيع المصارف الحكومية والأهلية المشتركة لتقديم القروض إلى صغار المستثمرين في الأرياف زراعة أو صناعة أو تجارة بفوائد مقبولة.
7 - حماية مهنة القدماء من أجدادنا الفينيقيين من صيد الأسماك، والمساعدة على تعزيز هذه المهنة بالوسائل القانونية، مع إيجاد التعاونيات الخاصة بصيادي الأسماك لأجل تنمية الرأسمال المختص في عمليات الصيد والحفظ والتصنيع.
8 - تعزيز البنى السياحية والتعريف بالبنية الأثرية وحفظها وصيانتها كواجب وطني وكمصدر دخل مستمر.
إن وجوب توجه الدولة نحو هذه المشاريع في الأرياف عموماً والجنوب خاصة هي مهمة وطنية تقع ليس على عاتق الدولة فحسب، بل على عاتق المتمولين والمستثمرين والمؤسسات المالية والمصرفية، كما أنها تقع على عاتق الدول العربية والأجنبية للإيفاء بوعودها والتزاماتها المالية البالغة مليارات الدولارات، التي وُعد بها لبنان سابقاً.
هكذا نطمئن، وهكذا يطمئن الإمام إلى أرض جعل منها قضيته وخصها بمحبته، فناضل لأجل حريتها وحرية شعبها وعزته وكرامته. وكما أوفى الإمام إيمانه برسالته، نرى لزاماً علينا أن نفي، وعلى هذا الجيل ورجالاته، أن يفوا هذه القضية حقها عبر صيانة مفاهيمها الحضارية والوطنية، والوطن وتشكيلاته، وعبر السهر الدائم من كل مواطن على مصالح الوطن وقضاياه، ليصبح كل مواطن خفيراً يحمي حدود الوطن بسلاحه، ويعزز نماءه بفكره المبدع الخلاق، وينمي موارده بما امتلكت يداه من إمكانيات عمل وموارد استثمار، علّنا بتوحدنا كمواطنين وكمسؤولين، نصنع لأجيالنا القادمة وطناً طالما حلمنا به لأنفسنا. إننا بذلك نرى استمرار روحية المقاومة التي سادت لبنان في أيام احتلاله، لنستكمل جميعاً معركة التحرير، وصولاً إلى مزارع شبعا وحقوق لبنان كافة باتجاه الجنوب، ولصناعة النظام المقاوم في السلم كما في الحرب ثقافة وإنماءً واقتصاداً وتربية وصحة. إننا بذلك فقط نرى أن لبنان واللبنانيين يستطيعون تحقيق المنطلقات الأساسية التي ناضل لأجلها الإمام الغائب السيد موسى الصدر، من أجل إقامة دولة قوية ذات اقتصاد متين، وبحبوحة مالية ترفع عن كاهل المواطن شظف العيش ونقمة الإهمال. فتنقله الى مستوى المواطنية المتحدة بدولتها آمالاً وآلاماً، سعياً وجهداً ، في السراء والضراء، في السلم والمقاومة حتى النصر.
* (مداخلة مرتجلة للمحاضر) اذا بتسمح لي دولة الرئيس، اختصاراً للوقت وتلافياً للتكرار، وكي نتمكن من ان نكمل ونبني على ما قيل من قبل المحاضرين، سأخرج عن نص الكلمة المكتوبة· أقول إنه وبهذه المناسبة، وبعد ستة أشهر تماماً، لأن التحرير حصل في 24/5 ونحن اليوم في 24/11، في ذلك اليوم المبارك عند تمكن المجتمع المقاوم - نستعمل كلام الاستاذ غسان- وتوصلنا إلى تحرير الجنوب والبقاع الغربي، وبالتالي دحر جيش الدفاع الاسرائيلي الى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً، طبعاً مع التحفظ على الخروقات، على الخط الأزرق ومزارع شبعا وموضوع المعتقلين في السجون الاسرائيلية، فنشعر انه في ذلك النهار المجيد، وكأن الامام الصدر حاضر معنا بتلك القامة المديدة والعباءة الجامعة التي تمكنت في ذلك الوقت من استيعاب جميع فئات المجتمع اللبناني.
وفي هذه المناسبة نشعر ان الذكريات والافكار والصور تتزاحم وتتراكم. وبقيت عالقة في ذهني تلك الصورة التي رأيناها منذ قليل في مسجد الصفا، حيث بادر الإمام بالاعتصام والقيام بالاضراب عن الطعام، وجاءت الدولة اللبنانية كلها ووقفت تطيب خاطره.
هناك مثل فرنسي مفاده انه "لا من نبي في بلده". أظن ان الامام شذّ وشكّل الاستثناء لهذه القاعدة، لأنه وعى ربما بين الاوائل على الخطر الصهيوني، وبكلامه انه كان هذا أخطر خطر على لبنان، وكان بالفعل من القائلين بأن المقاومة بكل اشكالها السياسية والعسكرية وايضاً الاقتصادية والاجتماعية ستكون قدراً للبنان. وبالفعل من اول يوم لم تغب لحظة عن افكاره المقاومة وترتيب وضعها، وحاول مع سواه أن يخفف من وطأة الضربة المنتظرة على لبنان، ووعى تمام الوعي أن الخطر الداخلي- الذي سنفصّله لاحقاً- يمكن ان يكون جسر العبور للخطر الخارجي، فالخطر الداخلي شقهُ الاول سياسي، وكان يتجسد بهذه الشرذمة، التشتت السياسي الذي يمكن اليوم بعد اربعين سنة ونحن لا نزال نعاني منه. وحاول، وكان من الرواد في المبادرة الى مد جسور اللحمة وشد أواصر المجتمع، وايضاً الابتعاد عن كل النظريات الأحادية والمتطرفة، وطبعاً لم يسمح لنفسه - كما يفعل البعض اليوم - أن يوزع شهادات وطنية هنا أو صكوك تخوين هناك - فكان يعرف ان ما يجمع الطوائف اللبنانية هو أكثر كثير اًمما يفرقّها·
وايضاً ركز الامام في ذلك الوقت على الخطر الداخلي الثاني بعد الشرذمة السياسية، وهذا الوضع السياسي والاجتماعي الرديء في ذلك الوقت، فكان يعتبر أن الحالة الاجتماعية الرديئة هي "كاحل أخيل" الجسم الاقتصادي والسياسي اللبناني بشكل خاص. من خلال قراءاتي التي امتدت على اكثر من ثلاثين عاماً نرى ان في المنطقة، وليس فقط في لبنان، هناك ثلاثة اشخاص وعوا خطورة المسألة الاجتماعية، ومن حيث الترتيب الزمني كان اولهم الرئيس الراحل العماد فؤاد شهاب، الذي مباشرة ومداورة من خلال بعثة إرفد وعى للتفاوت الهائل بين المناطق اللبنانية، واستدرك انه من أجل شدّ ولبننة المناطق الطرفية ووصلها وربطها بالوسط اللبناني يعني بجبل لبنان وبيروت لا بد من ردم الهوة الاجتماعية والحياتية.
الشخصية الثانية هي خارج حدود لبنان وتحديداً سيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، هنا أريد أن أُحيلَ المهتمين إلى كتاب مذكرات جاك أتالي الذي كان المستشار السياسي للرئيس الفرنسي الراحل "فرنسوا ميتران" وفيه دقائق الزيارة التاريخية التي قام بها "متيران" إلى دمشق عام 1984، يفند الرئيس الاسد بدقة اسباب الحرب اللبنانية، ووضع على رأس قائمة هذه الأسباب المسألة الاجتماعية، التي اذا لم تكن هي التي أشعلت نيران الحرب، فهي على الاقل شكّلت الوقود والزيت الذي غذى الفتن في ذلك الوقت.
والامام الصدر طبعاً هو الشخصية الأبرز في هذا المضمار، وحمل لواء المسألة الاجتماعية فكان يعتبر أن الحرمان والفقر يصبان مباشرة في خانة اعداء لبنان، وهما المعبر لكل الآفات الاجتماعية، منها الفقر والتخلف والتعصب وإلى ما هنالك. وكان يعتبر أن الحرمان هو من مواصفات الدولة الظالمة حيث انه شاهد مدى الحرمان من عدم وجود طرقات وعدم وجود إرشاد زراعي وري وشبكة أمان اجتماعية، أي استشفاء وطبابة وصحة وما الى هناك.
وحيث كان ينظر، كان يرى التفاوت، فكان ينظر إلى الاطراف ويرى وجود حرمان بالفعل، ينظر إلى الوسط فيرى هنالك تكديساً، يعود فينظر إلى الاطراف فيرى تفريغاً وينظر مجدداً إلى الوسط فيرى أن هناك اكتظاظاً.
ووعى أهمية الانماء المتوازن للمناطق ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً فهو ركن من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، هذا الكلام الكبير، إذا كان هذا هو المعيار، أتصور أن وحدة الدولة واستقرار النظام هما اليوم معرضان للخطر، فالذي أدى الى تفاقم الأمور هو هذا الاعتداء او الاستمرار في الاعتداءات الاسرائيلية في نهاية الستينات وحتى تاريخ اليوم وأُحصيت بأكثر من أربعة آلاف اعتداء واجتياحات كبيرة وغيرها، ونتيجة لها هُجر اللبناني من أرضه، وحُرقتْ وصُوْدِرَتْ أرزاقه ومُنع من استغلال ارضه وزُرعت الأرض بالمقابل بالموت والشوك إلى ما هنالك.
والمؤسف انه بعد ستة أشهر على انجاز التحرير، الدولة تقريباً، لم تحرك ساكناً، حتى تاريخ اليوم، ومؤتمر الدول المانحة بعد ممارسة لبنان سياسة الكرسي الشاغر في مرسيليا صارت اليوم بالفعل سراباً، واطَّلعنا في صحيفة النهار منذ اسبوعين على أثر مسح في الجنوب بأن فواتير الكهرباء تسبق المساعدات لأهلنا في تلك المناطق.
فالموضوع انه علينا الاستفادة والدخول من بوابة الجنوب من أجل إعادة احياء الاقتصاد الوطني بشكل عام، وهنا، أنا أحذر من الوقوع في أفخاخ ومطبات أخطاء عملية عودة المهجرين التي ارتكبناها خلال العقد المنصرم، واعتقدنا أن حل هذه المشكلة سيقتصر ربما بدفع التعويضات من هنا أو دفع بدلات ترميم للأصول والفروع، وإلى ما هنالك من هناك، بغض النظر عن تفعيل الدورة الاقتصادية المحلية. المفروض اليوم ان نستلهم خبرة تاريخية هي الوحدة الألمانية التي أُنجزت منذ عشرة أعوام، والتي على أثرها قبلت المانيا الغربية ان تدفع الثمن وان تضحي بكل ما أوتيت من قوة من أجل إعادة احتضان المانيا الشرقية التي كانت قد سلخت عن جسمها لفترة تجاوزت الاربعين سنة. والمسألة كانت مكلفة جداً، ولنقدم لكم مثلاً رقماً واحداً، فقد كلفت الوحدة الألمانية لغاية اليوم ألف وثمانماية مليار دويتش مارك، ومن المتوقع ان تكلف بعد، كل عام مئة وعشرة مليار دويتش مارك، فإما أننا نريد أن نبني بلداً وإما نريد أن نغسل أيادينا من الجنوب، ونقول عفى الله عما مضى وكل انسان يقلع شوكه بيديه.
اذاً، للإمام ومنذ سنة 77، وعلى أثر الحرب الأهلية كتابات ورؤى مميزة مباشرة، او من خلال المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الذي لفتتني ورقة مميزة على أثر انتهاء الحرب، وكان فيها مواضيع أساسية جداً وهي اليوم يمكن إدراجها في بيان وزاري حول موضوع الإسكان وحول موضوع مد المناطق والمؤسسات والأُسر الجنوبية أيضاً وفي جميع المناطق اللبنانية بالمساعدات المالية لكي تتمكن من أن تتدبر أمرها وتشتغل وتخلق فرص عمل· كما تطرق أيضاً لنظام الشيخوخة الذي أقرته الحكومة السابقة، وهو اليوم بانتظار دراسته في لجنة الادارة والعدل. وتطرق أيضاً إلى موضوع البيئة وحماية الموارد الوطنية اللبنانية. وللامام الصدر أيضاً كتابات موحية في موضوع الاقتصاد الصرف، منذ أوائل الستينيات· وقد لفتني أيضاً ان الخط الذي اختاره الامام الصدر هو خط وسط بين الاشتراكية والماركسية التي كانت تطبق داخل المعسكر الشرقي من جهة، وجميعنا رأينا ويلاتها في ما بعد، وبين الليبرالية المفرطة والرأسمالية المتوحشة التي ايضاً كان لها مطبّات وسيئات كما نعرف جميعاً.
اذاً، الخط الذي اختاره الامام هو أَنْسَنَةُ الاقتصادِ وجعله في متناول الجميع، كي يتمكن كل واحد من الاستفادة من إنتاجه، كما أتصور انه من خلال استقراءٍ واعٍ لمبادئ القرآن الكريم والحديث الشريف وغيره تمكن من رسم طريق واضح جداً في هذا الاطار، ربما عشرات السنين قبل الزعماء الاوروبيين، مثل "طوني بلير" في بريطانيا العظمى أو "ليونيل جوسبان" في فرنسا او "غير هارد شرودر" في المانيا، الذين فلسفوا جميعهم موضوع الخط الثالث.
إذاً، ما أقوله إن المقاومة الاقتصادية والاجتماعية لم تغب عن بال الامام الصدر ولكنه لم يفلسفها بالشكل الذي فلسف فيه طبعاً - كما اطلعنا من الاستاذ غسان تويني- المقاومة العسكرية، انما وضع حجر الاساس ووضع الخطوط العريضة، ويترتب على كل واحد منّا اليوم ان نعطي روحاً لذلك الجسم الذي أوجده في ذلك الوقت الامام الصدر.
واذكر هنا أن دولة الرئيس نبيه بري منذ بضعة أشهر، تكلم عن موضوع المقاومة الاقتصادية، وانا أؤمن بوجود تلازم مسارات بين المسار السياسي والعسكري من جهة، والمسار الاقتصادي والاجتماعي من جهة اخرى. اذاً، إذا أردنا ان نختصر، وخلاصة هذا الموضوع هي أن المقاومة الاقتصادية والاجتماعية هي تحصين المجتمع المدني في لبنان ورد الضربات عن هذا المجتمع، وإشباع احتياجاته من جهة، ومن جهة اخرى تفعيل الاقتصاد وبناء اقتصاد سليم كما نطمح إليه جميعنا. وأنا أرى بوادر خير في النشاط الأولي لحكومة الرئيس الحريري التي بادرت فوراً إلى إعادة تحديد هوية لبنان الاقتصادية الجديدة. اذاً، المطلوب بعدما انجزت المقاومة بالدم تحرير الارض وحررتنا بالفعل من العدوان الاسرائيلي، المطلوب اليوم أن نبادر جميعنا إلى موضوع المقاومة الاقتصادية والاجتماعية من اجل تحرير المواطن اللبناني من الفقر ومن الخوف ومن القلق على المستقبل، ومن هاجس الهجرة التي تقضّ مضاجع البلد، وان نرجع جميعنا بالعكس. كي نجد مكانة جديدة. ونرجع نحوّل لبنان إلى رقم صعب في الشبكات الاقتصادية الإقليمية، ومن ثم العالمية· وشكراً.